تَفْسِيرُ ٱلْمُيَسَّر
Tafsir Al-Muyassar —
کنگ فہد قرآن کمپلیکس
إنا عرضنا الأمانة -التي ائتمن الله عليها المكلَّفين من امتثال الأوامر واجتناب النواهي- على السموات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها، وخفن أن لا يقمن بأدائها، وحملها الإنسان والتزم بها على ضعفه، إنه كان شديد الظلم والجهل لنفسه.
تَفْسِيرُ ٱلْجَلَالَيْنِ
Tafsir al-Jalalayn —
جلال الدین محلی اور جلال الدین سیوطی
«إنا عرضنا الأمانة» الصلوات وغيرهما مما في فعلها من الثواب وتركها من العقاب «على السماوات والأرض والجبال» بأن خلق فيهما فهما ونطقا «فأبين أن يحملنها وأشفقن» خفن «منها وحملها الإنسان» آدم بعد عرضها عليه «إنه كان ظلوما» لنفسه بما حمله «جهولا» به.
تَفْسِيرُ ٱلْقُرْطُبِيِّ
Tafsir al-Qurtubi —
علامہ قرطبی
قوله تعالى : إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولالما بين تعالى في هذه السورة من الأحكام ما بين ، أمر بالتزام أوامره . والأمانة تعم جميع وظائف الدين على الصحيح من الأقوال ، وهو قول الجمهور . روى الترمذي الحكيم أبو عبد الله : حدثنا إسماعيل بن نصر عن صالح بن عبد الله عن محمد بن يزيد بن جوهر عن الضحاك عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( قال الله تعالى لآدم يا آدم إني عرضت الأمانة على السماوات والأرض فلم تطقها فهل أنت حاملها بما فيها فقال وما فيها يا رب قال إن حملتها أجرت وإن ضيعتها عذبت فاحتملها بما فيها فلم يلبث في الجنة إلا قدر ما بين صلاة الأولى إلى العصر حتى أخرجه الشيطان منها ) . فالأمانة هي الفرائض التي ائتمن الله عليها العباد . وقد اختلف في تفاصيل بعضها على أقوال ; فقال ابن مسعود : هي في أمانات الأموال كالودائع وغيرها . وروي عنه أنها في كل الفرائض ، وأشدها أمانة المال . وقال أبي بن كعب : من الأمانة أن ائتمنت المرأة على فرجها . وقال أبو الدرداء : غسل الجنابة أمانة ، وأن الله تعالى لم يأمن [ ص: 230 ] ابن آدم على شيء من دينه غيرها . وفي حديث مرفوع الأمانة الصلاة إن شئت قلت قد صليت وإن شئت قلت لم أصل . وكذلك الصيام وغسل الجنابة . وقال عبد الله بن عمرو بن العاص : أول ما خلق الله تعالى من الإنسان فرجه وقال هذه أمانة استودعتكها ، فلا تلبسها إلا بحق . فإن حفظتها حفظتك ، فالفرج أمانة ، والأذن أمانة ، والعين أمانة ، واللسان أمانة ، والبطن أمانة ، واليد أمانة ، والرجل أمانة ، ولا إيمان لمن لا أمانة له . وقال السدي : هي ائتمان آدم ابنه قابيل على ولده وأهله ، وخيانته إياه في قتل أخيه . وذلك أن الله تعالى قال له : ( يا آدم ، هل تعلم أن لي بيتا في الأرض ) قال : ( اللهم لا ) قال : ( فإن لي بيتا بمكة فأته ) فقال للسماء : احفظي ولدي بالأمانة ؟ فأبت ، وقال للأرض : احفظي ولدي بالأمانة فأبت ، وقال للجبال كذلك فأبت . فقال لقابيل : احفظ ولدي بالأمانة ، فقال نعم ، تذهب وترجع فتجد ولدك كما يسرك . فرجع فوجده قد قتل أخاه ، فذلك قوله تبارك وتعالى : إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها . الآية . وروى معمر عن الحسن أن الأمانة عرضت على السماوات والأرض والجبال ، قالت : وما فيها ؟ قيل لها : إن أحسنت جوزيت وإن أسأت عوقبت . فقالت لا . قال مجاهد : فلما خلق الله تعالى آدم عرضها عليه ، قال : وما هي ؟ قال : إن أحسنت أجرتك وإن أسأت عذبتك . قال : فقد تحملتها يا رب . قال مجاهد : فما كان بين أن تحملها إلى أن أخرج من الجنة إلا قدر ما بين الظهر والعصر .وروى علي بن طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى : إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال قال : الأمانة الفرائض ، عرضها الله عز وجل على السماوات والأرض والجبال ، إن أدوها أثابهم ، وإن ضيعوها عذبهم . فكرهوا ذلك وأشفقوا من غير معصية ، ولكن تعظيما لدين الله عز وجل ألا يقوموا به . ثم عرضها على آدم فقبلها بما فيها . قال النحاس : وهذا القول هو الذي عليه أهل التفسير . وقيل : لما حضرت آدم صلى الله عليه وسلم الوفاة أمر أن يعرض الأمانة على الخلق ، فعرضها فلم يقبلها إلا بنوه . وقيل : هذه الأمانة هي ما أودعه الله تعالى