تَفْسِيرُ ٱلْمُيَسَّر
Tafsir Al-Muyassar —
کنگ فہد قرآن کمپلیکس
ثم كان من رحمة الله بالمؤمنين المخلصين أن ألقى في قلوبهم من بعد ما نزل بها من همٍّ وغمٍّ اطمئنانًا وثقة في وعد الله، وكان من أثره نعاس غَشِي طائفة منهم، وهم أهل الإخلاص واليقين، وطائفة أُخرى أهمَّهم خلاص أنفسهم خاصة، وضَعُفَتْ عزيمتهم وشُغِلوا بأنفسهم، وأساؤوا الظن بربهم وبدينه وبنبيه، وظنوا أن الله لا يُتِمُّ أمر رسوله، وأن الإسلام لن تقوم له قائمة، ولذلك تراهم نادمين على خروجهم، يقول بعضهم لبعض: هل كان لنا من اختيار في الخروج للقتال؟ قل لهم -أيها الرسول-: إن الأمر كلَّه لله، فهو الذي قدَّر خروجكم وما حدث لكم، وهم يُخْفون في أنفسهم ما لا يظهرونه لك من الحسرة على خروجهم للقتال، يقولون: لو كان لنا أدنى اختيار ما قُتِلنا هاهنا. قل لهم: إن الآجال بيد الله، ولو كنتم في بيوتكم، وقدَّر الله أنكم تموتون، لخرج الذين كتب الله عليهم الموت إلى حيث يُقْتلون، وما جعل الله ذلك إلا ليختبر ما في صدوركم من الشك والنفاق، وليميز الخبيث من الطيب، ويظهر أمر المؤمن من المنافق للناس في الأقوال والأفعال. والله عليم بما في صدور خلقه، لا يخفى عليه شيء من أمورهم.
تَفْسِيرُ ٱلْجَلَالَيْنِ
Tafsir al-Jalalayn —
جلال الدین محلی اور جلال الدین سیوطی
«ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة» أمنا «نعاسا» بدل «يغشى» بالياء والتاء «طائفة منكم» وهم المؤمنون فكانوا يميدون تحت الحجف وتسقط السيوف منهم «وطائفة قد أهمتهم أنفسهم» أي حملتهم على الهم فلا رغبة لهم إلا نجاتها دون النبي وأصحابه فلم يناموا وهم المنافقون «يظنون بالله» ظنا «غير» الظن «الحق ظَنَّ» أي كظن «الجاهلية» حيث اعتقدوا أن النبي قتل أولا ينصر «يقولون هل» ما «لنا من الأمر» أي النصر الذي وُعدناه «من شيء قل» لهم «إن الأمر كله» بالنصب توكيدا والرفع مبتدأ وخبره «لله» أي القضاء له بفعل ما يشاء «يخفون في أنفسهم ما لا يبدون» يظهرون «لك يقولون» بيان لما قبله «لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا» أي لو كان الاختبار إلينا لم نخرج فلم نقتل لكن أخرجنا كرها «قل» لهم «لو كنتم في بيوتكم» وفيكم من كتب الله عليه القتل «لبرز» خرج «الذين كتب» قضي «عليهم القتل» منكم «إلى مضاجعهم» مصارعهم فيقتلوا ولم ينجهم وقعودهم لأن قضاءه تعالى كائن لا محالة «و» فعل ما فعل بأخذ «ليبتلي» يختبر «الله ما في صدوركم» قلوبكم من الإخلاص والنفاق «وليمحص» يميز «ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور» بما في القلوب لا يخفى عليه شيء وإنما يبتلي ليظهر للناس.
تَفْسِيرُ ٱلْقُرْطُبِيِّ
Tafsir al-Qurtubi —
علامہ قرطبی
قوله تعالى : ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا الأمنة والأمن سواء . وقيل : الأمنة إنما تكون مع أسباب الخوف ، والأمن مع عدمه . وهي منصوبة ب أنزل ، ونعاسا بدل منها . وقيل : نصب على المفعول له ; كأنه قال : أنزل عليكم للأمنة نعاسا . وقرأ ابن محيصن " أمنة " بسكون الميم . تفضل الله تعالى على المؤمنين بعد هذه الغموم في يوم أحد بالنعاس حتى نام أكثرهم ; وإنما ينعس من يأمن والخائف لا ينام . روى البخاري عن أنس أن أبا طلحة قال : غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد ، قال : فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه ، ويسقط وآخذه .