تَفْسِيرُ ٱلْمُيَسَّر
Tafsir Al-Muyassar —
کنگ فہد قرآن کمپلیکس
واتبع اليهود ما تُحَدِّث الشياطينُ به السحرةَ على عهد ملك سليمان بن داود. وما كفر سليمان وما تَعَلَّم السِّحر، ولكنَّ الشياطين هم الذين كفروا بالله حين علَّموا الناس السحر؛ إفسادًا لدينهم. وكذلك اتبع اليهود السِّحر الذي أُنزل على الملَكَين هاروت وماروت، بأرض "بابل" في "العراق"؛ امتحانًا وابتلاء من الله لعباده، وما يعلِّم الملكان من أحد حتى ينصحاه ويحذِّراه من تعلم السحر، ويقولا له: لا تكفر بتعلم السِّحر وطاعة الشياطين. فيتعلم الناس من الملكين ما يُحْدِثون به الكراهية بين الزوجين حتى يتفرقا. ولا يستطيع السحرة أن يضروا به أحدًا إلا بإذن الله وقضائه. وما يتعلم السحرة إلا شرًا يضرهم ولا ينفعهم، وقد نقلته الشياطين إلى اليهود، فشاع فيهم حتى فضَّلوه على كتاب الله. ولقد علم اليهود أن من اختار السِّحر وترك الحق ما له في الآخرة من نصيب في الخير. ولبئس ما باعوا به أنفسهم من السحر والكفر عوضًا عن الإيمان ومتابعة الرسول، لو كان لهم عِلْمٌ يثمر العمل بما وُعِظوا به.
تَفْسِيرُ ٱلْجَلَالَيْنِ
Tafsir al-Jalalayn —
جلال الدین محلی اور جلال الدین سیوطی
«واتبعوا» عطف على نبذ «ما تتلوا» أي تلت «الشياطين على» عهد «ملك سليمان» من السحر وكانت دفنته تحت كرسيه لما نزع ملكه أو كانت تسترق السمع وتضم إليه أكاذيب وتلقيه إلى الكهنة فيدونونه وفشا ذلك وشاع أن الجن تعلم الغيب فجمع سليمان الكتب ودفنها فلما مات دلت الشياطين عليها الناس فاستخرجوها فوجدوا فيها السحر فقالوا إنما ملككم بهذا فتعلموه فرفضوا كتب أنبيائهم قال تعالى تبرئه لسليمان ورداً على اليهود في قولهم انظروا إلى محمد يذكر سليمان في الأنبياء وما كان إلا ساحراً: «وما كفر سليمان» أي لم يعمل السحر لأنه كفر «ولكن» بالتشديد والتخفيف «الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر» الجملة حال من ضمير كفروا «و» يعلمونهم «ما أنزل على الملكين» أي ألهماه من السحر وقرئ بكسر اللام الكائنين «ببابل» بلد في سواد العراق «هاروت وماروت» بدل أو عطف بيان للملكين قال ابن عباس هما ساحران كانا يعلمان السحر وقيل ملكان أنزلا لتعليمه ابتلاء من الله للناس «وما يعلمان من» زائدة «أحد حتى يقولا» له نصحاً «إنما نحن فتنة» بلية من الله إلى الناس ليمتحنهم بتعليمه فمن تعلمه كفر ومن تركه فهو مؤمن «فلا تكفر» بتعلمه فإن أبى إلا التعليم علماه «فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه» بأن يبغض كلا إلى الآخر «وما هم» أي السحرة «بضارين به» بالسحر «من» زائدة «أحد إلا بإذن الله» بإرادته «ويتعلمون ما يضرهم» في الآخرة «ولا ينفعهم» وهو السحر «ولقد» لام قسم «علموا» أي اليهود «لمن» لام ابتداء معلقة لما قبلها ومن موصلة «اشتراه» اختاره أو استبدله بكتاب الله «ماله في الآخرة من خلاق» نصيب في الجنة «ولبئس ما» شيئاً «شروا» باعوا «به أنفسهم» أي الشارين: أي حظها من الآخرة إن تعلموه حيث أوجب لهم النار «لو كانوا يعلمون» حقيقة ما يصيرون إليه من العذاب ما تعلَّموه.
تَفْسِيرُ ٱلْقُرْطُبِيِّ
Tafsir al-Qurtubi —
علامہ قرطبی
واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون[ ص: 41 ] فيه أربع وعشرون مسألة : الأولى : قوله تعالى : واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان هذا إخبار من الله تعالى عن الطائفة الذين نبذوا الكتاب بأنهم اتبعوا السحر أيضا ، وهم اليهود . وقال السدي : عارضت اليهود محمدا صلى الله عليه وسلم بالتوراة فاتفقت التوراة والقرآن فنبذوا التوراة وأخذوا بكتاب آصف وبسحر هاروت وماروت . وقال محمد بن إسحاق : لما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم سليمان في المرسلين قال بعض أحبارهم : يزعم محمد أن ابن داود كان نبيا ! والله ما كان إلا ساحرا ، فأنزل الله عز وجل : وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا أي ألقت إلى بني آدم أن ما فعله سليمان من ركوب البحر واستسخار الطير والشياطين كان سحرا . وقال الكلبي : كتبت الشياطين السحر والنيرنجيات على لسان آصف كاتب سليمان ، ودفنوه تحت مصلاه حين انتزع الله ملكه ولم يشعر بذلك سليمان ، فلما مات سليمان استخرجوه وقالوا للناس : إنما ملككم بهذا فتعلموه ، فأما علماء بني إسرائيل فقالوا : معاذ الله أن يكون هذا علم سليمان ! وأما السفلة فقالوا : هذا علم سليمان ، وأقبلوا على تعليمه ورفضوا كتب أنبيائهم حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله عز وجل على نبيه عذر سليمان وأظهر براءته مما رمي به فقال : واتبعوا ما تتلو الشياطين . قال عطاء : تتلو تقرأ من التلاوة . وقال ابن عباس : تتلو تتبع ، كما تقول : جاء القوم يتلو بعضهم بعضا . وقال الطبري : اتبعوا بمعنى فضلوا .قلت : لأن كل من اتبع شيئا وجعله أمامه فقد فضله على غيره ، ومعنى " تتلو " يعني تلت ، فهو بمعنى المضي ، قال الشاعر :وإذا مررت بقبره فاعقر به كوم الهجان وكل طرف سابح وانضح جوانب قبره بدمائهافلقد يكون أخا دم وذبائحأي فلقد كان . وما مفعول ب ( اتبعوا ) أي اتبعوا ما تقولته الشياطين على سليمان وتلته . وقيل : ما نفي ، وليس بشيء لا في نظام الكلام ولا في صحته ، قاله ابن العربي .[ ص: 42 ] على ملك سليمان أي على شرعه ونبوته . قال الزجاج : قال الفراء على عهد ملك سليمان . وقيل : المعنى في ملك سليمان يعني في قصصه وصفاته وأخباره . قال الفراء : تصلح على وفي ، في مثل هذا الموضع . وقال على ولم يقل بعد لقوله تعالى : وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته أي في تلاوته . وقد تقدم معنى الشيطان واشتقاقه ، فلا معنى لإعادته . والشياطين هنا قيل : هم شياطين الجن ، وهو المفهوم من هذا الاسم . وقيل : المراد شياطين الإنس المتمردون في الضلال ، كقول جرير :أيام يدعونني الشيطان من غزلي وكن يهوينني إذ كنت شيطاناالثانية : قوله تعالى : وما كفر سليمان تبرئة من الله لسليمان ولم يتقدم في الآية أن أحدا نسبه إلى الكفر ، ولكن اليهود نسبته إلى السحر ، ولكن لما كان السحر كفرا صار بمنزلة من نسبه إلى الكفر . ثم قال : ولكن الشياطين كفروا فأثبت كفرهم بتعليم السحر . ويعلمون : في موضع نصب على الحال ، ويجوز أن يكون في موضع رفع على أنه خبر ثان . وقرأ الكوفيون سوى عاصم " ولكن الشياطين " بتخفيف " لكن " ، ورفع النون من " الشياطين " ، وكذلك في الأنفال " ولكن الله رمى " ووافقهم ابن عامر . الباقون بالتشديد والنصب . و " لكن " كلمة لها معنيان : نفي الخبر الماضي ، وإثبات الخبر المستقبل ، وهي مبنية من ثلاث كلمات : لا ، ك ، إن . " لا " نفي ، و " الكاف " خطاب ، و " إن " إثبات وتحقيق ، فذهبت الهمزة استثقالا ، وهي تثقل وتخفف ، فإذا ثقلت نصبت كإن الثقيلة ، وإذا خففت رفعت بها كما ترفع بإن الخفيفة .