في السماوات والأرض والجبال والخلق ، من الدلائل على ربوبيته أن يظهروها فأظهروها ، إلا الإنسان فإنه كتمها وجحدها ; قاله بعض المتكلمين . ومعنى عرضنا أظهرنا ، كما تقول : عرضت الجارية على البيع . والمعنى إنا عرضنا الأمانة وتضييعها على أهل السماوات وأهل الأرض من الملائكة والإنس [ ص: 231 ] والجن فأبين أن يحملنها أي أن يحملن وزرها ، كما قال جل وعز : وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم . وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا . وحملها الإنسان قال الحسن : المراد الكافر والمنافق . إنه كان ظلوما لنفسه جهولا بربه . فيكون على هذا الجواب مجازا ، مثل : واسأل القرية . وفيه جواب آخر على أن يكون حقيقة أنه عرض على السماوات والأرض والجبال الأمانة وتضييعها وهي الثواب والعقاب ، أي أظهر لهن ذلك فلم يحملن وزرها ، وأشفقت وقالت : لا أبتغي ثوابا ولا عقابا ، وكل يقول : هذا أمر لا نطيقه ، ونحن لك سامعون ومطيعون فيما أمرن به وسخرن له ، قال الحسن وغيره . قال العلماء : معلوم أن الجماد لا يفهم ولا يجيب ، فلا بد من تقدير الحياة على القول الأخير . وهذا العرض عرض تخيير لا إلزام . والعرض على الإنسان إلزام . وقال القفال وغيره : العرض في هذه الآية ضرب مثل ، أي أن السماوات والأرض على كبر أجرامها ، لو كانت بحيث يجوز تكليفها لثقل عليها تقلد الشرائع ، لما فيها من الثواب والعقاب ، أي أن التكليف أمر حقه أن تعجز عنه السماوات والأرض والجبال ، وقد كلفه الإنسان وهو ظلوم جهول لو عقل . وهذا كقوله : لو أنزلنا هذا القرآن على جبل - ثم قال : - وتلك الأمثال نضربها للناس .قال القفال : فإذا تقرر في أنه تعالى يضرب الأمثال ، وورد علينا من الخبر ما لا يخرج إلا على ضرب المثل ، وجب حمله عليه . وقال قوم : إن الآية من المجاز ، أي إنا إذا قايسنا ثقل الأمانة بقوة السماوات والأرض والجبال ، رأينا أنها لا تطيقها ، وأنها لو تكلمت لأبت وأشفقت ، فعبر عن هذا المعنى بقوله . إنا عرضنا الأمانة الآية . وهذا كما تقول : عرضت الحمل على البعير فأباه ، وأنت تريد قايست قوته بثقل الحمل ، فرأيت أنها تقصر عنه . وقيل : عرضنا بمعنى عارضنا الأمانة بالسماوات والأرض والجبال فضعفت هذه الأشياء عن الأمانة ، ورجحت الأمانة بثقلها عليها . وقيل : إن عرض الأمانة على السماوات والأرض والجبال ، إنما كان من آدم عليه السلام . وذلك أن الله تعالى لما استخلفه على ذريته ، وسلطه على جميع ما في الأرض من الأنعام والطير والوحش ، وعهد إليه عهدا أمره فيه ونهاه وحرم وأحل ، فقبله ولم يزل عاملا به . فلما أن حضرته الوفاة سأل الله أن يعلمه من يستخلف بعده ، ويقلده من الأمانة ما تقلده ، فأمره أن يعرض ذلك على السماوات بالشرط الذي أخذ عليه من الثواب إن أطاع ومن العقاب إن عصى ، فأبين أن يقبلنه شفقا من عذاب الله . ثم أمره أن يعرض ذلك على الأرض والجبال كلها فأبياه . ثم أمره أن يعرض ذلك على ولده فعرضه عليه فقبله بالشرط ، ولم يهب منه ما تهيبت السماوات والأرض [ ص: 232 ] والجبال . إنه كان ظلوما لنفسه جهولا بعاقبة ما تقلد لربه . قال الترمذي الحكيم أبو عبد الله محمد بن علي : عجبت من هذا القائل من أين أتى بهذه القصة ! فإن نظرنا إلى الآثار وجدناها بخلاف ما قال ، وإن نظرنا إلى ظاهره وجدناه بخلاف ما قال ، وإن نظرنا إلى باطنه وجدناه بعيدا مما قال ! وذلك أنه ردد ذكر الأمانة ولم يذكر ما الأمانة ، إلا أنه يومئ في مقالته إلى أنه سلطه على جميع ما في الأرض ، وعهد الله إليه عهدا فيه أمره ونهيه وحله وحرامه ، وزعم أنه أمره أن يعرض ذلك على السماوات والأرض والجبال ; فما تصنع السماوات والأرض والجبال بالحلال والحرام ؟ وما التسليط على الأنعام والطير والوحش ! وكيف إذا عرضه على ولده فقبله في أعناق ذريته من بعده . وفي مبتدأ الخبر في التنزيل أنه عرض الأمانة على السماوات والأرض والجبال حتى ظهر الإباء منهم ، ثم ذكر أن الإنسان حملها ، أي من قبل نفسه لا أنه حمل ذلك ، فسماه ظلوما أي لنفسه ، جهولا بما فيها .