تَفْسِيرُ ٱلْمُيَسَّر
Tafsir Al-Muyassar —
کنگ فہد قرآن کمپلیکس
والله سبحانه وتعالى هو الذي أوجد لكم بساتين: منها ما هو مرفوع عن الأرض كالأعناب، ومنها ما هو غير مرفوع، ولكنه قائم على سوقه كالنخل والزرع، متنوعًا طعمه، والزيتون والرمان متشابهًا منظره، ومختلفًا ثمره وطعمه. كلوا -أيها الناس- مِن ثمره إذا أثمر، وأعطوا زكاته المفروضة عليكم يوم حصاده وقطافه، ولا تتجاوزوا حدود الاعتدال في إخراج المال وأكل الطعام وغير ذلك. إنه تعالى لا يحب المتجاوزين حدوده بإنفاق المال في غير وجهه.
تَفْسِيرُ ٱلْجَلَالَيْنِ
Tafsir al-Jalalayn —
جلال الدین محلی اور جلال الدین سیوطی
«وهو الذي أنشأ» خلق «جنات» بساتين «معروشات» مبسوطات على الأرض كالبطيخ «وغير معروشات» بأن ارتفعت على ساق كالنخل «و» أنشأ «النخل والزرع مختلفا أكلُهُ» ثمره وحبه في الهيئة والطعم «والزيتون والرمان متشابها» ورقهما حال «وغير متشابه» طعمهما «كلوا من ثمره إذا أثمر» قبل النضج «وآتوا حقه» زكاته «يوم حصاده» بالفتح والكسر من العشر أو نصفه «ولا تُسرفوا» بإعطاء كله فلا يبقى لعيالكم شيء «إنه لا يحب المسرفين» المتجاوزين ما حدَّ لهم.
تَفْسِيرُ ٱلْقُرْطُبِيِّ
Tafsir al-Qurtubi —
علامہ قرطبی
وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفينفيه ثلاث وعشرون مسألة :الأولى : قوله تعالى أنشأ أي خلق جنات معروشات أي بساتين ممسوكات مرفوعات .وغير معروشات غير مرفوعات . قال ابن عباس : معروشات : ما انبسط على الأرض مما يفرش مثل الكروم والزروع والبطيخ . وغير معروشات ما قام على ساق مثل النخل وسائر الأشجار . وقيل : المعروشات ما ارتفعت أشجارها . وأصل التعريش الرفع . وعن [ ص: 89 ] ابن عباس أيضا : المعروشات ما أثبته ورفعه الناس . وغير المعروشات ما خرج في البراري والجبال من الثمار . يدل عليه قراءة علي رضي الله عنه ( مغروسات وغير مغروسات ) بالغين المعجمة والسين المهملة .الثانية : قوله تعالى والنخل والزرع أفردهما بالذكر وهما داخلان في الجنات لما فيهما من الفضيلة ; على ما تقدم بيانه في " البقرة " عند قوله : من كان عدوا لله وملائكته الآية .مختلفا أكله يعني طعمه ، منه الجيد والدون . وسماه أكلا لأنه يؤكل . وأكله مرفوع بالابتداء . و مختلفا نعته ; ولكنه لما تقدم عليه وولي منصوبا نصب . كما تقول : عندي طباخا غلام . قال :الشر منتشر يلقاك عن عرض والصالحات عليها مغلقا بابوقيل : مختلفا نصب على الحال . قال أبو إسحاق الزجاج : وهذه مسألة مشكلة من النحو ; لأنه يقال : قد أنشأها ، ولم يختلف أكلها وهو ثمرها ; فالجواب أن الله سبحانه أنشأها بقوله : خالق كل شيء فأعلم أنه أنشأها مختلفا أكلها ; أي أنه أنشأها مقدرا فيه الاختلاف ; وقد بين هذا سيبويه بقوله : مررت برجل معه صقر صائدا به غدا ، على الحال ; كما تقول ; لتدخلن الدار آكلين شاربين ; أي مقدرين ذلك . جواب ثالث : أي لما أنشأه كان مختلفا أكله ، على معنى أنه لو كان له لكان مختلفا أكله . ولم يقل أكلهما ; لأنه اكتفى بإعادة الذكر على أحدهما ; كقوله : وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها أي إليهما . وقد تقدم هذا المعنى .الثالثة : قوله تعالى والزيتون والرمان عطف عليه متشابها وغير متشابه نصب على الحال ، وقد تقدم القول فيه . وفي هذه أدلة ثلاثة ; أحدها ما تقدم من قيام الدليل على أن المتغيرات لا بد لها من مغير . الثاني على المنة منه سبحانه علينا ; فلو شاء إذ خلقنا ألا يخلق لنا غذاء ، وإذا خلقه ألا يكون جميل المنظر طيب الطعم ، وإذ خلقه كذلك ألا يكون سهل الجني ; فلم يكن عليه أن يفعل ذلك ابتداء ; لأنه لا يجب عليه شيء . الثالث على القدرة في أن يكون الماء الذي من شأنه الرسوب يصعد بقدرة الله الواحد علام الغيوب من أسافل الشجرة إلى أعاليها ، حتى إذا انتهى إلى آخرها نشأ فيها أوراق ليست من جنسها ، وثمر خارج من صفته الجرم الوافر ، واللون الزاهر ، والجني الجديد ، والطعم اللذيذ ; فأين الطبائع وأجناسها ، وأين الفلاسفة وأناسها ، هل في قدرة الطبيعة أن تتقن هذا الإتقان ، أو ترتب هذا الترتيب العجيب ! [ ص: 90 ] كلا لا يتم ذلك في العقول إلا لحي عالم قدير مريد . فسبحان من له في كل شيء آية ونهاية ! .ووجه اتصال هذا بما قبله أن الكفار لما افتروا على الله الكذب وأشركوا معه وحللوا وحرموا دلهم على وحدانيته بأنه خالق الأشياء ، وأنه جعل هذه الأشياء أرزاقا لهم .الرابعة قوله تعالى كلوا من ثمره إذا أثمر فهذان بناءان جاءا بصيغة افعل ، أحدهما مباح كقوله : فانتشروا في الأرض والثاني واجب . وليس يمتنع في الشريعة اقتران المباح والواجب ، وبدأ بذكر نعمة الأكل قبل الأمر بإيتاء الحق ليبين أن الابتداء بالنعمة كان من فضله قبل التكليف .الخامسة قوله تعالى وآتوا حقه يوم حصاده اختلف الناس في تفسير هذا الحق ما هو ; فقال أنس بن مالك وابن عباس وطاوس والحسن وابن زيد وابن الحنفية والضحاك وسعيد بن المسيب : هي الزكاة المفروضة ، العشر ونصف العشر . ورواه ابن وهب وابن القاسم عن مالك في تفسير الآية ، وبه قال بعض أصحاب الشافعي . وحكى الزجاج أن هذه الآية قيل فيها إنها نزلت بالمدينة . وقال علي بن الحسين وعطاء والحكم وحماد وسعيد بن جبير ومجاهد : هو حق في المال سوى الزكاة ، أمر الله به ندبا . وروي عن ابن عمر ومحمد ابن الحنفية أيضا ، ورواه أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم . قال مجاهد : إذا حصدت فحضرك المساكين فاطرح لهم من السنبل ، وإذا جذذت فألق لهم من الشماريخ ، وإذا درسته ودسته وذريته فاطرح لهم منه ، وإذا عرفت كيله فأخرج منه زكاته . وقول ثالث : هو منسوخ بالزكاة ; لأن هذه السورة مكية وآية الزكاة لم تنزل إلا بالمدينة : خذ من أموالهم صدقة ، وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة . روي عن ابن عباس وابن الحنفية والحسن وعطية العوفي والنخعي [ ص: 91 ] وسعيد بن جبير . وقال سفيان : سألت السدي عن هذه الآية فقال . نسخها العشر ونصف العشر . فقلت عمن ؟ فقال عن العلماء .