تَفْسِيرُ ٱلْمُيَسَّر
Tafsir Al-Muyassar —
کنگ فہد قرآن کمپلیکس
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه، لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين، تُطْلعونهم على أسراركم، فهؤلاء لا يَفْتُرون عن إفساد حالكم، وهم يفرحون بما يصيبكم من ضرر ومكروه، وقد ظهرت شدة البغض في كلامهم، وما تخفي صدورهم من العداوة لكم أكبر وأعظم. قد بيَّنَّا لكم البراهين والحجج، لتتعظوا وتحذروا، إن كنتم تعقلون عن الله مواعظه وأمره ونهيه.
تَفْسِيرُ ٱلْجَلَالَيْنِ
Tafsir al-Jalalayn —
جلال الدین محلی اور جلال الدین سیوطی
«يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة» أصفياء تطلعونهم على سرِّكم «من دونكم» أي غيركم من اليهود والنصارى والمنافقين «لا يألونكم خبالا» نصب بنزع الخافض أي لا يقصرون لكم في الفساد «ودُّوا» تمنَّوا «ما عنتم» أي عنتكم وهو شدة الضرر «قد بدت» ظهرت «البغضاء» العداوة لكم «من أفواههم» بالوقيعة فيكم وإطلاع المشركين على سركم «وما تخفي صدورهم» من العداوة «أكبر قد بينا لكم الآيات» على عدواتهم «إن كنتم تعقلون» ذلك فلا توالوهم.
تَفْسِيرُ ٱلْقُرْطُبِيِّ
Tafsir al-Qurtubi —
علامہ قرطبی
قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلونفيه ست مسائل :الأولى : أكد الله تعالى الزجر عن الركون إلى الكفار . وهو متصل بما سبق من قوله : إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب . والبطانة مصدر ، يسمى به الواحد والجمع . وبطانة الرجل خاصته الذين يستبطنون أمره ، وأصله من البطن الذي هو خلاف الظهر . وبطن فلان بفلان يبطن بطونا وبطانة إذا كان خاصا به . قال الشاعر :أولئك خلصائي نعم وبطانتي وهم عيبتي من دون كل قريبالثانية : نهى الله عز وجل المؤمنين بهذه الآية أن يتخذوا من الكفار واليهود وأهل الأهواء دخلاء وولجاء ، يفاوضونهم في الآراء ، ويسندون إليهم أمورهم . ويقال : كل من كان على خلاف مذهبك ودينك فلا ينبغي لك أن تحادثه ; قال الشاعر :عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتديوفي سنن أبي داود عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل . وروي عن ابن مسعود أنه قال : اعتبروا الناس بإخوانهم . ثم بين تعالى المعنى الذي لأجله نهى عن المواصلة فقال : لا يألونكم خبالا يقول فسادا . يعني لا يتركون الجهد في فسادكم ، يعني أنهم وإن لم يقاتلوكم في الظاهر فإنهم لا يتركون الجهد في المكر والخديعة ، على ما يأتي بيانه . وروي عن أبي أمامة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قول الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا قال : ( هم الخوارج ) . وروي أن أبا موسى الأشعري استكتب ذميا فكتب إليه عمر يعنفه وتلا عليه هذه الآية . وقدم أبو موسى الأشعري على عمر - رضي الله عنهما - بحساب فرفعه إلى عمر فأعجبه ، [ ص: 170 ] وجاء عمر كتاب فقال لأبي موسى : أين كاتبك يقرأ هذا الكتاب على الناس ؟ فقال : إنه لا يدخل المسجد . فقال لم ! أجنب هو ؟ قال : إنه نصراني ; فانتهره وقال : لا تدنهم وقد أقصاهم الله ، ولا تكرمهم وقد أهانهم الله ، ولا تأمنهم وقد خونهم الله . وعن عمر - رضي الله عنه - قال : لا تستعملوا أهل الكتاب فإنهم يستحلون الرشا ، واستعينوا على أموركم وعلى رعيتكم بالذين يخشون الله تعالى . وقيل لعمر ، - رضي الله عنه - : إن هاهنا رجلا من نصارى الحيرة لا أحد أكتب منه ولا أخط بقلم أفلا يكتب عنك ؟ فقال : لا آخذ بطانة من دون المؤمنين . فلا يجوز استكتاب أهل الذمة ، ولا غير ذلك من تصرفاتهم في البيع والشراء والاستنابة إليهم .قلت : وقد انقلبت الأحوال في هذه الأزمان باتخاذ أهل الكتاب كتبة وأمناء وتسودوا بذلك عند الجهلة الأغبياء من الولاة والأمراء . روى البخاري عن أبي سعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه فالمعصوم من عصم الله تعالى . وروى أنس بن مالك قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا تستضيئوا بنار المشركين ولا تنقشوا في خواتيمكم غريبا . فسره الحسن بن أبي الحسن فقال : أراد عليه السلام لا تستشيروا المشركين في شيء من أموركم ، ولا تنقشوا في خواتيمكم محمدا . قال الحسن : وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل : يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم الآية .الثالثة : قوله تعالى : من دونكم أي من سواكم . قال الفراء : ويعملون عملا دون ذلك أي سوى ذلك . وقيل : من دونكم يعني في السير وحسن المذهب . ومعنى [ ص: 171 ] لا يألونكم خبالا لا يقصرون فيما فيه الفساد عليكم . وهو في موضع الصفة ل بطانة من دونكم . يقال : لا آلو جهدا أي لا أقصر . وألوت ألوا قصرت ; قال امرؤ القيس :وما المرء ما دامت حشاشة نفسه بمدرك أطراف الخطوب ولا آلوالخبال : الخبل . والخبل : الفساد ; وقد يكون ذلك في الأفعال والأبدان والعقول . وفي الحديث : ( من أصيب بدم أو خبل ) أي جرح يفسد العضو . والخبل : فساد الأعضاء ، ورجل خبل ومختبل ، وخبله الحب أي أفسده . قال أوس :أبني لبينى لستم بيد إلا يدا مخبولة العضدأي فاسدة العضد . وأنشد الفراء :نظر ابن سعد نظرة وبت بها كانت لصحبك والمطي خبالاأي فسادا . وانتصب خبالا بالمفعول الثاني ; لأن الألو يتعدى إلى مفعولين ، وإن شئت على المصدر ، أي يخبلونكم خبالا : وإن شئت بنزع الخافض ، أي بالخبال ; كما قالوا : أوجعته ضربا : " وما " في قوله : ودوا ما عنتم مصدرية ، أي ودوا عنتكم . أي ما يشق عليكم . والعنت المشقة ، وقد مضى في " البقرة " معناه .الرابعة : قوله تعالى : قد بدت البغضاء من أفواههم يعني ظهرت العداوة والتكذيب لكم من أفواههم . والبغضاء : البغض ، وهو ضد الحب . والبغضاء مصدر مؤنث . وخص تعالى الأفواه بالذكر دون الألسنة إشارة إلى تشدقهم وثرثرتهم في أقوالهم هذه ، فهم فوق المتستر الذي تبدو البغضاء في عينيه . ومن هذا المعنى نهيه عليه السلام أن يشتحي الرجل فاه في عرض أخيه . معناه أن يفتح ; يقال : شحى الحمار فاه بالنهيق ، وشحى الفم نفسه . وشحى اللجام فم الفرس شحيا ، وجاءت الخيل شواحي : فاتحات أفواهها . ولا يفهم من هذا الحديث دليل خطاب على الجواز فيأخذ أحد في عرض أخيه همسا ; فإن ذلك يحرم باتفاق من العلماء . وفي التنزيل ولا يغتب بعضكم بعضا الآية . وقال - صلى الله عليه وسلم - : إن [ ص: 172 ] دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام . فذكر الشحو إنما هو إشارة إلى التشدق والانبساط ، فاعلم .الخامسة : وفي هذه الآية دليل على أن شهادة العدو على عدوه لا يجوز ، وبذلك قال أهل المدينة وأهل الحجاز ; وروي عن أبي حنيفة جواز ذلك . وحكى ابن بطال عن ابن شعبان أنه قال : أجمع العلماء على أنه لا تجوز شهادة العدو على عدوه في شيء وإن كان عدلا ، والعداوة تزيل العدالة فكيف بعداوة كافر .السادسة : قوله تعالى : وما تخفي صدورهم أكبر إخبار وإعلام بأنهم يبطنون من البغضاء أكثر مما يظهرون بأفواههم . وقرأ عبد الله بن مسعود : " قد بدأ البغضاء " بتذكير الفعل ; لما كانت البغضاء بمعنى البغض .
