تَفْسِيرُ ٱلْمُيَسَّر
Tafsir Al-Muyassar —
کنگ فہد قرآن کمپلیکس
الثناء على الله بصفاته التي كلّها أوصاف كمال، وبنعمه الظاهرة والباطنة، الدينية والدنيوية، الذي أنشأ السموات والأرض وما فيهن، وخلق الظلمات والنور، وذلك بتعاقب الليل والنهار. وفي هذا دلالة على عظمة الله تعالى، واستحقاقه وحده العبادة، فلا يجوز لأحد أن يشرك به غيره. ومع هذا الوضوح فإن الكافرين يسوون بالله غيره، ويشركون به.
تَفْسِيرُ ٱلْجَلَالَيْنِ
Tafsir al-Jalalayn —
جلال الدین محلی اور جلال الدین سیوطی
«الحمد» وهو الوصف الجميل ثابت «لله» وهل المراد الإعلام بذلك للإيمان به الثناء به أوهما احتمالات أفيدها الثالث قاله الشيخ في سورة الكهف «الذي خلق السماوات والأرض» خصهما بالذكر لأنهما أعظم المخلوقات للناظرين «وجعل» خلق «الظلمات والنور» أي كل ظلمة ونور وجمعها دونه لكثرة أسبابها، وهذا من دلائل وحدانيته «ثم الذين كفروا» مع قيام هذا الدليل «بربهم يعدلون» يسوون غيره في العبادة.
تَفْسِيرُ ٱلْقُرْطُبِيِّ
Tafsir al-Qurtubi —
علامہ قرطبی
سورة الأنعاموهي مكية في قول الأكثرين قال ابن عباس وقتادة : هي مكية كلها إلا آيتين منها نزلتا بالمدينة ، قوله تعالى : وما قدروا الله حق قدره نزلت في مالك بن الصيف وكعب بن الأشرف اليهوديين والأخرى قوله : وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات نزلت في ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري ، وقال ابن جريج : نزلت في معاذ بن جبل ، وقال الماوردي . وقال الثعلبي سورة " الأنعام " مكية إلا ست آيات نزلت بالمدينة وما قدروا الله حق قدره إلى آخر ثلاث آيات و قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم إلى آخر ثلاث آيات قال ابن عطية : وهي الآيات المحكمات وذكر ابن العربي : أن قوله تعالى : قل لا أجد نزل بمكة يوم عرفة وسيأتي القول في جميع ذلك إن شاء الله وفي الخبر أنها نزلت جملة واحدة غير الست الآيات وشيعها سبعون ألف ملك مع آية واحدة منها اثنا عشر ألف ملك وهي وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو نزلوا بها ليلا لهم زجل بالتسبيح والتحميد فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب فكتبوها من ليلتهم وأسند أبو جعفر النحاس قال : حدثنا محمد بن يحيى ، حدثنا أبو حاتم روح بن الفرج مولى الحضارمة ، قال حدثنا أحمد بن محمد أبو بكر العمري ، حدثنا ابن أبي فديك ، حدثني عمر بن طلحة بن علقمة بن وقاص ، عن نافع أبي سهل بن مالك ، عن أنس بن مالك ، قال : قال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : نزلت سورة الأنعام معها موكب من الملائكة سد ما بين الخافقين لهم زجل بالتسبيح والأرض لهم ترتج ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : سبحان ربي العظيم ثلاث مرات وذكر الدارمي أبو محمد في مسنده ، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، قال : الأنعام من نجائب القرآن . وفيه عن كعب ، قال : فاتحة " التوراة " [ ص: 296 ] فاتحة الأنعام وخاتمتها خاتمة " هود " . وقاله وهب بن منبه أيضا وذكر المهدوي قال المفسرون إن " التوراة " افتتحت بقوله : الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض الآية . وختمت بقوله الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك إلى آخر الآية . وذكر الثعلبي عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال من قرأ ثلاث آيات من أول سورة " الأنعام " إلى قوله : ويعلم ما تكسبون وكل الله به أربعين ألف ملك يكتبون له مثل عبادتهم إلى يوم القيامة وينزل ملك من السماء السابعة ومعه مرزبة من حديد ، فإذا أراد الشيطان أن يوسوس له أو يوحي في قلبه شيئا ضربه ضربة فيكون بينه وبينه سبعون حجابا فإذا كان يوم القيامة قال الله تعالى : امش في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي وكل من ثمار جنتي واشرب من ماء الكوثر واغتسل من ماء السلسبيل فأنت عبدي وأنا ربك . وفي البخاري عن ابن عباس قال : إذا سرك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين ومائة من سورة " الأنعام " قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم إلى قوله : وما كانوا مهتدينتنبيه : قال العلماء : هذه السورة أصل في محاجة المشركين وغيرهم من المبتدعين ومن كذب بالبعث والنشور وهذا يقتضي إنزالها جملة واحدة لأنها في معنى واحد من الحجة وإن تصرف ذلك بوجوه كثيرة وعليها بنى المتكلمون أصول الدين لأن فيها آيات بينات ترد على القدرية دون السور التي تذكر والمذكورات ، وسنزيد ذلك بيانا إن شاء الله بحول الله تعالى .