السادسة : وقد تعلق أبو حنيفة بهذه الآية وبعموم ما في قوله عليه السلام : فيما سقت السماء العشر وفيما سقي بنضح أو دالية نصف العشر في إيجاب الزكاة في كل ما تنبت الأرض طعاما كان أو غيره . وقال أبو يوسف عنه : إلا الحطب والحشيش والقضب والتين والسعف وقصب الذريرة وقصب السكر . وأباه الجمهور ، معولين على أن المقصود من الحديث بيان ما يؤخذ منه العشر وما يؤخذ منه نصف العشر . قال أبو عمر : لا اختلاف بين العلماء فيما علمت أن الزكاة واجبة في الحنطة والشعير والتمر والزبيب . وقالت طائفة : لا زكاة في غيرها . روي ذلك عن الحسن وابن سيرين والشعبي . وقال به من الكوفيين ابن أبي ليلى والثوري والحسن بن صالح وابن المبارك و يحيى بن آدم ، وإليه ذهب أبو عبيد . وروي ذلك عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو مذهب أبي موسى ، فإنه كان لا يأخذ الزكاة إلا من الحنطة والشعير والتمر والزبيب ; ذكره وكيع عن طلحة بن يحيى عن أبي بردة عن أبيه . وقال مالك وأصحابه : الزكاة واجبة في كل مقتات مدخر ; وبه قال الشافعي . وقال الشافعي : إنما تجب الزكاة فيما ييبس ويدخر ويقتات مأكولا . ولا شيء في الزيتون لأنه إدام . وقال أبو ثور مثله . وقال أحمد أقوالا أظهرها أن الزكاة إنما تجب في كل ما قاله أبو حنيفة إذا كان يوسق ; فأوجبها في اللوز لأنه مكيل دون الجوز لأنه معدود . واحتج بقوله عليه السلام : ليس فيما دون خمسة أوسق من تمر أو حب صدقة قال : فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن محل الواجب هو الوسق ، وبين المقدار الذي يجب إخراج الحق منه . وذهب النخعي إلى أن الزكاة واجبة في كل ما أخرجته الأرض ، حتى في عشر دساتج من بقل دستجة بقل . وقد اختلف عنه في ذلك ، وهو قول عمر بن عبد العزيز فإنه كتب أن يؤخذ مما تنبت الأرض من قليل أو كثير العشر ; ذكره عبد الرزاق عن معمر عن سماك بن الفضل ، قال : كتب عمر . . . ; فذكره . وهو قول حماد بن أبي سليمان وتلميذه أبي حنيفة . وإلى هذا مال ابن العربي في أحكامه فقال : وأما أبو حنيفة [ ص: 92 ] فجعل الآية مرآته فأبصر الحق ، وأخذ يعضد مذهب الحنفي ويقويه . وقال في كتاب " القبس بما عليه الإمام مالك بن أنس " فقال : قال الله تعالى : والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه . واختلف الناس في وجوب الزكاة في جميع ما تضمنته أو بعضه ، وقد بينا ذلك في " الأحكام " لبابه أن الزكاة إنما تتعلق بالمقتات كما بينا دون الخضراوات ; وقد كان بالطائف الرمان والفرسك والأترج فما اعترضه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا ذكره ولا أحد من خلفائه . قلت : هذا وإن لم يذكره في الأحكام هو الصحيح في المسألة ، وأن الخضراوات ليس فيها شيء . وأما الآية فقد اختلف فيها ، هل هي محكمة أو منسوخة أو محمولة على الندب . ولا قاطع يبين أحد محاملها ، بل القاطع المعلوم ما ذكره ابن بكير في أحكامه : أن الكوفة افتتحت بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وبعد استقرار الأحكام في المدينة ، أفيجوز أن يتوهم متوهم أو من له أدنى بصيرة أن تكون شريعة مثل هذه عطلت فلم يعمل بها في دار الهجرة ومستقر الوحي ولا في خلافة أبي بكر ، حتى عمل بذلك الكوفيون ؟ إن هذه لمصيبة فيمن ظن هذا وقال به ! قلت : ومما يدل على هذا من معنى التنزيل قوله تعالى : ياأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته أتراه يكتم شيئا أمر بتبليغه أو ببيانه ؟ حاشاه عن ذلك وقال تعالى : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ومن كمال الدين كونه لم يأخذ من الخضراوات شيئا . وقال جابر بن عبد الله فيما رواه الدارقطني : إن المقاثئ كانت تكون عندنا تخرج عشرة آلاف فلا يكون فيها شيء . وقال الزهري والحسن : تزكى أثمان الخضر إذا بيعت وبلغ الثمن مائتي درهم ; وقاله الأوزاعي في ثمن الفواكه . ولا حجة في قولهما لما ذكرنا . وقد روى الترمذي عن معاذ أنه كتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن الخضراوات وهي البقول فقال : ليس فيها شيء . وقد روي هذا المعنى عن جابر وأنس وعلي [ ص: 93 ] ومحمد بن عبد الله بن جحش وأبي موسى وعائشة . ذكر أحاديثهم الدارقطني رحمه الله . قال الترمذي : ليس يصح في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء . واحتج بعض أصحاب أبي حنيفة بحديث صالح بن موسى عن منصور عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فيما أنبتت الأرض من الخضر زكاة . قال أبو عمر : وهذا حديث لم يروه من ثقات أصحاب منصور أحد هكذا ، وإنما هو من قول إبراهيم . قلت : وإذا سقط الاستدلال من جهة السنة لضعف أسانيدها فلم يبق إلا ما ذكرناه من تخصيص عموم الآية ، وعموم قوله عليه السلام : فيما سقت السماء العشر بما ذكرنا . وقال أبو يوسف ومحمد : ليس في شيء من الخضر زكاة إلا ما كانت له ثمرة باقية ، سوى الزعفران ونحوه مما يوزن ففيه الزكاة . وكانمحمد يعتبر في العصفر والكتان البزر ، فإذا بلغ بزرهما من القرطم والكتان خمسة أوسق كان العصفر والكتان تبعا للبزر ، وأخذ منه العشر أو نصف العشر . وأما القطن فليس فيه عنده دون خمسة أحمال شيء ; والحمل ثلاثمائة من بالعراقي . والورس والزعفران ليس فيما دون خمسة أمنان منها شيء . فإذا بلغ أحدهما خمسة أمنان كانت فيه الصدقة ، عشرا أو نصف العشر . وقال أبو يوسف : وكذلك قصب السكر الذي يكون منه السكر ، ويكون في أرض العشر دون أرض الخراج ، فيه ما في الزعفران . وأوجب عبد الملك بن الماجشون الزكاة في أصول الثمار دون البقول . وهذا خلاف ما عليه مالك وأصحابه ، لا زكاة عندهم لا في اللوز ولا في الجوز ولا في الجلوز وما كان مثلها ، وإن كان ذلك يدخر . كما أنه لا زكاة عندهم في الإجاص ولا في التفاح ولا في الكمثرى ، ولا ما كان مثل ذلك كله مما لا ييبس ولا يدخر . واختلفوا في التين ; والأشهر عند أهل المغرب ممن يذهب مذهب مالك أنه لا زكاة عندهم في التين . إلا عبد الملك بن حبيب فإنه كان يرى فيه الزكاة على مذهب مالك ، قياسا على التمر والزبيب . وإلى هذا ذهب جماعة من أهل العلم البغداديين المالكيين ، إسماعيل بن إسحاق ومن اتبعه . قال مالك في الموطأ : السنة التي لا اختلاف فيها عندنا ، والذي سمعته من أهل العلم ، أنه ليس في شيء من الفواكه كلها صدقة : الرمان والفرسك والتين وما أشبه ذلك . وما لم يشبهه إذا كان من الفواكه . قال أبو عمر : فأدخل التين في هذا الباب ، وأظنه - والله أعلم - لم يعلم بأنه ييبس ويدخر ويقتات ، ولو علم ذلك ما أدخله في هذا الباب ; لأنه أشبه بالتمر والزبيب منه بالرمان . وقد بلغني عن الأبهري وجماعة [ ص: 94 ] من أصحابه أنهم كانوا يفتون بالزكاة فيه ، ويرونه مذهب مالك على أصوله عندهم . والتين مكيل يراعى فيه الخمسة الأوسق وما كان مثلها وزنا ، ويحكم