تَنْوِيرُ ٱلْمِقْبَاسِ مِن تَفْسِيرِ ٱبْنِ عَبَّاس
Tafsir Tanwir al-Miqbas —
حضرت ابن عباسؓ
الآن إذ كشف الله دخائل مَنْ حولَ المسلمين من أهل الكتاب ، أتمّ كشف ، جاء موقع التحذير من فريق منهم ، والتحذير من الاغترار بهم ، والنهي عن الإلقاء إليهم بالمودة ، وهؤلاء هم المنافقون ، للإخبار عنهم بقوله : { وإذا لقوكم قالوا آمنا } [ آل عمران : 119 ] الخ . . . وأكثرهم من اليهود ، دون الذين كانوا مشركين من الأوس والخزرج . وهذا موقع الاستنتاج في صناعة الخطابة بعد ذكر التمهيدات والأزقناعات . وحقّه الاستئناف الابتدائي كما هنا .والبطانة بكسر الباء في الأصل داخل الثَّوب ، وجمعها بطائن ، وفي القرآن { بطائنها من استبرق } [ الرحمن : 54 ] وظاهر الثوب يسمّى الظِهارة بكسر الظاء . والبطانة أيضاً الثوب الذي يجعل تحت ثوب آخر ، ويسمّى الشِعار ، وما فوقه الدثار ، وفي الحديث : « الأنصارُ شعار والنَّاس دِثار » ثمّ أطلقت الثِّياب في شدة القرب من صاحبها .ومعنى اتخاذهم بطانة أنهم كانوا يحالفونهم ويودّونهم من قبل الإسلام فلمَّا أسلم من أسلم من الأنصار بقيت المودة بينهم وبين من كانوا أحلافهم من اليهود ، ثُمّ كان من اليهود من أظهروا الإسلام ، ومنهم من بَقي على دينه .وقوله : { من دونكم } يجوز أن تكون ( من ) فيه زائدة و ( دون ) اسم مكان بمعنى حولكم ، وهو الاحتمال الأظهر كقوله تعالى في نظيره { ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة } [ التوبة : 16 ] ويجوز أن تكون ( من ) للتبعيض و ( دون ) بمعنى غير كقوله تعالى { ومنَّا دون ذلك } [ الفتح : 27 ] من غير أهل ملّتكم ، وقد علم السامعون أنّ المنهي عن اتِّخاذهم بطانة هم الذين كانوا يموّهون على المؤمنين بأنَّهم منهم ، ودخائلهم تقتضي التَّحذير من استبطانهم .وجملة : { لا يألونكم خبالاً } صفة لبطانة على الوجه الأول ، وهذا الوصف ليس من الأوصاف الظاهرة التي تفيد تخصيص النكرة عمّا شاركها ، لكنّه يظهر بظهور آثاره للمتوسّمين . فنهى الله المسلمين عن اتّخاذ بطانة هذا شأنها وسمَتها ، ووكلهم إلى توسّم الأحوال والأعمال ، ويكون قوله { ودّوا مَا عنتُّم } وقوله { قد بدت البغضاء } جملتين في محلّ الوصف أيضاً على طريقة ترك عطف الصفات ، ويومىء إلى ذلك قوله : { قد بينّا لكم الآيات إن كنتم تعقلون } أي : قد بيّنا لكم علامات عداوتهم بتلك الصفات إن كنتم تعقلون فتتوسّمون