بسم الله الرحمن الرحيمالحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلونفيه خمس مسائل :الأولى : قوله تعالى : الحمد لله بدأ سبحانه فاتحتها بالحمد على نفسه ، وإثبات الألوهية ، أي : إن الحمد كله له فلا شريك له ، فإن قيل : فقد افتتح غيرها بالحمد لله فكان الاجتزاء بواحدة يغني عن سائره ، فيقال : لأن لكل واحدة منه معنى في موضعه لا يؤدي عنه [ ص: 297 ] غيره من أجل عقده بالنعم المختلفة ، وأيضا فلما فيه من الحجة في هذا الموضع على الذين هم بربهم يعدلون ، وقد تقدم معنى الحمد في الفاتحة .الثانية : قوله تعالى : الذي خلق السماوات والأرض أخبر عن قدرته وعلمه وإرادته فقال : الذي خلق ، أي : اخترع وأوجد وأنشأ وابتدع والخلق يكون بمعنى الاختراع ويكون بمعنى التقدير ، وقد تقدم وكلاهما مراد هنا وذلك دليل على حدوثهما فرفع السماء بغير عمد وجعلها مستوية من غير أود ، وجعل فيها الشمس والقمر آيتين وزينها بالنجوم وأودعها السحاب والغيوم علامتين ، وبسط الأرض وأودعها الأرزاق والنبات ، وبث فيها من كل دابة آيات جعل فيها الجبال أوتادا ، وسبلا فجاجا ، وأجرى فيها الأنهار والبحار ، وفجر فيها العيون من الأحجار ، دلالات على وحدانيته ، وعظيم قدرته وأنه هو الله الواحد القهار ، وبين بخلقه السماوات والأرض أنه خالق كل شيء .الثالثة : خرج مسلم قال : حدثني سريج بن يونس ، وهارون بن عبد الله ، قالا : حدثنا حجاج بن محمد ، قال : قال ابن جريج : أخبرني إسماعيل بن أمية ، عن أيوب بن خالد ، عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة ، عن أبي هريرة ، قال : أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال : خلق الله عز وجل التربة يوم السبت وخلق فيها الجبال يوم الأحد وخلق الشجر يوم الاثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء وبث فيها الدواب يوم الخميس وخلق آدم عليه السلام بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل .قلت : أدخل العلماء هذا الحديث تفسيرا لفاتحة هذه السورة ; قال البيهقي : وزعم أهل العلم بالحديث أنه غير محفوظ لمخالفة ما عليه أهل التفسير وأهل التواريخ . وزعم بعضهم أن إسماعيل بن أمية إنما أخذه عن إبراهيم بن أبي يحيى ، عن أيوب بن خالد ، وإبراهيم غير محتج به ، وذكر محمد بن يحيى ، قال : سألت علي بن المديني عن حديث أبى هريرة خلق الله التربة يوم السبت . فقال علي : هذا حديث مدني رواه هشام بن يوسف ، عن ابن جريج ، عن إسماعيل بن أمية ، عن أيوب بن خالد ، عن أبي رافع مولى أم سلمة ، عن أبي هريرة ، قال : أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدي . قال علي : وشبك بيدي إبراهيم بن أبي يحيى ، فقال لي : شبك بيدي أيوب بن خالد ، وقال لي شبك بيدي عبد الله بن رافع ، وقال لي : شبك بيدي أبو هريرة ، وقال لي : شبك بيدي أبو القاسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : خلق الله الأرض يوم السبت فذكر [ ص: 298 ] الحديث بنحوه . قال علي بن المديني : وما أرى إسماعيل بن أمية أخذ هذا الأمر إلا من إبراهيم بن أبي يحيى ، قال البيهقي : وقد تابعه على ذلك موسى بن عبيدة الربذي ، عن أيوب بن خالد إلا أن موسى بن عبيدة ضعيف . وروي عن بكر بن الشرود ، عن إبراهيم بن أبي يحيى ، عن صفوان بن سليم ، عن أيوب بن خالد ، وإسناده ضعيف ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن في الجمعة ساعة لا يوافقها أحد يسأل الله عز وجل فيها شيئا إلا أعطاه إياه قال : فقال عبد الله بن سلام : إن الله عز وجل ابتدأ الخلق فخلق الأرض يوم الأحد ويوم الاثنين ، وخلق السماوات يوم الثلاثاء ويوم الأربعاء ، وخلق الأقوات وما في الأرض يوم الخميس ويوم الجمعة إلى صلاة العصر ، وما بين صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس خلق آدم . خرجه البيهقي .