في التين عندهم بحكم التمر والزبيب المجتمع عليهما . وقال الشافعي : لا زكاة في شيء من الثمار غير التمر والعنب ; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الصدقة منهما وكانا قوتا بالحجاز يدخر . قال : وقد يدخر الجوز واللوز ولا زكاة فيهما ; لأنهما لم يكونا بالحجاز قوتا فيما علمت ، وإنما كانا فاكهة . ولا زكاة في الزيتون ، لقوله تعالى : والزيتون والرمان . فقرنه مع الرمان ، ولا زكاة فيه . وأيضا فإن التين أنفع منه في القوت ولا زكاة فيه . وللشافعي قول بزكاة الزيتون قاله بالعراق ، والأول قاله بمصر ; فاضطرب قول الشافعي في الزيتون ، ولم يختلف فيه قول مالك . فدل على أن الآية محكمة عندهما غير منسوخة . واتفقا جميعا على أن لا زكاة في الرمان ، وكان يلزمهما إيجاب الزكاة فيه . قال أبو عمر : فإن كان الرمان خرج باتفاق فقد بان بذلك المراد بأن الآية ليست على عمومها ، وكان الضمير عائدا على بعض المذكور دون بعض . والله أعلم . قلت : بهذا استدل من أوجب العشر في الخضراوات فإنه تعالى قال : وآتوا حقه يوم حصاده والمذكور قبله الزيتون والرمان ، والمذكور عقيب جملة ينصرف إلى الأخير بلا خلاف ; قاله إلكيا الطبري . وروي عن ابن عباس أنه قال : ما لقحت رمانة قط إلا بقطرة من ماء الجنة . وروي عن علي كرم الله وجهه أنه قال : إذا أكلتم الرمانة فكلوها بشحمها فإنه دباغ المعدة . وذكر ابن عساكر في تاريخ دمشق عن ابن عباس قال : لا تكسروا الرمانة من رأسها فإن فيها دودة يعتري منها الجذام . وسيأتي منافع زيت الزيتون في سورة المؤمنون إن شاء الله تعالى . وممن قال بوجوب زكاة الزيتون الزهري والأوزاعي والليث والثوري وأبو حنيفة وأصحابه وأبو ثور . قال الزهري والأوزاعي والليث : يخرص زيتونا ويؤخذ زيتا صافيا . وقال مالك : لا يخرص ، ولكن يؤخذ العشر بعد أن يعصر ويبلغ كيله خمسة أوسق . وقال أبو حنيفة والثوري : يؤخذ من حبه .السابعة قوله تعالى : يوم حصاده قرأ أبو عمرو وابن عامر وعاصم حصاده بفتح الحاء ، والباقون بكسرها ، وهما لغتان مشهورتان ; ومثله الصرام والصرام والجذاذ والجذاذ والقطاف والقطاف واختلف العلماء في وقت الوجوب على ثلاثة أقوال : الأول : أنه وقت الجذاذ ; قاله محمد بن مسلمة ; لقوله تعالى : يوم حصاده .الثاني : يوم الطيب ; لأن ما قبل الطيب يكون علفا لا قوتا ولا طعاما ; فإذا طاب وحان [ ص: 95 ] الأكل الذي أنعم الله به وجب الحق الذي أمر الله به ، إذ بتمام النعمة يجب شكر النعمة ، ويكون الإيتاء وقت الحصاد لما قد وجب يوم الطيب . الثالث : أنه يكون بعد تمام الخرص ; لأنه حينئذ يتحقق الواجب فيه من الزكاة فيكون شرطا لوجوبها . أصله مجيء الساعي في الغنم ; وبه قال المغيرة . والصحيح الأول لنص التنزيل . والمشهور من المذهب : الثاني ، وبه قال الشافعي . وفائدة الخلاف إذا مات بعد الطيب زكيت على ملكه ، أو قبل الخرص على ورثته . وقال محمد بن مسلمة : إنما قدم الخرص توسعة على أرباب الثمار ، ولو قدم رجل زكاته بعد الخرص وقبل الجذاذ لم يجزه ; لأنه أخرجها قبل وجوبها . وقد اختلف العلماء في القول بالخرص ، وهي :الثامنة : فكرهه الثوري ولم يجزه بحال ، وقال : الخرص غير مستعمل . قال : وإنما على رب الحائط أن يؤدي عشر ما يصير في يده للمساكين إذا بلغ خمسة أوسق . وروى الشيباني عن الشعبي أنه قال : الخرص اليوم بدعة . والجمهور على خلاف هذا ، ثم اختلفوا فالمعظم على جوازه في النخل والعنب ; لحديث عتاب بن أسيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه وأمره أن يخرص العنب كما يخرص النخل وتؤخذ زكاته زبيبا كما تؤخذ زكاة النخل تمرا . رواه أبو داود . وقال داود بن علي : الخرص للزكاة جائز في النخل ، وغير جائز في العنب ; ودفع حديث عتاب بن أسيد لأنه منقطع ولا يتصل من طريق صحيح ، قاله أبو محمد عبد الحق .التاسعة : وصفة الخرص أن يقدر ما على نخله رطبا ويقدر ما ينقص لو يتمر ، ثم يعتد بما بقي بعد النقص ويضيف بعض ذلك إلى بعض حتى يكمل الحائط ، وكذلك في العنب في كل دالية .العاشرة : ويكفي في الخرص الواحد كالحاكم . فإذا كان في التمر زيادة على ما خرص لم يلزم رب الحائط الإخراج عنه ، لأنه حكم قد نفذ ; قاله عبد الوهاب . وكذلك إذا نقص لم تنقص الزكاة . قال الحسن : كان المسلمون يخرص عليهم ثم يؤخذ منهم على ذلك الخرص .الحادية عشرة : فإن استكثر رب الحائط الخرص خيره الخارص في أن يعطيه ما خرص وأخذ خرصه ; ذكره عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج عن أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول : خرص ابن رواحة أربعين ألف وسق ، وزعم أن اليهود لما خيرهم أخذوا التمر وأعطوه عشرين ألف وسق . قال ابن جريج فقلت لعطاء : فحق على الخارص إذا استكثر سيد المال [ ص: 96 ] الخرص أن يخيره كما خير ابن رواحة اليهود ؟ قال : أي لعمري ! وأي سنة خير من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .الثانية عشرة : ولا يكون الخرص إلا بعد الطيب ; لحديث عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث ابن رواحة إلى اليهود فيخرص عليهم النخل حين تطيب أول التمرة قبل أن يؤكل منها ، ثم يخير يهودا يأخذونها بذلك الخرص أو يدفعونها إليه . وإنما كان أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخرص لكي تحصى الزكاة قبل أن تؤكل الثمار وتفرق . أخرجه الدارقطني من حديث ابن جريج عن الزهري عن عروة عن عائشة . قال : ورواه صالح بن أبي الأخضر عن الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة ، وأرسله مالك ومعمر وعقيل عن الزهري عن سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم .الثالثة عشرة : فإذا خرص الخارص فحكمه أن يسقط من خرصه مقدارا ما ; لما رواه أبو داود والترمذي والبستي في صحيحه عن سهل بن أبي حثمة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول : إذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع . لفظ الترمذي . قال أبو داود : الخارص يدع الثلث للخرفة : وكذا قال يحيى القطان . وقال أبو حاتم البستي : لهذا الخبر صفتان : أحدهما أن يترك الثلث أو الربع من العشر ، والثاني أن يترك ذلك من نفس التمر قبل أن يعشر ، إذا كان ذلك حائطا كبيرا يحتمله . الخرفة بضم الخاء : ما يخترف من النخل حين يدرك ثمره ، أي يجتنى . يقال : التمر خرفة الصائم ; عن الجوهري والهروي . والمشهور من مذهب مالك أنه لا يترك الخارص شيئا في حين خرصه من تمر النخل والعنب إلا خرصه . وقد روى بعض المدنيين أنه يخفف في الخرص ويترك للعرايا والصلة ونحوها .