تلك الصّفات ، كما قال تعالى : { إنّ في ذلك لآيات للمتوسّمين } وعلى الاحتمال الثاني يجعل { من دونكم } وصفاً ، وتكون الجمل بعده مستأنفات واقعة موقع التعليل للنَّهي عن اتِّخاذ بطانة من غير أهل ملّتنا ، وهذ الخلال ثابتة لهم فهي صالحة للتوصيف ، ولتعليل النَّهي ، ذلك لأنّ العداوة النَّاشئة عن اختلاف الدين عداوة متأصّلة لا سيما عداوة قوم يرون هذا الدّين قد أبطَلَ دينهم ، وأزال حظوظهم . كما سنبينه .ومعنى { لا يألونكم خبالاً } لا يقصّرون في حبالكم ، والألْوُ التقصير والترك ، وفعله ألاَ يَألو ، وقد يتوسّعون في هذا الفعل فيعدّى إلى مفعولين ، لأنَّهم ضمّنوه معنى المنع فيما يرغَب فيه المفعول ، فقالوا لا آلوك جُهداً ، كما قالوا لا أدّخرك نصحاً ، فالظاهر أنَّه شاع ذلك الاستعمال حتَّى صار التضمين منسياً ، فلذلك تعدّى إلى ما يدلّ على الشرّ كما يعدّى إلى ما يدلّ على الخير ، فقال هنا : { لا يألونكم خبالا } أي لا يقصّرون في خبالكم ، وليس المراد لا يمنعونكم ، لأن الخبال لا يُرْغب فيه ولا يسأل .ويحتمل أنَّه استعمل في هذه الآية على سبيل التهكّم بالبطانة ، لأنّ شأن البطانة أن يسعوا إلى ما فيه خير من استبطنهم ، فلمّا كان هؤلاء بضدّ ذلك عبّر عن سعيهم بالضرّ ، بالفعل الذي من شأنه أن يستعمل في السعي بالخير .والخبال اختلال الأمر وفساده ، ومنه سمّي فساد العقل خبالاً ، وفساد الأعْضَاء .وقوله { ودّوا ما عنتم } الود : المحبّة ، والعنَت : التعب الشَّديد ، أي رغبوا فيما يعنتكم و ( ما ) هنا مصدرية ، غير زمانية ، ففعل { عنتم } لمّا صار بمعنى المصدر زالت دلالته على المضي .ومعنى { قد بدت البغضاء من أفواههم } ظهرت من فلتات أقوالهم كما قال تعالى : { ولتعرفنهم في لحن القول } فعبّر بالبغضاء عن دلائلها .وجملة { وما تخفي صدورهم أكبر } حالية .( والآيات ) في قوله : { قد بينا لكم الآيات } بمعنى دلائل سوء نوايا هذه البطانة كما قال : { إن في ذلك لآيات للمتوسمين } [ الحجر : 75 ] ولم يزل القرآن يربّي هذه الأمّة على إعمال الفكر ، والاستدلال ، وتعرّف المسبَّبات من أسبابها في سائر أحوالها : في التَّشريع ، والمعاملة ليُنشئها أمَّة علم وفطنة . 6ولكون هذه الآيات آياتتِ فراسةٍ وتوسّم ، قال : { إن كنتم تعقلون } ولم يقل : إن كنتم تعلمون أو تفقهون ، لأنّ العقل أعمّ من العلم والفقه .وجملة { قد بينا لكم الآيات } مستأنفة .