يغشى قرئ بالياء والتاء . الياء للنعاس ، . والتاء للأمنة . وطائفة قد أهمتهم أنفسهم والطائفة تطلق على الواحد والجماعة . يعني المنافقين : معتب بن قشير وأصحابه ، وكانوا خرجوا طمعا في الغنيمة وخوف المؤمنين فلم يغشهم النعاس وجعلوا يتأسفون على الحضور ، ويقولون الأقاويل . ومعنى قد أهمتهم أنفسهم حملتهم على الهم ، والهم ما هممت به ; يقال : أهمني الشيء أي كان من همي . وأمر مهم : شديد . وأهمني الأمر : أقلقني : وهمني : أذابني . والواو في قوله وطائفة واو الحال بمعنى إذ ، أي إذ طائفة يظنون أن أمر محمد - صلى الله عليه وسلم - باطل ، وأنه لا ينصر . ظن الجاهلية أي ظن أهل الجاهلية ، فحذف . يقولون هل لنا من الأمر من شيء لفظه استفهام ومعناه الجحد ، أي ما [ ص: 229 ] لنا شيء من الأمر ، أي من أمر الخروج ، وإنما خرجنا كرها ; يدل عليه قوله تعالى إخبارا عنهم : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا . قال الزبير : أرسل علينا النوم ذلك اليوم ، وإني لأسمع قول معتب بن قشير والنعاس يغشاني يقول : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا . وقيل : المعنى يقول ليس لنا من الظفر الذي وعدنا به محمد شيء ، والله أعلم .قوله تعالى : قل إن الأمر كله لله قرأ أبو عمرو ويعقوب " كله " بالرفع على الابتداء ، وخبره " لله " ، والجملة خبر " إن " . وهو كقوله : ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة . والباقون بالنصب ; كما تقول : إن الأمر أجمع لله . فهو توكيد ، وهو بمعنى أجمع في الإحاطة والعموم ، وأجمع لا يكون إلا توكيدا . وقيل : نعت للأمر . وقال الأخفش : بدل ; أي النصر بيد الله ينصر من يشاء ويخذل من يشاء . وقال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس في قوله يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يعني التكذيب بالقدر . وذلك أنهم تكلموا فيه ، فقال الله تعالى : قل إن الأمر كله لله يعني القدر خيره وشره من الله .يخفون في أنفسهم أي من الشرك والكفر والتكذيب . ما لا يبدون لك يظهرون لك . يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا أي ما قتل عشائرنا . فقيل : إن المنافقين قالوا لو كان لنا عقل ما خرجنا إلى قتال أهل مكة ، ولما قتل رؤساؤنا . فرد الله عليهم فقال : قل لو كنتم في بيوتكم لبرز أي لخرج . الذين كتب أي فرض . عليهم القتل يعني في اللوح المحفوظ . إلى مضجاعهم أي مصارعهم . وقيل : كتب عليهم القتل أي فرض عليهم القتال ، فعبر عنه بالقتل ; لأنه قد يئول إليه . وقرأ أبو حيوة " لبرز " بضم الباء وشد الراء ; بمعنى يجعل يخرج . وقيل : لو تخلفتم أيها المنافقون لبرزتم إلى موطن آخر غيره تصرعون فيه حتى يبتلي الله ما في الصدور ويظهره للمؤمنين . والواو في قوله : وليبتلي مقحمة كقوله : وليكون من الموقنين أي ليكون ، وحذف الفعل الذي مع لام كي . والتقدير وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم فرض الله عليكم القتال والحرب ولم ينصركم يوم أحد ليختبر صبركم وليمحص عنكم سيئاتكم إن تبتم وأخلصتم . وقيل : معنى ليبتلي ليعاملكم معاملة المختبر . وقيل : ليقع منكم مشاهدة ما علمه غيبا . وقيل : هو على حذف مضاف ، والتقدير ليبتلي أولياء الله تعالى . وقد تقدم معنى التمحيص . والله عليم بذات الصدور أي ما فيها من خير وشر . وقيل : ذات الصدور هي الصدور ; لأن ذات الشيء نفسه .
تَنْوِيرُ ٱلْمِقْبَاسِ مِن تَفْسِيرِ ٱبْنِ عَبَّاس
Tafsir Tanwir al-Miqbas —
حضرت ابن عباسؓ
الضمير في قوله : { ثم أنزل } ضمير اسم الجلالة ، وهو يرجّح كون الضمير { أثابكم } مثله لئلا يكون هذا رجوعاً إلى سياق الضمائر المتقدّمة من قوله : { ولقد صدقكم الله وعده } والمعنى ثمّ أغشاكم بالنعاس بعد الهزيمة . وسمّي الأغشاء إنزالاً لأنّه لمّا كان نعاساً مقدّراً من الله لحكمة خاصّة ، كان كالنازل من العوالم المشرّفة كما يقال : نزلت السكينة .والأمَنةُ بفتح الميم الأمن ، والنعاس : النوم الخفيف أو أوّل النَّوم ، وهو يزيل التعب ولا يغيّب صاحبه ، فلذلك كان أمنة إذ لو ناموا نوماً ثقيلاً لأخذوا ، قال أبو طلحة الأنصاري ، والزبير ، وأنس بن مالك : غشينا نعاس حتَّى أنّ السيف ليسقط من يد أحدنا . وقد استجدّوا بذلك نشاطهم ، ونسوا حزنهم ، لأنّ الحزن تبتدىء خفّته بعد أوّل نومة تعفيه ، كما هو مشاهد في أحزان الموت وغيرها . و ( نعاساً ) بَدل على ( أمنة ) بدل مطابق .