قلت : وفيه أن الله تعالى بدأ الخلق يوم الأحد لا يوم السبت . وكذلك تقدم في البقرة عن ابن مسعود وغيره من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وتقدم فيها الاختلاف أيما خلق أولا الأرض أو السماء مستوفى والحمد لله .الرابعة : قوله تعالى : وجعل الظلمات والنور ذكر بعد خلق الجواهر خلق الأعراض لكون الجوهر لا يستغني عنه وما لا يستغني عن الحوادث فهو حادث . والجوهر في اصطلاح المتكلمين هو الجزء الذي لا يتجزأ الحامل للعرض ، وقد أتينا على ذكره في الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى في اسمه " الواحد " ، وسمي العرض عرضا ، لأنه يعرض في الجسم والجوهر فيتغير به من حال إلى حال ، والجسم هو المجتمع ، وأقل ما يقع عليه اسم الجسم جوهران مجتمعان ، وهذه الاصطلاحات وإن لم تكن موجودة في الصدر الأول فقد دل عليها معنى الكتاب والسنة ، فلا معنى لإنكارها ، وقد استعملها العلماء واصطلحوا عليها وبنوا عليها كلامهم ، وقتلوا بها خصومهم ، كما تقدم في البقرة . واختلف العلماء في المعنى المراد بالظلمات والنور ، فقال السدي وقتادة وجمهور المفسرين : المراد سواد الليل وضياء النهار ، وقال الحسن : الكفر والإيمان ، قال ابن عطية : وهذا خروج عن الظاهر .قلت : اللفظ يعمه ، وفي التنزيل : أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ، والأرض هنا اسم للجنس فإفرادها في اللفظ بمنزلة جمعها ، وكذلك والنور ومثله ثم يخرجكم طفلا وقال الشاعر :[ ص: 299 ]كلوا في بعض بطنكم تعفوا فإن زمانكم زمن خميصوقد تقدم وجعل هنا بمعنى خلق لا يجوز غيره قاله ابن عطية .قلت : وعليه يتفق اللفظ والمعنى في النسق ، فيكون الجمع معطوفا على الجمع ، والمفرد معطوفا على المفرد ، فيتجانس اللفظ وتظهر الفصاحة ، والله أعلم ، وقيل : جمع الظلمات ووحد النور لأن الظلمات لا تتعدى والنور يتعدى ، وحكى الثعلبي أن بعض أهل المعاني قال : جعل هنا زائدة والعرب تزيد " جعل " في الكلام كقول الشاعر :وقد جعلت أرى الاثنين أربعة والواحد اثنين لما هدني الكبرقال النحاس : جعل بمعنى خلق وإذا كانت بمعنى خلق لم تتعد إلا إلى مفعول واحد . وقد تقدم هذا المعنى ، ومحامل ( جعل ) في " البقرة " مستوفى .الخامسة : قوله تعالى : ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ابتداء وخبر ، والمعنى : ثم الذين كفروا يجعلون لله عدلا وشريكا ، وهو الذي خلق هذه الأشياء وحده ، قالابن عطية : ف ( ثم ) دالة على قبح فعل الكافرين لأن المعنى : أن خلقه السماوات والأرض قد تقرر وآياته قد سطعت ، وإنعامه بذلك قد تبين ، ثم بعد ذلك كله عدلوا بربهم ، فهذا كما تقول : يا فلان ، أعطيتك وأكرمتك وأحسنت إليك ثم تشتمني ، ولو وقع العطف بالواو في هذا ونحوه لم يلزم التوبيخ كلزومه بثم ، والله أعلم .
تَنْوِيرُ ٱلْمِقْبَاسِ مِن تَفْسِيرِ ٱبْنِ عَبَّاس
Tafsir Tanwir al-Miqbas —
حضرت ابن عباسؓ
جملة { الحمد لله } تفيد استحقاق الله تعالى الحمد وحده دون غيره لأنّها تدلّ على الحصر . واللام لتعريف الجنس ، فدلّت على انحصار استحقاق هذا الجنس لله تعالى . وقد تقدّم بيان ذلك مستوفى في أول سورة الفاتحة .ثم إنّ جملة { الحمد لله } هنا خبر لفظاً ومعنىً إذ ليس هنا ما يصرف إلى قصد إنشاء الحمد بخلاف ما في سورة الفاتحة لأنّه عقّب بقوله : { إيّاك نعبد } [ الفاتحة : 5 ] إلى آخر السورة ، فمن جوّز في هذه أن تكون إنشاء معنى لم يُجد التأمّل .