الثالثة : السحر ، قيل : السحر أصله التمويه والتخاييل ، وهو أن يفعل الساحر أشياء ومعاني ، فيخيل للمسحور أنها بخلاف ما هي به ، كالذي يرى السراب من بعيد فيخيل إليه أنه ماء ، وكراكب السفينة السائرة سيرا حثيثا يخيل إليه أن ما يرى من الأشجار والجبال سائرة معه . وقيل : هو مشتق من سحرت الصبي إذا خدعته ، وكذلك إذا عللته ، والتسحير مثله ، قال لبيد :فإن تسألينا فيم نحن فإننا عصافير من هذا الأنام المسحر[ ص: 43 ] آخر [ هو امرؤ القيس ] :أرانا موضعين لأمر غيب ونسحر بالطعام وبالشرابعصافير وذبان ودود وأجرأ من مجلحة الذئابوقوله تعالى : إنما أنت من المسحرين يقال : المسحر الذي خلق ذا سحر ، ويقال من المعللين ، أي ممن يأكل الطعام ويشرب الشراب . وقيل : أصله الخفاء ، فإن الساحر يفعله في خفية . وقيل : أصله الصرف ، يقال : ما سحرك عن كذا ، أي ما صرفك عنه ، فالسحر مصروف عن جهته . وقيل : أصله الاستمالة ، وكل من استمالك فقد سحرك . وقيل في قوله تعالى : بل نحن قوم مسحورون أي سحرنا فأزلنا بالتخييل عن معرفتنا . وقال الجوهري : السحر الأخذة ، وكل ما لطف مأخذه ودق فهو سحر ، وقد سحره يسحره سحرا . والساحر : العالم ، وسحره أيضا بمعنى خدعه ، وقد ذكرناه . وقال ابن مسعود : كنا نسمي السحر في الجاهلية العضه . والعضه عند العرب : شدة البهت وتمويه الكذب ، قال الشاعر :أعوذ بربي من النافثا ت في عضه العاضه المعضهالرابعة : واختلف هل له حقيقة أم لا ، فذكر الغزنوي الحنفي في عيون المعاني له : أن السحر عند المعتزلة خدع لا أصل له ، وعند الشافعي وسوسة وأمراض . قال : وعندنا أصله طلسم يبنى على تأثير خصائص الكواكب ، كتأثير الشمس في زئبق عصي فرعون ، أو تعظيم الشياطين ليسهلوا له ما عسر .قلت : وعندنا أنه حق وله حقيقة يخلق الله عنده ما شاء ، على ما يأتي . ثم من السحر ما يكون بخفة اليد كالشعوذة . والشعوذي : البريد لخفة سيره . قال ابن فارس في المجمل : الشعوذة ليس من كلام أهل البادية ، وهي خفة في اليدين وأخذة كالسحر ، ومنه ما يكون كلاما يحفظ ، ورقى من أسماء الله تعالى . وقد يكون من عهود الشياطين ، ويكون أدوية وأدخنة وغير ذلك .الخامسة : سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الفصاحة في الكلام واللسانة فيه سحرا ، فقال : إن من [ ص: 44 ] البيان لسحرا أخرجه مالك وغيره . وذلك لأن فيه تصويب الباطل حتى يتوهم السامع أنه حق ، فعلى هذا يكون قوله عليه السلام : إن من البيان لسحرا خرج مخرج الذم للبلاغة والفصاحة ، إذ شبهها بالسحر . وقيل : خرج مخرج المدح للبلاغة والتفضيل للبيان ، قال جماعة من أهل العلم . والأول أصح ، والدليل عليه قوله عليه السلام : فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض ، وقوله : إن أبغضكم إلي الثرثارون المتفيهقون . الثرثرة : كثرة الكلام وترديده ، يقال : ثرثر الرجل فهو ثرثار مهذار . والمتفيهق نحوه . قال ابن دريد . فلان يتفيهق في كلامه إذا توسع فيه وتنطع ، قال : وأصله الفهق وهو الامتلاء ، كأنه ملأ به فمه .قلت : وبهذا المعنى الذي ذكرناه فسره عامر الشعبي راوي الحديث وصعصعة بن صوحان فقالا : أما قوله صلى الله عليه وسلم : إن من البيان لسحرا فالرجل يكون عليه الحق وهو ألحن بالحجج من صاحب الحق فيسحر القوم ببيانه فيذهب بالحق وهو عليه ، وإنما يحمد العلماء البلاغة واللسانة ما لم تخرج إلى حد الإسهاب والإطناب ، وتصوير الباطل في صورة الحق . وهذا بين ، والحمد لله .السادسة : من السحر ما يكون كفرا من فاعله ، مثل ما يدعون من تغيير صور الناس ، وإخراجهم في هيئة بهيمة ، وقطع مسافة شهر في ليلة ، والطيران في الهواء ، فكل من فعل هذا ليوهم الناس أنه محق فذلك كفر منه ، قاله أبو نصر عبد الرحيم القشيري . قال أبو عمرو : من زعم أن الساحر يقلب الحيوان من صورة إلى صورة ، فيجعل الإنسان حمارا أو نحوه ، ويقدر على نقل الأجساد وهلاكها وتبديلها ، فهذا يرى قتل الساحر لأنه كافر بالأنبياء ، يدعي مثل آياتهم ومعجزاتهم ، ولا يتهيأ مع هذا علم صحة النبوة ؛ إذ قد يحصل مثلها بالحيلة . وأما من زعم أن السحر خدع ومخاريق وتمويهات وتخييلات فلم يجب على أصله قتل الساحر ، إلا أن يقتل بفعله أحدا فيقتل به .السابعة : ذهب أهل السنة إلى أن السحر ثابت وله حقيقة . وذهب عامة المعتزلة وأبو إسحاق الإستراباذي من أصحاب الشافعي إلى أن السحر لا حقيقة له ، وإنما هو تمويه وتخييل وإيهام لكون الشيء على غير ما هو به ، وأنه ضرب من الخفة والشعوذة ، كما قال تعالى : يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى ولم يقل تسعى على الحقيقة ، ولكن قال يخيل إليه . وقال أيضا : سحروا أعين الناس . وهذا لا حجة فيه ; لأنا لا ننكر أن يكون التخييل وغيره من جملة السحر ، ولكن ثبت وراء ذلك أمور جوزها العقل وورد بها السمع ، فمن ذلك ما جاء في هذه الآية من ذكر السحر وتعليمه ، ولو لم يكن له حقيقة لم يمكن تعليمه ، ولا أخبر تعالى أنهم يعلمونه الناس ، فدل على أن له حقيقة . وقوله تعالى في قصة سحرة فرعون : وجاءوا بسحر عظيم وسورة " الفلق " ، مع اتفاق المفسرين على أن سبب نزولها ما كان من سحر لبيد بن الأعصم ، وهو مما خرجه البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها قالت : سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم يهودي من يهود بني زريق يقال له لبيد بن الأعصم ، الحديث . وفيه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما حل السحر : " إن الله شفاني " . والشفاء إنما يكون برفع العلة وزوال المرض ، فدل على أن له حقا وحقيقة ، فهو مقطوع به بإخبار الله تعالى ورسوله على وجوده ووقوعه . وعلى هذا أهل الحل والعقد الذين ينعقد بهم الإجماع ، ولا عبرة مع اتفاقهم بحثالة المعتزلة ومخالفتهم أهل الحق . ولقد شاع السحر وذاع في سابق الزمان وتكلم الناس فيه ، ولم يبد من الصحابة ولا من التابعين إنكار لأصله . وروى سفيان عن أبي الأعور عن عكرمة عن ابن عباس قال : علم السحر في قرية من قرى مصر يقال لها : " الفرما " فمن كذب به فهو كافر ، مكذب لله ورسوله ، منكر لما علم مشاهدة وعيانا .الثامنة : قال علماؤنا : لا ينكر أن يظهر على يد الساحر خرق العادات مما ليس في مقدور البشر من مرض وتفريق وزوال عقل وتعويج عضو إلى غير ذلك مما قام الدليل على استحالة كونه من مقدورات العباد . قالوا : ولا يبعد في السحر أن يستدق جسم الساحر حتى يتولج في الكوات والخوخات والانتصاب على رأس قصبة ، والجري على خيط مستدق ، والطيران في الهواء والمشي على الماء وركوب كلب وغير ذلك . ومع ذلك فلا يكون السحر موجبا لذلك [ ص: 46 ] ولا علة لوقوعه ولا سببا مولدا ، ولا يكون الساحر مستقلا به ، وإنما يخلق الله تعالى هذه الأشياء ويحدثها عند وجود السحر ، كما يخلق الشبع عند الأكل ، والري عند شرب الماء . روى سفيان عن عمار الذهبي أن ساحرا كان عند الوليد بن عقبة يمشي على الحبل ، ويدخل في است الحمار ويخرج من فيه ، فاشتمل له جندب على السيف فقتله جندب - هذا هو جندب بن كعب الأزدي ويقال البجلي - وهو الذي قال في حقه النبي صلى الله عليه وسلم : يكون في أمتي رجل يقال له جندب يضرب ضربة بالسيف يفرق بين الحق والباطل . فكانوا يرونه جندبا هذا قاتل الساحر . قال علي بن المديني : روى عنه حارثة بن مضرب .التاسعة : أجمع المسلمون على أنه ليس في السحر ما يفعل الله عنده إنزال الجراد والقمل والضفادع وفلق البحر وقلب العصا وإحياء الموتى وإنطاق العجماء ، وأمثال ذلك من عظيم آيات الرسل عليهم السلام . فهذا ونحوه مما يجب القطع بأنه لا يكون ولا يفعله الله عند إرادة الساحر . قال القاضي أبو بكر بن الطيب : وإنما منعنا ذلك بالإجماع ولولاه لأجزناه .العاشرة : في الفرق بين السحر والمعجزة ، قال علماؤنا : السحر يوجد من الساحر وغيره ، وقد يكون جماعة يعرفونه ويمكنهم الإتيان به في وقت واحد . والمعجزة لا يمكن الله أحدا أن يأتي بمثلها وبمعارضتها ، ثم الساحر لم يدع النبوة فالذي يصدر منه متميز عن المعجزة ، فإن المعجزة شرطها اقتران دعوى النبوة والتحدي بها ، كما تقدم في مقدمة الكتاب .الحادية عشر : واختلف الفقهاء في حكم الساحر المسلم والذمي ، فذهب مالك إلى أن المسلم إذا سحر بنفسه بكلام يكون كفرا يقتل ولا يستتاب ولا تقبل توبته ; لأنه أمر يستسر به كالزنديق والزاني ; ولأن الله تعالى سمى السحر كفرا بقوله : وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر وهو قول أحمد بن حنبل وأبي ثور وإسحاق والشافعي وأبي حنيفة . وروي قتل الساحر عن عمر وعثمان وابن عمر وحفصة وأبي موسى وقيس بن سعد وعن سبعة من التابعين . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم : حد الساحر ضربه بالسيف خرجه الترمذي وليس [ ص: 47 ] بالقوي ، انفرد به إسماعيل بن مسلم وهو ضعيف عندهم ، رواه ابن عيينة عن إسماعيل بن مسلم عن الحسن مرسلا ، ومنهم من جعله عن جندب قال ابن المنذر : وقد روينا عن عائشة أنها باعت ساحرة كانت سحرتها وجعلت ثمنها في الرقاب . قال ابن المنذر : وإذا أقر الرجل أنه سحر بكلام يكون كفرا وجب قتله إن لم يتب ، وكذلك لو ثبتت به عليه بينة ووصفت البينة كلاما يكون كفرا . وإن كان الكلام الذي ذكر أنه سحر به ليس بكفر لم يجز قتله ، فإن كان أحدث في المسحور جناية توجب القصاص اقتص منه إن كان عمد ذلك ، وإن كان مما لا قصاص فيه ففيه دية ذلك . قال ابن المنذر : وإذا اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسألة وجب اتباع أشبههم بالكتاب والسنة ، وقد يجوز أن يكون السحر الذي أمر من أمر منهم بقتل الساحر سحرا يكون كفرا فيكون ذلك موافقا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويحتمل أن تكون عائشة رضي الله عنها أمرت ببيع ساحرة لم يكن سحرها كفرا . فإن احتج محتج بحديث جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم : حد الساحر ضربه بالسيف فلو صح لاحتمل أن يكون أمر بقتل الساحر الذي يكون سحره كفرا ، فيكون ذلك موافقا للأخبار التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث . . .قلت : وهذا صحيح ، ودماء المسلمين محظورة لا تستباح إلا بيقين ولا يقين مع الاختلاف . والله تعالى أعلم . وقال بعض العلماء : إن قال أهل الصناعة إن السحر لا يتم إلا مع الكفر والاستكبار ، أو تعظيم الشيطان فالسحر إذا دال على الكفر على هذا التقدير ، والله تعالى أعلم . وروي عن الشافعي : لا يقتل الساحر إلا أن يقتل بسحره ويقول تعمدت القتل ، وإن قال لم أتعمده لم يقتل ، وكانت فيه الدية كقتل الخطأ ، وإن أضر به أدب على قدر الضرر . قال ابن العربي : وهذا باطل من وجهين ، أحدهما : إنه لم يعلم السحر ، وحقيقته أنه كلام مؤلف يعظم به غير الله تعالى ، وتنسب إليه المقادير والكائنات . الثاني : إن الله سبحانه قد صرح في كتابه بأنه كفر فقال : وما كفر سليمان بقول السحر ولكن الشياطين كفروا به وبتعليمه ، وهاروت وماروت يقولان : إنما نحن فتنة فلا تكفر وهذا تأكيد للبيان .[ ص: 48 ] احتج أصحاب مالك بأنه لا تقبل توبته ; لأن السحر باطن لا يظهره صاحبه فلا تعرف توبته كالزنديق ، وإنما يستتاب من أظهر الكفر مرتدا ، قال مالك : فإن جاء الساحر أو الزنديق تائبا قبل أن يشهد عليهما قبلت توبتهما ، والحجة لذلك قوله تعالى : فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا فدل على أنه كان ينفعهم إيمانهم قبل نزول العذاب ، فكذلك هذان .الثانية عشرة : وأما ساحر الذمة ، فقيل يقتل . وقال مالك : لا يقتل إلا أن يقتل بسحره ويضمن ما جنى ، ويقتل إن جاء منه ما لم يعاهد عليه . وقال ابن خويز منداد : فأما إذا كان ذميا فقد اختلفت الرواية عن مالك ، فقال مرة : يستتاب وتوبته الإسلام . وقال مرة : يقتل وإن أسلم . وأما الحربي فلا يقتل إذا تاب ، وكذلك قال مالك في ذمي سب النبي صلى الله عليه وسلم : يستتاب وتوبته الإسلام . وقال مرة : يقتل ولا يستتاب كالمسلم . وقال مالك أيضا في الذمي إذا سحر : يعاقب ، إلا أن يكون قتل بسحره ، أو أحدث حدثا فيؤخذ منه بقدره . وقال غيره : يقتل ; لأنه قد نقض العهد . ولا يرث الساحر ورثته ; لأنه كافر إلا أن يكون سحره لا يسمى كفرا . وقال مالك في المرأة تعقد زوجها عن نفسها أو عن غيرها : تنكل ولا تقتل .الثالثة عشرة : واختلفوا هل يسأل الساحر حل السحر عن المسحور ، فأجازه سعيد بن المسيب على ما ذكره البخاري ، وإليه مال المزني وكرهه الحسن البصري . وقال الشعبي : لا بأس بالنشرة . قال ابن بطال : وفي كتاب وهب بن منبه أن يأخذ سبع ورقات من سدر أخضر فيدقه بين حجرين ثم يضربه بالماء ويقرأ عليه آية الكرسي ، ثم يحسو منه ثلاث حسوات ويغتسل به ، فإنه يذهب عنه كل ما به ، إن شاء الله تعالى ، وهو جيد للرجل إذا حبس عن أهله .الرابعة عشرة : أنكر معظم المعتزلة الشياطين والجن ، ودل إنكارهم على قلة مبالاتهم وركاكة دياناتهم ، وليس في إثباتهم مستحيل عقلي ، وقد دلت نصوص الكتاب والسنة على إثباتهم ، وحق على اللبيب المعتصم بحبل الله أن يثبت ما قضى العقل بجوازه ، ونص الشرع على ثبوته ، قال الله تعالى : ولكن الشياطين كفروا وقال : ومن الشياطين من يغوصون له إلى غير ذلك من الآي ، وسورة " الجن " تقضي بذلك ، وقال عليه السلام : إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم . وقد أنكر هذا الخبر كثير من الناس ، وأحالوا روحين في جسد ، والعقل لا يحيل سلوكهم في الإنس إذا كانت أجسامهم رقيقة بسيطة على ما يقوله بعض الناس بل أكثرهم ، ولو كانوا كثافا لصح ذلك أيضا منهم ، كما يصح دخول الطعام والشراب في الفراغ من الجسم ، وكذلك الديدان قد تكون في بني آدم وهي أحياء .الخامسة عشرة : وما أنزل على الملكين ما نفي ، والواو للعطف على قوله : وما كفر سليمان وذلك أن اليهود قالوا : إن الله أنزل جبريل وميكائيل بالسحر ، فنفى الله ذلك . وفي الكلام تقديم وتأخير ، التقدير وما كفر سليمان ، وما أنزل على الملكين ، ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت ، فهاروت وماروت بدل من الشياطين في قوله : ولكن الشياطين كفروا . هذا أولى ما حملت عليه الآية من التأويل ، وأصح ما قيل فيها ولا يلتفت إلى سواه ، فالسحر من استخراج الشياطين للطافة جوهرهم ، ودقة أفهامهم ، وأكثر ما يتعاطاه من الإنس النساء وخاصة في حال طمثهن ، قال الله تعالى : ومن شر النفاثات في العقد . وقال الشاعر :أعوذ بربي من النافثا ت . . . . . . . . . . . . . .السادسة عشرة : إن قال قائل : كيف يكون اثنان بدلا من جمع والبدل إنما يكون على حد المبدل ، فالجواب من وجوه ثلاثةالأول : أن الاثنين قد يطلق عليهما اسم الجمع ، كما قال تعالى : فإن كان له إخوة فلأمه السدس ولا يحجبها عن الثلث إلى السدس إلا [ ص: 50 ] اثنان من الإخوة فصاعدا ، على ما يأتي بيانه في " النساء " .الثاني : أنهما لما كانا الرأس في التعليم نص عليهما دون أتباعهما ، كما قال تعالى : عليها تسعة عشر .الثالث : إنما خصا بالذكر من بينهم لتمردهما ، كما قال تعالى : فيهما فاكهة ونخل ورمان وقوله : وجبريل وميكال . وهذا كثير في القرآن وفي كلام العرب ، فقد ينص بالذكر على بعض أشخاص العموم إما لشرفه وإما لفضله ، كقوله تعالى : إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي وقوله : وجبريل وميكال ، وإما لطيبه كقوله : فاكهة ونخل ورمان ، وإما لأكثريته ، كقوله صلى الله عليه وسلم : جعلت لي الأرض مسجدا وتربتها طهورا ، وإما لتمرده وعتوه كما في هذه الآية ، والله تعالى أعلم . وقد قيل : إن ما عطف على السحر وهي مفعولة ، فعلى هذا يكون ما بمعنى الذي ، ويكون السحر منزلا على الملكين فتنة للناس وامتحانا ، ولله أن يمتحن عباده بما شاء ، كما امتحن بنهر طالوت ، ولهذا يقول الملكان : إنما نحن فتنة ، أي محنة من الله ، نخبرك أن عمل الساحر كفر فإن أطعتنا نجوت ، وإن عصيتنا هلكت . وقد روي عن علي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وكعب الأحبار والسدي والكلبي ما معناه : أنه لما كثر الفساد من أولاد آدم عليه السلام - وذلك في زمن إدريس عليه السلام - عيرتهم الملائكة ، فقال الله تعالى : أما إنكم لو كنتم مكانهم ، وركبت فيكم ما ركبت فيهم لعملتم مثل أعمالهم ، فقالوا : سبحانك ! ما كان ينبغي لنا ذلك ، قال : فاختاروا ملكين من خياركم ، فاختاروا هاروت وماروت ، فأنزلهما إلى الأرض فركب فيهما الشهوة ، فما مر بهما شهر حتى فتنا بامرأة اسمها بالنبطية " بيدخت " وبالفارسية " ناهيل " وبالعربية " الزهرة " اختصمت إليهما ، وراوداها عن نفسها فأبت إلا أن يدخلا في دينها ويشربا الخمر ويقتلا النفس التي حرم الله ، فأجاباها وشربا الخمر وألما بها ، فرآهما رجل فقتلاه ، وسألتهما عن الاسم الذي يصعدان به إلى السماء فعلماها فتكلمت به فعرجت فمسخت كوكبا . وقال سالم عن أبيه عن عبد الله : [ ص: 51 ] فحدثني كعب الحبر أنهما لم يستكملا يومهما حتى عملا بما حرم الله عليهما . وفي غير هذا الحديث : فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فاختارا عذاب الدنيا ، فهما يعذبان ببابل في سرب من الأرض . قيل : بابل العراق . وقيل : بابل نهاوند ، وكان ابن عمر فيما يروى عن عطاء أنه كان إذا رأى الزهرة وسهيلا سبهما وشتمهما ، ويقول : إن سهيلا كان عشارا باليمن يظلم الناس ، وإن الزهرة كانت صاحبة هاروت وماروت .