وكان مقتضى الظاهر أن يقدّم النعاس ويؤخّر أمنة : لأنّ أمنة بمنزلة الصفة أو المفعول لأجله فحقّه التقديم على المفعول كما جاء في آية [ الأنفال : 11 ] : { إذ يغشيكم النعاس أمنة منه } ولكنّه قدّم الأمنة هنا تشريفاً لشأنها لأنَّها جعلت كالمنزل من الله لنصرهم ، فهو كالسكينة ، فناسب أن يجعل هو مفعول أنزل ، ويجعل النعاس بدلاً منه .وقرأ الجمهور : يَغشى بالتحتية على أنّ الضّمير عائد إلى نعاس ، وقرأه حمزة ، والكسائي ، وخلف بالفوقية بإعادة الضّمير إلى أمَنة ، ولذلك وصفها بقوله : منكم } .{ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بالله غَيْرَ الحق ظَنَّ الجاهلية يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الامر مِن شَىْءٍ قُلْ إِنَّ الامر كُلَّهُ للَّهِ يُخْفُونَ فى أَنْفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الامر شَىْءٌ مَّا قُتِلْنَا هاهنا } .لمّا ذكر حال طائفة المؤمنين ، تخلّص منه لذكر حال طائفة المنافقين ، كما علم من المقابلة ، ومن قوله : { يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية } ، ومِن ترك وصفها بمنكم كما وصف الأولى .{ وطائفة } مبتدأ وصف بجملة { قد أهمتهم أنفسهم } . وخبره جملة { يظنون بالله غير الحق } والجملة من قوله : { وطائفة قد أهمتهم } إلى قوله : { والله عليم بذات الصدور } اعتراض بين جملة { ثم أنزل عليكم } الآية . وجملة { إن الذين تولوا منكم } [ آل عمران : 155 ] الآية .ومعنى { أهمتهم أنفسهم } أي حَدّثتهم أنفسهم بما يدخل عليهم الهَمّ وذلك بعدم رضاهم بقدر الله ، وبشدّة تلّهفهم على ما أصابهم وتحسّرهم على ما فاتهم مِمّا يظّنونه منجياً لهم لو عملوه : أي من الندم على ما فات ، وإذ كانوا كذلك كانت نفوسهم في اضطراب وتحرّق يمنعهم من الاطمئنان ومن المنام ، وهذا كقوله الآتي : { ليجعل اللَّه ذلك حسرة في قلوبهم } [ آل عمران : 156 ] . وقيل معنى { أهمّتهم } أدخلت عليهم الهَمّ بالكفر والارتداد ، وكان رأسُ هذه الطائفة معتّب بن قشير .وجملة { يظنون بالله غير الحق } إمَّا استئناف بياني نشأ عن قوله : { قد أهمتهم أنفسهم } وإمَّا حال من ( طائفة ) . ومعنى { يظنون بالله غير الحق } أنَّهم ذهبت بهم هواجسهم إلى أن ظنوا بالله ظنوناً باطلة من أوهام الجاهلية . وفي هذا تعريض بأنَّهم لم يزالوا على جاهليتهم لم يخلصوا الدين لله ، وقد بيّن بعض ما لهم الظنّ بقوله : { يقولون هل لنا من الأمر من شيء } وهل للاستفهام الإنكاري بمعنى النفي ، بقرينة زيادة ( من ) قبل النكرة ، وهي من خصائص النفي ، وهو تبرئة لأنفسهم من أن يكونوا سبباً في مقابلة العدوّ . حتَّى نشأ عنه ما نشأ ، وتعريض بأنّ الخروج للقتال يوم أحُدُ خطأ وغرور ، ويظنّون أنّ محمداً صلى الله عليه وسلم ليس برسول إذ لو كان لكان مؤيّداً بالنصر .والقول في { هل لنا من الأمر من شيء } كالقول في { ليس لك من الأمر شيء } [ آل عمران : 128 ] المتقدّم آنفاً . والمراد بالأمر هنا شأن الخروج إلى القتال ، والأمر بمعنى السيادة الذي منه الإمارة ، ومنه أولو الأمر .وجملة { يقولون هل لنا من الأمر من شيء } بدل اشتمال من جملة { يظنّون } لأنّ ظنّ الجاهلية يشتمل على معنى هذا القول . ومعنى { لو كان لنا من الأمر شيء } أي من شأن الخروج إلى القتال ، أو من أمر تدبير النَّاس شيء ، أي رأي ما قتلنا ههنا ، أي ما قتل قومنا . وليس المراد انتفاء القتل مع الخروج إلى القتال في أحُدُ ، بل المراد انتفاء الخروج إلى أحُدُ الَّذي كان سبباً في قتل من قُتل ، كما تدلّ عليه قرينة الإشارة بقوله : ( ههنا ) ، فالكلام كناية . وهذا القول قاله عبد الله بن أُبَي ابن سلول لمّا أخبروه بمن استشهد من الخزرج يومئذ ، وهذا تنصّل من أسباب الحرب وتعريض بالنَّبيء ومن أشار بالخروج من المؤمنين الَّذين رغبوا في إحدى الحسنيين .