فالمعنى هنا أنّ الحمد كُلّه لا يستحقّه إلاّ الله ، وهذا قصر إضافي للردّ على المشركين الذين حمدوا الأصنام على ما تخيّلوه من إسدائها إليهم نعماً ونصراً وتفريج كربات ، فقد قال أبو سفيان حين انتصر هو وفريقه يوم أحُد : أعلُ هُبل لنا العُزّى ولا عُزّى لكم . ويجوز أن يكون قصراً حقيقياً على معنى الكمال وأنّ حمد غيره تعالى من المنعمين تسامح لأنّه في الحقيقة واسطة صورية لجريان نعمة الله على يديه ، والمقصود هو هو ، وهو الردّ على المشركين ، لأنّ الأصنام لا تستحقّ الحمد الصوري بله الحقيقي كما قال إبراهيم عليه السلام «لمَ نعْبُدُ ما لا يسمع ولا يُبْصر ولا يُغْني عنك شيئاً» . ولذلك عقّبت جملة الحمد على عظيم خلق الله تعالى بجملة { ثم الذين كفروا بربّهم يعدلون }.والموصول ، في محلّ الصفة لاسم الجلالة ، أفاد مع صلته التذكير بعظيم صفة الخلق الذي عمّ السماوات والأرض وما فيهنّ من الجواهر والأعراض . وذلك أوجز لفظ في استحضار عظمة قدرة الله تعالى . وليس في التعريف بالموصولية هنا إيذان بتعليل الجملة التي ذكرت قبله ، إذ ليست الجملة إنشائية كما علمت . والجملة الخبرية لا تعلّل ، لأنّ الخبر حكاية ما في الواقع فلا حاجة لتعليله . فالمقصود من الأوصاف التمهيد لقوله بعدُ { ثم الذين كفروا بربّهم يعدلون }.وجمع : { السماوات } لأنّها عوالم كثيرة ، إذ كلّ كوكب منها عالم مستقلّ عن غيره ، ومنها الكواكب السبعة المشهورة المعبّر عنها في القرآن بالسماوات السبع فيما نرى . وأفرد الأرض لأنّها عالم واحد ، ولذلك لم يجيء لفظ الأرض في القرآن جمعاً .وقوله : { وجعل الظلمات والنور } أشار في «الكشاف» أنّ ( جعلَ ) إذا تعدّى إلى مفعول واحد فهو بمعنى أحدث وأنشأ فيقارب مرادفة معنى ( خلق ). والفرق بينه وبين ( خلق ) ؛ فإنّ في الخلق ملاحظة معنى التقدير ، وفي الجعل ملاحظة معنى الانتساب ، يعني كون المجعول مخلوقاً لأجل غيره أو منتسباً إلى غيره ، فيعْرف المنتسب إليه بمعونة المقام . فالظلمات والنور لمّا كانا عرضين كان خلقهما تكويناً لتُكيَّف موجودات السماوات والأرض بهما . ويعرف ذلك بذكر { الظلمات والنور } عقب ذكر { السماوات والأرض } ، وباختيار لفظ الخلق للسماوات والأرض ، ولفظ الجعل للظلمات والنور ، ومنه قوله تعالى :{ هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها } [ الأعراف : 189 ] فإنّ الزوج وهو الأنثى مراعى في إيجاده أن يكون تكملة لخلق الذكر ، ولذلك عقّبه بقوله : { ليسكن إليها } [ الأعراف : 189 ] والخلق أعمّ في الإطلاق ولذلك قال تعالى في آية أخرى { يأيها النّاس اتّقوا ربّكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها } [ النساء : 1 ] لأنّ كلّ تكوين لا يخلو من تقدير ونظام .وخَصّ بالذكر من الجواهر والأعراض عرضين عظيمين ، وهما : الظلمات والنور فقال { وجعل الظلمات والنور } لاستواء جميع الناس في إدراكهما والشعور بهما . وبذكر هذه الأمور الأربعة حصلت الإشارة إلى جنسي المخلوقات من جواهر وأعراض . فالتفرقة بين فعل ( خلق ) وفعل ( جعل ) هنا معدود من فصاحة الكلمات . وإنّ لكلّ كلمة مع صاحبتها مقاماً ، وهو ما يسمّى في عرف الأدباء برشاقة الكلمة ففعل ( خلق ) ألْيق بإيجاد الذوات ، وفعل ( جعل ) أليق بإيجاد أعراض الذوات وأحوالها ونظامها .والاقتصار في ذكر المخلوقات على هذه الأربعة تعريض بإبطال عقائد كفار العرب فإنّهم بين مشركين وصابئة ومجوس ونصارى ، وكلّهم قد أثبتوا آلهة غير الله؛ فالمشركون أثبتوا آلهة من الأرض ، وَالصابئة أثبتوا آلهة من الكواكب السماوية ، والنصارى أثبتوا إلهية عيسى أو عيسى ومريم وهما من الموجودات الأرضية ، والمجوس وهم المانوية ألّهوا النور والظلمة ، فالنور إله الخير والظلمة إله الشرّ عندهم . فأخبرهم الله تعالى أنّه خالق السماوات والأرض ، أي بما فيهم ، وخالق الظلمات والنور .ثم إنّ في إيثار الظلمات والنور بالذكر دون غيرهما من الأعراض إيماء وتعريضاً بحالِيْ المخاطبين بالآية من كفر فريق وإيمان فريق ، فإنّ الكفر يشبه الظلمة لأنّه انغماس في جهالة وحيرة ، والإيمان يشبه النور لأنّه استبانة الهدى والحقّ . قال تعالى : { يخرجهم من الظلمات إلى النور } [ البقرة : 257 ]. وقدّم ذكرالظلمات مراعاة للترتّب في الوجود لأنّ الظلمة سابقة النور ، فإنّ النور حصل بعد خلق الذوات المضيئة ، وكانت الظلمة عامّة . وإنّما جُمع { الظلمات } وأفرد { النور } اتّباعاً للاستعمال ، لأنّ لفظ ( الظلمات ) بالجمع أخفّ ، ولفظ ( النور ) بالإفراد أخفّ ، ولذلك لم يرد لفظ ( الظلمات ) في القرآن إلاّ جمعاً ولم يرد لفظ ( النور ) إلاّ مفرداً . وهما معاً دالاّن على الجنس ، والتعريف الجنسي يستوي فيه المفرد والجمع فلم يبق للاختلاف سبب لاتّباع الاستعمال ، خلافاً لما في «الكشاف» .{ ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ }.عُطفت جملة { ثم الذين كفروا بربّهم يعدلون } على جملة : { الحمد لله الذي خلق السماوات }.ف { ثم } للتراخي الرتبي الدالّ على أنّ ما بعدها يتضمّن معنى من نوع ما قبله ، وهو أهمّ في بابه . وذلك شأن ( ثم ) إذا وردت عاطفة جملة على أخرى ، فإنّ عدول المشركين عن عبادة الله مع علمهم بأنّه خالق الأشياء أمر غريب فيهم أعجب من علمهم بذلك .والحجّة ناهضة على الذين كفروا لأنّ جميعهم عدا المانوية يعترفون بأنّ الله هو الخالق والمدبّر للكون ، ولذلك قال الله تعالى :{ أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذّكّرون } [ النحل : 17 ].والخبر مستعمل في التعجيب على وجه الكناية بقرينة موقع { ثم } ودلالة المضارع على التجدّد ، فالتعجيب من شأن المشركين ظاهر وأمّا المانوية فالتعجيب من شأنهم في أنّهم لم يهتدوا إلى الخالق وعبدوا بعض مخلوقاته . فالمراد ب { الذين كفروا } كلّ من كفر بإثبات إله غير الله تعالى سواء في ذلك من جعل له شريكاً مثل مشركي العرب والصابئة ومن خصّ غير الله بالإلهية كالمانوية . وهذا المراد دلّت عليه القرينة وإن كان غالب عرف القرآن إطلاق الذين كفروا على المشركين .ومعنى { يعدلون } يُسوّون . والعدل : التسوية . تقول : عدلت فلاناً بفلان ، إذا سوّيته به ، كما تقدّم في قوله : { أو عَدْل ذلك صياماً } [ المائدة : 95 ] ، فقوله { بربّهم } متعلّق ب { يعدلون } ولا يصحّ تعليقه ب { الذين كفروا } لعدم الحاجة إلى ذلك . وحذف مفعول { يعدلون } ، أي يعدلون بربّهم غيره وقد علم كلّ فريق ماذا عدل بالله . والمراد يعدلونه بالله في الإلهيّة ، وإن كان بعضهم يعترف بأنّ الله أعظم كما كان مشركو العرب يقولون : لَبَّيك لا شريك لك إلاّ شريكاً هو لك تملكه وما ملك . وكما قالت الصابئة في الأرواح ، والنصارى في الابن والروح القدس .ومعنى العجيب عامّ في أحوال الذين ادّعوا الإلهيّة لغير الله تعالى سواء فيهم من كان أهلاً للاستدلال والنظر في خلق السماوات والأرض ومن لم يكن أهلاً لذلك ، لأنّ محلّ التعجيب أنّه يخلقهم ويخلق معبوداتهم فلا يهتدون إليه بل ويختلقون إلهيّة غيره . ومعلوم أنّ التعجيب من شأنهم متفاوت على حسب تفاوت كفرهم وضلالهم .
ٱلتَّفْسِيرُ ٱلْوَسِيط
Tafsir Al-Waseet —
علمائے جامعہ ازہر
افتتحت سورة الأنعام بتقرير الحقيقة الأولى فى كل دين ، وهى أن المستحق للحمد المطلق ، والثناء الكامل هو رب العالمين .والحمد : هو الثناء باللسان على الجميل الصادر عن اختيار من نعمة أو غيرها .وأل فى { الحمد } للاستغراق ، بمعنى أن المستحق لجميع المحامد ولكافة ألوان الثناء هو الله تعالى ، وإنما كان الحمد مقصورا فى الحقيقة على الله ، لأن كل ما يستحق أن يقابل بالثناء فهو صادر عنه ومرجعه إليه ، إذ هو الخالق لكل شىء ، وما يقدم إلى بعض الناس من حمد جزاء إحسانهم ، فهو فى الحقيقة حمد لله ، لأنه - سبحانه - هو الذى وفقهم لذلك ، وأعانهم عليه .وقد بين بعض المفسرين الحكمة فى ابتداء السورة الكريمة بقوله تعالى : { الحمد للَّهِ } كما بين الفرق بين المدح والحمد والشكر فقال : " اعلم أن المدح أعم من الحمد ، والحمد أعم من الشكر ، أما بيان أن المدح أعم من الحمد ، فلأن المدح يحصل للعاقل ولغير العاقل ، ألا ترى أنه كما يحسن مدح الرجل العاقل على أنواع فاضائله فكذلك قد يمدح اللؤلؤ لحسن شكله ، وأما الحمد فإنه لا يحصل إلا للفاعل المختار على ما يصدر منه من الإنعام والإحسان فثبت أن المدح أعم من الحمد ، وأما بيان أن الحمد أعم من الشكر فلأن الحمد عبارة عن تعظيم الفاعل لأجل ما صدر عنه من الإنعام سواء كان ذلك الإنعام واصلا إليك أو إلى غيرك ، وأما الشكر فهو عبارة عن تعظيمه لأجل إنعام وصل إليك فثبت بما ذكرنا أن المدح أعم