قلنا : هذا كله ضعيف وبعيد عن ابن عمر وغيره ، لا يصح منه شيء ، فإنه قول تدفعه الأصول في الملائكة الذين هم أمناء الله على وحيه ، وسفراؤه إلى رسله لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون . بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون . يسبحون الليل والنهار لا يفترون . وأما العقل فلا ينكر وقوع المعصية من الملائكة ويوجد منهم خلاف ما كلفوه ، ويخلق فيهم الشهوات ، إذ في قدرة الله تعالى كل موهوم ، ومن هذا خوف الأنبياء والأولياء الفضلاء العلماء ، لكن وقوع هذا الجائز لا يدرك إلا بالسمع ولم يصح . ومما يدل على عدم صحته أن الله تعالى خلق النجوم وهذه الكواكب حين خلق السماء ، ففي الخبر : ( أن السماء لما خلقت خلق فيها سبعة دوارة زحل والمشتري وبهرام وعطارد والزهرة والشمس والقمر " . وهذا معنى قول الله تعالى : وكل في فلك يسبحون . فثبت بهذا أن الزهرة وسهيلا قد كانا قبل خلق آدم ، ثم إن قول الملائكة : " ما كان ينبغي لنا " عورة : لا تقدر على فتنتنا ، وهذا كفر نعوذ بالله منه ومن نسبته إلى الملائكة الكرام صلوات الله عليهم أجمعين ، وقد نزهناهم وهم المنزهون عن كل ما ذكره ونقله المفسرون ، سبحان ربك رب العزة عما يصفون .السابعة عشرة : قرأ ابن عباس وابن أبزى والضحاك والحسن : " الملكين " بكسر اللام . قال ابن أبزى : هما داود وسليمان . ف " ما " على هذا القول أيضا نافية ، وضعف هذا القول ابن العربي . وقال الحسن : هما علجان كانا ببابل ملكين ، ف " ما " على هذا القول مفعولة غير نافية .الثامنة عشرة : ببابل بابل لا ينصرف للتأنيث والتعريف والعجمة ، وهي قطر من الأرض ، قيل : العراق وما والاه . وقال ابن مسعود لأهل الكوفة : أنتم بين الحيرة وبابل . وقال قتادة : هي من نصيبين إلى رأس العين . وقال قوم : هي بالمغرب . قال ابن عطية : وهذا ضعيف . وقال قوم : هو جبل نهاوند ، فالله تعالى أعلم .واختلف في تسميته ببابل ، فقيل : سمي بذلك لتبلبل الألسن بها حين سقط صرح نمروذ . وقيل : سمي به لأن الله تعالى لما أراد أن يخالف بين ألسنة بني آدم بعث ريحا فحشرتهم من الآفاق إلى بابل ، فبلبل الله ألسنتهم بها ، ثم فرقتهم تلك الريح في البلاد . والبلبلة : التفريق ، قال معناه الخليل . وقال أبو عمر بن عبد البر : من أخصر ما قيل في البلبلة وأحسنه ما رواه داود بن أبي هند عن علباء بن أحمر عن عكرمة عن ابن عباس أن نوحا عليه السلام لما هبط إلى أسفل الجودي ابتنى قرية وسماها ثمانين ، فأصبح ذات يوم وقد تبلبلت ألسنتهم على ثمانين لغة ، إحداها اللسان العربي ، وكان لا يفهم بعضهم عن بعض .التاسعة عشرة : روى عبد الله بن بشر المازني قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اتقوا الدنيا فوالذي نفسي بيده إنها لأسحر من هاروت وماروت . قال علماؤنا : إنما كانت الدنيا أسحر منهما لأنها تسحرك بخدعها ، وتكتمك فتنتها ، فتدعوك إلى التحارص عليها والتنافس فيها ، والجمع لها والمنع ، حتى تفرق بينك وبين طاعة الله تعالى ، وتفرق بينك وبين رؤية الحق ورعايته ، فالدنيا أسحر منهما ، تأخذ بقلبك عن الله ، وعن القيام بحقوقه ، وعن وعده ووعيده . وسحر الدنيا محبتها وتلذذك بشهواتها ، وتمنيك بأمانيها الكاذبة حتى تأخذ بقلبك ، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حبك الشيء يعمي ويصم .الموفية عشرين : قوله تعالى : هاروت وماروت لا ينصرف هاروت ; لأنه أعجمي معرفة ، وكذا ماروت ، ويجمع هواريت ومواريت ، مثل طواغيت ، ويقال : هوارتة وهوار ، وموارتة وموار ، ومثله جالوت وطالوت ، فاعلم . وقد تقدم هل هما ملكان أو غيرهما ؟ خلاف . قال الزجاج : وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال : أي والذي أنزل على الملكين ، وأن الملكين يعلمان الناس تعليم إنذار من السحر لا تعليم دعاء إليه . قال الزجاج : وهذا القول [ ص: 53 ] الذي عليه أكثر أهل اللغة والنظر ، ومعناه أنهما يعلمان الناس على النهي فيقولان لهم : لا تفعلوا كذا ، ولا تحتالوا بكذا لتفرقوا بين المرء وزوجه . والذي أنزل عليهما هو النهي ، كأنه قولا للناس : لا تعملوا كذا ، ف ( يعلمان ) بمعنى يعلمان ، كما قال : ولقد كرمنا بني آدم أي أكرمنا .الحادية والعشرون : قوله تعالى : وما يعلمان من أحد من زائدة للتوكيد ، والتقدير : وما يعلمان أحدا . حتى يقولا نصب بحتى فلذلك حذفت منه النون ، ولغة هذيل وثقيف " عتى " بالعين المعجمة . والضمير في يعلمان لهاروت وماروت . وفي يعلمان قولان ، أحدهما : أنه على بابه من التعليم . الثاني : أنه من الإعلام لا من التعليم ، ف يعلمان بمعنى يعلمان ، وقد جاء في كلام العرب تعلم بمعنى اعلم ، ذكره ابن الأعرابي وابن الأنباري . قال كعب بن مالك :تعلم رسول الله أنك مدركي وأن وعيدا منك كالأخذ باليدوقال القطامي :تعلم أن بعد الغي رشدا وأن لذلك الغي انقشاعاوقال زهير :تعلمن ها لعمر الله ذا قسما فاقدر بذرعك وانظر أين تنسلكوقال آخر :تعلم أنه لا طير إلا على متطير وهو الثبورإنما نحن فتنة لما أنبأ بفتنتهما كانت الدنيا أسحر منهما حين كتمت فتنتها . فلا تكفر قالت فرقة بتعليم السحر ، وقالت فرقة باستعماله . وحكى المهدوي أنه استهزاء ; لأنهما إنما يقولانه لمن قد تحققا ضلاله .الثانية والعشرون : قوله تعالى : فيتعلمون منهما قال سيبويه : التقدير فهم يتعلمون ، قال ومثله كن فيكون . وقيل : هو معطوف على موضع ما يعلمان ; لأن قوله : وما يعلمان وإن دخلت عليه ما النافية فمضمنه الإيجاب في التعليم . وقال الفراء : هي مردودة على قوله : يعلمون الناس السحر فيتعلمون ، ويكون " فيتعلمون " متصلة بقوله إنما نحن فتنة فيأتون فيتعلمون . قال السدي : كانا يقولان لمن جاءهما : إنما نحن فتنة فلا تكفر [ ص: 54 ] فإن أبى أن يرجع قالا له : ائت هذا الرماد فبل فيه ، فإذا بال فيه خرج منه نور يسطع إلى السماء ، وهو الإيمان ، ثم يخرج منه دخان أسود فيدخل في أذنيه وهو الكفر ، فإذا أخبرهما بما رآه من ذلك علماه ما يفرقون به بين المرء وزوجه . ذهبت طائفة من العلماء إلى أن الساحر ليس يقدر على أكثر مما أخبر الله عنه من التفرقة ; لأن الله ذكر ذلك في معرض الذم للسحر والغاية في تعليمه ، فلو كان يقدر على أكثر من ذلك لذكره . وقالت طائفة : ذلك خرج على الأغلب ، ولا ينكر أن السحر له تأثير في القلوب ، بالحب والبغض وبإلقاء الشرور حتى يفرق الساحر بين المرء وزوجه ، ويحول بين المرء وقلبه ، وذلك بإدخال الآلام وعظيم الأسقام ، وكل ذلك مدرك بالمشاهدة وإنكاره معاندة ، وقد تقدم هذا ، والحمد لله .