الرابعة عشرة : فإن لحقت الثمرة جائحة بعد الخرص وقبل الجذاذ سقطت الزكاة عنه بإجماع من أهل العلم ، إلا أن يكون فيما بقي منه خمسة أوسق فصاعدا .الخامسة عشرة : ولا زكاة في أقل من خمسة أوسق ، كذا جاء مبينا عن النبي صلى الله عليه وسلم . وهو [ ص: 97 ] في الكتاب مجمل ، قال الله تعالى : ياأيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض . وقال تعالى : وآتوا حقه . ثم وقع البيان بالعشر ونصف العشر . ثم لما كان المقدار الذي إذا بلغه المال أخذ منه الحق مجملا بينه أيضا فقال : ليس فيما دون خمسة أوسق من تمر أو حب صدقة وهو ينفي الصدقة في الخضراوات ، إذ ليست مما يوسق ; فمن حصل له خمسة أوسق في نصيبه من تمر أو حب وجبت عليه الزكاة ، وكذلك من زبيب ; وهو المسمى بالنصاب عند العلماء . يقال : وسق ووسق " بكسر الواو وفتحها " وهو ستون صاعا ، والصاع أربعة أمداد ، والمد رطل وثلث بالبغدادي ومبلغ الخمسة الأوسق من الأمداد ألف مد ومائتا مد ، وهي بالوزن ألف رطل وستمائة رطل .السادسة عشرة : ومن حصل له من تمر وزبيب معا خمسة أوسق لم تلزمه الزكاة إجماعا ; لأنهما صنفان مختلفان . وكذلك أجمعوا على أنه لا يضاف التمر إلى البر ولا البر إلى الزبيب ; ولا الإبل إلى البقر ، ولا البقر إلى الغنم . ويضاف الضأن إلى المعز بإجماع . واختلفوا في ضم البر إلى الشعير والسلت .السابعة عشرة : فأجازه مالك في هذه الثلاثة خاصة فقط ; لأنها في معنى الصنف الواحد لتقاربها في المنفعة واجتماعها في المنبت والمحصد ، وافتراقها في الاسم لا يوجب افتراقها في الحكم كالجواميس والبقر ، والمعز والغنم . وقال الشافعي وغيره : لا يجمع بينها ; لأنها أصناف مختلفة ، وصفاتها متباينة ، وأسماؤها متغايرة ، وطعمها مختلف ; وذلك يوجب افتراقها . والله أعلم . قال مالك والقطاني : كلها صنف واحد ، يضم إلى بعض . وقال الشافعي : لا تضم حبة عرفت باسم منفرد دون صاحبتها ، وهي خلافها مباينة في الخلقة والطعم إلى غيرها . ويضم كل صنف بعضه إلى بعض ، رديئه إلى جيده ; كالتمر وأنواعه ، والزبيب أسوده وأحمره ، والحنطة وأنواعها من السمراء وغيرها . وهو قول الثوري وأبي حنيفة وصاحبيه أبي يوسف ومحمد أبي ثور . وقال الليث : تضم الحبوب كلها : القطنية وغيرها بعضها إلى بعض في الزكاة . وكان أحمد بن حنبل يجبن عن ضم الذهب إلى الورق ، وضم الحبوب بعضها إلى بعض ، ثم كان في آخر أمره يقول فيها بقول الشافعي .الثامنة عشرة : قال مالك : وما استهلكه منه ربه بعد بدو صلاحه أو بعدما أفرك حسب [ ص: 98 ] عليه ، وما أعطاه ربه منه في حصاده وجذاذه ، ومن الزيتون في التقاطه ، تحرى ذلك وحسب عليه . وأكثر الفقهاء يخالفونه في ذلك ، ولا يوجبون الزكاة إلا فيما حصل في يده بعد الدرس . قال الليث في زكاة الحبوب : يبدأ بها قبل النفقة ، وما أكل من فريك هو وأهله فلا يحسب عليه ، بمنزلة الرطب الذي يترك لأهل الحائط يأكلونه فلا يخرص عليهم . وقال الشافعي : يترك الخارص لرب الحائط ما يأكله هو وأهله رطبا ، لا يخرصه عليهم . وما أكله وهو رطب لم يحسب عليه . قال أبو عمر : احتج الشافعي ومن وافقه بقول الله تعالى : كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده . واستدلوا على أنه لا يحتسب بالمأكول قبل الحصاد بهذه الآية . واحتجوا بقوله عليه السلام : إذا خرصتم فدعوا الثلث فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع . وما أكلت الدواب والبقر منه عند الدرس لم يحسب منه شيء على صاحبه عند مالك وغيره .التاسعة عشرة : وما بيع من الفول والحمص والجلبان أخضر ; تحرى مقدار ذلك يابسا وأخرجت زكاته حبا . وكذا ما بيع من الثمر أخضر اعتبر وتوخي وخرص يابسا وأخرجت زكاته على ذلك الخرص زبيبا وتمرا . وقيل : يخرج من ثمنه .الموفية عشرين : وأما ما لا يتتمر من ثمر النخل ولا يتزبب من العنب كعنب مصر وبلحها ، وكذلك زيتونها الذي لا يعصر ، فقال مالك : تخرج زكاته من ثمنه ، لا يكلف غير ذلك صاحبه ، ولا يراعى فيه بلوغ ثمنه عشرين مثقالا أو مائتي درهم ، وإنما ينظر إلى ما يرى أنه يبلغه خمسة أوسق فأكثر . وقال الشافعي : يخرج عشره أو نصف عشره من وسطه تمرا إذا أكله أهله رطبا أو أطعموه .الحادية والعشرون : روى أبو داود عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى عليه وسلم : فيما سقت السماء والأنهار والعيون أو كان بعلا العشر ، وفيما سقي بالسواني أو النضح نصف العشر وكذلك إن كان يشرب سيحا فيه العشر . وهو الماء الجاري على وجه الأرض ; قاله ابن السكيت . ولفظ السيح مذكور في الحديث ، خرجه النسائي . فإن كان يشرب بالسيح لكن رب الأرض لا يملك ماء وإنما يكتريه له فهو كالسماء ; على المشهور من المذهب . ورأى أبو الحسن اللخمي أنه كالنضح ; فلو سقي مرة بماء السماء ومرة بدالية ; فقال مالك : ينظر إلى ما [ ص: 99 ] تم به الزرع وحيي وكان أكثر ; فيتعلق الحكم عليه . هذه رواية ابن القاسم عنه . وروى عنه ابن وهب : إذا سقي نصف سنة بالعيون ثم انقطع فسقي بقية السنة بالناضح فإن عليه نصف زكاته عشرا ، والنصف الآخر نصف العشر . وقال مرة : زكاته بالذي تمت به حياته . وقال الشافعي : يزكي كل واحد منهما بحسابه . مثاله أن يشرب شهرين بالنضح وأربعة بالسماء ; فيكون فيه ثلثا العشر لماء السماء وسدس العشر للنضح ! وهكذا ما زاد ونقص بحسابه . وبهذا كان يفتي بكار بن قتيبة . وقال أبو حنيفة وأبو يوسف : ينظر إلى الأغلب فيزكى ، ولا يلتفت إلى ما سوى ذلك . وروي عن الشافعي . قال الطحاوي : قد اتفق الجميع على أنه لو سقاه بماء المطر يوما أو يومين أنه لا اعتبار به ، ولا يجعل لذلك حصة ; فدل على أن الاعتبار بالأغلب ، والله أعلم .قلت : فهذه جملة من أحكام هذه الآية ، ولعل غيرنا يأتي بأكثر منها على ما يفتح الله له . وقد مضى في " البقرة " جملة من معنى هذه الآية ، والحمد لله .الثانية والعشرون : وأما قوله صلى الله عليه وسلم : ليس في حب ولا تمر صدقة فخرجه النسائي . قال حمزة الكناني : لم يذكر في هذا الحديث " في حب " غير إسماعيل بن أمية ، وهو ثقة قرشي من ولد سعيد بن العاص . قال : وهذه السنة لم يروها أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم من أصحابه غير أبي سعيد الخدري . قال أبو عمر : هو كما قال حمزة ، وهذه سنة جليلة تلقاها الجميع بالقبول ، ولم يروها أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجه ثابت محفوظ غير أبي سعيد . وقد روى جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك ، ولكنه غريب ، وقد وجدناه من حديث أبي هريرة بإسناد حسن .