من الحمد وهو أعم من الشكر . إذا عرفت هذا فنقول : إنما لم يقل المدح لله لأننا بينا أن المدح كما يحصل للفاعل المختار فقد يحصل لغيره . أما الحمد فإنه لا يحصل إلا للفاعل المختار ، فكان قوله الحمد لله تصريحا بأن المؤثر فى وجود هذا العالم فاعل مختار خلقه بالقدرة والمشيئة . وإنما لم يقل الشكر لله ، لأنا بينا أن الشكر عبارة عن تعظيمه بسبب إنعام صدر منه ووصل إليك ، وهذا مشعر بأن العبد إذا ذكر تعظيمه بسبب ما وصل إليه من النعمة ، فحينئذ يكون المطلوب الأصلى له وصول النعمة إليه وهذه درجة حقيرة فأما إذا قال بالحمد لله فهذا يدل على أن العبد حمده لأجل كونه مستحقا للحمد لا لخصوص أنه - تعالى - أوصل النعمة إليه ، فيكون الإخلاص أكمل ، واستغراق القلب فى مشاهدة نور الحق أتم ، وانقطاعه عما سوى الحق أقوى وأثبت " .هذا وفى القرآن الكريم خمس سور مكية اشتركت فى الافتتاح بتقرير أن الحمد لله وحده ، ولكن كان لكل سورة منهج خاص فى بيان أسباب ذلك الحمد .أما السورة الأولى فهى سورة الفاتحة التى تقول فى مطلعها { الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين } أى : أن الحمد لله وحده ، الذى ربى هذا العالم تربية خلقية أساسها الإيجاد والتصوير ، ورباه تربية عقلية أساسها منح قوة التفكير والإدراك ، كما أنه رباه تربية تشريعية قوامها الأحكام التى أوحى بها إلى رسله فتربط استحقاق الحمد لله بربوبيته للعالمين ، والربوبية المطلقة تنتظم التربية الخلقية جسمية وعقلية ، عن طريق الإيجاد والتصوير ، كما تنتظم التربية التشريعية التى أساسها الأحكام التى أوحها الله إلى أنبيائه ورسله .وتجىء بعد سورة الفاتحة فى الترتيب المصحفى سورة الأنعام فأثبتت أيضاً استحقاق الحمد لله وحده ، لأنه " خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ، فهى تهتم بالحديث عن نوع خاص من التربية ، وهو التربية الخلقية التى أساسها الخلق والإيجاد والتسوية والتصوير الحقيقى .ثم تجىء بعدهما سورة " الكهف " فتثبت أن الحمد لله ، لأنه { أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا } فتراها تهتم بإبراز التربية التشريعية التى تهذب الروح ، وتهدى الفكر .والسورة الرابعة التى افتتحت بإثبات أن { الحمد للَّهِ } هى سورة سبأ ، لأنه - سبحانه - { الحمد للَّهِ الذي لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَلَهُ الحمد فِي الآخرة وَهُوَ الحكيم الخبير } ثم تراها بعد ذلك زاخرة بالحديث عن أنواع التربية المطلقة التى تتجلى فى ارساء مظاهر علم الله الشامل ، وملكه المطلق ، وتدبيره المحكم وقدرته النافذة التى تجعله أهلا لكل حمد وثناء .أما السورة الخامسة فهى سورة فاطر ، فقد أثبتت فى مطلعها أن الحمد لله ، لأنه { فَاطِرِ السماوات والأرض جَاعِلِ الملائكة رُسُلاً أولي أَجْنِحَةٍ مثنى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الخلق مَا يَشَآءُ إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } والذى يقرا هذه السورة الكريمة بتدبير يراها تهتم بإبراز إثبات أن الحمد لله وحده عن طريق الجمع بين التربيتين الخلقية والتشريعية فهى تذكر خلق السموات والأرض والجبال وتصريف الليل والنهار والشمس والقمر . كما تذكر أنواع الناس فى الانتفاع بوحى الله ، وبهدى أنبيائه ورسله .وهكذا نجد أن السور الخمس قد اشتركت فى أنها افتتحت بجملة { الحمد للَّهِ } وفى قصر الحمد والثناء عليه وحده . إلا أن كل واحدة منها قد سلكت منهجا خاصا فى تقرير هذه الحقيقة ، وفى إقامة الأدلة على صدقها .وقد أحسن القرطبى عندما قال : " فإن قيل : قد افتتح غيرها - أى سورة الأنعام - بالحمد لله فكان الاجتزاء بواحدة يغنى عن سائره فيقال : لأن لكل واحدة منه معنى فى موضعه ، لا يؤدى عن غيره من أجل عقده بالنعم المختلفة ، وأيضاً فلما فيه من الحجة فى هذا الموضع على الذين هم بربهم يعدلون " .ثم بين القرآن بعد ذلك الأسباب التى تحمل العقلاء على أن يجعلوا حمدهم كله لله - تعالى - فقال :{ الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَجَعَلَ الظلمات والنور } .