الثالثة والعشرون : قوله تعالى : وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ما هم ، إشارة إلى السحرة . وقيل إلى اليهود ، وقيل إلى الشياطين . بضارين به أي بالسحر . من أحد أي أحدا ، ومن زائدة . إلا بإذن الله بإرادته وقضائه لا بأمره لأنه تعالى لا يأمر بالفحشاء ويقضي على الخلق بها . وقال الزجاج : إلا بإذن الله إلا بعلم الله . قال النحاس : وقول أبي إسحاق إلا بإذن الله إلا بعلم الله غلط ; لأنه إنما يقال في العلم أذن ، وقد أذنت أذنا . ولكن لما لم يحل فيما بينهم وبينه وظلوا يفعلونه كان كأنه أباحه مجازا .الرابعة والعشرون : ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم يريد في الآخرة وإن أخذوا بها نفعا قليلا في الدنيا . وقيل : يضرهم في الدنيا ; لأن ضرر السحر والتفريق يعود على الساحر في الدنيا إذا عثر عليه ; لأنه يؤدب ويزجر ، ويلحقه شؤم السحر . وباقي الآي بين لتقدم معانيها .واللام في ولقد علموا لام توكيد . لمن اشتراه لام يمين ، وهي للتوكيد أيضا . وموضع من رفع بالابتداء ; لأنه لا يعمل ما قبل اللام فيما بعدها . ومن بمعنى الذي . وقال الفراء . هي للمجازاة . وقال الزجاج : ليس هذا بموضع شرط ، ومن بمعنى الذي ، كما تقول : لقد علمت ، لمن جاءك ما له عقل . من خلاق من زائدة ، والتقدير ما له في الآخرة خلاق ، ولا تزاد في الواجب ، هذا قول البصريين . وقال الكوفيون : تكون زائدة في الواجب ، واستدلوا بقوله تعالى : يغفر لكم من ذنوبكم والخلاق : النصيب ، قاله مجاهد . قال الزجاج : وكذلك هو عند أهل اللغة ، إلا أنه لا يكاد يستعمل إلا للنصيب من الخير . وسئل عن قوله تعالى : ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق فأخبر أنهم قد علموا . ثم قال : ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون فأخبر أنهم لا يعلمون ، فالجواب وهو [ ص: 55 ] قول قطرب والأخفش : أن يكون الذين يعلمون الشياطين ، والذين شروا أنفسهم - أي باعوها - هم الإنس الذين لا يعلمون . قال الزجاج وقال علي بن سليمان : الأجود عندي أن يكون ولقد علموا للملكين ; لأنهما أولى بأن يعلموا . وقال : علموا كما يقال : الزيدان قاموا . وقال الزجاج : الذين علموا علماء اليهود ، ولكن قيل : لو كانوا يعلمون أي فدخلوا في محل من يقال له : لست بعالم ; لأنهم تركوا العمل بعلمهم واسترشدوا من الذين عملوا بالسحر .
ٱلتَّفْسِيرُ ٱلْوَسِيط
Tafsir Al-Waseet —
علمائے جامعہ ازہر
ثم حكى - سبحانه - لوناً آخر من زيغهم وضلالهم واتباعهم للأباطيل بعد أن وبخهم على نبذهم لكتابه فقال تعالى : ( واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين على مُلْكِ سُلَيْمَانَ ) .اتبعوا : من الاتباع وهو الاقتداء ، والضمير فيه يعود على اليهود المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم .وتتلو : من التلاوة بمعنى الاتباع أو القراءة ، وقال الراغب : تلا عليه كذب عليه .والشياطين : جمع شيطان ، وهو كائن حي خلق من النار ، ويطلق على الممتلئ شراً من الأنس .والمعنى : إن هؤلاء اليهود نبذوا كتاب الله ، واتبعوا الذي كانت تتلوه وتقصه الشياطين على عهد ملك سليمان ، وفي زمانه ، من الأكاذيب والكفر ومن ذلك زعمهم أن ملكه قام على أساس السحر ، وأنه ارتد في أواخر حياته ، وعبد الأصنام إرضاء لنسائه والوثنيات إلى غير ذلك من الأكاذيب التي ألصقوها به - عليه السلام - وهو برئ منها .قال صاحب الكشاف : وقوله تعالى : ( على مُلْكِ سُلَيْمَانَ ) أي على عهد ملكه وفي زمانه ، وذلك أن الشياطين كانوا يسترقون السمع ثم يضمون إلى ما سمعوا أكاذيب يلفقونها ويلقونها إلى الكهنة ، وقد دونوها في كتب يقرءونها ويعلمونها للناس ، وفشا ذلك في زمان سليمان - عليه السلام - حتى قالوا : إن الجن تعلم الغيب ، وكانوا يقولون : ما تم لسليمان ملكه إلا بهذا العلم وبه يسخر الإِنس والجن والريح التي تجري بأمره .وقوله تعالى : ( وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ولكن الشياطين كَفَرُواْ ) معناه : وما كفر سليمان ولكن الشياطين هم الذين كفروا إذ تعلموا السحر وعلموه لغيرهم بقصد إضلالهم ، وصرفهم عن عبادة - الله - تعالى - إلى عبادة غيره من المخلوقات .ففي الجملة الكريمة تنزيه لسليمان - عليه السلام - عن الردة والشرك وتبرئه له من عمل السحر الذي كان يتعاطاه أولئك الشياطين وينسبونه إليه زوراً وبهتاناً ، ودلالة على أن ذلك السحر الذي نسبوه إليه وباشرته الشياطين نوع من الكفر .وقد كان اليهود يعتقدون كفر سليمان ، وأنه ارتد في آخر عمره ، وعبد الأصنام وبني لها المعابد ، وكانوا عندما يذكر النبي صلى الله عليه وسلم سليمان بين الأنبياء يقولون : انظروا إلى محمد يخلط الحق بالباطل ، يذكر سليمان مع الأنبياء ، وإنما كان ساحراً يركب الريح .فإن قال قائل : ما الحكمة في نفي الكفر عن سليمان مع أن صدر الآية لا يفيد أن أحداً نسب إليه ذلك .فالجواب : أن اليهود الذين نبذوا كتاب الله ، واتبعوا ما تلته الشياطين من السحر أضافوا هذا السحر إلى سليمان ، وقالوا إنه كان يسخر به الجن والإِنس والريح ، فأكذبهم الله - تعالى - بقوله : ( وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ولكن الشياطين كَفَرُواْ ) كما بينا .والضمير في قوله تعالى : ( يُعَلِّمُونَ الناس السحر ) : وجهان :أحدهما : أنه متصل بقوله تعالى : ( ولكن الشياطين كَفَرُواْ ) أي : أن الشياطين هم الذين يعلمون الناس السحر .والثاني : وهو الأظهر أنه متصل بالكلام عن اليهود وأن الكلام في الشياطين قد انتهى عند قوله تعالى ( كَفَرُواْ ) وانتحال اليهود لتعليم السحر أمر كان مشهوراً في زمن التنزيل ولا يزالون ينتحلون ذلك إلى اليوم ، أي أن فريقاً من اليهود نبذوا كتاب الله اتبعوا أولئك الشياطين الذين كذبوا على سليمان في رميه بالكر وزعمهم أن السحر استخرج من كتبه التي كانت تحت كرسيه؟ فأجاب على طريق الاستئناف البياني ( يُعَلِّمُونَ الناس السحر ) .ونفي الكفر عن سليمان والصاقه بالشياطين الكاذبين ذكر بطريق الاعتراض ، فعلم أيضاً - أنهم اتبعوا الشياطين بهذه القرية ، وإنما كان القصد إلى صوف اليهود بتعلم السحر ، لأنه من السيئات التي كانوا متلبسين بها ، ويضرون بها الناس خداعاً وتمويها وتلبساً .وإنما أضاف الله - تعالى - إلى اليهود أنهم اتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان خاصة مع أنه كان معروفاً قبل سليمان - عليه السلام - كما أخبر به القرآن عن سحرة فرعون ، وإنما أضاف ذلك إليهم ، لأن هذا كان هو الواقع منهم ، ولأن سحر هؤلاء الشياطين الذين كانوا على عهد سليمان ، كان مدوناً في صحف اليهود من قديم ، وتوارثه خلفهم عن سلفهم إلى أن صول إلى من عاصر النبي صلى الله عليه وسلم منهم ولأن سليمان - عليه السلام - أعطاه الله تعالى ملكاً واسعاً وسخر له الإِنس والجن والريح ، فعزت الشياطين ذلك كله إلى تعلمه السحر .و ( مَآ ) في قوله تعالى : ( وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى الملكين بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ) موصولة ، وهي معطوفة على السحر في قوله تعالى : ( يُعَلِّمُونَ الناس السحر ) أي يعلمون الناس السحر ، ويعلمونهم الذي أنزل على الملكين .والذي أنزل عليهما هو وصف السحر وما هيته وكيفية الاحتيال به . ليعرفاه الناس فيجتنبوه على حد قول الشاعر :عرفت الشر لا للشر لكن لتوقيه ... ومن لا يعرف الشر من الناس يقع فيهفالشياطين عرفوه فعملوا به ، وعلموه للناس ليستعملوه في الشرر والمآثم بينما المؤمنون عرفوه واستفادوا من الاطلاع عليه فتجنبوه .هذا ، واختصت بابل بالإِنزال ، لأنها كانت أكثر البلاد عملا بالسحر ، وكان سحرتها قد اتخذوا السحر وسيلة لتسخير العامة لهم في أبدانهم وعقولهم وأموالهم ، ثم جروهم إلى عبادة الأصنام والكواكب فحدث فساد عظيم ، وعمت الأباطيل فألهم الله - تعالى - هاروت وماروت أن يكشفا للناس حقيقة السحر ودقائقه ، حتى يعلموا أن السحرة الذين صرفوهم عن عبادة الله إلى عبادة الكواكب وغيرها قد خدعوهم وأضلوهم ، وبذلك يعودون إلى الصراط المستقيم .