وإنَّما كان هذا الظنّ غيرَ الحقّ لأنَّه تخليط في معرفة صفات الله وصفات رسوله وما يجوز وما يستحيل ، فإنّ لله أمراً وهدياً وله قدَر وتيسير ، وكذلك لرسوله الدعوة والتشريع وبذل الجهد في تأييد الدّين وهو في ذلك معصوم ، وليس معصوماً من جريان الأسباب الدنيوية عليه ، ومن أن يكون الحرب بينه وبين عدوّه سجالاً ، قال أبو سفيان لهرقل وقد سأله : كيف كان قتالكم له؟ فقال أبو سفيان : ينال منّا وننال منه ، فقال هرقل : وكذلك الإيمان حتَّى يتمّ . فظنّهم ذلك ليس بحقّ .وقد بيّن الله تعالى أنَّه ظنّ الجاهلية الَّذين لم يعرفوا الإيمان أصلاً فهؤلاء المتظاهرون بالإيمان لم يدخل الإيمان في قلوبهم فبقيت معارفهم كما هي من عهد الجاهلية ، والجاهلية صفة جرت على موصوف محذوف يقدّر بالفئة أو الجماعة ، وربما أريد به حالة الجاهلية في قولهم أهل الجاهلية ، وقوله تعالى : { تبرّج الجاهلية الأولى } ، والظاهر أنَّه نسبة إلى الجاهل أي الَّذي لا يعلم الدين والتَّوحيد ، فإنّ العرب أطلقت الجهل على ما قابل الحلم ، قال ابن الرومي: ... بجهل كجهل السيف والسيف منتضىوحلم كحلم السيف والسيف مغمد ... وأطلقت الجهل على عدم العلم قال السموأل. ... فليسَ سواء عالم وجَهولوقال النابغة : ... وليس جَاهل شيءٍ مثلَ مَن علماوأحسب أن لفظ الجاهلية من مبتكرات القرآن ، وصف به أهل الشرك تنفيراً من الجهل ، وترغيباً في العلم ، ولذلك يذكره القرآن في مقامات الذمّ في نحو قوله : { أفحكم الجاهلية يبغون } [ المائدة : 50 ] { ولاَ تَبَرّجْنَ تَبَرّجَ الجاهليّة الأولى } [ الأحزاب : 33 ] { إذ جعل الَّذين كفروا في قلوبهم الحَمِيَّة حَمِيَّة الجَاهلية } [ الفتح : 26 ] . وقال ابن عبَّاس : سمعت أبي في الجاهلية يقول : اسقنا كأساً دِهاقاً ، وفي حديث حكيم بن حِزام : أنَّه سأل النَّبيء صلى الله عليه وسلم عن أشياء كان يتحنّث بها في الجاهلية من صدقة وعتاقة وصلة رحم . وقالوا : شعر الجاهلية ، وأيَّامُ الجاهلية . ولم يسمع ذلك كُلّه إلاّ بعد نزول القرآن وفي كلام المسلمين .وقوله : { غير الحق } منتصب على أنَّه مفعول { يظنّون } كأنَّه قيل الباطلَ . وانتصب قوله : { ظن الجاهلية } على المصدر المبيّن للنوع إذ كلّ أحد يعرف عقائد الجاهلية إن كان متلبِّساً بها أو تاركاً بها .وجملة { يخفون } حال من الضّمير في { يقولون } أي يقولون ذلك في حال نيّتهم غيرَ ظَاهِرِه ، ف { يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك } إعلان بنفاقهم ، وأنّ قولهم : { هل لنا من الأمر من شيء } وقولهم : { لو كان من الأمر شيء ما قتلنا ههنا } هو وإن كان ظاهره صورة العتاب عن ترك مشورتهم فنِيَّتهم منه تخطئة النَّبيء في خروجه بالمسلمين إلى أُحُد ، وأنَّهم أسدّ رأياً منه .وجملة { يقولون لو كان لنا من الأمر شيء } بدل اشتمال من جملة { يخفون في أنفسهم } إذ كانوا قد قالوا ذلك فيما بينهم ولم يظهروه ، أو هي بيان لجملة { يقولون هل لنا من الأمر من شيء } إذا أظهروا قولهم للمسلمين ، فترجع الجملة إلى معنى بدل الاشتمال من جملة { يظنّون } لأنها لما بينت جملة هي بدل فهي أيضا كالتي بينتها ، وهذا أظهر لأجل قوله بعدَه : { قل لو كنتم في بيوتكم } فإنَّه يقتضي أنّ تلك القالة فشت وبلغت الرسولَ ، ولا يحسن كون جملة { يقولون لو كان } إلى آخره مستأنفة خلافا لما في «الكشاف» .وهذه المقالة صدرت من مُعَتِّب بن قُشير قال الزبير بن العوّام : غشيني النُّعاس فسمعت معتّب بن قشير يقول : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا . فحكى القرآن مقالته كما قالها ، وأسندت إلى جميعهم لأنَّهم سمعوها ورضوا بها .وجملة { قل إن الأمر كله لله } ردّ عليهم هذا العذر الباطل أي أنّ الله ورسوله غير محتاجين إلى أمركم . والجملة معترضة . وقرأ الجمهور : كلَّه بالنصب تأكيداً لاسم إنّ ، وقرأه أبو عمرو ، ويعقوب بالرفع على نيّة الابتداء .