وأما الآثار التي هي بخلاف ما ذكر ، فحدثني أبي رحمه الله قال حدثنا الفيض بن الفضل الكوفي حدثنا السري بن إسماعيل عن عامر الشعبي عن مسروق عن عبد الله بن مسعود قال : لما خلق الله الأمانة مثلها صخرة ، ثم وضعها حيث شاء ، ثم دعا لها السماوات والأرض والجبال ليحملنها ، وقال لهن : إن هذه الأمانة ، ولها ثواب وعليها عقاب ; قالوا : يا رب ، لا طاقة لنا بها ; وأقبل الإنسان من قبل أن يدعى فقال للسماوات والأرض والجبال : ما وقوفكم ؟ قالوا : دعانا ربنا أن نحمل هذه فأشفقنا منها ولم نطقها ; قال : فحركها بيده وقال : والله لو شئت أن أحملها لحملتها ; فحملها حتى بلغ بها إلى ركبتيه ، ثم وضعها وقال : والله لو شئت أن أزداد لازددت ; قالوا : دونك ! فحملها حتى بلغ بها حقويه ، ثم وضعها وقال : والله لو شئت أن أزداد لازددت ; قالوا : دونك ، فحملها حتى وضعها على عاتقه ، فلما أهوى ليضعها ، قالوا : مكانك ! إن هذه الأمانة ، ولها ثواب وعليها عقاب ، وأمرنا ربنا أن نحملها فأشفقنا منها ، وحملتها أنت من غير أن تدعى لها ، فهي في عنقك وفي أعناق ذريتك إلى يوم القيامة ، إنك كنت ظلوما جهولا . وذكر أخبارا عن الصحابة والتابعين تقدم أكثرها . وحملها الإنسان أي التزم القيام بحقها ، وهو في ذلك ظلوم لنفسه . وقال قتادة : للأمانة ، جهول بقدر ما دخل فيه . وهذا تأويل ابن عباس وابن جبير . وقال الحسن : جهول بربه . قال : ومعنى ( حملها ) خان فيها . وقال الزجاج : والآية في الكافر والمنافق والعصاة على قدرهم على هذا التأويل . وقال ابن عباس وأصحابه والضحاك وغيره : الإنسان آدم ، تحمل الأمانة فما تم له يوم حتى عصى المعصية [ ص: 233 ] التي أخرجته من الجنة . وعن ابن عباس أن الله تعالى قال له : أتحمل هذه الأمانة بما فيها . قال وما فيها ؟ قال : إن أحسنت جزيت وإن أسأت عوقبت . قال : أنا أحملها بما فيها بين أذني وعاتقي . فقال الله تعالى له : إني سأعينك ، قد جعلت لبصرك حجابا فأغلقه عما لا يحل لك ، ولفرجك لباسا فلا تكشفه إلا على ما أحللت لك . وقال قوم : الإنسان النوع كله . وهذا حسن مع عموم الأمانة كما ذكرناه أولا . وقال السدي : الإنسان قابيل . فالله أعلم .
تَنْوِيرُ ٱلْمِقْبَاسِ مِن تَفْسِيرِ ٱبْنِ عَبَّاس
Tafsir Tanwir al-Miqbas —
حضرت ابن عباسؓ
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)استئناف ابتدائي أفاد الإنباء على سنة عظيمة من سنن الله تعالى في تكوين العالم ومافيه وبخاصة الإِنسان ليرقب الناس في تصرفاتهم ومعاملاتهم مع ربهم ومعاملاتهم بعضهممع بعض بمقدار جريهم على هذه السنة ورعيهم تطبيقها فيكون عرضهم أعمالهم علىمعيارها مشعراً لهم بمصيرهم ومبيناً سبب تفضيل بعضهم على بعض واصطفاء بعضهم منبين بعض .وموقع هذه الآية عقب ما قبلها ، وفي آخر هذه السورة يقتضي أن لمضمونها ارتباطاًبمضمون ما قبلها ، ويصلح عوناً لاكتشاف دقيق معناها وإزالة ستور الرمز عن المراد منها ،ولو بتقليل الاحتمال ، والمصير إلى المآل .والافتتاح بحرف التوكيد للاهتمام بالخبر أو تنزيله لغرابة شأنه منزلة ما قد ينكرهالسامع .وافتتاح الآية بمادة العَرض ، وصَوغها في صيغة الماضي ، وجعل متعلقها السماواتوالأرض والجبال والإنسان يُومِئ إلى أن متعلق هذا العَرض كان في صعيد واحد فيقتضيأنه عرْض أَزَلي في مبدأ التكوين عند تعلق القدرة الربانية بإيجاد الموجودات الأرضيةوإيداعها فُصُولها المقوّمة لمواهيها وخصائصها ومميزاتها الملائكة لوفائها بما خلقت لأجلهكما حمل قوله : { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم } [ الأعراف : 172 ] الآية .واختتام الآية بالعلّة من قوله : { ليعذب الله المنافقين والمنافقات } [ الأحزاب : 73 ] إلىنهاية السورة يقتضي أن للأمانة المذكورة في هذه الآية مزيد اختصاص بالعبرة في أحوالالمنافقين والمشركين من بين نوع الإِنسان في رعي الأمانة وإضاعتها .فحقيق بنا أن نقول : إن هذا العَرض كان في مبدإ تكوين العالم ونوعِ الإنسان لأنهلما ذكرت فيه السماوات والأرض والجبال مع الإِنسان علم أن المراد بالإِنسان نوعه لأنهلو أريد بعض أفراده ولو في أول النشأة لمَا كان في تحمل ذلك الفرد الأمانة ارتباطٌبتعذيب المنافقين والمشركين ، ولَمَا كان في تحمل بعض أفراده دون بعض الأمانةَ حكمةمناسبة لتصرفات الله تعالى .