واللام في ( الملكين ) مفتوحة في القراءات العشر المتواترة ، وقرئ شاذاً ( الملكين ) بكسر اللام .قال بعض المفسرين : المراد بالملكين - بفتح اللام - رجلان صالحان اطلعا على أسرار السحر التي كانت تفعلها السحرة ، فعلماها للناس ليحذراهم من الانقياد لتلبيسات الشياطين ، وسميا ملكين مع أنهما من البشر لصلاحهما وتقواهما ، ويؤيد هذا الرأي قراءة الملكين - بكسر اللام - وإن كانت شاذة :وقال جمهور المفسرين : إنما ملكان على الحقيقة أنزلهما الله - تعالى - ليعلما الناس السحر ابتلاء لهم ، ليفضحا مزاعم السحرة الذين كانوا يدعون النبوة كذبا ، ويسخرون العامة لهم ويخرجونهم إلى عبادة غير الله ، ( هَارُوتَ وَمَارُوتَ ) اسمان للملكين الذين أنزل عليهما السحر ، وهما بدل أو عطف بيان للملكين .وقوله تعالى : ( وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حتى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ ) بيان لما كان ينصح به الملكان من يريد تعلم السحر منهما . والجملة حالية من هاروت وماروت .والفتنة ، المراد هنا الابتلاء والاختبار ، تقول : فتنت الذهب في النار ، أي : اختبرته لتعرف جودته ورداءته .والمعنى : أن الملكين لا يعلمان أحداً من الناس السحر إلا وينصحانه بقولهما إن ما نعلمك إياه من فنون السحر الغرض منه الابتلاء والاختبار لتمييز المطيع من العاصي . فمن عمل به ضل وقوي ، ومن تركه فهو على هدى ونور من الله ، ولإِظهار الفرق بين المعجزة والسحر . فحذار أن تستعمل ما تعلمته فيما نهيت عنه فتكون من الكافرين : كما كفر السحرة بنسبتهم التأثيرات إلى الكواكب وغيرها من المخلوقات .فالمقصود من تعليم الملكين للناس السحر ، فضح أمر السحرة الذين كثروا في تلك الأيام ، وادعو ما لم يأذن به الله ، وإظهار الفرق بين المعجزة والسحر حتى يعلم الناس أن هؤلاء السحرة الذين قد يزعمون بمرور الأيام أنهم أنبياء ليسوا كذلك ، وإنما هم أفاكون ، وأخبروا على أنفسهم بطريق القصر بأنهم فتنة للمبالغة في الإقرار بأنهما لا يملكان نفعاً ولا ضراً لأحد ، وإنما هما فتنة محضة ، وابتلاء من الله لعباده لتمييز المطيع من العاصي .ثم بين - سبحانه - لوناً من السحر البغيض الذي استعمله أولئك السحرة في الأذى فقال تعالى : ( فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ المرء وَزَوْجِهِ ) أي فيتعلم بعض الناس من الملكين ما يحصل به الفراق بين المرء وزوجه .فالجملة الكريمة تفريع عما دل عليه قوله تعالى قبل ذلك : ( وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حتى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ ) لأنه يقتضي أن التعليم حاصل ، وأن بعض المتعلمين قد استعملوه في التفريق بين الزوجين .وخصص سبحانه ها اللون من السحر بالنص عليه للتنبيه على شدة فساده . وعلى شناعة ذنب من يقوم به . لأنه تسبب عنه التفريق بين الزوجين اللذين جمعت بينهما أواصر المودة والرحمة .والضمير في قوله تعالى : ( فَيَتَعَلَّمُونَ ) راجع لأحد ، وصح عود ضمير الجمع عليه مع أنه مفرد ، لوقوعه في سياق النفي ، والنكرة إذا وردت بعد نفي كانت في معنى أفراد كثيرة ، فصح أن يعود ضمير الجمع إليه كذلك .ثم نفى - سبحانه - أن يكون السحر مؤثراً بذاته فقال تعالى : ( وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله ) أي : أن أولئك السحرة لن يضروا أو ينفعوا أحداً بسحرهم إلا بإذن الله وقدرته ، فالسحر سبب عادي لما ينشأ عنه من الأضرار ويجوز أن يتخلف عنه مسببه إذا أذن الله بذلك .والجملة الكريمة معترضة لدفع توهم أن يكون السحر مضراً بذاته ، بحيث لا يتخلف عنه الضرر متى تعاطاه الساحر .والمراد ( بِإِذْنِ الله ) هنا . تخليته - سبحانه - بين السحور وضرر السحر ، أي : إن شاء حصل الضرر بسبب السحر ، وإن شاء منعه فلا يصيب المسحور منه شيء من الأذى .وعبر - سبحانه - عن هذا المعنى بطريق القصر ، مبالغة في نفي أي تأثير للسحر بذاته ، وإغراء للناس بتكذيب ما يزعمه السحرة من أن لهم قوي غيبية سوى الأسباب التي ربط الله بها المسببات ، وإرشاداً لهم إلى حسن الاعتقاد ، وسلامة اليقين .ثم بين - سبحانه - أن أولئك المتعليمن السحر للأذى وللتفرقة بين المتحابين يتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ، فقال تعالى : ( وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ ) أي : أن أولئك الذين تعلموا السحر ليضروا به غيرهم ، ولم يتعلموه ليفرقوا به بين الحق والباطل ، أو ليدفعوا به الشر عن أنفسهم ، قد سلكوا بهذا التعليم الطريق الذي يضرهم ولا ينفعهم ، وأصبحوا بذلك عاصين لما نصحهم به الملكان عند تعليم السحر .وفي هذه الجملة الكريمة زيادة تنبيه على تفاهة عقول المشتغلين بالسحر للأذى ومبالغة في تجهيل المصدقين لهم ، لأن الساحر - مهما بلغت براعته - فلن يستطيع أن يمنع شيئاً أراده الله ، ولا أن يأتي بشيء منعه الله ما دام الأمر كذلك فالمشتغل به ، والمصدق له كلاهما وقع في ضلال مبين .وقد أفادت الجملة الكريمة يجمعهها بين إثبات الضر ونفي النفع مفاد الحصر فكأنه - سبحانه - يقول : ويتعلمون ما ليس إلا ضرراً بحتاً .ثم بين - سبحانه - مآل أولئك اليهود التاركين للحق ، والمتبعين للباطل فقال تعالى : ( وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشتراه مَا لَهُ فِي الآخرة مِنْ خَلاَقٍ ) أي : ولقد علم أولئك اليهود الذين بنذوا تعاليم كتابهم واتبعوا السحر ، أن من استبدل السحر بكتاب الله بكتاب الله ليس له من حظ في الجنة ، لأنه قد اختار الضلال وترك الهدى ، وعلمهم مرجعه إلى أن التوراة قد حرمت عليهم تعلم السحر أو تعليمه للأذى والضرر ، وشددت العقوبة على مرتكبه ، وعلى متبع الجن والشياطين والكهان .فالضمير في ( عَلِمُواْ ) يعود إلى أولئك اليهود الذي تركوا كتاب الله واستبدلوا به السحر .والاشتراء هو اكتساب شيء ببذل غيره ، والمراد أنهم اكتسبوا السحر الذي تتلوه الشياطين بعد أن بذلوا في سبيل ذلك إيمانهم ونصيبهم من الجنة ، وغدوا مفلسين من حظوظ الآخرة ، لإقبالهم على التمويه والكذب ، واستبدالهم الذي هو أدنى بالذي هو خير .وأكد - سبحانه - علمهم بضرر السحر بقوله ( وَلَقَدْ عَلِمُواْ ) للإِشارة إلى أن اختيارهم للسحر لم ينشأ عن جهلهم بضرره ، وإنما هم الذين اختاروه ومالوا إليه متعمدين وعالمين بعاقبته السيئة .ثم قال تعالى : ( وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ) .شروا : بمعنى باعوا ، وبيع الأنفس هنا معناه بيع نصيبها من الجنة . ونعيمها .والمعنى : ولبئس شيئا باع به أولئك السحرة حظوظ أنفسهم تعلم ما يضر من السحر والعمل به ، ولو كانوا ممن ينتفعون بعلمهم لما فعلوا ذلك .وأثبت لهم العلم في قوله تعالى : ( وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشتراه ) ثم نفاه عنه في قوله تعالى : ( لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ) جرياً على الأسلوب المعروف في فنون البلاغة من أن العالم بالشيء إذا لم يعمل بموجب علمه نزل منزلة الجاهل ونفي عنه العلم كما ينفي عن الجاهلين .وإلأى هذا المعنى الذي قررناه أشار صاحب الكشاف بقوله .فإن قلت كيف أثبت لهم العلم أولا في قوله : ( وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشتراه ) على سبيل التوكيد القسمي ، ثم نفاه عنهم في قوله : ( لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ) .قلت : معناه لو كانوا يعملون بعلمهم . جعلهم حين لم يعملوا به كأنهم منسخلون عنه .