ٱلتَّفْسِيرُ ٱلْوَسِيط
Tafsir Al-Waseet —
علمائے جامعہ ازہر
وبعد أن بين - سبحانه - سوء عاقبة الكافرين أكمل بيان وأحكمه ، حذر المؤمنين من أهل الكتاب ومن على شاكلتهم ممن لا يريدون للإسلام إلا الشرور والمضار فقال - تعالى - : { ياأيها الذين آمَنُواْ . . . } .قال الفخر الرازى ما ملخصه : اختلفوا فى الذين نهى الله المؤمنين عن مخالطتهم من هم؟ فقيل هم اليهود ، لأن بعض المسلمين كانوا يشاورونهم فى أمورهم ويؤانسونهم لما كان فيهم من الرضاع والحلف . وقيل هم المنافقون ، وذلك لأن بعض المؤمنين كانوا يغترون يظاهر أقوالهم فيفشون إليهم الأسرار والصحيح أن المراد بهم جميع أصناف الكفار ، والدليل عليه قوله تعالى : { بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ } فمنع المؤمنين أن يتخذوا بطانة من غير المؤمنين ، فيكون ذلك نهيا عن جميع الكفار " .والبطانة فى الأصل : داخل الثوب ، وجمعها بطائن . قال - تعالى - : ( مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الجنتين دَانٍ ) . وظاهر الثوب يسمى الظهارة ، والبطانة - أيضاص - الثوب الذى يجعل تحت ثوب آخر ويسمى الشعار ، وما فوقه الدثار وفى الحديث " الأنصار شعار والناس دثار " .ثم أطلقت البطانة على صديق الرجل وصفيه الذى يطلع على شئونه الخفية تشبيها ببطانة الثياب فى شدة القرب من صاحبها . قال الشاعر :أولئك خلصائي نعم وبطانتى ... وهم عيبتى من دون كل قريبوقوله : { مِّن دُونِكُمْ } أى من غير أهل ملتكم .والمعنى : لا يجوز لكم - أيها المؤمنون - أن تتخذوا من غير أهل ملتكم أصفياء وأولياء تلقون إليهم بأسراركم لاتى لا يصح لكم أن تطلعوهم عليها ، لأنكم لو فعلتم ذلك لأصابكم الضرر فى دينكم ودنياكم .قال القرطبى : " نهى الله المؤمنين بهذه الآية أن يتخذوا من الكفار واليهود وأهل الأهواء دخلاء وولجاء ، يفاوضونهم فى الآراء ويسندون إليهم أمورهم . وفى سنن أبى داود عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل " وقيل لعمر بن الخطاب - رضى الله عنه - إن ههنا رجلا من نصارى الحيرة لا أحد أكتب منه ولا أخط بقلم ، أفلا يكتب عنك؟ فقال : لا آخذ بطانة من دون المؤمنين " .ثم قال القرطبى - رحمه الله - : قلت وقد انقلبت الأحوال فى هذه الأزمان باتخاذ أهل الكتاب كتبة وأمناء ، وتسودوا بذلك عند الجهلة الأغبياء من الولاة والأمراء . روى البخارى عن أبى سعيد الخدرى عن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " ما بعث الله من نبى ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان : بطانة تأمره بالخير وتحضه عليه . وبطانة تأمره بالشر وتحثه عليه ، والمعصوم من عصمه الله " .وصدر - سبحانه - النداء بوصف الإيمان ، للإشعار بأن مقتضى الإيمان يوجب عليهم ألا يأمنوا من يخالفهم فى عقيدتهم على أسرارهم ، وألا يتخذوا أعداء الله وأعداءهم أولياء يلقون إليهم بالمودة ، وألا يطلعوهم على ما يجب إخفاؤه من شئون وأمور خاصة بالمؤمنين وقوله : { مِّن دُونِكُمْ } يجوز أن يكون صفة لبطانة فيكون متعلقاً بمحذوف ، أى لا تتخذوا بطانة كائنة من غيركم .