فتعريف { الإنسان } تعريف الجنس ، أي نوع الإِنسان .والعرض : حقيقته إحضار شيء لآخر ليختاره أوة يقبله ومنه عَرْضُ الحوض علىالناقة ، أي عرضه عليها أن تشرب منه ، وعرضُ المجنَّدين على الأمير لقبول من تأهلمنهم . وفي حديث ابن عمر : « عُرِضَتُ على رسول الله وأنا ابن أربع فردني وعُرِضتُعليه وأنا ابن خمس عشرة فأجازني » . وتقدم عند قوله تعالى : { أولئك يعرضون على ربهم } في سورة هود [ 18 ] ، وقوله : { وعرضوا على ربك صفاً } في سورة الكهف [ 48 ] .فقوله : { عرضنا } هنا استعارة تمثيلية لوضع شيء في شيء لأنه أهل له دون بقيةالشياء ، وعدم وضعه في بقية الشياء لعدم تأهلها لذلك الشيء ، فشبهت حالة صرفتحميل الأمانة عن السموات والأرض والجبال ووضعها في الإِنسان بحالة من يعرض شيئاًعلى أناس فيرفضه بعضهم ويقبله واحد منهم على طريقة التمثيلية ، أو تمثيل لتعلق علم اللهعلى أناس فيرفضه بعضهم ويقبله واحد منهم على طريقة التمثيلية ، أو تمثيل لتعلق علم اللهتعالى بعدم صلاحية السماوات والأرض والجبال الإِناطة ما عبر عنه بالأمانة بها وصلاحيةِالإِنسان لذلك ، فشبهت حالة تعلق علم الله بمخالفة قابلية السماوات والأرض والجبالبحمل الأمانة لقابلية الإِنسان ذلك بعرض شيء على اشياء لاستظهار مقدار صلاحية أحدتلك الأشياء للتلبس بالشيء المعروض عليها .وفائدة هذا التمثيل تعظيم أمر هذه الأمانة إذ بلغت أن لا يطيق تحملها ما هو أعظمما يبصره الناس من أجناس الموجودات . فتخصيص { السماوات والأرض } بالذكر من بينالموجودات لأنهما أعظم المعروف للناس من الموجودات ، وعطف الجبالر على{ الأرض } وهي منها لأن الجبال أعظم الأجزاء المعروفة من ظاهر الأرض وهي التيتشاهد الأبصارُ عظمتها إذ الأبصار لا ترى الكرة الأرضية كما قال تعالى : { لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله } [ الحشر : 21 ] .وقرينة الاستعارة حالية وهي عدم صحة تعلق العرض والإِباء بالسماوات والأرضوالجبال لانتفاء إدراكها فأنّى لها أن نختار وترفض ، وكذلك الإنسان باعتبار كون المرادمنه جنسه وماهيته لأن الماهية لا تفاوض ولا تختار كما يقال : الطبيعة عمياء ، أي لااختيار لها ، أي للجبلة وإنما تصدر عنها آثارها قسراً .ولذلك فأفعال { عَرضنا ، أبَيْن ، يحملنها ، وأشفقن منها ، وحملها } أجزاء للمركبالتمثيلي . وهذه الأجزاء صالحة لأن يكون كل منها استعارة مفردة بأن يشبه إبداع الأمانةفي الإنسان وصرفها عن غيره بالعرض ، ويشبه عدم مُصَحح مَواهي السماوات والأرضوالجبال لإِيداع الأمانة فيها بالإِباء ، ويشبه الإِيداع بالتحميل والحمل ، ويشبه عدم التلاؤمبين مواهي السماوات والأرض والجبال بالعجز عن قبول تلك الكائنات إياها وهو المعبرعنه بالإِشفاق ، ويشبه التلاؤم ومُصحِّح القبول لإِيداع وصف الأمانة في الإِنسان بالحملللثقْل .ومثل هذه الاستعارات كثير في الكلام البليغ . وصلوحية المركب التمثيلي للانحلالبأجزائه إلى استعارات معدود من كمال بلاغة ذلك التمثيل .وقد عُدّت هذه الآية من مشكلات القرآن وتردد المفسرون في تأويلها تردداً دلّ علىالحيرة في تقويم معناها . ومرجع ذلك إلى تقويم معنى العَرض على السماوات والرضوالجبال ، وإلى معرفة معنى الأمانة ، ومعرفة معنى الإِباء والإِشفاق .فأما العرض فقد استبانت معانيه بما علمت من طريقة التمثيل . وأما الأمانة فهي مايؤتمن عليه ويطالب بحفظه والوفاء دون إضاعة ولا إجحاف ، وقد اختلف فيها المفسرونعلى عشرين قولاً وبعضها متداخل في بعض ، ولنبتدئ بالإٍِلمام بها ثم نعطف إلىتمحيصها وبيانها .فقيل : الأمانة الطاعة ، وقيل : الصلاة ، وقيل : مجموع الصلاة والصوم والاغتسال ،وقيل : جميع الفرائض ، وقيل : الانقياد إلى الدين ، وقيل : حفظ الفرج ، وقيل : الأمانةالتوحيد ، أو دلائل الوحداينة ، أو تجليات الله بأسمائه ، وقيل : ما يؤتمن عليه ، ومنه الوفاءبالعهد ، ومنه انتفاء الغش في العمل ، وقيل : الأمانة العقل ، وقيل : الخلافة ، أي خلافةالله في الأرض التي أودعها الإِنسان كما قال تعالى :{ وإذ قال ربك للملائكة إِني جاعل في الأرض خليفة } [ البقرة : 30 ] الاية .وهذه الأقوال ترجع إلى أصناف : صنف الطاعات والشرائع ، وصنف العقائد ،وصنف ضد الخيانة ، وصنف العقل ، وصنف خلافة الأرض .