تَفْسِيرُ ٱلْبَغَوِيِّ
Tafsir al-Baghawi —
علامہ بغوی
قوله تعالى : ( واتبعوا ) يعني اليهود ( ما تتلو الشياطين ) أي : ما تلت ، والعرب تضع المستقبل موضع الماضي ، والماضي موضع المستقبل ، وقيل : ما كنت تتلو أي تقرأ ، قال ابن عباس رضي الله عنه : تتبع وتعمل به ، وقال عطاء تحدث وتكلم به ( على ملك سليمان ) أي : في ملكه وعهده .وقصة الآية أن الشياطين كتبوا السحر والنيرنجيات على لسان آصف بن برخيا هذا ما علم آصف بن برخيا سليمان الملك ، ثم دفنوها تحت مصلاه حتى نزع الله الملك عنه ولم يشعر بذلك سليمان فلما مات استخرجوها وقالوا للناس : إنما ملكهم سليمان بها فتعلموه فأما علماء بني إسرائيل وصلحاؤهم فقالوا : معاذ الله أن يكون هذا من علم الله وأما السفلة ، فقالوا : هذا علم سليمان ، وأقبلوا على تعلمه ، ورفضوا كتب أنبيائهم ، وفشت الملامة على سليمان فلم يزل هذا حالهم وفعلهم حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه براءة سليمان ، هذا قول الكلبي .وقال السدي : كانت الشياطين تصعد إلى السماء ، فيسمعون كلام الملائكة فيما يكون في الأرض من موت وغيره ، فيأتون الكهنة ويخلطون بما يسمعون في كل كلمة سبعين كذبة ويخبرونهم بها [ فكتب ذلك ] وفشا في بني إسرائيل أن الجن يعلمون الغيب ، فبعث سليمان في الناس وجمع تلك الكتب وجعلها في صندوق ودفنه تحت كرسيه وقال : لا أسمع أحدا يقول إن الشيطان يعلم الغيب إلا ضربت عنقه ، فلما مات سليمان وذهب العلماء الذين كانوا يعرفون أمر سليمان ودفنة الكتب ، وخلف من بعدهم خلف ، تمثل الشيطان على صورة إنسان فأتى نفرا من بني إسرائيل فقال : هل أدلكم على كنز لا تأكلونه أبدا قالوا : نعم فذهب معهم فأراهم المكان الذي تحت كرسيه ، فحفروا فأقام ناحية فقالوا له : ادن وقال : لا أحضر ، فإن لم تجدوه فاقتلوني ، وذلك أنه لم يكن أحد من الشياطين يدنو من الكرسي إلا احترق ، فحفروا وأخرجوا تلك الكتب ، فقال الشيطان لعنه الله : إن سليمان كان يضبط الجن والإنس والشياطين والطير بهذا ، ثم طار الشيطان عنهم ، وفشا في الناس أن سليمان كان ساحرا ، وأخذوا تلك الكتب ( واستعملوها ) فلذلك أكثر ما يوجد السحر في اليهود ، فلما جاء محمد صلى الله عليه وسلم برأ الله تعالى سليمان من ذلك ، وأنزل في عذر سليمان : ( وما كفر سليمان ) بالسحر ، وقيل : لم يكن سليمان كافرا بالسحر ويعمل به ( ولكن الشياطين كفروا ) قرأ ابن عباس رضي الله عنه والكسائي وحمزة ، " لكن " خفيفة النون " والشياطين " رفع ، وقرأ الآخرون ولكن مشددة النون " والشياطين " نصب وكذلك " ولكن الله قتلهم " ( 17 - الأنفال ) ومعنى لكن : نفي الخبر الماضي وإثبات المستقبل .( يعلمون الناس ) قيل : معنى السحر العلم والحذق بالشيء قال الله تعالى " وقالوا يا أيها الساحر ادع لنا ربك ( 49 - الزخرف ) أي العالم ، والصحيح : أن السحر عبارة عن التمويه والتخييل ، والسحر وجوده حقيقة عند أهل السنة ، وعليه أكثر الأمم ، ولكن العمل به كفر ، حكي عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال : السحر يخيل ويمرض وقد يقتل ، حتى أوجب القصاص على من قتل به فهو من عمل الشيطان ، يتلقاه الساحر منه بتعليمه إياه ، فإذا تلقاه منه استعمله في غيره ، وقيل : إنه يؤثر في قلب الأعيان فيجعل الآدمي على صورة الحمار ويجعل الحمار على صورة الكلب ، والأصح أن ذلك تخييل قال الله تعالى : " يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى ( 66 - طه ) لكنه يؤثر في الأبدان بالأمراض والموت والجنون ، وللكلام تأثير في الطباع والنفوس وقد يسمع الإنسان ما يكره فيحمى ويغضب وربما يحم منه ، وقد مات قوم بكلام سمعوه فهو بمنزلة العوارض والعلل التي تؤثر في الأبدان .قوله عز وجل ( وما أنزل على الملكين ببابل ) أي ويعلمون الذي أنزل على الملكين [ أي إلهاما وعلما ، فالإنزال بمعنى الإلهام والتعليم ، وقيل : واتبعوا ما أنزل على الملكين ] وقرأ ابن عباس والحسن الملكين بكسر اللام ، وقال ابن عباس : هما رجلان ساحران كانا ببابل ، وقال الحسن : علجان ؛ لأن الملائكة لا يعلمون السحر .وبابل هي بابل العراق سميت بابل لتبلبل الألسنة بها عند سقوط صرح نمرود أي تفرقها ، قال ابن مسعود : بابل أرض الكوفة ، وقيل جبل دماوند ، والقراءة المعروفة على الملكين بالفتح . فإن قيل كيف يجوز تعليم السحر من الملائكة ؟ قيل : له تأويلان : أحدهما ، أنهما لا يتعمدان التعليم لكن يصفان السحر ويذكران بطلانه ويأمران باجتنابه ، والتعليم بمعنى الإعلام ، فالشقي يترك نصيحتهما ويتعلم السحر من صنعتهما .والتأويل الثاني : وهو الأصح : أن الله تعالى امتحن الناس بالملكين في ذلك الوقت فمن شقي يتعلم السحر منهما ويأخذه عنهما ويعمل به فيكفر به ، ومن سعد يتركه فيبقى على الإيمان ، ويزداد المعلمان بالتعليم عذابا ، ففيه ابتلاء للمعلم [ والمتعلم ] ولله أن يمتحن عباده بما شاء ، فله الأمر والحكم .قوله عز وجل ( هاروت وماروت ) اسمان سريانيان وهما في محل الخفض على تفسير الملكين إلا أنهما نصبا لعجمتهما ومعرفتهما ، وكانت قصتهما على ما ذكر ابن عباس والمفسرون أن الملائكة رأوا ما يصعد إلى السماء من أعمال بني آدم الخبيثة في زمن إدريس عليه السلام فعيروهم وقالوا : هؤلاء الذين جعلتهم في الأرض خليفة واخترتهم فهم يعصونك فقال الله تعالى : لو أنزلتكم إلى الأرض وركبت فيكم ما ركبت فيهم لركبتم مثل ما ركبوا فقالوا : سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نعصيك قال لهم الله تعالى : فاختاروا ملكين من خياركم أهبطهما إلى الأرض ، فاختاروا هاروت وماروت وكانا من أصلح الملائكة وأعبدهم ، وقال الكلبي : قال الله تعالى لهم : اختاروا ثلاثة فاختاروا عزا وهو هاروت وعزايا وهو ماروت - غير اسمهما لما قارفا الذنب - وعزائيل ، فركب الله فيهم الشهوة وأهبطهم إلى الأرض وأمرهم أن يحكموا بين الناس بالحق ونهاهم عن الشرك والقتل بغير الحق والزنا وشرب الخمر ، فأما عزائيل فإنه لما وقعت الشهوة في قلبه استقبل ربه وسأله أن يرفعه إلى السماء ، فأقاله فسجد أربعين سنة لم يرفع رأسه ، ولم يزل بعد مطأطئا رأسه حياء من الله تعالى .