والجملةُ خبر إنّ .{ قُل لَّوْ كُنتُمْ فِى بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الذين كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتل إلى مَضَاجِعِهِمْ } .لقن الله رسوله الجواب عن قولهم : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا . والجواب إبطال لقولهم ، وتعليم للمؤمنين لدفع ما عسى أن يقع في نفوسهم من الريب ، إذا سمعوا كلام المنافقين ، أو هو جواب للمنافقين ويحصل به علم للمؤمنين . وفُصلت الجملة جرياً على حكاية المقاولة كما قرّرنا غير مرّة . وهذا الجواب جار على الحقيقة وهي جريان الأشياء على قَدر من الله والتسليممِ لذلك بعد استفراغ الجهد في مصادفة المأمول ، فليس هذا الجواب ونظائره بمقتض ترك الأسباب ، لأنّ قدر الله تعالى وقضاءه غير معلومَين لنا إلاّ بعد الوقوع ، فنحن مأمورون بالسعي فيما عساه أن يكون كاشفاً عن مصادفة قدر الله لمأمولنا ، فإن استفرغنا جهودنا وحُرمنا المأمول ، علمنا أنّ قدر الله جرى من قبل على خلاف مرادنا . فأمَّا ترك الأسباب فليس من شأننا ، وهو مخالف لما أراد الله منّا ، وإعراض عمّا أقامنا الله فيه في هذا العالم وهو تحريف لمعنى القدَر . والمعنى : لو لم تكونوا ههنا وكنتم في بيوتكم لخرج الَّذين كتب الله عليهم أن يموتوا مقتولين فقتلوا في مضاجعهم الَّتي اضطجعوا فيها يوم أُحُد أي مصارعهم فالمراد بقوله : { كتب } قدّر ، ومعنى { برز } خرج إلى البراز وهو الأرض .وقرأ الجمهور باء ( بيوتكم ) بالكسر . وقرأه أبو عمرو ، وورش عن نافع ، وحفص ، وأبو جعفر بالضم .والمضاجع جمع مضجع بفتح الميم وفتح الجيم وهو محلّ الضجوع ، والضجوع : وضع الجنب بالأرض للراحة والنَّوم ، وفعله من باب منع ومصدره القياسي الضجْع ، وأمَّا الضجوع فغير قياسي ، ثمّ غلب إطلاق المضجع على مكان النَّوم قال تعالى : { تتجافى جنوبهم عن المضاجع } [ السجدة : 16 ] وفي حديث أمّ زرع : « مَضْجَعه كمَسلّ شَطْبَة » فحقيقة الضجوع هو وضع الجنب للنَّوم والراحة وأطلق هنا على مصارع القتلى على سبيل الاستعارة ، وحسّنها أنّ الشهداء أحياء ، فهو استعارة أو مشاكلة تقديرية لأنّ قولهم ، ما قُتلنا ههنا يتضمَّن معنى أنّ الشهداء كانوا يَبْقون في بيوتهم متمتَّعين بفروشهم .{ وَلِيَبْتَلِىَ الله مَا فِى صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِى قُلُوبِكُمْ والله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } .{ وليبتلي الله ما في صدوركم } عطف على قوله : { لكيلا تحزنوا على ما فاتكم } [ آل عمران : 153 ] وما بينهما جمل بعضها عطف على الجملة المعلّلة ، وبعضها معترضة ، فهو خطاب للمؤمنين لا محالة ، وهو علَّة ثانية لقوله : { فأثابكم عما بغم } [ آل عمران : 153 ] .والصّدُور هنا بمعنى الضّمائر ، والابتلاءُ : الاختبار ، وهو هنا كناية عن أثره ، وهو إظهاره للنَّاس والحجّة على أصحاب تلك الضّمائر بقرينة قوله : { والله عليم بذات الصدور } كما تقدّم في قوله تعالى : { وليعلم اللَّه الذين ءامنوا } [ آل عمران : 140 ] .والتمحيص تخليص الشيء ممَّا يخالطه ممَّا فيه عيب له فهو كالتزكية . والقلوب هنا بمعنى العقائد ، ومعنى تمحيص ما فيه قلوبهم تطهيرها ممَّا يخامرها من الريب حين سماع شُبه المنافقين الّتي يبثُّونها بينهم .وأطلق الصدور على الضّمائر لأنّ الصدر في كلام العرب يطلق على الإحساس الباطني ، وفي الحديث : « الإثم ما حاك في الصّدر » وأطلق القلب على الاعتقاد لأنّ القلب في لسان العرب هو ما به يحصّل التفكّر والاعتقاد . وعُدّي إلى الصّدور فعل الابتلاء لأنَّه اختبار الأخلاق والضّمائر : ما فيها من خير وشَرّ ، وليتميّز ما في النفس . وَعُدِّيَ إلى القلوب فعل التمحيص لأنّ الظنون والعقائد محتاجة إلى التمحيص لتكون مصدر كلّ خير .