ويجب أن يطرح منها صنف الشرائع لأنها ليست لازمة لفطرة الإِنسان فطالما خلتأمم عن التكليف بالشرائع وهم أهل الفِتَر فتسقط ستة أقوال وهي ما في الصنف الأول .ويبقى سائر الأصناف لأنها مرتكزة في طبع الإِنسان وفطرته .فيجوز أن تكون الأمانة أمانة الإِيمان ، اي توحيد الله ، وهي العهد الذي أخذه اللهعلى جنس بني آدم وهو الذي في قوله تعالى : { وإذ أخذ ربك بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا } وتقدم في سورة الأعراف[ 172 ] . فالمعنى : أن الله أودع في نفوس الناس دلائل الوحدانية فهي ملازمة للفكرالبشري فكأنها عهْد عَهِد الله لهم به وكأنه أمانة ائتمنهم عليها لأنه أودعها في الجبلةمُلازِمة لها ، وهذه الأمانة لم تودع في السماوات والأرض والجبال لأن هذه الأمانة منقبيل المعارف والمعارف من العلم الذي لا يتصف به إلا من قامت به صفة الحياة لأنهامصححة الإِدراك لمن قامت به ، ويناسب هذا المحمل قولُه : { ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات } [ الأحزاب : 73 ] ، فإن هذين الفريقين خالون من الإِيمانبوحدانية الله .ويجوز أن تكون الأمانة هي العقل وتسميته أمانة تعظيم لشأنه ولأن الأشياء النفيسةتودع عند من يحتفظ بها .والمعنى : أن الحكمة اقتضت أن يكون الإنسان مستودَع العقل من بين الموجوداتالعظيمة لأن خلقته مُلائمة لأن يكون عاقلاً فإن العقل يبعث على التغير والانتقال من حالإلى حال ومن مكان إلى غيره ، فلو جعل ذلك في سماء من السماوات أو في الأرض أوفي جبل من الجبال أو جميعها لكان سبباً في اضطراب العوالم واندكاكها . وأقربالموجودات التي تحمل العقل أنواع الحيوان ما عدا الإِنسان فلو أودع فيها العقل لماسمحت هيئات أجسامها بمطاوعة ما يأمرها العقل به . فلنفرض أن العقل يسول للفرس أنلا ينتظر علفه أو سومه وأن يخرج إلى حناط يشتري منه علفاً ، فإِنه لا يستطيع إفصاحاًويضيع في الإِفهام ثم لا يتمكن من تسليم العوض بيده إلى فرس غيره . وكذلك غذا كانتمعاملته مع أحد من نوع الإنسان .ومناسبة قوله : { ليعذب الله المنافقين } [ الأحزاب : 73 ] الاية لهذا المحمل نظير مناسبتهللمحمل الأول .ويجوز أن تكون الأمانة ما يؤتمن عليه ، وذلك أن الإِنسان مدني بالطبع مخالط لبنيجنسه فهو لا يخلو عن ائتمان أو أمانة فكان الإنسان متحملاً لصفة الأمانة بفطرتِه والناسمتفاوتون في الوفاء لما ائتمنوا عليه كما في الحديث : « إذا ضُيّعت الأمانة فانتظر الساعة »أي إذا انقرضت الأمانة كان انقرائها علامة على اختلال الفطرة ، فكان في جملةالاختلالات المنذرة بدنو الساعة مثل تكوير الشمس وانكدار النجوم ودكّ الجبال .والذي بَيَّن هذا المعنى قولُ حذيفة : « حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين رأيت أحدهماوأنا أنتظر الآخر ، حدثنا أن الأمانة نزلت في جِذر قلوب الرجال ثم عَلِموا من القرآن ثمعلموا من السنة ، وحدثنا عن رفعها فقال : ينام الرجل النومةَ فتقبض الأمانة من قلبه فيظلأثرها مثل اثر الوَكْت ، ثم ينام النومة فتقبض فيبقى أثرها مثل المَجْل كجمر دَحرَجْتَهعلى رِجْلك فنفط فتراه منتبرً وليس فيه شيء فيصبح الناس يتبايعون ولا يكاد أحد يؤديالأمانة فيقال : إن في بني فلان رجلاً أميناً ، ويقال للرجل : ما أعقله وما أظرفه وماأجلده ، وما في قلبه مثقال حبة من خردل من غيمان » أي من أمانة لأن الإِيمان من الأمانةلأنه عهد الله .ومعنى عرض هذه الأمانة على السماوات والأرض والجبال يندرج في معنى تفسيرالأمانة بالعقل ، لأن الأمانة بهذا المعنى من الأخلاق التي يجمعها العقل ويصرّفها ، وحينئذٍفتخصيصها بالذكر للتنبيه على أهميتها في أخلاق العقل .والقول في حَمل معنى الأانة على خلافة الله تعالى في الأرض مثل القول في العقللأن تلك الخلافة ما هيّأ الإِنسان لها إلا العقلُ كما أشار إليه قوله تعالى : { وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة } [ البقرة : 30 ] ثم قوله : { وعلم آدم السماء كلها } [ البقرة : 31 ] فالخلافة في الأرض هي القيام بحفظ عمرانها ووضع الموجودات فيها فيمواضعها ، واستعمالها فيما استعدّت إليه غرائزها .