وأما الآخران : فإنهما ثبتا على ذلك وكانا يقضيان بين الناس يومهما ، فإذا أمسيا ذكرا اسم الله الأعظم وصعدا إلى السماء ، قال قتادة : فما مر عليهما شهر حتى افتتنا . قالوا جميعا إنه اختصمت إليهما ذات يوم الزهرة وكانت من أجمل النساء ، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : وكانت من أهل فارس وكانت ملكة في بلدها فلما رأياها أخذت بقلوبهما فراوداها عن نفسها فأبت وانصرفت ثم عادت في اليوم الثاني ففعلا مثل ذلك فأبت وقالت : لا إلا أن تعبدا ما أعبد وتصليا لهذا الصنم وتقتلا النفس وتشربا الخمر فقالا لا سبيل إلى هذه الأشياء فإن الله تعالى قد نهانا عنها ، فانصرفت ثم عادت في اليوم الثالث ومعها قدح من خمر ، وفي أنفسهما من الميل إليها ما فيها فراوداها عن نفسها فعرضت عليهما ما قالت بالأمس فقالا : الصلاة لغير الله عظيم ، وقتل النفس عظيم ، وأهون الثلاثة شرب الخمر ، فشربا الخمر فانتشيا ووقعا بالمرأة ، فزنيا فلما فرغا رآهما إنسان فقتلاه ، قال الربيع بن أنس وسجدا للصنم فمسخ الله الزهرة كوكبا - وقال بعضهم : جاءتهما امرأة من أحسن الناس تخاصم زوجها فقال أحدهما للآخر : هل سقط في نفسك مثل الذي سقط في نفسي ( من حب هذه ) ؟ قال : نعم فقال : وهل لك أن تقضي لها على زوجها بما تقول ؟ فقال له صاحبه : أما تعلم ما عند الله من العقوبة والعذاب ؟ فقال له صاحبه : أما تعلم ما عند الله من العفو والرحمة فسألاها نفسها ، فقالت : لا إلا أن تقتلاه فقال أحدهما : أما تعلم ما عند الله من العقوبة والعذاب ؟ فقال صاحبه : أما تعلم ما عند الله من العفو والرحمة فقتلاه ثم سألاها نفسها ، فقالت : لا إن لي صنما أعبده ، إن أنتما صليتما معي له : فعلت ، فقال : أحدهما لصاحبه مثل القول الأول فقال صاحبه مثله ، فصليا معها له فمسخت شهابا .قال ابن أبي طالب رضي الله عنه والكلبي والسدي : إنها قالت لهما حين سألاها نفسها : لن تدركاني حتى تخبراني بالذي تصعدان به إلى السماء فقالا باسم الله الأكبر ، قالت : فما أنتم تدركاني حتى تعلمانيه ، فقال أحدهما لصاحبه : علمها فقال : إني أخاف الله رب العالمين ، قال الآخر : فأين رحمة الله تعالى ؟ فعلماها ذلك فتكلمت ، فصعدت إلى السماء فمسخها الله كوكبا ، فذهب بعضهم إلى أنها الزهرة بعينها وأنكر الآخرون هذا وقالوا : إن الزهرة من الكواكب السبعة السيارة التي أقسم الله بها فقال " فلا أقسم بالخنس الجواري الكنس " ( 15 - التكوير ) والتي فتنت هاروت وماروت امرأة كانت تسمى الزهرة لجمالها فلما بغت مسخها الله تعالى شهابا ، قالوا : فلما أمسى هاروت وماروت بعدما قارفا الذنب هما بالصعود إلى السماء فلم تطاوعهما أجنحتهما ، فعلما ما حل بهما ( من الغضب ) فقصدا إدريس النبي عليه السلام ، فأخبراه بأمرهما وسألاه أن يشفع لهما إلى الله عز وجل وقالا له : إنا رأيناك يصعد لك من العبادات مثل ما يصعد لجميع أهل الأرض فاستشفع لنا إلى ربك ففعل ذلك إدريس عليه السلام فخيرهما الله بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، فاختارا عذاب الدنيا إذ علما أنه ينقطع فهما ببابل يعذبان .واختلفوا في كيفية عذابهما فقال عبد الله بن مسعود : هما معلقان بشعورهما إلى قيام الساعة ، وقال عطاء بن أبي رباح : رءوسهما مصوبة تحت أجنحتهما ، وقال قتادة ( كبلا ) من أقدامهما إلى أصول أفخاذهما ، وقال مجاهد : جعلا في جب ملئت نارا ، وقال عمر بن سعد : منكوسان يضربان بسياط من الحديد .وروي أن رجلا قصد هاروت وماروت لتعلم السحر فوجدهما معلقين بأرجلهما ، مزرقة أعينهما ، مسودة جلودهما ، ليس بين ألسنتهما وبين الماء إلا أربع أصابع وهما يعذبان بالعطش ، فلما رأى ذلك هاله مكانهما فقال : لا إله إلا الله ، فلما سمعا كلامه قالا له : من أنت ؟ قال : رجل من الناس ، قالا من أي أمة أنت ؟ قال : من أمة محمد صلى الله عليه وسلم قالا أوقد بعث محمد صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم ، قالا : الحمد لله ، وأظهر الاستبشار فقال الرجل : ومم استبشاركما ؟ قالا إنه نبي الساعة وقد دنا انقضاء عذابنا .قوله تعالى : ( وما يعلمان من أحد ) أي أحدا ، و " من " صلة ( حتى ) ينصحاه أولا و ( يقولا إنما نحن فتنة ) ابتلاء ومحنة ( فلا تكفر ) أي لا تتعلم السحر فتعمل به فتكفر ، وأصل الفتنة : الاختبار والامتحان ، من قولهم : فتنت الذهب والفضة إذا أذبتهما بالنار ، ليتميز الجيد من الرديء وإنما وحد الفتنة وهما اثنان ؛ لأن الفتنة مصدر ، والمصادر لا تثنى ولا تجمع ، وقيل : إنهما يقولان " إنما نحن فتنة فلا تكفر " سبع مرات .قال عطاء والسدي : فإن أبى إلا التعلم قالا له : ائت هذا الرماد ( وأقبل عليه ) فيخرج منه نور ساطع في السماء فذلك نور المعرفة ، وينزل شيء أسود شبه الدخان حتى يدخل مسامعه وذلك غضب الله تعالى ، قال مجاهد : إن هاروت وماروت لا يصل إليهما أحد ويختلف فيما بينهما شيطان في كل مسألة اختلافة واحدة ، ( فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه ) أن ( يؤخذ ) كل واحد عن صاحبه ، ويبغض كل واحد إلى صاحبه قال الله تعالى : ( وما هم ) قيل أي السحرة وقيل : الشياطين ( بضارين به ) أي بالسحر ( من أحد ) أي أحدا ، ( إلا بإذن الله ) أي : بعلمه وتكوينه ، فالساحر يسحر والله يكون .قال سفيان الثوري : معناه إلا بقضائه وقدرته ومشيئته ، ( ويتعلمون ما يضرهم ) يعني : أن السحر يضرهم ( ولا ينفعهم ولقد علموا ) يعني اليهود ( لمن اشتراه ) أي اختار السحر ( ما له في الآخرة من خلاق ) أي في الجنة من نصيب ( ولبئس ما شروا به ) باعوا به ( أنفسهم ) حظ أنفسهم ، حيث اختارواالسحر والكفر على الدين والحق ( لو كانوا يعلمون ) فإن قيل : أليس قد قال ولقد علموا لمن اشتراه فما معنى قوله تعالى " لو كانوا يعلمون " بعدما أخبر أنهم علموا قيل : أراد بقوله " ولقد علموا " يعني الشياطين . وقوله " لو كانوا يعلمون " يعني اليهود وقيل : كلاهما في اليهود يعني : لكنهم لما لم يعلموا بما علموا فكأنهم لم يعلموا