ٱلتَّفْسِيرُ ٱلْوَسِيط
Tafsir Al-Waseet —
علمائے جامعہ ازہر
ثم ذكرهم - سبحانه - ببعض مظاهر لطفه بهم ورحمته لهم حيث أنزل على طائفة منهم النعاس الذى أدخل الطمأنينة على قلوبهم وأزال الخوف والفزع من نفوسهم فقال - تعالى - { ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّن بَعْدِ الغم أَمَنَةً نُّعَاساً يغشى طَآئِفَةً مِّنْكُمْ } والجملة الكريمة معطوفة على قوله { فَأَثَابَكُمْ } .والأمنة - بفتحتين - مصدر كالأمن : أمن أمنا وأماناً وأمنة .والنعاس : الفتور فى أوائل النوم ومن شأنه أن يزيل عن الإنسان بعض متاعبه ولا يغيب صاحبه فلذلك كان أمنة لهم : لأنه لو كان نوما ثقيلا لهاجمهم المشركون .أى : ثم أنزل عليكم - أيها المؤمنون - بعد أن أصابكم من الهم والغم ما أصابكم ، أمنا كان مظهره نعاسا اطمأنت معه نفوسكم واستراحت معه أبدانكم من غير فزع ولا قلق ، وكان هذا الأمان والاطمئنان لطائفة معينة منكم أخلصت جهادها لله ، وخافت مقام ربها ونهت نفسها عن الهوى .قال ابن كثير : يقول - تعالى - ممتنا على المؤمنين فيما أنزل عليهم من السكينة والأمنة وهو النعاس الذى غشيهم وهم مشتملون السلاح فى حال همهم وغمهم والنعاس فى مثل تلك الحال دليل على الأمان ، كما قال فى سورة الأنفال : { إِذْ يُغَشِّيكُمُ النعاس أَمَنَةً مِّنْهُ } فعن ابن مسعود قال : النعاس فى القتال من الله وفى الصلاة من الشيطان " .وروى البخارى عن أبى طلحة قال : كنت فيمن تغشاه النعاس يوم أحد حتى سقط سيفى من يدى مرارا يسقط وآخذه ويسقط وآخذه " .وقوله ( نعاسا ) بدل من { أَمَنَةً } أو عطف بيان .قال الفخر الرازى : واعلم أن ذلك النعاس فيه فوائد :أحدها : أنه وقع على كافة المؤمنين لا على الحد المعتاد ، فكان ذلك معجزة للنبى صلى الله عليه وسلم ولا شك أن المؤمنين متى شاهدوا تلك المعجزة الجديدة ازدادوا إيماناً مع إيمانهم ، ومتى صاروا كذلك ازدادوا جدهم فى محاربة العدو . ووثوقهم بأن الله منجز وعده .وثانيهما : أن الأرق والسهر يوجبان الضعف والكلال والنوم يفيد عود القوة والنشاط واشتداد القوة والقدرة .وثالثها : أن الكفار لما اشتغلوا بقتل المسلمين ألقى الله النوم على عين من بقى مهم لئلا يشاهدوا قتل أعزتهم فيشتد خوفهم .ورابعها : أن الأعداء كانوا فى غاية الحرص على قتلهم فبقاؤهم فى النوم مع السلامة فى مثل تلك المعركة من أول الدلائل على أن حفظ الله وعصمته معهم وذلك مما يزيل الخوف عن قلوهبم ويورثهم مزيد الوثوق بوعد الله " .هذا جانب مما امتن الله به على المؤمنين من فضل ورعاية ، حيث أنزل عليهم النعاس فى أعقاب ما أصابهم من هموم ليكون راحة لأبدانهم ، وأمانا لنفوسهم .أما غير المؤمنين الصادقين فلم ينزل عليهم هذا النعاس بل بقوا فى قلقهم وحسرتهم وقد عبر الله - تعالى - عنهم بقوله : { وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بالله غَيْرَ الحق ظَنَّ الجاهلية } .وقوله { أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ } حملتهم على الهم ، والهم ما يهتم له الإنسان أو ما يحزنه يقال : أهمنى الأمر أى أقلقنى وأزعجنى ، كما يقال : أهمنى الشىء ، أى جعلنى مهتما به اهتماماً شديداً .والمعنى : أن الله - تعالى - أنزل النعاس أمانا واطمئنانا للمؤمنين الصادقين بعد أن أصابتهم الغموم ، وهناك طائفة أخرى من الذين اشتركوا فى غزوة أحد لم تكن صادقة فى إيمانها لأنها كانت لا يهمها شأن الإسلام انتصر أو انهزم ولا شأن النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه . وإنما الذى كان يهمها هو شىء واحد وهو أمر نفسها وما يتعلق بذلك من الحصول على الغنائم ومتع الدنيا .أو المعنى : أن هذه الطائفة قد أوقعت نفسها فى الهم والحزن بسبب عدم اطمئنانها وعدم صبرها ، وجزعها المستمر .وإلى هذين العنيين أشار صاحب الكشاف بقوله : { قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ } أى : ما يهم إلا هم أنفسهم ، لا هم الدين ولا هم الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين . وقد أوقعتهم أنفسهم وما حل بهم فى الهموم والأشجان فهم فى التشاكى والتباكى " .والجملة الكريمة مستأنفة مسوقة لبيان حال ضعاف الإيمان بعد أن بين - سبحانه - ما امتن به على أقوياء الإيمان .وقوله : { يَظُنُّونَ بالله غَيْرَ الحق ظَنَّ الجاهلية } وصف آخر لسوء أخلاق هذه الطائفة التى ضعف إيمانها ، وصارت لا يهمها إلا ما يتعلق بمنافعها الخاصة .أى أن هذه الطائفة لم تكتف بما استولى عليها من طمع وجشع وحب لنفسها بل تجاوزت ذلك إلى سوء الظن بالله بأن توهمت بأن الله - تعالى - لن ينصر رسوله صلى الله عليه وسلم وأن الإسلام ليس ديناً حقاً وأن المسلمين لن ينتصروا على المشركين بعد معركة أحد . . . إلى غير ذلك من الظنون الباطلة التى تتولد عند المرء الذى ضعف إيمانه وصار لا يهمه إلا أمر نفسه .وقوله { يَظُنُّونَ بالله } حال من الضمير المنصوب فى { أَهَمَّتْهُمْ } أو استئناف على وجه البيان لما قبله .