وبقية الأمور التي فسر بها بعض المفسرين الأمانة يعتبر تفسيرها من قبيل ذكر الأمثلةالجزئية للمعاني الكلية .والمتبادر من هذه المحامل أن يكون المراد بالأمانة حقيقتها المعلومة وهي الحفاظعلى ما عُهد به ورعْيهُ والحذارُ من الإِخلال به سهواً أو تقصيراً فيسمى تفريطاً وإضاعة ، أوعمداص فيسمى خيانة وخيساً لأن هذا المحمل هو المناسب لورود هذه الآية في ختام السورةالتي ابتدئت بوصف خيانة المنافقين واليهود وإخلالهم بالعهود وتلونهم مع النبيء صلى الله عليه وسلم قالتعالى : { ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار } [ الأحزاب : 15 ] وقال : { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه } [ الأحزاب : 23 ] . وهذا المحمل يتضمن أيضاًأقرب المحامل بعده وهو أن يكون هو العقل لأن قبول الأخلاق فرع عنه .وجملة { إنه كان ظلوماً جهولاً } محلها اعتراض بين جملة { وحملها الإنسان }والمتعلق بفعلها وهو { ليعذب الله المنافقين } [ الأحزاب : 73 ] الخ . ومعناها استئناف بيانيلأن السامع خبرَ أن الإِنسان تحمل الأمانة يترقب معرفة ما كان من حسن قيام الإِنسان بماحُمِّله وتحمّله وليست الجملة تعليلية لأن تحمل الأمانة لم يكن باختيار الإِنسان فكيفيعلل بأن حمله الأمانة من أجل ظلمه وجهله .فمعنى { كان ظلوماً جهولاً } أنه قصّر في الوفاء بحق ما تحمله تقصيراً : بعضُه عنعمْد وهو المعبر عنه بوصف ظلوم ، وبعضه عن تفريط في الأخذ باسباب الوفاء وهوالمعبر عنه بكونه جهولاً ، فظلوم مبالغة في الظلم وكذلك جهول مبالغة في الجهل .والظلم : الاعتداء على حق الغير واريد به هنا الاعتداء على حق الله الملتزم لهبتحمل الأمانة ، وهو حق الوفاء بالأمانة .والجهل : انتفاء العلم بما يتعين علمه ، والمراد به هنا انتفاء علم الإِنسان بمواقعالصواب فيما تحمل به ، فقوله : { إنه كان ظلوماً جهولاً } مؤذن بكلام محذوف يدل هوعليه إذ التقدير : وحملها الإِنسان فلم يف بها إنه كان ظلوماً جهولاً ، فكأنه قيل : فكانظلوماً جهولاً ، أي ظلوماً ، اي في عدم الوفاء بالأمانة لأنه اجحاف بصاحب الحق فيالأمانة أيّاً كان ، وجهولاً في عدم تقديره قدر إضاعة الأمانة من المؤاخذة المتفاوتةالمراتب في التبعية بها ، ولولا هذا التقدير لم يلتئم الكلام لأن الإِنسان لم يحمل الأمانةباختياره بل فُطَر على تحملها .ويجوز أن يراد { ظلوماً جهولاً } في فطرته ، اي في طبع الظلم ، والجهل فهومعرض لهما ما لم يعصمه وازع الدين ، فكان من ظلمه وجهله أن أضاع كثير من الناسالأمانة التي حملها .ولك أن تجعل ضمير { إنه } عائداً على الإِنسان وتجعل عمومه مخصوصاً بالإِنسانالكافر تخصيصاً بالعقل لظهور أن الظلوم الجهول هو الكافر .أو تجعل في ضمير { إنه } استخداماً بأن يعود إلى الإنسان مراداً به الكافر وقد أطلقلفظ الإِنسان في مواضع كثيرة من القرآن مراداً به الكافرُ كما في قوله تعالى : { ويقول الإِنسان أئذا ما مت لسوف أخرج حياً } [ مريم : 66 ] الآية قوله : { يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم } [ الانفطار : 6 ] الآيات .وفي ذكر فعل { كان } إشارة إلى أن ظلمه وجهله وصفان متأصلان فيه لأنهماالغالبان على أفراده الملازمان لها كثرة أو قلة .فصيغتا المبلاغة منظور فيهما إلى الكثرة والشدة في أكثر أفراد النوع الإِنسان والحكمالذي يسلط على الأنواع والأجناس والقبائل يراعى فيه الغالب وخاصة في مقام التحذيروالترهيب . وهذا الإِجمال يبينه قوله عقبه : { ليعذب الله المنافقين } إلى قوله { ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات } [ الأحزاب : 73 ] فقد جاء تفصيله بذكر فريقين : أحدهما : مضيعللأمانة والآخر مراعٍ لها .ولذلك أثنى الله على الذين وَفّوا بالعهود والأمانات فقال في هذه السورة { وكان عهد الله مسئولاً } [ الأحزاب : 15 ] وقال فيها : { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه } [ الأحزاب : 23 ] وقال : { واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صاق الوعد } [ مريم : 54 ]وقال في ضد ذلك : { وما يضل به إلا الفاسقين ، الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه } إلى قوله : { أولئك هم الخاسرون } [ البقرة : 26 ، 27 ] .