الثالثة والعشرون : قوله تعالى ولا تسرفوا الإسراف في اللغة الخطأ . وقال أعرابي أراد قوما : طلبتكم فسرفتكم ; أي أخطأت موضعكم . وقال الشاعر :وقال قائلهم والخيل تخبطهم أسرفتم فأجبنا أننا سرفوالإسراف في النفقة : التبذير . ومسرف لقب مسلم بن عقبة المري صاحب وقعة الحرة ; لأنه قد أسرف فيها . قال علي بن عبد الله بن العباس :هم منعوا ذماري يوم جاءت كتائب مسرف وبني اللكيعهوالمعنى المقصود من الآية : لا تأخذوا الشيء بغير حقه ثم تضعوه في غير حقه ; قاله أصبغ بن الفرج . ونحوه قول إياس بن معاوية : ما جاوزت به أمر الله فهو سرف وإسراف . وقال ابن زيد : هو خطاب للولاة ، يقول : لا تأخذوا فوق حقكم وما لا يجب على الناس . والمعنيان [ ص: 100 ] يحتملهما قوله عليه السلام : المعتدي في الصدقة كمانعها . وقال مجاهد : لو كان أبو قبيس ذهبا لرجل فأنفقه في طاعة الله لم يكن مسرفا ، ولو أنفق درهما أو مدا في معصية الله كان مسرفا . وفي هذا المعنى قيل لحاتم : لا خير في السرف ; فقال : لا سرف في الخير .قلت : وهذا ضعيف ; يرده ما روى ابن عباس أن ثابت بن قيس بن شماس عمد إلى خمسمائة نخلة فجذها ثم قسمها في يوم واحد ولم يترك لأهله شيئا ; فنزلت ولا تسرفوا أي لا تعطوا كله . وروى عبد الرزاق عن ابن جريج قال : جذ معاذ بن جبل نخله فلم يزل يتصدق حتى لم يبق منه شيء : فنزل ولا تسرفوا . قال السدي : ولا تسرفوا أي لا تعطوا أموالكم فتقعدوا فقراء . وروي عن معاوية بن أبي سفيان أنه سئل عن قوله تعالى : ولا تسرفوا قال : الإسراف ما قصرت عن حق الله تعالى . قلت : فعلى هذا تكون الصدقة بجميع المال ومنه إخراج حق المساكين داخلين في حكم السرف ، والعدل خلاف هذا ; فيتصدق ويبقي كما قال عليه السلام : خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى إلا أن يكون قوي النفس غنيا بالله متوكلا عليه منفردا لا عيال له ، فله أن يتصدق بجميع ماله ، وكذلك يخرج الحق الواجب عليه من زكاة وما يعن في بعض الأحوال من الحقوق المتعينة في المال . وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : الإسراف ما لم يقدر على رده إلى الصلاح . والسرف ما يقدر على رده إلى الصلاح . وقال النضر بن شميل : الإسراف التبذير والإفراط ، والسرف الغفلة والجهل . قال جرير :أعطوا هنيدة يحدوها ثمانية ما في عطائهم من ولا سرفأي إغفال ، ويقال : خطأ . ورجل سرف الفؤاد ، أي مخطئ الفؤاد غافله . قال طرفة :إن امرأ سرف الفؤاد يرى عسلا بماء سحابة شتمي
تَنْوِيرُ ٱلْمِقْبَاسِ مِن تَفْسِيرِ ٱبْنِ عَبَّاس
Tafsir Tanwir al-Miqbas —
حضرت ابن عباسؓ
{ وَهُوَ الذى أَنشَأَ جنات معروشات وَغَيْرَ معروشات والنخل والزرع مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ والزيتون والرمان متشابها وَغَيْرَ متشابه }.الواو في : { وهو الذي أنشأ } للعطف ، فيكون عطف هذه الجملة على جملة { وحرّموا ما رزقهم الله } [ الأنعام : 140 ] تذكيراً بمنة الله تعالى على النّاس بما أنشأ لهم في الأرض ممّا ينفعهم ، فبعد أن بيّن سوء تصرّف المشركين فيما مَنّ به على النّاس كلّهم مع تسفيه آرائهم في تحريم بعضها على أنفسهم ، عطف عليه المنّة بذلك استنزالاً بهم إلى إدراك الحقّ والرّجوععِ عن الغي ، ولذلك أعيد في هذه الآية غالب ما ذكر في نظيرتها المتقدّمة في قوله : { وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كلّ شيء فأخرجنا منه خَضِراً نُخرِج منه حبّاً متراكباً ومن النّخل من طلعها قنوان دانية وجنّات من أعناب والزّيتون والرمّان مشتبهاً وغير متشابه انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه } [ الأنعام : 99 ] لأنّ المقصود من الآية الأولى الاستدلال على أنَّه الصّانع ، وأنَّه المنفرد بالخلق ، فكيف يشركون به غيره . ولذلك ذيّلها بقوله : { إنّ في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون } [ الأنعام : 99 ] ، وعطف عليها قوله : { وجعلوا لله شركاء الجنّ } [ الأنعام : 100 ] الآيات .والمقصود من هذه : الامتنانُ وإبطالُ ما ينافي الامتنان ولذلك ذيّلت هذه بقوله : { كلوا من ثمره إذا أثمر }.والكلام موجّه إلى المؤمنين والمشركين ، لأنَّه اعتبار وامتنان ، وللمؤمنين الحظّ العظيم من ذلك ، ولذلك أعقب بالأمر بأداء حق الله في ذلك بقوله : { وآتوا حقه يوم حصاده } إذ لا يصلح ذلك الخطاب للمشركين .وتعريف المسند يفيد الاختصاص ، أي هو الّذي أنشأ لا غيره ، والمقصود من هذا الحصرِ إبطالُ أن يكون لغيره حظّ فيها ، لإبطال ما جعلوه من الحرث والأنعام من نصيب أنصامهم مع أنّ الله أنشأه .والإنشاءُ : الإيجاد والخلق ، قال تعالى : { إنَّا أنشأناهنّ إنشاءً } [ الواقعة : 35 ] أي نساء الجنّة .والجنّات هي المكان من الأرض النّابت فيه شجر كثير بحيث يَجِنّ أي يَستر الكائن فيه ، وقد تقدّم عند قوله : { كمثل جنّة برُبْوة } في سورة البقرة ( 265 ). وإنشاؤها إنباتها وتيسير ذلك بإعطائها ما يعينها على النماء ، ودفععِ ما يفسدها أو يقطع نبتها ، كقوله : { أنتم تزرعونه أم نحن الزّارعون } [ الواقعة : 64 ].والمعروشات : المرفوعات . يقال : عرش الكرمة إذا رفعها على أعمدة ليكون نماؤها في ارتفاع لا على وجه الأرض ، لأنّ ذلك أجود لعنبها إذ لم يكن ملقى على وجه الأرض . وعَرش فعل مشتقّ من العَرْش وهو السقف ، ويقال للأعمدة التي تُرفع فوقها أغصان الشّجر فتصير كالسّقف يَستظلّ تحته الجالسُ : العَريشُ . ومنه ما يذكر في السيرة : العريش الّذي جُعل للنّبيء صلى الله عليه وسلم يومَ بدر ، وهو الّذي بني على بقعته مسجد بعد ذلك هو اليوم موجود ببدر . ووصف الجنّات بمعروشات مجاز عقلي ، وإنَّما هي معروش فيها ، والمعروش أشجارها .وغير المعروشات المبقاة كرومها منبسطة على وجه الأرض وأرفع بقليل ، ومن محاسنها أنَّها تزيّن وجه الأرض فيرى الرائي جميعها أخضر .وقوله : { معروشات وغير معروشات } صفة : ل { جنّات } قصد منها تحسين الموصوف والتّذكيرُ بنعمة الله أن ألْهَم الإنسان إلى جعلها على صفتين ، فإنّ ذكر محاسن ما أنشأه الله يزيد في المنّة ، كقوله في شأن الأنعام { ولكم فيها جَمَالٌ حين تريحون وحين تسرحون } [ النحل : 6 ].