وقوله { غَيْرَ الحق } مفعول مطلق وصف لمصدر محذوف أى يظنون بالله ظنا غير الحق الذى يجب أن يتحلى به المؤمنون إذ من شأن المؤمنين الصادقين أن يستسلموا لقدر الله بعد أن يباشروا الأسباب التى شرعها لهم : وأن يصبروا على ما أصابهم وأن يوقنوا بأن ما أصابهم هو بتقدير الله وبحكمته وبإرادته { وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ } وقوله { ظَنَّ الجاهلية } بدل أو عطف بيان مما قبله .أى يظنون بالله شيئاً هو من شأن أهل الجاهلية الذين يتوهمون أن الله لا ينصر رسله ولا يؤيد أولياءه ولا يهزم أعداءه .ثم بين - سبحانه - ما صدر عنهم من كلام باطل بسبب ظنونهم السيئة فقال - تعالى - { يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأمر مِن شَيْءٍ } . والاستفهام للإنكار بمعنى النفى ، وهم يريدون بهذا القول تبرئة نفوسهم من أن يكونوا سببا فيما أصاب المسلمين من آلام يوم أحد ، وأن الذين تسببوا فى ذلك هم غيرهم .أى : يقول بعضهم لبعض ليس لنا من الأمر شىء أى شىء فلسنا مسئولين عن الهزيمة التى حدثت للمسلمين فى أحد لأننا لم يكن لنا رأى يطاع ولأن الله - تعالى - لو أراد نصر محمد صلى الله عليه وسلم لنصره .وهذا القول قاله عبد الله بن أبى بن سلول حين أخبروه بمن استشهد من قبيلة الخزرج فى غزوة أحد .وذلك أن عبد الله بن أبى لما استشاره النبى صلى الله عليه وسلم فى شأن الخروج لقتال المشركين فى أحد أشار عليه بأن لا يخرج من المدينة ، إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم خرج لقتال المشركين بناء على إلحاح بعض الصحابة .فلما أخبر ابن أبى بمن قتل من الخزرج قال : هل لنا من الأمر شىء؟ يعنى أن النبى صلى الله عليه وسلم لم يقبل قوله حين أشار عليه بعدم الخروج من المدينة .وقد أمر الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم أن يرد على هؤلاء الظانين بالله ظن السوء بقوله : { قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للَّهِ } .أى قل لهم إن تقدير الأمور كلها لله - تعالى - وحده وإن العاقبة ستكون للمتقين ، إلا أنه - سبحانه - قد جعل لكل شىء سببا ، فمن أخلص لله فى جهاده وباشر الأسباب التى شرعها للنصر نصره الله - تعالى - ومن تطلع إلى الدنيا وزينتها وخالف أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أدبه الله - تعالى - بحجب نصره عنه حتى يفىء إلى رشده ويتوب توبة صادقة إلى ربه ، ويتخذ الوسائل التى شرعها الله - تعالى - للوصول إلى الفوز والظفر .فالجملة الكريمة معترضة للرد عليهم فيما تقولوه من أباطيل .ثم كشف - سبحانه - عما تخفيه نفوسهم من أمور سيئة فقال : { يُخْفُونَ في أَنْفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا } .أى : أن هؤلاء الذين أهمتهم أنفسهم : والذين يظنون بالله غير الحق . يخفون فى أنفسهم من الأقوال القبيحة والظنون السيئة أو يقولون فيما بينهم بطريق الخفية مالا يستطيعون إظهاره أمامك .وهذه الجملة حال من الضمير فى قوله { يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا } السابقة .وقوله { يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا } بيان لبعض ما يخفون أو لما يقولونه فيما بينهم .أى يقولون لو كان لنا من الأمر المطاع أو المسموع شىء ما خرجنا من المدينة إلى هذا المكان الذى قتل فيه أقاربنا وعشائرنا .فأنت ترى أن القرآن يحكى عنهم أنهم يريدون تبرئة أنفسهم مما نزل بالمسلمين بأحد ، وأنهم لو كان لهم رأى مطاع لبقوا فى المدينة ولم يخرجوا منها لقتال المشركين ، وأن التبعة فى كل ما جرى فى غزوة أحد يتحملها النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين ألحوا عليه فى الخروج لقتال المشركين خارج المدينة ، وأن النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه لو كانوا على الحق لانتصروا .قال ابن جرير : وذكر أن ممن قال هذا القول - { لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَيْءٌ } - معتب بن قشير من بنى عمرو بن عوف . فعن عبد الله بن الزبير عن الزبير قال ، والله إنى لأسمع قول معتب بن قشير والنعاس يغشانى ما أسمعه إلا كالحلم حين قال : { لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا } .وقد أمر الله - تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم أن يرد عليهم بما يدفع أقوالهم الباطلة فقال : { قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الذين كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتل إلى مَضَاجِعِهِمْ } .وقوله { لَبَرَزَ } من البروز وهو الخروج من المكان الذى يستتر فيه الإنسان و ( المضاجع ) جمع مضجع وهو مكان النوم . والمراد به هنا المكان الذى استشهد فيه من استشهد من المسلمين .