ويجوز أن يكون متعلقا بقوله : { لاَ تَتَّخِذُواْ } أى لا تتخذوا من غير أهل ملتكم بطانة تصافونهم وتطلعونهم على أسراركم .ثم ذكر - سبحانه - جملة من الأسباب التى تجعل المؤمنين يمتنعون عن مصافاة هؤلاء الذين يخالفونهم فى عقيدتهم فقال فى بيان أول هذه الأسباب : { لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً } وأصل " الألو " : التقصير . يقال : ألا فى الأمر - كغزا - يألو ألواً وألوا ، إذا قصر فيه ، ومنه قول امرىء القيس :وما المرء ما دامت حشاشة نفسه ... بمدرك أطراف الخطوب ولا آلأراد ولا مقصر ، وهو - أى الفعل " يألو " من الأفعال اللازمة التى تتعدى إلى المفعول بالحرف ، وقد يستعمل متعديا إلى مفعولين كا فى قولهم : لا آلوك نصحاً ، على تضمين الفعل معنى المنع . أى لا أمنعك ذلك .والخبال : الشر والفساد . وأصله ما يلحق الحيوان من مرض وفتور فيورثه فسادا واضطراباً . يقال خبله وخبله فهو خابل . والجمع الخبل ورجل مخبل إذا أصيب بمرض أورثه اضطراباً وفساداً فى قواه العقلية والفكرية .والمعنى : أنهاكم - أيها المؤمنون - عن أن تتخذوا أولياء وأصفياء لكم من غير إخوانكم المؤمنين ، لأن هؤلاء الأولياء من غير إخوانكم المؤمنين ، لا يقصرون فى جهد يبذلونه فى إفساد أمركم ، وفيما يورثكم شرا وضرا . أو لا يمنعونكم خبالا ، أى أنهم يفعلون معكم ما يقدرون عليه من الفساد ولا يبقون شيئاً منه عندهم ، بل يبذلون قصارى جهدهم فى إليحاق الضرر بكم فى دينكم ودنياكم .وقوله : { لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً } جملة مستأنفة مبينة لحالهم داعية إلى اجتنابهم . أو صفة لقوله : { بِطَانَةً } .وقوله : { خَبَالاً } منصوب على أنه المفعول الثانى ليألونكم لتضمينه معنى يمنعونكم .ويصح أن يكون منصوبا بنزع الخافض أى لا يقصرون لكم عن جهد فيما يورثكم شرا وفسادا .أما السبب الثانى الذى يحمل المؤمنين على اجتناب هؤلاء الضالين فقد بينه - سبحانه - بقوله : { وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ } .وقوله : { وَدُّواْ } من الود وهو المحبة . يقال : وددت كذا أى أحببته .وقوله : { عَنِتُّمْ } من العنت وهو شدة الضرر والمشقة . ومنه قوله - تعالى - : { وَلَوْ شَآءَ الله لأَعْنَتَكُمْ } أى لأوقعكم فيما يشق عليكم .و { مَا } فى قوله : { مَا عَنِتُّمْ } هى ما المصدرية . أى : أن هؤلاء الذين تصافونهم وتفشون إليهم أسراركم مع أنهم ليسوا على ملتكم ، بجانب أنهم لا يألون جهدا فى إفساد أمركم ، فإنهم يحبون عنتكم ومشقتكم وشدة ضرركم ، وتفريق جمعكم ، وذهاب قوتكم .فالجملة الأولى وهى قوله : { لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً } بمنزلة المظهر والنتيجة ، وهذه . أى قوله تعالى : { وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ } بمنزلة الباعث والدافع .فهم لا يودون للمسلمين الخير والاطمئنان والأمان ، وأنما يودون لهم الشقاء والشرور والخسران .وليس بعاقل ذلك الذى يطلع من يريد له الشرور على أسراره ودخائله .وأما السبب الثالث الذى يدعو المؤمنين إلى اجتنابهم فقد بينه الله - تعالى - بقوله : { قَدْ بَدَتِ البغضآء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ } .والبغضاء مصدر كالسراء والضراء ، وهى البغض الشديد المتمكن فى النفوس ، والثابت فى القلوب .أى : قد ظهرت أمارات العداوة لكم من فلتات ألسنتهم ، وطفح البغض الباطن فى قلوبهم لكم حتى خرج من أفواههم ، ولاح على صفحات وجوههم ، وقد قيل : كوامن النفوس تظهر على صفحات الوجوه وفلتات اللسان . ومع هذا فإن ما تخفيه نفوسهم المريضة لكم من أحقاد وإحن ، أكبر مما نطقت به ألسنتهم من بغضاء ، إذ أن ما نطقوا به إنما هو بمثابة الرشح الذى ظهر من مسام أجسادهم وقلوبهم ، أما ما يبيتونه لكم من شرور وآثام فهو أكبر من ذلك بكثير .وخص الأفواه بالذكر دون الألسنة . للإشارة إلى تشدقهم وثرثرتهم فى أقوالهم الباطلة ، فهم أشد جرما من المتستر الذى تبدو البغضاء فى عينيه .ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة ببيان مظهر من مظاهر فضله على المؤمنين حيث كشف لهم عن أحوال أعدائهم ، وعن سوء نواياهم وعن الأسباب التى تدعو إلى الحذر منهم فقال - تعالى - : { قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ } .أى قد بينا لكم العلامات الواضحات ، والآيات البينات التى تعرفون بها أعداءكم ، وتميزون عن طريقها بين الصديق وبين العدو ، إن كنتم من أهل العقل والفهم .والمقصود من الجملة الكريمة حضهم على استعمال عقولهم بتأمل وتدبر فى هذه الآيات التى بينها الله لهم فضلا منه وكرما ، وحتى لا يتخذوا بطانة من غير إخوانهم فى العقيدة والدين .وجواب الشرك محذوف لدلالة الكلام عليه ، والتقدير : إن كنتم تعقلون ذلك فلا تباطنوهم ولا تفشوا لهم أسراركم .
تَفْسِيرُ ٱلْبَغَوِيِّ
Tafsir al-Baghawi —
علامہ بغوی
قوله تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم ) الآية قال ابن عباس رضي الله عنهما : كان رجال من المسلمين يواصلون اليهود لما بينهم من القرابة والصداقة والحلف والجوار والرضاع ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ينهاهم عن مباطنتهم خوف الفتنة عليهم .وقال مجاهد : نزلت في قوم من المؤمنين كانوا يصافون المنافقين ، فنهاهم الله تعالى عن ذلك فقال : ( ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم ) أي : أولياء وأصفياء من غير أهل ملتكم ، وبطانة الرجل : خاصته تشبيها ببطانة الثوب التي تلي بطنه لأنهم يستبطنون أمره ويطلعون منه على ما لا يطلع عليه غيرهم .ثم بين العلة في النهي عن مباطنتهم فقال جل ذكره ( لا يألونكم خبالا ) أي : لا يقصرون ولا يتركون جهدهم فيما يورثكم الشر والفساد ، والخبال : الشر والفساد ، ونصب " خبالا " على المفعول الثاني لأن يألو يتعدى إلى مفعولين وقيل : بنزع الخافض ، أي بالخبال كما يقال أوجعته ضربا ، ( ودوا ما عنتم ) أي : يودون ما يشق عليكم من الضر والشر والهلاك . والعنت : المشقة ( قد بدت البغضاء ) أي : البغض ، معناه ظهرت أمارة العداوة ، ( من أفواههم ) بالشتيمة والوقيعة في المسلمين ، وقيل : بإطلاع المشركين على أسرار المؤمنين ( وما تخفي صدورهم ) من العداوة والغيظ ، ( أكبر ) أعظم ، ( قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون )