تَفْسِيرُ ٱلْمُيَسَّر
Tafsir Al-Muyassar —
کنگ فہد قرآن کمپلیکس
وما محمد إلا رسول من جنس الرسل الذين قبله يبلغ رسالة ربه. أفإن مات بانقضاء أجله أو قُتِل كما أشاعه الأعداء رجعتم عن دينكم،، تركتم ما جاءكم به نبيكم؟ ومن يرجِعُ منكم عن دينه فلن يضر الله شيئًا، إنما يضر نفسه ضررًا عظيمًا. أما مَن ثبت على الإيمان وشكر ربه على نعمة الإسلام، فإن الله يجزيه أحسن الجزاء.
تَفْسِيرُ ٱلْجَلَالَيْنِ
Tafsir al-Jalalayn —
جلال الدین محلی اور جلال الدین سیوطی
«وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قُتل» كغيره «انقلبتم على أعقابكم» رجعتم إلى الكفر والجملة الأخيرة محل الاستفهام الإنكاري أي ما كان معبودا فترجعوا «ومن ينقلب على عقبيه فلن يضرَّ اللهَ شيئا» وإنما يضر نفسه «وسيجزى الله الشاكرين» نعمه بالثبات.
تَفْسِيرُ ٱلْقُرْطُبِيِّ
Tafsir al-Qurtubi —
علامہ قرطبی
قوله تعالى : وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرينفيه خمس مسائل :الأولى : روي أنها نزلت بسبب انهزام المسلمين يوم أحد حين صاح الشيطان : قد قتل محمد . قال عطية العوفي : فقال بعض الناس : قد أصيب محمد فأعطوهم بأيديكم فإنما هم إخوانكم . وقال بعضهم : إن كان محمد قد أصيب ألا تمضون على ما مضى عليه نبيكم حتى تلحقوا به ; فأنزل الله تعالى في ذلك وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل إلى قوله : فآتاهم الله ثواب الدنيا . و " ما " نافية ، وما بعدها ابتداء وخبر ، وبطل عمل " ما " . وقرأ ابن عباس " قد خلت من قبله رسل " بغير ألف ولام . فأعلم الله تعالى في هذه الآية أن الرسل ليست بباقية في قومها أبدا ، وأنه يجب التمسك بما أتت به الرسل وإن فقد الرسول بموت أو قتل . وأكرم نبيه - صلى الله عليه وسلم - وصفيه باسمين مشتقين من اسمه : محمد وأحمد ، تقول العرب : رجل محمود ومحمد إذا كثرت خصاله المحمودة ، قال الشاعر :[ ص: 211 ]إلى الماجد القرم الجواد المحمدوقد مضى هذا في الفاتحة . وقال عباس بن مرداس :يا خاتم النبآء إنك مرسل بالخير كل هدى السبيل هداكاإن الإله بنى عليك محبة في خلقه ومحمدا سماكافهذه الآية من تتمة العتاب مع المنهزمين ، أي لم يكن لهم الانهزام وإن قتل محمد ، والنبوة لا تدرأ الموت ، والأديان لا تزول بموت الأنبياء ، والله أعلم .الثانية : هذه الآية أدل دليل على شجاعة الصديق وجراءته ، فإن الشجاعة والجرأة حدهما ثبوت القلب عند حلول المصائب ، ولا مصيبة أعظم من موت النبي - صلى الله عليه وسلم - كما تقدم بيانه في " البقرة " فظهرت عنده شجاعته وعلمه . قال الناس : لم يمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهم عمر ، وخرس عثمان ، واستخفى علي ، واضطرب الأمر فكشفه الصديق بهذه الآية حين قدومه من مسكنه بالسنح ، الحديث ; كذا في البخاري . وفي سنن ابن ماجه عن عائشة قالت : لما قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر عند امرأته ابنة خارجة بالعوالي ، فجعلوا يقولون : لم يمت النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما هو بعض ما كان يأخذه عند الوحي . فجاء أبو بكر فكشف عن وجهه وقبل بين عينيه وقال : أنت أكرم على الله من أن يميتك مرتين . قد والله مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعمر في ناحية المسجد يقول : والله ما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا يموت حتى يقطع أيدي أناس من المنافقين كثير وأرجلهم . فقام أبو بكر فصعد المنبر فقال : من كان يعبد الله فإن الله حي لم يمت ، ومن كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين . قال عمر : " فلكأني لم أقرأها إلا يومئذ " . ورجع عن مقالته التي قالها فيما ذكر الوائلي أبو نصر عبيد الله في كتابه الإبانة : عن أنس بن مالك أنه سمع عمر بن الخطاب حين بويع أبو بكر في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واستوى على منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تشهد قبلأبي بكر فقال : أما بعد فإني قلت لكم أمس مقالة وإنها لم تكن كما قلت ، وإني والله ما وجدت المقالة التي قلت لكم في كتاب أنزله الله ولا في عهد عهده إلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولكني [ ص: 212 ] كنت أرجو أن يعيش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى يدبرنا - يريد أن يقول حتى يكون آخرنا موتا - فاختار الله عز وجل لرسوله الذي عنده على الذي عندكم ، وهذا الكتاب الذي هدى الله به رسوله فخذوا به تهتدوا لما هدي له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . قال الوائلي أبو نصر : المقالة التي قالها ثم رجع عنها هي " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يمت ولن يموت حتى يقطع أيدي رجال وأرجلهم " وكان قال ذلك لعظيم ما ورد عليه ، وخشي الفتنة وظهور المنافقين ، فلما شاهد قوة يقينالصديق الأكبر أبي بكر ، وتفوهه بقول الله عز وجل : كل نفس ذائقة الموت وقوله : إنك ميت وإنهم ميتون وما قاله ذلك اليوم تنبيه وتثبيت وقال : كأني لم أسمع بالآية إلا من أبي بكر . وخرج الناس يتلونها في سكك المدينة ، كأنها لم تنزل قط إلا ذلك اليوم ومات - صلى الله عليه وسلم - يوم الاثنين بلا اختلاف ، في وقت دخولهالمدينة في هجرته حين اشتد الضحاء ، ودفن يوم الثلاثاء ، وقيل ليلة الأربعاء . وقالت صفية بنت عبد المطلب ترثي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :ألا يا رسول الله كنت رجاءنا وكنت بنا برا ولم تك جافياوكنت رحيما هاديا ومعلما ليبك عليك اليوم من كان باكيالعمرك ما أبكي النبي لفقده ولكن لما أخشى من الهرج آتياكأن على قلبي لذكر محمد وما خفت من بعد النبي المكاوياأفاطم صلى الله رب محمد على جدث أمسى بيثرب ثاويافدى لرسول الله أمي وخالتي وعمي وآبائي ونفسي ومالياصدقت وبلغت الرسالة صادقا ومت صليب العود أبلج صافيافلو أن رب الناس أبقى نبينا سعدنا ولكن أمره كان ماضياعليك من الله السلام تحية وأدخلت جنات من العدن راضياأرى حسنا أيتمته وتركته يبكي ويدعو جده اليوم ناعيافإن قيل وهي :الثالثة : فلم أخر دفن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد قال لأهل بيت أخروا دفن ميتهم : ( عجلوا دفن جيفتكم ولا تؤخروها ) . فالجواب من ثلاثة أوجه : الأول : ما ذكرناه من عدم اتفاقهم على [ ص: 213 ] موته . الثاني : لأنهم لا يعلمون حيث يدفنونه . قال قوم في البقيع ، وقال آخرون في المسجد ، وقال قوم : يحبس حتى يحمل إلى أبيه إبراهيم . حتى قال العالم الأكبر : سمعته يقول : ما دفن نبي إلا حيث يموت ذكره ابن ماجه والموطأ وغيرهما . الثالث : أنهم اشتغلوا بالخلاف الذي وقع بين المهاجرين والأنصار في البيعة ، فنظروا فيها حتى استتب الأمر وانتظم الشمل واستوثقت الحال ، واستقرت الخلافة في نصابها فبايعوا أبا بكر ، ثم بايعوه من الغد بيعة أخرى عن ملأ منهم ورضا ; فكشف الله به الكربة من أهل الردة ، وقام به الدين ، والحمد لله رب العالمين . ثم رجعوا بعد ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فنظروا في دفنه وغسلوه وكفنوه ، والله أعلم .الرابعة : واختلف هل صلي عليه أم لا ، فمنهم من قال : لم يصل عليه أحد ، وإنما وقف كل واحد يدعو ، لأنه كان أشرف من أن يصلى عليه . وقال ابن العربي : وهذا كلام ضعيف ; لأن السنة تقام بالصلاة عليه في الجنازة ، كما تقام بالصلاة عليه في الدعاء ، فيقول : اللهم صل على محمد إلى يوم القيامة ، وذلك منفعة لنا . وقيل : لم يصل عليه ; لأنه لم يكن هناك إمام . وهذا ضعيف لأن الذي كان يقيم بهم الصلاة الفريضة هو الذي كان يؤم بهم في الصلاة . وقيل : صلى عليه الناس أفذاذا ; لأنه كان آخر العهد به ، فأرادوا أن يأخذ كل أحد بركته مخصوصا دون أن يكون فيها تابعا لغيره . والله أعلم بصحة ذلك .قلت : قد خرج ابن ماجه بإسناد حسن بل صحيح من حديث ابن عباس وفيه : فلما فرغوا من جهازه يوم الثلاثاء وضع على سريره في بيته ، ثم دخل الناس على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرسالا يصلون عليه ، حتى إذا فرغوا أدخلوا النساء ، حتى إذا فرغن أدخلوا الصبيان ، ولم يؤم الناس على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحد . خرجه عن نصر بن علي الجهضمي أنبأنا وهب بن جرير [ ص: 214 ] حدثنا أبي عن محمد بن إسحاق . قال حدثني حسين بن عبد الله عن عكرمة عن ابن عباس ، الحديث بطوله .الخامسة : في تغيير الحال بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أنس قال : لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة أضاء منها كل شيء ، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء ، وما نفضنا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الأيدي حتى أنكرنا قلوبنا . أخرجه ابن ماجه ، وقال : حدثنا محمد بن بشار أخبرنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا سفيان عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال : كنا نتقي الكلام والانبساط إلى نسائنا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مخافة أن ينزل فينا القرآن ، فلما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تكلمنا . وأسند عن أم سلمة بنت أبي أمية زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها قالت : كان الناس في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام المصلي يصلي لم يعد بصر أحدهم موضع قدميه ، فلما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان أبو بكر ، فكان الناس إذا قام أحدهم يصلي لم يعد بصر أحدهم موضع جبينه ، فتوفي أبو بكر وكان عمر ، فكان الناس إذا قام أحدهم يصلي لم يعد بصر أحدهم موضع القبلة ، فكان عثمان بن عفان فكانت الفتنة فتلفت الناس في الصلاة يمينا وشمالا .قوله تعالى : أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم أفإن مات شرط أو قتل عطف عليه ، والجواب انقلبتم . ودخل حرف الاستفهام على حرف الجزاء لأن الشرط قد انعقد به وصار جملة واحدة وخبرا واحدا . والمعنى : أفتنقلبون على أعقابكم إن مات أو قتل ؟ وكذلك كل استفهام دخل على حرف الجزاء ; فإنه في غير موضعه ، وموضعه أن يكون قبل جواب الشرط . وقوله انقلبتم على أعقابكم تمثيل ، ومعناه ارتددتم كفارا بعد إيمانكم ، قال قتادة وغيره . ويقال لمن عاد إلى ما كان عليه : انقلب على عقبيه . ومنه نكص على عقبيه . وقيل : المراد بالانقلاب هنا الانهزام ، فهو حقيقة لا مجاز . وقيل : المعنى فعلتم فعل المرتدين وإن لم تكن ردة .[ ص: 215 ] قوله تعالى : ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا بل يضر نفسه ويعرضها للعقاب بسبب المخالفة ، والله تعالى لا تنفعه الطاعة ولا تضره المعصية لغناه . وسيجزي الله الشاكرين ، أي الذين صبروا وجاهدوا واستشهدوا . وجاء وسيجزي الله الشاكرين بعد قوله : فلن يضر الله شيئا فهو اتصال وعد بوعيد .
تَنْوِيرُ ٱلْمِقْبَاسِ مِن تَفْسِيرِ ٱبْنِ عَبَّاس
Tafsir Tanwir al-Miqbas —
حضرت ابن عباسؓ
عطف الإنكار على الملام المتقدّم في قوله تعالى : { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة } [ آل عمران : 142 ] وقوله : { ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه } [ آل عمران : 143 ] وكُلّ هاته الجمل ترجع إلى العتاب والتقريع على أحوال كثيرة ، كانت سبب الهزيمة يوم أُحُد ، فيأخذ كُلّ من حضر الوقعة من هذا الملام بنصِيبه المناسب لما يعلمه من حاله ظاهراً كان أم باطناً .والآية تشير إلى ما كان من المسلمين من الاضطراب حين أرجَف بموت الرّسول صلى الله عليه وسلم فقال المنافقون : لو كان نبيّاً ما قتل ، فارجعوا إلى دينكم القديم وإخوانكم من أهل مكَّة ونكلّم عبد الله بن أبَي يأخذ لنا أماناً من أبي سفيان ، فهمّوا بترك القتال والانضمام للمشركين ، وثبت فريق من المسلمين ، منهم : أنس بن النضر الأنصاري ، فقال : إن كان قُتل محمد فإنّ ربّ محمد حيّ لا يموت ، وما تصنعون بالحياة بعده ، فقاتلوا على ما قاتل عليه .ومحمد اسم رسول الله محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صلى الله عليه وسلم سمَّاه به جدّه عبد المطلب وقيل له : لِمَ سَمّيتَه محمّداً وليس من أسماء آبائك؟ فقال : رجوت أن يحمده النَّاس . وقد قيل : لم يسمّ أحد من العرب محمداً قبل رسول الله . ذكر السهيلي في «الروض» أنّه لم يُسمّ به من العرب قبل ولادة رسول الله إلاّ ثلاثة : محمد بن سفيان بن مجاشع ، جدّ جدّ الفرزدق ، ومحمد بن أحَيْحَةَ بن الجُلاَح الأوسي . ومحمد بن حمران مِن ربيعة .وهذا الاسم منقول من اسم مفعول حَمَّده تحميداً إذا أكثر من حمده ، والرسول فَعول بمعنى مَفعول مثل قولهم : حَلُوب ورَكوب وجَزور .ومعنى { خلت } مضت وانقرضت كقوله : { قد خلت من قبلكم سنن } [ آل عمران : 137 ] وقول امرىء القيس : ( مَن كان في العصر الخالي ) وقَصر محمداً على وصف الرسالة قَصْرَ موصوف على الصفة . قصراً إضافياً ، لردّ ما يخالف ذلك ردّ إنكار ، سواء كان قصر قلب أو قصر إفراد .والظاهر أنّ جملة { قد خلت من قبله الرسل } صفة «لرسول» ، فتكون هي محطّ القصر : أي ما هو إلاّ رسول موصوف بخلوّ الرسل قبله أي انقراضهم . وهذا الكلام مسوق لردّ اعتقاد من يعتقد انتفاء خلوّ الرسللِ مِن قبله ، وهذا الاعتقاد وإن لم يكن حاصلاً لأحد من المخاطبين ، إلاّ أنَّهم لمّا صدر عنهم ما من شأنه أن يكون أثراً لهذا الاعتقاد ، وهو عزمهم على ترك نصرة الدّين والاستسلام للعدوّ كانوا أحرياء بأن ينزلوا منزلة من يعتقد انتفاء خلوّ الرسل مِن قبله ، حيث يجدون أتباعهم ثابتين على مللهم حتّى الآن فكان حال المخاطبين حال من يتوهّم التلازم بين بقاء الملّة وبقاء رسولها ، فيستدلّ بدوام الملّة على دوام رسولها ، فإذا هلك رسول ملّة ظنّوا انتهاء شرعه وإبطال اتّباعه .فالقصر على هذا الوجه قصر قلب ، وهو قلب اعتقادهم لوازم ضدّ الصّفة المقصور عليها ، وهي خلوّ الرسل قبله ، وتلك اللوازم هي الوهَن والتردّد في الاستمرار على نشر دعوة الإسلام ، وبهذا يشعر كلام صاحب «الكشّاف» .وجعَل السكاكي المقصور عليه هو وصف الرسالة فيكون محطّ القصر هو قوله : «رسول» دون قوله : { قد خلت من قبله الرسل } ويكون القصر قصرَ إفْراد بتنزيل المخاطبين منزلة من اعتقد وصفه بالرسالة مع التنزّه عن الهلاك ، حين رتَّبوا على ظنّ موته ظنوناً لا يفرضها إلاّ من يعتقد عصمته من الموت ، ويكون قوله : { قد خلت من قبله الرسل } على هذا الوجه استئنافاً لا صفة ، وهو بعيد ، لأنّ المخاطبين لم يصدر منهم ما يقتضي استبعاد خبر موته ، بل هم ظنّوه صدقاً .وعلى كلا الوجهين فقد نُزّل المخاطبون منزلَة من يَجهل قصر الموصوف على هذه الصفة وينكره ، فلذلك خوطبوا بطريق النَّفي والاستثناء ، الَّذي كثر استعماله في خطاب من يجهل الحكم المقصورَ عليه وينكره دون طريق ، إنَّما كما بيّنه صاحب «المفتاح» .وقوله : { أفإين مات أو قتل اتقلبتم على أعقابكم } عطف على قوله : { وما محمد إلا رسول } إلخ . . . والفاء لتعقيب مضمون الجملة المعطوف عليها بمضمون الجملة المعطوفة ، ولمَّا كان مضمون الجملة المعطوفة إنشاء الاستفهام الإنكاري على مضمونها ، وهو الشرط وجزاؤه ، لم يكن للتعقيب المفاد من فاء العطف معنى إلاّ ترتّب مضمون المعطوفة على المعطوف عليها ، ترتّب المسبّب على السبب ، فالفاء حينئذ للسببية ، وهمزة الاستفهام مقدّمة من تأخير ، كشأنها مع حروف العطف ، والمعنى ترتّب إنكار أن ينقبلوا على أعقابهم على تحقّق مضمون جملة القصر : لأنّه إذا تحقّق مضمون جملة القصر ، وهو قلب الاعتقاد أو إفرادُ أحد الاعتقادين ، تسبّب عليه أن يكون انقلابهم على الأعقاب على تقدير أن يموت أو يقتل أمراً منكراً جديراً بعدم الحصول ، فكيف يحصل منهم ، وهذا الحكم يؤكِّد ما اقتضته جملة القصر ، من التعريض بالإنكار عليهم في اعتقادهم خلاف مضمون جملة القصر ، فقد حصل الإنكار عليهم مرتين : إحداهما بالتَّعريض المستفاد ، من جملة القصر ، والأخرى بالتَّصريح الواقع في هاته الجملة .وقال صاحب «الكشاف» : الهمزة لإنكار تسبّب الانقلاب على خلوّ الرسول ، وهو التسّبب المفاد من الفاء أي إنكار مجموع مدلول الفاء ومدلول مدخولها مثل إنكار الترتّب والمهلة في قوله تعالى : { أثم إذا ما وقع آمَنْتم به } [ يونس : 51 ] وقول النابغة: ... أثُمّ تَعَذّراننِ إلَيّ منهَافإنّي قد سمِعْتُ وقد رأيتُ ... بأن أنكر عليهم جعلهم خلوّ الرسل قبله سبباً لارتدادهم عند العلم بموته . وعلى هذا فالهمزة غير مقدّمة من تأخير لأنَّها دخلت على فاء السَّببية . ويَرِد عليه أنَّه ليس علمهم بخلوّ الرسل من قبله مع بقاء أتباعهم متمسكين سبباً لانقلاب المخاطبين على أعقابهم ، وأجيب بأنّ المراد أنَّهم لمَّا علموا خلوّ الرسل من قبله مع بقاء مللهم ، ولم يَجْروا على موجَب علمهم ، فكأنَّهم جعلوا علمهم بذلك سبباً في تحصيل نقيض أثره ، على نحو ما يعرض من فساد الوضع في الاستدلال الجدلي ، وفي هذا الوجه تكلّف وتدقيق كثير .وذهب جماعة إلى أنّ الفاء لِمجرّد التَّعقيب الذكري ، أو الاستئناف ، وأنَّه عطف إنكار تصريحي على إنكار تعريضي ، وهذا الوجه وإن كان سهلاً غير أنَّه يفيت خصوصية العطف بالفاء دون غيرها ، على أنّ شأن الفاء المفيدة للترتيب الذكري المحض أن يعطف بها الأوصاف نحو { والصافات صفا فالزاجرات زجراً } [ الصافات : 1 ، 2 ] أو أسماء الأماكن نحو قوله: ... بَيْنَ الدّخول فحَوْمَلفتُوضِحَ فالمقراة . . . إلخ ... والانقلاب : الرجوع إلى المكان ، يقال : انقلب إلى منزله ، وهو هنا مجاز في الرجوع إلى الحال الَّتي كانوا عليها ، أي حال الكفر . و { على } للاستعلاء المجازي لأنّ الرجوع في الأصل يكونُ مُسبَّباً على طريق . والأعقاب جمع عقب وهو مؤخّر الرّجل ، وفي الحديث « وَيْل للأعقاب من النَّار » والمراد منه جهة الأعقاب أي الوراء .وقوله : { ومن ينقلب على عاقبيه فلن يضر الله شيئاً } أي شيئاً من الضر ، ولو قليلاً ، لأنّ الارتداد عن الدّين إبطال لما فيه صلاح النَّاس ، فالمرتدّ يضرّ بنفسه وبالنَّاس ، ولا يضرّ الله شيئاً ، ولكن الشاكر الثَّابت على الإيمان يجازي بالشكر لأنَّه سعى في صلاح نفسه وصلاح النَّاس ، والله يحبّ الصلاح ولا يحبّ الفساد .والمقصود من الآية العتاب على ما وقع من الاضطراب ، والثناءُ على الَّذين ثبتوا ووعظوا النَّاس ، والتحذيرُ من وقوع الارتداد عند موت الرسول عليه السَّلام ، وقد وقع ما حذّرهم الله منه بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم إذا ارتد كثير من المسلمين ، وظنّوا اتِّباعَ الرسول مقصوراً على حياته ، ثُمّ هداهم الله بعد ذلك ، فالآية فيها إنباء بالمستقبل .
ٱلتَّفْسِيرُ ٱلْوَسِيط
Tafsir Al-Waseet —
علمائے جامعہ ازہر
استمع إلى القرآن الكريم وهو يسوق هذه المعانى بأسلوبه البليغ الحكيم فيقول : { وَمَا مُحَمَّدٌ . . . } .قال ابن كثير : لما انهزم من انهزم من المسلمين يوم أحد ، وقتل من قتل منهم ، نادى الشيطان : ألا إن محمداً قد قتل ، ورجع ابن قميئة إلى المشركين فقال لهم : قتلت محمداً . وإنما قد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فشجه فى رأسه . فوقع ذلك فى قلوب كثير من الناس ، واعتقدوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل ، فحصل ضعف ووهن وتأخر - بين المسلمين - عن القتال . ففى ذلك أنزل الله تعالى - { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل } الآية .وقوله - تعالى - { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل } تقرير لحقيقة ثابتة ، ولأمر مؤكد ، وهو أن محمداً صلى الله عليه وسلم واحد من البشر ، وأنه سيموت كما يموت جميع البشر ، وأنه ليس له صفة تميزه عن سائر البشر سوى الرسالة التى وهبها الله - تعالى - له ، ومنحه إياها ، وأن هذه الرسالة لا تقتضى بقاءه أو خلوده ، إذ الرسل الذين سبقوه قد أدوا رسالتهم فى الحياة كما أمرهم خالقهم ثم ماتوا أو قتلوا .وما دام الأمر كذلك فمحمد صلى الله عليه وسلم سيموت وينتقل إلى الرفيق الأعلى كما مات الذين سبقوه من الأنبياء ، وكما سيموت جميع البشر .والقصر فى قوله - تعالى - : { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ } من باب قصر الموصوف على الصفة ، أى قصر محمد صلى الله عليه وسلم على وصف الرسالة قصراً إضافياً .وفى هذا القصر رد على ما صدر من بعض المسلمين من اضطراب وضعف حين أرجف المنافقون فى غزوة أحد بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قتل .فكأنه - تعالى - يقول لهم : إن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول من الرسل الذين أرسلهم الله لإخراج الناس من الظلمات إلى النور ، وسيكون مصيره إلى الموت إن عاجلا أو آجلا كما هو شأن سائر البشر الذين اصطفى الله - تعالى - منهم رسله ، إلا أن رسالته التى جاء بها من عند الله لن تموت من بعده ، بل ستستمر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، ولا يصح أن يضعف أتباعه فى عقيدتهم أو فى تبليغ رسالته من بعده ، بل عليهم أن يستمسكوا بما جاءهم به ، وأن يدافعوا عنه بأنفسهم وأموالهم .ولذا فقد وبخ الله - تعالى - بعض المسلمين الذين صدر منهم اضطراب أو ضعف عندما أشاع ضعاف النفوس بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قتل فى غزوة أحد فقال - تعالى - : { أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقلبتم على أَعْقَابِكُمْ } ؟أى : إذا مات محمد صلى الله عليه وسلم - أيها المؤمنون - وقد علمتم أن موته حق لا ريب فيه ، أو قتل وهو يدافع عن دينه وعقيدته ، { انقلبتم على أَعْقَابِكُمْ } أى : رجعتم إلى ما كنتم عليه من الكفر والضلال .والانقلاب : الرجوع إلى المكان . وهو هنا مجاز فى الرجوع إلى الحال التى كانوا عليها قبل الإسلام .يقال لكل من رجع إلى حاله السىء الأول : نكص على عقبيه ، وارتد على عقبيه . والعقب مؤخر الرجل . وجمع أعقاب .قال صاحب الكشاف : قوله { أَفإِنْ مَّاتَ } الفاء معلقة للجملة الشرطية بالجملة قبلها على معنى التسبب . والهمزة لإنكار أن يجعلوا خلو الرسل قبله سبباً لانقلابهم على أعقابهم بعد هلاكه بموت أو قتل ، مع علمهم أن خلو الرسل قبله وبقاء دينهم متمسكاً به يجب أن يجعل سبباً للتمسك بدين محمد صلى الله عليه وسلم لا للانقلاب عنه .قإن : قلت : لم ذكر القتل وقد علم أنه لا يقتل؟ قلت : لكونه مجوزا عند المخاطبين .فإن قلت : أما علموه من ناحية قوله : { والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس } قلت : هذا مما يختص بالعلماء منهم وذوى البصيرة " .وفى قوله { انقلبتم على أَعْقَابِكُمْ } تنفير شديد من الرجوع إلى الضلال بعد الهدى ، وتصوير بليغ لمن ارتد عن الحق بعد أن هداه الله إليه .فقد صور - سبحانه - حالة من ترك الهداية إلى الضلال ، بحالة من رجع إلى الوراء وبصره إلى الأمام ، وأعقابه هى التى تقوده إلى الخلق ، وهو فى حالة انتكاس ، بأن جعل رأسه إلى أسفل وعقبه إلى أعلا . ولا شك أن هذا أقبح منظر يكون عليه الإنسان .وقوله { وَمَن يَنقَلِبْ على عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ الله شَيْئاً } الغرض منه تأكيد الوعيد ، لأن كل عاقل يعلم أن الله - تعالى - لا يضره كفر الكافرين .أى : ومن ينقلب على عقبيه بعد وفاة النبى صلى الله عليه وسلم بأن يرجع إلى ما كان عليه من الكفر والضلال ، فلن يضر الله شيئاً من الضرر وإن قل ، إنما يضر نفسه بتعريضها للسخط والعذاب ، وبحرمانها من الأجر والثواب .ثم أتبع - سبحانه - هذا الوعيد بالوعد فقال : { وَسَيَجْزِي الله الشاكرين } أى : وسيثيب الله - تعالى - الثابتين على الحق والصابرين على الشدائد الشاكرين له نعمه فى السراء والضراء ، سيثيبهم على ذلك بالنصر فى الدنيا وبرضوانه فى الآخرة .وعبر هنا بالشاكرين ولم يعبر بالصابرين مع أن الصبر فى هذا الموطن أظهر ، وذلك لأن الشكر فى هذا المقام هو أسمى درجات الصبر ، لأن هؤلاء المؤمنين الصادقين الذين وقفوا إلى جانب النبى - صلى الله عليه وسلم - فى ساعة العسرة ، لم يكتفوا بتحمل البلاء معه فقط ، بل تجاوزوا حدود الصبر إلى حدود الشكر على هذه الشدائد التى ميزت الخبيث من الطيب ، فالشكر هنا صبر وزيادة ، وقليل من الناس هو الذى يكون على هذه الشاكلة ، ولذا قال - تعالى -{ وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور } فالآية الكريمة قد تضمنت عتابا وتوبيخا لأولئك المسلمين الذين ضعف يقينهم ، وفترت همتهم ، عندما أرجف المرجفون فى غزوة أحد بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قتل .كما تضمنت الثناء الجزيل على أولئك الثابتين الصابرين الذين لم تؤثر فى قوة إيمانهم تلك الأراجيف الكاذبة ، بل مضوا فى جهادهم وثباتهم بدون تردد أو تزعزع ولقد كان الثابتون حول رسول الله صلى الله عليه وسلم فى غزوة أحد كثيرين ومن بينهم أنس بن النضر - رضى الله عنه - ، فقد ورى البخارى عن أنس - رضى الله عنه - قال : غاب عمى أنس بن النضر عن قتال بدر ، فقال : يا رسول الله . غبت عن أول قتال قاتلت فيه المشركين ، لئن أشهدنى الله قتال المشركين ليرين الله ما أصنع .فلما كان يوم أحد وانكشف المسلمون . قال : اللهم إنى أعتذر إليك مما صنع هؤلاء - يعنى المسلمين - . وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء - يعنى المشركين - .ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ . فقال : يا سعد بن معاذ!! الجنة ورب النضر إنى لأجد ريحها من دون أحد .قال سعد : فما استطعت يا رسول الله ما صنع .قال أنس : فوجدنا به بضعا وثمانين ضربة بالسيف ، أو طعنة برمح ، أو رمية بسهم ، ووجدناه قد قتل ، وقد مثل به المشركون ، فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه .قال أنس كنا نرى أو نظن أن هذه الآية نزلت فيه وفى أشباهه : { مِّنَ المؤمنين رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ الله عَلَيْهِ } كما تضمنت الآية الكريمة التحذير عن الارتداد عن دين الله بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وبيان أنه بشر من البشر ، وأنه يموت كما يموت سائر البشر ، وأن رسالته هى الخالده الباقية ، فمن تمسك بها فقد سعد وفاز . ومن أعرض عنها فلن يضر الله شيئاً .
تَفْسِيرُ ٱلْبَغَوِيِّ
Tafsir al-Baghawi —
علامہ بغوی
قوله عز وجل : ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ) قال أصحاب المغازي خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل بالشعب من أحد في سبعمائة رجل ، وجعل عبد الله بن جبير وهو أخو خوات بن جبير على الرجالة وكانوا خمسين رجلا وقال : أقيموا بأصل الجبل وانضحوا عنا بالنبل لا يأتونا من خلفنا ، فإن كانت لنا أو علينا فلا تبرحوا مكانكم حتى أرسل إليكم فإنا لن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم فجاءت قريش وعلى ميمنتهم خالد بن الوليد وعلى ميسرتهم عكرمة بن أبي جهل ومعهم النساء يضربن بالدفوف ويقلن الأشعار فقاتلوا حتى حميت الحرب فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفا فقال من يأخذ هذا السيف بحقه ويضرب به العدو حتى يثخن ، فأخذه أبو دجانة سماك بن خرشة الأنصاري فلما أخذه اعتم بعمامة حمراء وجعل يتبختر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنها لمشية يبغضها الله تعالى إلا في هذا الموضع " ففلق به هام المشركين وحمل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه على المشركين فهزموهم .وروينا عن البراء بن عازب قال : فأنا والله رأيت النساء يشتددن قد بدت خلاخلهن وأسوقهن رافعات ثيابهن فقال أصحاب عبد الله بن جبير : الغنيمة والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة فلما أتوهم صرفت وجوههم .وقال الزبير بن العوام : فرأيت هندا وصواحباتها هاربات مصعدات في الجبل ، باديات خدامهن ما دون أخذهن شيء فلما نظرت الرماة إلى القوم قد انكشفوا ورأوا أصحابهم ينتهبون الغنيمة أقبلوا يريدون النهب .فلما رأى خالد بن الوليد قلة الرماة واشتغال المسلمين بالغنيمة ، ورأى ظهورهم خالية صاح في خيله من المشركين ، ثم حمل على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من خلفهم فهزموهم وقتلوهم ، ورمى عبد الله بن قمئة رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجر فكسر أنفه ورباعيته وشجه في وجهه فأثقله وتفرق عنه أصحابه ونهض رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صخرة يعلوها ، وكان قد ظاهر بين درعين فلم يستطع فجلس تحته طلحة فنهض حتى استوى عليها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أوجب طلحة " ووقعت هند والنسوة معها يمثلن بالقتلى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجدعن الآذان والأنوف حتى اتخذت هند من ذلك قلائد ، وأعطتها وحشيا وبقرت عن كبدة حمزة ولاكتها فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها ، وأقبل عبد الله بن قمئة يريد قتل النبي صلى الله عليه وسلم فذب مصعب بن عمير - وهو صاحب راية رسول الله صلى الله عليه وسلم - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتله ابن قمئة ، وهو يرى أنه قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجع إلى المشركين وقال : إني قتلت محمدا وصاح صارخ ألا إن محمدا قد قتل ، ويقال : إن ذلك الصارخ كان إبليس ، فانكفأ الناس وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس : " إلي عباد الله ( إلي عباد الله ) فاجتمع إليه ثلاثون رجلا فحموه حتى كشفوا عنه المشركين ورمى سعد بن أبي وقاص حتى اندقت سية قوسه ونثل له رسول الله صلى الله عليه وسلم كنانته ، وقال له : ارم فداك أبي وأمي ، وكان أبو طلحة رجلا راميا شديد النزع كسر يومئذ قوسين أو ثلاثا ، وكان الرجل يمر بجعبة من النبل فيقول : انثرها لأبي طلحة ، وكان إذا رمى أشرف النبي صلى الله عليه وسلم فينظر إلى موضع نبله وأصيبت يد طلحة بن عبيد الله فيبست حين وقى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصيبت عين قتادة بن النعمان يومئذ حين وقعت على وجنته ، فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانها ، فعادت كأحسن ما كانت .فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أدركه أبي بن خلف الجمحي ، وهو يقول : لا نجوت إن نجوت فقال القوم : يا رسول الله ألا يعطف عليه رجل منا؟ فقال صلى الله عليه وسلم : دعوه حتى إذا دنا منه وكان أبي قبل ذلك يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول : عندي رمكة أعلفها كل يوم فرق ذرة أقتلك عليها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بل أنا أقتلك إن شاء الله ، فلما دنا منه تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الحربة من الحارث بن الصمة ثم استقبله فطعنه في عنقه فخدشه خدشة فتدهدأ عن فرسه وهو يخور كما يخور الثور ، ويقول : قتلني محمد ، فأخذه أصحابه وقالوا : ليس عليك بأس قال : بلى لو كانت هذه الطعنة بربيعة ومضر لقتلتهم ، أليس قال لي : أقتلك؟ فلو بزق علي بعد تلك المقالة لقتلني ، فلم يلبث إلا يوما حتى مات بموضع يقال له سرف .أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا عمرو بن علي ، أنا أبو عاصم ، عن ابن جريج عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : اشتد غضب الله على من قتله نبي واشتد غضب الله على من دمى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم .قالوا : وفشا في الناس أن محمدا قد قتل فقال بعض المسلمين : ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن أبي فيأخذ لنا أمانا من أبي سفيان ، وبعض الصحابة جلسوا وألقوا بأيديهم ، وقال أناس من أهل النفاق : إن كان محمدا قد قتل فالحقوا بدينكم الأول ، فقال أنس بن النضر عم أنس بن مالك : يا قوم إن كان قتل محمد فإن رب محمد لم يقتل وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقاتلوا على ما قاتل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وموتوا على ما مات عليه ثم قال : اللهم إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء يعني المسلمين ، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء يعني المنافقين ، ثم شد بسيفه فقاتل حتى قتل .ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق إلى الصخرة وهو يدعو الناس فأول من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم كعب بن مالك ، قال عرفت عينيه تحت المغفر تزهران فناديت بأعلى صوتي : يا معشر المسلمين أبشروا هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشار إلي أن اسكت فانحازت إليه طائفة من أصحابه ، فلامهم النبي صلى الله عليه وسلم على الفرار فقالوا : يا نبي الله فديناك بآبائنا وأمهاتنا ، أتانا الخبر بأنك قد قتلت فرعبت قلوبنا فولينا مدبرين فأنزل الله تعالى هذه الآية ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل )ومحمد هو المستغرق لجميع المحامد ، لأن الحمد لا يستوجبه إلا الكامل والتحميد فوق الحمد ، فلا يستحقه إلا المستولي على الأمر في الكمال ، وأكرم الله نبيه وصفيه باسمين مشتقين من اسمه جل جلاله ( محمد وأحمد ) وفيه يقول حسان بن ثابت :ألم تر أن الله أرسل عبده ببرهانه والله أعلى وأمجد وشق له من اسمه ليجلهفذو العرش محمود وهذا محمدقوله تعالى : ( أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ) رجعتم إلى دينكم الأول ، ( ومن ينقلب على عقبيه ) فيرتد عن دينه ، ( فلن يضر الله شيئا ) بارتداده وإنما يضر نفسه ، ( وسيجزي الله الشاكرين ) .