والمعنى : قل يا محمد لهؤلاء الذين يقولون : لو كان لنا من الأمر شىء ما قتل أقاربنا فى هذا المكان من جبل أحد . قل لهم لو كنتم فى بيوتكم ومنازلكم بالمدينة ولم تخرجوا للقتال بجملتكم ، لخرج لسبب من الأسباب الداعية إلى الخروج الذين كتب عليهم القتل فى اللوح الحفوظ إلى مضاجعهم أى أماكن قتلهم التى قدر الله لهم أن يقتلوا فيها لأنه ما من نفس تموت إلا بإذن الله وبإرادته ، ولن يستطيع أحد أن ينجو من قدر الله المحتوم وقضائه النافذ ، فإن الحذر لا يدفع القدر ، والتدبير لا يقاوم التقدير { وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ } وفى هذا الرد مبالغة فى إبطال ما قاله هؤلاء الذين يظنون بالله الظنون السيئة حيث لم يقتصر - سبحانه - على تحقيق القتل نفسه متى قدره بل عين مكانه - أيضاً - .ثم بين - سبحانه - بعض الحكم من وراء ما حدث للمسلمين فى أحد فقال : { وَلِيَبْتَلِيَ الله مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ والله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } .والابتلاء : الاختبارن وهو هنا كناية عن أثره ، وهو إظهاره للناس ليتميز قوى الإيمان من ضعيفه .والتمحيص تخليص الشىء مما يخالطه مما فيه عيب له .والجملة معطوفة على كلام سابق يفهم من السياق . والتقدير : نزل بكم ما نزل من الشدائد فى أحد لتتعودوا تحمل الشدائد والمحن ، وليعاملكم - سبحانه - معاملة المختبر لنفوسكم ، فيظهر ما تنطوى عليه من خير أو شر ، حتى يتبين الخبيث من الطيب وليخلص ما فى قلوبكم ويزيل ما عساه يعلق بها من أدران ، ويطهرها مما يخالطها من ظنون سيئة - فإن القلوب يخالطها بحكم العادة وتزيين الشيطان واستيلاء الغفلة وحب الشهوات . ما يضاد ما أودع الله فيها من إيمان وإسلام وبر وتقوى .فلو تركت فى عافية دائمة مستمرة لم تتخلص من هذه المخالطة ، ولم تتمحص من الآثام فاقتضت حكمة الله - تعالى - أن ينزل بها من المحن والبلاء ما يكون بالنسبة لها كالدواء الكريه لمن عرض له داء .وقوله { والله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } أى عليم بأسرارها وضمائرها الخفية التى لا تفارقها فهو القائل { إِنَّ الله لاَ يخفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء } وهو القائل { وَإِن تَجْهَرْ بالقول فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السر وَأَخْفَى } ثم أخبر - سبحانه - عن الذين لم يثبتوا مع النبى صلى الله عليه وسلم يوم أحد ، وبين السبب فى ذلك وفتح لهم باب عفوه فقال :
تَفْسِيرُ ٱلْبَغَوِيِّ
Tafsir al-Baghawi —
علامہ بغوی
( ثم أنزل عليكم ) يا معشر المسلمين ، ( من بعد الغم أمنة نعاسا ) يعني : أمنا ، والأمن والأمنة بمعنى واحد وقيل : الأمن يكون مع زوال سبب الخوف والأمنة مع بقاء سبب الخوف وكان سبب الخوف هنا قائما ، ( نعاسا ) بدل من الأمنة ( يغشى طائفة منكم ) قرأ حمزة والكسائي " تغشى " بالتاء ردا إلى الأمنة وقرأ الآخرون بالياء ردا على النعاس .قال ابن عباس رضي الله عنهما : أمنهم يومئذ بنعاس يغشاهم وإنما ينعس من يأمن ، والخائف لا ينام .أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا إسحاق بن إبراهيم بن عبد الرحمن ، أنا حسين بن محمد ، أخبرنا شيبان عن قتادة أخبرنا أنس أن أبا طلحة قال : غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد قال : فجعل سيفي يسقط من يدي فآخذه ويسقط وآخذه " .وقال ثابت عن أنس عن أبي طلحة قال : رفعت رأسي يوم أحد فجعلت ما أرى أحدا من القوم إلا وهو يميل تحت جحفته من النعاس .وقال عبد الله بن الزبير عن أبيه الزبير بن العوام لقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اشتد علينا الحرب ، أرسل الله علينا النوم والله إني لأسمع قول معتب بن قشير والنعاس يغشاني ما أسمعه إلا كالحلم ، يقول : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا فذلك قوله تعالى : ( يغشى طائفة منكم ) يعني : المؤمنين ، ( وطائفة قد أهمتهم أنفسهم ) يعني : المنافقين : قيل : أراد الله به تمييز المنافقين من المؤمنين فأوقع النعاس على المؤمنين حتى أمنوا ولم يوقع على المنافقين فبقوا في الخوف وقد أهمتهم أنفسهم أي : حملتهم على الهم يقال : أمر مهم .( يظنون بالله غير الحق ) أي : لا ينصر محمدا ، وقيل : ظنوا أن محمدا صلى الله عليه وسلم قد قتل ، ( ظن الجاهلية ) أي : كظن أهل الجاهلية والشرك ، ( يقولون هل لنا ) ما لنا : لفظه استفهام ومعناه حجد ، ( من الأمر من شيء ) يعني : النصر ، ( قل إن الأمر كله لله ) قرأ أهل البصرة برفع اللام على الابتداء وخبره في ( لله ) وقرأ الآخرون بالنصب على البدل وقيل : على النعت .( يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا ) وذلك أن المنافقين قال بعضهم لبعض : لو كان لنا عقول لم نخرج مع محمد إلى قتال أهل مكة ولم يقتل رؤساؤنا ، وقيل : لو كنا على الحق ما قتلنا هاهنا .قال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما : يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يعني : التكذيب بالقدر وهو قولهم ( لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا ( قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب ) قضي ، ( عليهم القتل إلى مضاجعهم ) مصارعهم ، ( وليبتلي الله ) وليمتحن الله ، ( ما في صدوركم وليمحص ) يخرج ويظهر ( ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور ) بما في القلوب من خير وشر .