و { مختلفا أكلهُ } حال من الزّرع ، وهو أقرب المذكورات إلى اسم الحال ، ويعلم أنّ النّخل والجنّات كذلك ، والمقصود التّذكير بعجيب خلق الله ، فيفيد ذكرُ الحال مع أحد الأنواع تذكّر مثله في النوع الآخر ، وهذا كقوله تعالى : { وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضّوا إليها } [ الجمعة : 11 ] أي وإليه ، وهي حال مقدّرة على ظاهر قول النّحويين لأنَّها مستقبلة عن الإنشاء ، وعندي أنّ عامل الحال إذا كان ممّا يحصل مَعناه في أزمنة ، وكانت الحال مقارنة لبعض أزمنة عاملها ، فهي جديرة بأن تكون مقارنة ، كما هنا .( والأُكْل ) بضمّ الهمزة وسكون الكاف لنافع وابن كثير ، و بضمّهما قرأه الباقون ، هو الشّيء الّذي يؤكل ، أي مختلفا مَا يؤكل منه .وعُطف : { والزيتون والرمان } على : { جنّاتتٍ . . . والنّخلَ والزّرعَ }.والمراد شجر الزّيتون وشجر الرمّان . وتقدّم القول في نظيره عند قوله تعالى : { وهو الذي أنزل من السّماء ماء } الآية في هذه السّورة ( 99 ).إلاّ أنَّه قال هناك : { مُشْتَبِها } [ الأنعام : 99 ] وقال هنا : { متشابها } وهما بمعنى واحد لأنّ التّشابه حاصل من جانبين فليست صيغة التّفاعل للمبالغة ألا ترى أنَّهما استويا في قوله : { وغير متشابه } في الآيتين .غُيّر أسلوبُ الحكاية عن أحوال المشركين فأُقبل على خطاب المؤمنين بهذه المنّة وهذا الحكم؛ فهذه الجمل معترضة وهي تعريض بتسفيه أحلام المشركين لتحريمهم على أنفسهم ما مَنّ الله به عليهم .والثَمَر : بفتح الثّاء والميم وبضمّهما وقرىء بهما كما تقدّم بيانه في نظيرتها .والأمر للإباحة بقرينة أن الأكل من حقّ الإنسان الّذي لا يجب عليه أن يفعله ، فالقرينة ظاهرة . والمقصود الردّ على الّذين حجّروا على أنفسِهِم بعض الحرث .و { إذا } مفيدة للتّوقيت لأنها ظرف ، أي : حين إثماره ، والمقصود من التّقييد بهذا الظّرف إباحة الأكل منه عند ظهوره وقبل حصاده تمهيداً لقوله : { وآتوا حقه يوم حصاده } أي : كلوا منه قبل أداء حقّه . وهذه رخصة ومنّة ، لأنّ العزيمة أن لا يأكلوا إلاّ بعد إعطاء حقّه كيلا يستأثروا بشيء منه على أصحاب الحقّ ، إلاّ أنّ الله رخّص للنّاس في الأكل توسعة عليهم أن يأكلوا منه أخضر قبل يبسه لأنَّهم يستطيبونه كذلك ، ولذلك عقّبه بقوله : { ولا تسرفوا } كما سيأتي .وإفراد الضّميرين في قوله : { من ثمره إذا أثمر } على اعتبار تأويل المعاد بالمذكور .والأمر في قوله : { وآتوا حقه يوم حصاده } خطاب خاصّ بالمؤمنين كما تقدم . وهذا الأمر ظاهر في الوجوب بقرينة تسمية المأمور به حقّاً .وأضيف الحقّ إلى ضمير المذكور لأدنى ملابسة ، أي الحقّ الكائن فيه .وقد أُجمل الحقّ اعتماداً على ما يعرفونه ، وهو : حقّ الفقير ، والقربى ، والضّعفاء ، والجيرة . فقد كان العرب ، إذا جَذّوا ثمارهم ، أعطوا منها من يحضر من المساكين والقرابة . وقد أشار إلى ذلك قوله تعالى : { فانطلقوا وهم يتخافتون أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين } [ القلم : 23 ، 24 ]. فلمّا جاء الإسلام أوجب على المسلمين هذا الحقّ وسمَّاه حقاً كما في قوله تعالى : { والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم } [ المعارج : 24 ، 25 ] ، وسمّاه الله زكاة في آيات كثيرة ولكنّه أجمل مقداره وأجمل الأنواعَ الّتي فيها الحقّ ووكلهم في ذلك إلى حرصهم على الخير ، وكان هذا قبل شرع نصُبُها ومقاديرها . ثمّ شرعت الزّكاة وبيّنت السنّة نصبها ومقاديرها .والحِصاد بكسر الحاء وبفتحها قطع الثّمر والحبّ من أصوله ، وهو مصدر على وزننِ الفِعال أو الفَعال . قال سيبويه «جاءوا بالمصادر حين أرادوا انتهاء الزّمان على مثال فِعال وذلك الصِّرام والجِزاز والجِدَاد والقِطاع والحِصاد ، وربَّما دخلتتِ اللّغة في بعض هذا ( أي اختلفت اللّغاتُ فقال بعض القبائل حَصاد بفتح الحاء وقال بعضهم حصاد بكسر الحاء ) فكان فيه فعال وفَعال فإذا أرادوا الفعل على فَعَلْت قالوا حَصَدته حَصْداً وقَطَعْته قطعاً إنَّما تريد العمل لا انتهاء الغاية» .وقرأه نافع ، وابن كثير ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو جعفر ، وخلف بكسر الحاء . وقرأ أبُو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر ، ويعقوب بفتح الحاء .وقد فرضت الزّكاة في ابتداء الإسلام مع فرض الصّلاة ، أو بعده بقليل ، لأنّ افتراضها ضروري لإقامة أود الفقراء من المسلمين وهم كثيرون في صدر الإسلام ، لأنّ الّذين أسلموا قد نبذهم أهلوهم ومواليهم ، وجحدوا حقوقهم ، واستباحوا أموالهم ، فكان من الضّروري أن يسدّ أهل الجدة والقوّة من المسلمين خَلَّتهم . وقد جاء ذكر الزّكاة في آيات كثيرة ممّا نزل بمكّة مثل سورة المزمّل وسورة البيّنة وهي من أوائل سور القرآن ، فالزّكاة قرينة الصّلاة . وقول بعض المفسّرين : الزّكاة فرضت بالمدينة ، يحمل على ضبط مقاديرها بآية { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها } [ التوبة : 103 ] وهي مدنيَّة ، ثمّ تطرّقوا فمنعوا أن يكون المراد بالحقّ هنا الزّكاة ، لأنّ هذه السّورة مكّيّة بالاتّفاق ، وإنَّما تلك الآية مؤكّدة للوجوب بعد الحلول بالمدينة ، ولأنّ المراد منها أخذها من المنافقين أيضاً ، وإنَّما ضبطت الزّكاة . ببيان الأنواع المزكاة ومقدار النُّصب والمُخْرَج منه ، بالمدينة ، فلا ينافي ذلك أن أصل وجوبها في مكّة ، وقد حملها مالك على الزّكاة المعيّنة المضبوطة في رواية ابن القاسم وابن وهب عنه وهو قول ابن عبّاس ، وأنس بن مالك ، وسعيد بن المسيّب ، وجمع من التّابعين كثير . ولعلّهم يرون الزّكاة فرضت ابتداء بتعيين النّصب والمقادير ، وحَملها ابنُ عمر ، وابنُ الحنفية ، وعليّ بن الحسين ، وعطاء ، وحمَّاد ، وابن جبير ، ومجاهد ، على غير الزّكاة وجعلوا الأمر للنّدب ، وحملها السُدّي ، والحسن ، وعطيّة العوفي ، والنّخعي ، وسعيد بن جبير ، في رواية عنه ، على صدقة واجبة ثمّ نسختها الزّكاة .وإنَّما أوجب الله الحقّ في الثّمار والحبّ يوم الحصاد : لأنّ الحصاد إنَّما يراد للادّخار وإنَّما يَدّخِر المرء ما يريده للقوت ، فالادّخار هو مظنة الغني الموجبة لإعطاء الزّكاة ، والحصاد مبدأ تلك المظنة ، فالّذي ليست له إلاّ شجرة أو شجرتان فإنَّما يأكلُ ثمرها مخضوراً قبل أن ييبس ، فلذلك رخَّصت الشّريعة لصاحب الثّمرة أن يأكل من الثّمر إذا أثمر ، ولم توجب عليه إعطاء حقّ الفقراء إلاّ عند الحصاد . ثمّ إنّ حصاد الثّمار ، وهو جذاذها ، هو قطعها لادّخارها ، وأمَّا حصاد الزّرع فهو قطع السّنبل من جذور الزّرع ثمّ يُفرك الحبّ الّذي في السّنبل ليدّخر ، فاعتبر ذلك الفرك بقيّة للحصاد . ويظهر من هذا أنّ الحقّ إنَّما وجب فيما يحصد من المذكورات مثل الزّبيب والتَّمر والزّرع والزّيتون ، من زيته أو من حبّه ، بخلاف الرمّان والفواكه .