والمعنى : الحمد كله لله الذى أنشأ بقدرته هذه العوالم العلوية والسفلية ، وأوجد ما فيها من مخلوقات ناطقة وصامتة ، وظاهرة وخافية ، وأحدث ما يتعاقب عليها من تحولات وتقلبات ونور وظلمات . فالجملة الكريمة قد اشتملت على صفتين من صفات الله - تعالى - تثبتان وجوب استحقاق الحمد الكامل لله - عز وجل - وهما خلق السموات والأرض ، وجعل الظلمات والنور .وعبر - سبحانه - فى جانب السموات والأرض بخلق ، وفى جانب الظلمات والنور بجعل ، لأن الخلق معناه هنا الإنشاء والإيجاد الابتدائي من العدم ، أما الجعل فيتضمن معنى تكوين شىء من شىء أو من أشياء ، فالظلمات تتولد من اختفاء الشمس عن الأرض ، والنور يتكون من بزوغ الشمس على الأرض ، وهذه التقلبات الكونية هى بتقدير الله العزيز العليم .قال صاحب الكشاف : " والفرق بين الخلق والجعل . أن الخلق فيه معنى التقدير ، وفى الجعل معنى التضمين ، كإنشاء شىء من شىء ، أو تصيير شىء شيئاً ، أو نقله من مكان إلى مكان ، ومن ذلك { وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } { وَجَعَلَ الظلمات والنور } ، لأن الظلمات من الأجرام المتكاثفة ، والنور من النار " .وقال الفخر الرازى : " وإنما حسن لفظ الجعل هنا ، لأن النور والظلمة لما تعاقبا صار كل واحد منهما كأنما تولد من الآخر " .وقال أبو السعود : " والجعل هنا هو الإنشاء والإبداع كالخلق ، خلا أن ذلك - أى الخلق - مختص بالإنشاء التكوينيى وفيه معنى التقدير والتسوية وهذا عام له كما فى الآية الكريمة والتشريعى أيضاً كما فى قوله - تعالى - { مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ } وقد وردت نصوص تصرح بأن الأرض سبع طبقات كالسموات . إلا أنها فى كثير من المواضع القرآنية تفرد - أى الأرض - وتجمع السماء كما هنا ، لعظم السماء . ولإحاطتها بالأرض ، ولأنه لم يعرف أن الله - تعالى - قد عصى فيها ، ولأن طبقاتها متمايزة ينفصل بعضها عن بعض ، بخلاف طبقات الأرض فإنها متصلة .والمراد بالظلمات هنا الظلمات الحسية ، كما أن المراد بالنور النور الحسى لأن اللفظ حقيقة فيهما ، ولأنهما إذا جعلا مقرونين بذكر السموات والأرض فإنه لا يفهم منهما إلا هاتان الكيفيتان المحسوستان ، ولأن القرآن يستشهد عليهم بمقتضى ما يعلمونه من تفرده بالخلق وهم يعلمون تفرده - سبحانه - بخلق هذه الأشياء .ويرى بعض المفسرين أن المراد بالظلمات ، ظلمات الشرك والكفر والنفاق ، وأن المراد بالنور ، نور الإيمان والإسلام واليقين ، وعلى هذا الرأى يكون المراد بهما معنويا لا حسيا .قال صاحب المنار : قال الواحدى : والأولى حمل اللفظين عليهما ، واستشكله الرازى لأنه مبنى على القول بجواز الجمع بين الحقيقة والمجاز ، والمختار عندنا جوازه ، وجواز استعمال المشترك فى معنييه أو معانيه إذا احتمل المقام ذلك بلا التباس كما هنا ، والتعبير بالجعل دون الخلق يلائم هذا فإن الجعل يشمل الخلق والأمر - أى الشرع - كما تقدم ، فيفسر جعل كل نور بما يليق به .وعبر القرآن فى جانب الظلمات بصيغة الجمع ، وفى جانب النور بالإفراد لأن النور واحد ومن نتائجه الكشف والظهور ، وتعدد أسبابه لا يغير حقيقته . أما الظلمة فإنها متنوعة بتنوع أسبابها ، فهناك ظلمة الليل ، وهناك ظلمة السجون ، وهناك ظلمة القبور ، وهناك ظلمة الغمام ، وهى تتغير حقائها بتغير أسبابها . ثم ثمة إشارة إلى أمر معنوى وهى أن ظلمة الإدراك تتعد حقائقها ، فهناك ظلمة الانحراف ، وظلمة الأهواء ، والشهوات وطمس القلوب .والنور واحد { وَأَنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فاتبعوه وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } فالنور فى هذا واحد .ثم بين - سبحانه - الموقف الجحودى الذى وقفه المشركون من قضية الألوهية فقال { ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } .العدل : المراد به هنا التسوية ، فقال : عدل الشىء بالشىء إذا سواه به والمعنى : أن الله - تعالى - هو الذى خلق السموات والأرض ، وهو الذى جعل الظلمات والنور ، فهو لذلك من حقه على خلقه أن يعبدوه وحده وأن يخصوه بالحمد والثناء ، ولكن المشركين مع كل هذه الدلائل الدالة على وحدانية الله وقدرته يساوون به غيره فى العبادة ، ويشركون معه آلهة أخرى لا تنفع ولا تضر .