ٱلتَّفْسِيرُ ٱلْوَسِيط
Tafsir Al-Waseet —
علمائے جامعہ ازہر
ثم بين - سبحانه - ضخامة التبعة التى حملها الإِنسان فقال : ( إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان . . ) .وأرجح الأقوال وأجمعها فى المراد بالأمانة هنا : أنها التكاليف والفرائض الشرعية التى كلف الله - تعالى - بها عباده ، من إخلاص فى العبادة ، ومن أداء للطاعات ، ومن محافظة على آداب هذا الدين وشعائره وسننه .وسمى - سبحانه - ما كلفنا به أمانة ، لأن هذه التكاليف حقوق أمرنا - سبحانه - بها ، وائتمننا عليها ، وأوجب علينا مراعاتها والمحافظة عليها ، وأداءها بدون إخلال بشئ منها .والمراد بالإِنسان : آدم - عليه السلام - أو جنس الإِنسان .والمراد بحمله إياها : تقبله لحمل هذه التكاليف والأوامر والنواهى مع ثقلتها وضخامتها .وللعلماء فى تفسير هذه الآية اتجاهات ، فمنهم من يرى أن الكلام على حقيقته ، وأن الله - تعالى - قد عرض هذه التكاليف الشرعية المعبر عنها بالأمانة ، على السماوات والأرض والجبال ( فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا ) لثقلها وضخامتها ( وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا ) أى : وخفن من عواقب حملها أن ينشأ لهن من ذلك ما يؤدى بهن إلى عذاب الله وسخطه بسبب التقصير فى أداء ما كلفن بأدائه .( وَحَمَلَهَا الإنسان ) أى : وقبل الإِنسان حمل هذه الأمانة عند عرضها عليه ، بعد أن أبت السماوات والأرض والجبال حملها ، وأشفقن منها .( إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ) أى : إنه كان مفرطا فى ظلمه لنفسه ، ومبالغة فى الجهل ، لأن هذا الجنس من الناس لم يلتزموا جميعا بأداء ما كلفهم الله - تعالى - بأدائه . وإنما منهم من أداها على وجهها - وهم الأقلون - ، ومنهم من لم يؤدها وإنما عصى ما أمره به ربه ، وخان الأمانة التى التزم بأدائها .فالضمير فى قوله ( إِنَّهُ ) يعود على بعض أفراد جنس الإِنسان ، وهم الذين لم يؤدوا حقوق هذه الأمانة التى التزموا بحملها .قال الآلوسى : ( إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ) أى : بحسب غالب أفراده الذين لم يعملوا بموجب فطرتهم السليمة ، دون من عداهم من الذين لم يعملوا بموجب فطرتهم السليمة ، دون من عداهم من الذين لم يبدلوا فطرة الله ويكفى فى صدق الحكم على الجنس بشئ ، وجوده فى بعض أفراده ، فضلا عن وجوده فى غالبها . .وقال بعض العلماء : ورجوع الضمير إلى مجرد اللفظ دون اعتبار المعنى التفصيلى معروف فى اللغة التى نزل بها القرآن .وقد جاء فعلا فى آية من كتاب الله ، وهى قوله - تعالى - : ( وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ . . . )لأن الضمير فى قوله : ( وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ ) راجع إلى لفظ المعمر دون معناه التفصيلى ، كما هو ظاهر .وهذه المسألة هى المعروفة عند علماء العربية بمسألة : عندى درهم ونصفه . أى : ونصف درهم آخر .وأصحاب هذا الاتجاه يقولون : لا مانع إطلاقا من أن يخلق الله - تعالى - إدراكا ونطقا للسموات والأرض والجبال ، ولكن هذا الإِدراك والنطق لا يعلمه إلا هو - سبحانه - .ومما يشهد لذلك قوله - تعالى - : ( تُسَبِّحُ لَهُ السماوات السبع والأرض وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً ) قال الجمل : وكان هذا العرض عليهن - أى على السماوات والأرض والجبال تخييرا لا إلزاما ، ولو ألزمهن لم يمتنعن عن حملها . والجمادات كلها خاضعة لله - تعالى - مطيعة لأمره ، ساجدة له .قال بعض أهل العلم : ركب الله - تعالى - فيهن العقل والفهم حين عرض عليهن الأمانة ، حتى عقلن الخطاب ، وأجبن بما أجبن .ويرى بعضهم أن العرض فى الآية الكريمة من قبيل ضرب المثل ، أو من قبيل المجاز .قال الإِمام القرطبى ما ملخصه : لما بين - تعالى - فى هذه السورة من الأكحام ما بين ، أم بالتزام أوامره ، والأمانة تعم جميع وظائف الدين ، على الصحيح من الأقوال ، وهو قول الجمهور . .ويصح أن يكون عرض الأمانة على السماوات والأرض والجبال على سبيل الحقيقة .وقال القفال وغيره : العرض فى هذه الآية ضرب مثل ، أى : أن السماوات والأرض والجبال على كبر أجرامها ، لو كانت بحيث يجوز تكليفها ، لثقل عليها تقلد الشرائع ، لما فيها من الثواب والعقاب .أى : أن التكليف أمر حقه أن تعجز عنه السماوات والأرض والجبال ، وقد حمله الإِنسان وهو ظلوم جهول لو عقل . وهذا كقوله : ( لَوْ أَنزَلْنَا هذا القرآن على جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ الله . . . ) وقال قوم : إن الآية من المجاز : أى : أنا إذا قايسنا ثقل الأمانة بقوة السماوات والأرض والجبال ، رأينا أنها لا تطيقها ، وأنها لو تكلمت لأبت وأشفقت ، فَعُبِّر عن هذا بعرض الأمانة . كما تقول : عرضت الحمل على البعير فأباه ، وأنت تريد : قايست قوته بثقل الحمل فرأيت أنها تقصر عنه . .وقيل : ( عَرَضْنَا ) يعنى عارضنا الأمانة بالسموات والأرض والجبال ، فضعفت هذه الأشياء عن الأمانة . ورجحت الأمانة بثقلها عليها . . .ويبدو لنا أن حمل الكلام على الحقيقة أولى بالقبول ، لأنه ما دام لم يوجد مانع يمنع منه ، فلا داعى لصرفه عن ذلك .ومما لا شك أن قدرة الله - تعالى - لا يعجزها أن تخلق فى السماوات والأرض ولاجبال إدراكا وتمييزا ونطقا لا يعلمه إلا هو - سبحانه - .