وعلى القول المختار : فهذه الآية غير منسوخة ، ولكنّها مخصّصة ومبيَّنة بآيات أخرى وبما يبيّنه النَّبيء صلى الله عليه وسلم فلا يُتعلّق بإطلاقها ، وعن السدّي أنَّها نسخت بآية الزّكاة يعني : { خذ من أموالهم صدقة } [ التوبة : 103 ] وقد كان المتقدّمون يسمّون التّخصيص نسخاً .وقوله : { ولا تسرفوا } عطف على { كلوا } ، أي : كلوا غيرَ مسرفين . والإسراف والسّرف : تجاوز الكافي من إرضاء النّفس بالشّيء المشتهى . وتقدّم عند قوله تعالى : { ولا تأكلوها إسرافاً في سورة النّساء ( 6 ). وهذا إدماج للنّهي عن الإسراف ، وهو نهي إرشاد وإصلاح ، أي : لا تسرفوا في الأكل وهذا كقوله : { وكلوا واشربوا ولا تسرفوا } [ الأعراف : 31 ]. والإسراف إذا اعتاده المرء حمله على التّوسّع في تحصيل المرغوبات ، فيرتكب لذلك مَذمَّات كثيرة ، وينتقل من ملذّة إلى ملذّة فلا يقف عند حدّ .وقيل عطف على { وآتوا حقه } أي ولا تسرفوا فيما بقي بعد إتيان حقّه فتنفقوا أكثر ممّا يجب ، وهذا لا يكون إلاّ في الإنفاق والأكل ونحوه ، فأمَّا بذله في الخيرْ ونفع النّاس فليس من السّرف ، ولذلك يعدّ من خطأ التّفسير : تفسيرُها بالنَّهي عن الإسراف في الصّدقة ، وبما ذكروه أنّ ثابتَ بن قيس صَرَم خمسمائة نخلة وفرّق ثمرها كلّه ولم يدخل منه شيئاً إلى منزله ، وأنّ الآية نزلت بسبب ذلك .وقوله : { إنه لا يحب المسرفين } استئناف قصد به تعميم حكم النّهي عن الإسراف . وأكّد ب { إنّ } لزيادة تقرير الحكم ، فبيّن أنّ الإسراف من الأعمال التي لا يحبّها ، فهو من الأخلاق الّتي يلزم الانتهاء عنها ، ونفي المحبّة مختلف المراتب ، فيعلم أنّ نفي المحبّة يشتدّ بمقدار قوّة الإسراف ، وهذا حكم مجمل وهو ظاهر في التّحريم ، وبيان هذا الإجمال هو في مطاوي أدلّة أخرى والإجمال مقصود .ولغموض تأويل هذا النّهي وقوله : { إنَّه لا يحبّ المسرفين } تفرّقت آراء المفسّرين في تفسير معنى الإسراف المنهي عنه ، ليعينوه في إسراف حرام ، حتّى قال بعضهم : إنَّها منسوخة ، وقد علمت المنجى من ذلك كلّه .فوجه عدم محبّة الله إيّاهم أنّ الإفراط في تناول اللّذّات والطّيّبات ، والإكثار من بذل المال في تحصيلها ، يفضي غالباً إلى استنزاف الأموال والشّره إلى الاستكثار منها ، فإذا ضاقت على المسرف أمواله تطلب تحصيل المال من وجوه فاسدة ، ليخمد بذلك نهمته إلى اللّذات ، فيكون ذلك دأبه ، فربَّما ضاق عليه ماله ، فشقّ عليه الإقلاع عن معتاده ، فعاش في كرب وضيق ، وربَّما تطلّب المال من وجوه غير مشروعة ، فوقع فيما يؤاخذ عليه في الدّنيا أو في الآخرة ، ثمّ إنّ ذلك قد يعقب عياله خصاصة وضنك معيشة . وينشأ عن ذلك مَلام وتوبيخ وخصومات تفضي إلى ما لا يحمد في اختلال نظام العائلة . فأمَّا كثرة الإنفاق في وجوه البرّ فإنَّها لا توقع في مثل هذا ، لأنّ المنفق لا يبلغ فيها مبلغ المنفق لمحبّة لَذّاته ، لأنّ داعي الحكمة قابل للتأمّل والتّحديد بخلاف داعي الشّهوة . ولذلك قيل في الكلام الّذي يصحّ طَرْداً وعكساً : «لاَ خَيْرَ في السَّرف ، ولا سرف في الخير» وفي معنى هذه الآية قوله في سورة الأعراف ( 31 ) : { وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين } [ الأعراف : 31 ] وقول النَّبيء صلى الله عليه وسلم " ويُكره لكم قيل وقال وكثرة السُّؤال وإضاعة المال " .
ٱلتَّفْسِيرُ ٱلْوَسِيط
Tafsir Al-Waseet —
علمائے جامعہ ازہر
ثم بين - سبحانه - أنه هو الخالق لكل شىء من الزروع والثمار والأنعام التى تصرف فيها المشركون بآرائهم الفاسدة ، وأن من الواجب عليهم أن يستعملوا نعم الله فيما خلقت لهم فقال - تعالى - : { وَهُوَ الذي أَنشَأَ . . . . } .قوله - تعالى - { وَهُوَ الذي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ } .أنشأ : أى أوجد وخلق . والجنات : البساتين والكروم المتلفة الأشجار .ومعروشات : أصل العرش فى اللغة شىء مسقف يجعل عليه الكرم وجمعه عروش ، يقال عرشت الكرم أعرشه عرشاً من بابى - ضرب ونصر - ، وعرشته تعريشاً إذا جعلته كهيئة السقف . فالمادة تدل على الرفع ومنها عرش الملك . قال ابن عباس : المعروشات . ما انبسط على الأرض وانبسط من الزروع مما يحتاج إلى أن يتخذ له عريش يحمل عليه ، كالكرم والبطيخ والقرع ونحو ذلك . وغير المعروشات ما قام على ساق واستغنى باستوائه وقوة ساقه عن التعريش كالنخل والشجر .وقيل المعروشات وغي المعروشات كلاهما فى الكرم خاصة ، لأن منه ما يعرش ومنه مالا يعرش بل يبقى على وجه الأرض منبسطا .وقيل المعروشات ما غرسه الناس فى البساتين واهتمووا به فعرشوه من كرم أو غيره ، وغير المعروشات . هو ما أنبته الله فى البرارى والجبال من كرم وشجر .أى : وهو - سبحانه - الذى أوجد لكم هذه البساتين المختلفة التى منها المرفوعات عن الأرض ، ومنها غير المرفوعات عنها ، فخصوه وحده بالعبادة والخضوع .وقوله : { والنخل والزرع مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ } عطف على جنات ، أى : أنشأ جنات ، وأنشأ النخل والزرع ، والمراد بالزرع جميع الحبوب التى يقتات بها .وإنما أفردها مع أنهما داخلان فى الجنات لما فيهما من الفضيلة على سائر ما ينبت فى الجنات .و { مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ } أى ، ثمره وحبه فى اللون والطعم والحجم والرائحة .والضمير فى أكله راجع إلى كل واحد منهما ، أى : النخل والزرع والمراد بالأكل المأكول أى ، مختلف المأكول فى كل منهما فى الهيئة والطعم .قال الجمل : وجملة . { مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ } حال مقدرة ، لأن النخل والزرع وقت خروجه لا أكل منه حتى يكون مختلفا أو متفقا ، فهو مثل قولهم : مررت برجل معه صقر صائداً له غدا " .وقوله : { والزيتون والرمان مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ } أى : وأنشأ الزيتون والرمان متشابها فى المنظر وغير متشابه فى الطعم أو متشابها بعض أفرادها فى اللون أو الطعم أو الهيئة " وغير متشابه فى بعضها .قال القرطبى : وفيه ألدة ثلاثة .أحدها : ما تقدم من قيام الدليل على أن المتغيرات لا بد لها من مغير .