وهذه الجملة الكريمة معطوفة على جملة { الحمد للَّهِ } على معنى أن الله - تعالى - حقيق بالحمد على ما خلق من نعم ، وأوجد من كائنات ثم الذين كفروا يجحدون كل ذلك فيشركون معه آلهة أخرى .ويحتمل أن تكون معطوفة على جملة " خلق السموات والأرض " على معنى أن الله - تعالى - قد خلق الأشياء العظيمة التى لا يقدر عليها أحد سواه ، ثم إن المشركين بعد ذلك يعدلون به جماداً لا يقدر على شىء أصلا .وجاء العطف " بثم " لإفادة استبعاد واستقباح ما فعله الكافرون . فإنهم رغم البراهين الواضحة والدالة على وحدانية الله وقدرته ، قد نزلوا بمداركهم إلى الحضيض فسووا فى العبادة بين الخالق والمخلوق .قال القرطبى : قال ابن عطية : فثم دالة على قبح فعل الكافرين لأن المعنى أن خلق السموات والأرض قد تقرر ، وآياته قد سطعت ، وإنعامه بذلك قد تبين ، ثم بعد ذلك كله عدلوا بربهم ، فهذا كما تقول : يا فلان أعطيتك وأكرمتك وأحسنت إليك ثم تشتمنى! ولو وقع العطف بالواو فى هذا ونحوه لم يلزم التوبيخ كلزومه بثم " .
تَفْسِيرُ ٱلْبَغَوِيِّ
Tafsir al-Baghawi —
علامہ بغوی
مكية ، وهي مائة وخمس وستون آية ، نزلت بمكة [ جملة ] ليلا معها سبعون ألف ملك قد سدوا ما بين الخافقين ، لهم زجل بالتسبيح والتحميد والتمجيد ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " سبحان ربي العظيم سبحان ربي العظيم وخر ساجدا " .وروي مرفوعا : " من قرأ سورة الأنعام يصلي عليه أولئك السبعون ألف ملك ليله ونهاره " .وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت سورة الأنعام بمكة ، إلا قوله : " وما قدروا الله حق قدره " ، إلى آخر ثلاث آيات ، وقوله تعالى : " قل تعالوا أتل " ، إلى قوله : " لعلكم تتقون " ، فهذه الست آيات مدنيات .الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ( الحمد لله الذي خلق السموات والأرض ) قال كعب الأحبار : هذه الآية أول آية في التوراة ، وآخر آية في التوراة قوله : " الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا " الآية ( الإسراء - 111 ) .قال ابن عباس رضي الله عنهما : افتتح الله الخلق بالحمد ، فقال : ( الحمد لله الذي خلق السموات والأرض ) ، وختمه بالحمد فقال : ( وقضي بينهم بالحق ) ، أي : بين الخلائق ، ( وقيل الحمد لله رب العالمين ) [ الزمر - 75 ] .قوله : " الحمد لله " حمد الله نفسه تعليما لعباده ، أي : احمدوا الله الذي خلق السموات والأرض ، خصهما بالذكر لأنهما أعظم المخلوقات فيما يرى العباد ، وفيهما العبر والمنافع للعباد ، ( وجعل الظلمات والنور ) والجعل بمعنى الخلق ، قال الواقدي : كل ما في القرآن من الظلمات والنور فهو الكفر والإيمان ، إلا في هذه الآية فإنه يريد بهما الليل والنهار .وقال الحسن : وجعل الظلمات والنور يعني الكفر والإيمان ، وقيل : أراد بالظلمات الجهل وبالنور العلم .وقال قتادة : يعني الجنة والنار .وقيل : معناه خلق الله السموات والأرض ، وقد جعل الظلمات والنور ، لأنه خلق الظلمة والنور قبل السموات والأرض .قال قتادة : خلق الله السموات قبل الأرض ، والظلمة قبل النور ، والجنة قبل النار ، وروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله تعالى خلق الخلق فى ظلمة ، ثم ألقى عليهم من نوره ، فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل " .( ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ) أي : ثم الذين كفروا بعد هذا البيان بربهم يعدلون ، أي : يشركون ، وأصله من مساواة الشيء بالشيء ، ومنه العدل ، أي : يعدلون بالله غير الله تعالى ، يقال : عدلت هذا بهذا إذا ساويته ، وبه قال النضر بن شميل ، الباء بمعنى عن ، أي : عن ربهم يعدلون ، أي يميلون وينحرفون من العدول ، قال الله تعالى ( عينا يشرب بها عباد الله ) أي : منها .وقيل : تحت قوله " ثم الذين كفروا بربهم يعدلون " معنى لطيف ، وهو مثل قول القائل : أنعمت عليكم بكذا وتفضلت عليكم بكذا ، ثم تكفرون بنعمتي .