تَفْسِيرُ ٱلْبَغَوِيِّ
Tafsir al-Baghawi —
علامہ بغوی
قوله - عز وجل - : ( إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال ) الآية . أراد بالأمانة الطاعة والفرائض التي فرضها الله على عباده ، عرضها على السماوات والأرض والجبال على أنهم إن أدوها أثابهم وإن ضيعوها عذبهم ، وهذا قول ابن عباس .وقال ابن مسعود : الأمانة : أداء الصلوات ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، وحج البيت ، وصدق الحديث ، وقضاء الدين ، والعدل في المكيال والميزان ، وأشد من هذا كله الودائع .وقال مجاهد : الأمانة : الفرائض ، وقضاء الدين .وقال أبو العالية : ما أمروا به ونهوا عنهوقال زيد بن أسلم : هو الصوم ، والغسل من الجنابة ، وما يخفى من الشرائع .وقال عبد الله بن عمرو بن العاص : أول ما خلق الله من الإنسان فرجه وقال : هذه أمانة استودعتكها ، فالفرج أمانة ، والأذن أمانة ، والعين أمانة ، واليد أمانة ، والرجل أمانة ، ولا إيمان لمن لا أمانة له .وقال بعضهم : هي أمانات الناس والوفاء بالعهود ، فحق على كل مؤمن أن لا يغش مؤمنا ولا معاهدا في شيء قليل ولا كثير ، وهي رواية الضحاك عن ابن عباس ، فعرض الله هذه الأمانة على أعيان السماوات والأرض والجبال ، هذا قول ابن عباس وجماعة من التابعين وأكثر السلف ، فقال لهن أتحملن هذه الأمانة بما فيها ؟ قلن : وما فيها ؟ قال : إن أحسنتن جوزيتن وإن عصيتن عوقبتن ، فقلن : لا يا ربنا ، نحن مسخرات لأمرك لا نريد ثوابا ولا عقابا ، وقلن ذلك خوفا وخشية وتعظيما لدين الله أن لا يقوموا بها لا معصية ولا مخالفة ، وكان العرض عليهن تخييرا لا إلزاما ولو ألزمهن لم يمتنعن من حملها ، والجمادات كلها خاضعة لله - عز وجل - مطيعة ساجدة له كما قال جل ذكره للسماوات والأرض : " ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين " ( فصلت - 11 ) ، وقال للحجارة : " وإن منها لما يهبط من خشية الله " ( البقرة - 74 ) ، وقال تعالى : " ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب " ( الحج - 18 ) الآية .وقال بعض أهل العلم : ركب الله - عز وجل - فيهن العقل والفهم حين عرض الأمانة عليهن حتى عقلن الخطاب وأجبن بما أجبن .وقال بعضهم : المراد من العرض على السماوات والأرض هو العرض على أهل السماوات والأرض ، عرضها على من فيها من الملائكة .وقيل : على أهلها كلها دون أعيانها ، كقوله تعالى : " واسأل القرية " ( يوسف - 82 ) ، أي : أهل القرية . والأول أصح وهو قول العلماء .( فأبين أن يحملنها وأشفقن منها ) أي : خفن من الأمانة أن لا يؤدينها فيلحقهن العقاب ( وحملها الإنسان ) يعني : آدم عليه السلام ، فقال الله لآدم : إني عرضت الأمانة على السماوات والأرض والجبال فلم تطقها فهل أنت آخذها بما فيها ؟ قال : يا رب وما فيها ؟ قال إن أحسنت جوزيت ، وإن أسأت عوقبت ، فتحملها آدم ، وقال : بين أذني وعاتقي ، قال الله تعالى : أما إذا تحملت فسأعينك ، اجعل لبصرك حجابا فإذا خشيت أن تنظر إلى ما لا يحل لك فأرخ عليه حجابه ، واجعل للسانك لحيين غلقا فإذا غشيت فأغلق ، واجعل لفرجك لباسا فلا تكشفه على ما حرمت عليك .قال مجاهد : فما كان بين أن تحملها وبين أن خرج من الجنة إلا مقدار ما بين الظهر والعصروحكى النقاش بإسناده عن ابن مسعود أنه قال : مثلت الأمانة كصخرة ملقاة ، ودعيت السماوات والأرض والجبال إليها فلم يقربوا منها ، وقالوا : لا نطيق حملها ، وجاء آدم من غير أن يدعى ، وحرك الصخرة ، وقال : لو أمرت بحملها لحملتها ، فقلن له : احملها ، فحملها إلى ركبتيه ثم وضعها ، وقال والله لو أردت أن أزداد لزدت ، فقلن له : احملها فحملها إلى حقوه ، ثم وضعها ، وقال : والله لو أردت أن أزداد لزدت ، فقلن له احمل فحملها حتى وضعها على عاتقه ، فأراد أن يضعها فقال الله : مكانك فإنها في عنقك وعنق ذريتك إلى يوم القيامة . ( إنه كان ظلوما جهولا ) قال ابن عباس : ظلوما لنفسه جهولا بأمر الله وما احتمل من الأمانة .وقال الكلبي : ظلوما حين عصى ربه ، جهولا لا يدري ما العقاب في ترك الأمانة . وقال مقاتل : ظلوما لنفسه جهولا بعاقبة ما تحمل .وذكر الزجاج وغيره من أهل المعاني ، في قوله وحملها الإنسان قولان ، فقالوا : إن الله ائتمن آدم وأولاده على شيء وائتمن السماوات والأرض والجبال على شيء ، فالأمانة في حق بني آدم ما ذكرنا في الطاعة والقيام بالفرائض ، والأمانة في حق السماوات والأرض والجبال هي الخضوع والطاعة لما خلقهن له . وقيل : قوله : ( فأبين أن يحملنها ) أي : أدين الأمانة ، يقال : فلان لم يتحمل الأمانة أي : لم يخن فيها وحملها الإنسان أي : خان فيها ، يقال : فلان حمل الأمانة أي : أثم فيها بالخيانة .قال الله تعالى : " وليحملن أثقالهم " ( العنكبوت - 13 ) ، إنه كان ظلوما جهولا . حكي عن الحسن على هذا التأويل : أنه قال وحملها الإنسان يعني الكافر والمنافق ، حملا الأمانة أي : خانا . وقول السلف ما ذكرنا .