الثانى : على المنة منه - سبحانه - علينا ، فلو شاء إذ خلقنا ألا يخلق لنا غذاء ، وإذا خلقه ألا يكون جميل المنظر طيب الطعم ، وإذ خلقه كذلك ألا يكون سهل الجنى ، فلم يكن عليه أن يفعل ذلك ابتداء ، لأنه لا يجب عليه شىء .الثالث : على القدرة فى أن يكون الماء الذى من شأنه الرسوب يصعد بقدرة الله الواحد علام الغيوب من أسافل الشجرة إلى أعاليها ، حتى إذا انتهى إلى آخرها نشأت فيها أوراق ليست من جنسها ، وثمر خارج من صفته : الجرم الوافر ، واللون الزاهر ، والجنى الجديد ، والطعم اللذيذ ، فأين الطبائع وأجناسها وأي الفلاسفة وأسسها ، هل هى فى قدرة الطبيعة أن تتقن هذا الإتقان أو ترتب هذا الترتيب العجيب .كلا ، لا يتم ذلك فى العقول إلا لحى قادر عالم مريد ، فسبحان من له فى كل شىء آية ونهاية .ووجه اتصال هذا بما قبله أن الكفار لما افتروا على الله الكذب . وأشركوا معه وحللوا وحرموا دلهم على وحدانيته بأنه خالق الأشياء ، وأنه جعل هذه الأشياء أرزاقا لهم " .ثم ذكر - سب-انه - المقصود من خلق هذه الأشياء فقال : { كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ } أى : كلوا من ثمر تلك الزروع والأشجار التى أنشأناها لكم ، شاكرين الله على ذلك . والأمر للإباحة . وفائدة التقييد بقوله { إِذَآ أَثْمَرَ } إباحة الأكل قبل النضوج والإدراك .وقيل فائدته : الترخيص للمالك فى الأكل من قبل أداء حق الله - تعالى - لأنه لما أوجب الحق فيه ربما يتبادر إلى الأذهان أنه يحرم على المالك تناول شىء منه لمكان شركة المساكين له فيه ، فأباح الله له هذا الأكل .ثم أمرهم - سبحانه - بأداء حقوق الفقراء والمحتاجين مما رزقهم فقال : { وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } أى ، كلوا من ثمر ما أنشأنا لكم ، وأدوا حق الله فيه للفقراء والمحتاجين يوم حصاده .ويرى بعض العلماء أن المراد بهذا الحق الصدقة بوجه عام على المستحقين لها ، بأن يوزع صاحب الزرع منه عند حصاده على المساكين والبائسين ما يسد حاجتهم بدون إسراف أو تقتير .وأصحاب هذا الراى فسروا هذا الحق بالصدقة الواجبة من غير تحديد للمقدار وليس بالزكاة المفروضة لأن الآية مكية والزكاة إنما فرضت بالمدينة .وهم يرون أن هذا الحق لم ينسخ بالزكاة المفروضة ، بل على صاحب الزرع أن يطعم منه المحتاجين عند حصاده .ويرى بعض آخر من العلماء أن المراد بهذا الحق ما فصلته السنة النبوية من الزكاة المفروضة وهذه الآية مدنية وإن كانت السورة مكية .ويبدو لنا أن الرأى الأول أرجح ، لأنه لا دليل على أن هذه الآية مدنية ولأن فرضية الزكاة لا تمنع إعطاء الصدقات ، وفى الأمر بإيتاء هذا الحق يوم الحصاد ، مبالغة فى العزم على المبادرة إليه .والمعنى : اعزموا على إيتاء هذا الحق واقصدوه ، واهتموا به يوم الحصاد حتى لا تؤخروه عن أول وقت يمكن فيه الإيتاء .وقيل : إنما ذكر وقت الحصاد تخفيفاً على أصحاب الزروع حتى لا يحسب عليهم ما أكل قبله .ثم ختمت الآية بالنهى عن الإسراف فقالت ، { وَلاَ تسرفوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المسرفين } . أى لا تسرفوا فى أكلكم قبل الحصاد ولا فى صدقاتكم ولا فى أى شأن من شئونكم ، لأنه - سبحانه - لا يحب المسرفين .وقال ابن جريج ، نزلت فى ثبات بن قيس ، قطع نخلا له فقال . لا يأتينى اليوم أحد إلا أطعمته ، فأطعم حتى أمسى وليست له ثمرة ، فنزلت هذه الآية .وقال عطاء ، نهوا عن السرف فى كل شىء .وقال إياس بن معاوية ، ما جاوزت به أمر الله هو سرف .
تَفْسِيرُ ٱلْبَغَوِيِّ
Tafsir al-Baghawi —
علامہ بغوی
قوله تعالى : ( وهو الذي أنشأ ) ابتدع . ( جنات ) بساتين ، ( معروشات وغير معروشات ) أي : مسموكات مرفوعات وغير مرفوعات ، وقال ابن عباس : معروشات : ما انبسط على وجه الأرض وانتشر مما يعرش ، مثل : الكرم والقرع والبطيخ وغيرها ، وغير معروشات : ما قام على ساق وبسق ، مثل النخل والزرع وسائر الأشجار .وقال الضحاك : كلاهما ، الكرم خاصة ، منها ما عرش ومنها ما لم يعرش .( والنخل والزرع ) أي : وأنشأ النخل والزرع ، ( مختلفا أكله ) ثمره وطعمه منها الحلو والحامض والجيد والرديء ، ( والزيتون والرمان متشابها ) في المنظر ، ( وغير متشابه ) في المطعم مثل الرمانتين لونهما واحد وطعمهما مختلف ، ( كلوا من ثمره إذا أثمر ) هذا أمر إباحة .( وآتوا حقه يوم حصاده ) قرأ أهل البصرة وابن عامر وعاصم ( حصاده ) بفتح الحاء ، وقرأ الآخرون بكسرها ومعناهما واحد ، كالصرام والصرام والجزاز والجزاز .واختلفوا في هذا الحق : فقال ابن عباس وطاوس والحسن وجابر بن زيد وسعيد بن المسيب : إنها الزكاة المفروضة من العشر ونصف العشر .وقال علي بن الحسين وعطاء ومجاهد وحماد والحكم : هو حق في المال سوى الزكاة ، أمر بإتيانه ، لأن الآية مكية وفرضت الزكاة بالمدينة .قال إبراهيم : هو الضغث . وقال الربيع : لقاط السنبل .وقال مجاهد : كانوا يعلقون العذق عند الصرام فيأكل منه من مر .وقال يزيد بن الأصم : كان أهل المدينة إذا صرموا يجيئون بالعذق فيعلقونه في جانب المسجد ، فيجيء المسكين فيضربه بعصاه فيسقط منه فيأخذه .وقال سعيد بن جبير : كان هذا حقا يؤمر بإتيانه في ابتداء الإسلام فصار منسوخا بإيجاب العشر .وقال مقسم عن ابن عباس : نسخت الزكاة كل نفقة في القرآن .( ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ) قيل : أراد بالإسراف إعطاء الكل . قال ابن عباس في رواية الكلبي : إن ثابت بن قيس بن شماس صرم خمسمائة نخلة وقسمها في يوم واحد ولم يترك لأهله شيئا ، فأنزل الله - عز وجل - هذه الآية .قال السدي : لا تسرفوا أي لا تعطوا أموالكم فتقعدوا فقراء . قال الزجاج : على هذا إذا أعطى الإنسان كل ماله ولم يوصل إلى عياله شيئا فقد أسرف ، لأنه قد جاء في الخبر " ابدأ بمن تعول " . وقال سعيد بن المسيب : معناه لا تمنعوا الصدقة . فتأويل الآية على هذا : لا تتجاوز الحد في البخل والإمساك حتى تمنعوا الواجب من الصدقة .وقال مقاتل : لا تشركوا الأصنام في الحرث والأنعام .وقال الزهري : لا تنفقوا في المعصية ، وقال مجاهد : الإسراف ما قصرت به عن حق الله - عز وجل - ، وقال : لو كان أبو قبيس ذهبا لرجل فأنفقه في طاعة الله لم يكن مسرفا ولو أنفق درهما أو مدا في معصية الله كان مسرفا . وقال إياس بن معاوية : ما جاوزت به أمر الله فهو سرف وإسراف . وروى ابن وهب عن أبي زيد . قال : الخطاب للسلاطين ، يقول : لا تأخذوا فوق حقكم .