تَفْسِيرُ ٱلْمُيَسَّر
Tafsir Al-Muyassar —
کنگ فہد قرآن کمپلیکس
أباح الله لكم في ليالي شهر رمضان جماعَ نسائكم، هنَّ ستر وحفظ لكم، وأنتم ستر وحفظ لهن. علم الله أنكم كنتم تخونون أنفسكم؛ بمخالفة ما حرَّمه الله عليكم من مجامعة النساء بعد العشاء في ليالي الصيام -وكان ذلك في أول الإسلام-، فتاب الله عليكم ووسَّع لكم في الأمر، فالآن جامعوهن، واطلبوا ما قدَّره الله لكم من الأولاد، وكلوا واشربوا حتى يتبَيَّن ضياء الصباح من سواد الليل، بظهور الفجر الصادق، ثم أتموا الصيام بالإمساك عن المفطرات إلى دخول الليل بغروب الشمس. ولا تجامعوا نساءكم أو تتعاطوا ما يفضي إلى جماعهن إذا كنتم معتكفين في المساجد؛ لأن هذا يفسد الاعتكاف (وهو الإقامة في المسجد مدة معلومة بنيَّة التقرب إلى الله تعالى). تلك الأحكام التي شرعها الله لكم هي حدوده الفاصلة بين الحلال والحرام، فلا تقربوها حتى لا تقعوا في الحرام. بمثل هذا البيان الواضح يبين الله آياته وأحكامه للناس؛ كي يتقوه ويخشَوْه.
تَفْسِيرُ ٱلْجَلَالَيْنِ
Tafsir al-Jalalayn —
جلال الدین محلی اور جلال الدین سیوطی
«أُحلَّ لكم ليلة الصيام الرفث» بمعنى الإفضاء «إلى نسائكم» بالجماع، نزل نسخا لما كان في صدر الإسلام على تحريمه وتحريم الأكل والشرب بعد العشاء «هن لباس لكم وأنتم لباس لهن» كناية عن تعانقهما أو احتياج كل منهما إلى صاحبه «علم الله أنكم كنتم تختانون» تخونون «أنفسكم» بالجماع ليلة الصيام وقع ذلك لعمر وغيره واعتذروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم «فتاب عليكم» قبل توبتكم «وعفا عنكم فالآن» إذ أحل لكم «باشروهن» جامعوهن «وابتغوا» اطلبوا «ما كتب الله لكم» أي أباحه من الجماع أو قدره من الولد «وكلوا واشربوا» الليل كله «حتى يتبيَّن» يظهر «لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر» أي الصادق بيان للخيط الأبيض وبيان الأسود محذوف أي من الليل شبه ما يبدو من البياض وما يمتد معه من الغبش بخيطين أبيض وأسود في الامتداد «ثم أتُّموا الصيام» من الفجر «إلى الليل» أي إلى دخوله بغروب الشمس «ولا تباشروهن» أي نساءكم «وأنتم عاكفون» مقيمون بنية الاعتكاف «في المساجد» متعلق بعاكفون نهيٌ لمن كان يخرج وهو معتكف فيجامع امرأته ويعود «تلك» الأحكام المذكورة «حدود الله» حدَّها لعباده ليقفوا عندها «فلا تقربوها» أبلغ من لا تعتدوها المعبر به في آية أخرى «كذلك» كما بيَّن لكم ما ذكر «يُبيِّن الله آياته للناس لعلهم يتقون» محارمه.
تَفْسِيرُ ٱلْقُرْطُبِيِّ
Tafsir al-Qurtubi —
علامہ قرطبی
قوله تعالى : أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد تلك حدود الله فلا تقربوها كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقونفيه ست وثلاثون مسألة :الأولى : قوله تعالى : أحل لكم لفظ أحل يقتضي أنه كان محرما قبل ذلك ثم نسخ . روى أبو داود عن ابن أبي ليلى قال وحدثنا أصحابنا قال : وكان الرجل إذا أفطر فنام [ ص: 293 ] قبل أن يأكل لم يأكل حتى يصبح ، قال : فجاء عمر فأراد امرأته فقالت : إني قد نمت ، فظن أنها تعتل فأتاها ، فجاء رجل من الأنصار فأراد طعاما فقالوا : حتى نسخن لك شيئا فنام ، فلما أصبحوا نزلت عليه هذه الآية ، وفيها : أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ، وروى البخاري عن البراء قال : كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائما فحضر الإفطار فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي ، وأن قيس بن صرمة الأنصاري كان صائما - وفي رواية : كان يعمل في النخيل بالنهار وكان صائما - فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال لها : أعندك طعام ؟ قالت لا ، ولكن أنطلق فأطلب لك ، وكان يومه يعمل ، فغلبته عيناه ، فجاءته امرأته فلما رأته قالت : خيبة لك فلما انتصف النهار غشي عليه ، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية : أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ففرحوا فرحا شديدا ، ونزلت : وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ، وفي البخاري أيضا عن البراء قال : لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله ، وكان رجال يخونون أنفسهم ، فأنزل الله تعالى : علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم يقال : خان واختان بمعنى من الخيانة ، أي تخونون أنفسكم بالمباشرة في ليالي الصوم ، ومن عصى الله فقد خان نفسه إذ جلب إليها العقاب ، وقال القتبي : أصل الخيانة أن يؤتمن الرجل على شيء فلا يؤدي الأمانة فيه ، وذكر الطبري : أن عمر رضي الله تعالى عنه رجع من عند النبي صلى الله عليه وسلم وقد سمر عنده ليلة فوجد امرأته قد نامت فأرادها فقالت له : قد نمت ، فقال لها : ما نمت ، فوقع بها . وصنع كعب بن مالك مثله ، فغدا عمر على النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أعتذر إلى الله وإليك ، فإن نفسي زينت لي فواقعت أهلي ، فهل تجد لي من رخصة ؟ فقال لي : لم تكن حقيقا بذلك يا عمر فلما بلغ بيته أرسل إليه فأنبأه بعذره في آية من القرآن . وذكره النحاس ومكي ، وأن عمر نام ثم وقع بامرأته ، وأنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك فنزلت : علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن الآية .[ ص: 294 ] الثانية : قوله تعالى : ليلة الصيام الرفث ليلة نصب على الظرف وهي اسم جنس فلذلك أفردت . و الرفث : كناية عن الجماع لأن الله عز وجل كريم يكني ، قاله ابن عباس والسدي . وقال الزجاج : الرفث كلمة جامعة لكل ما يريد الرجل من امرأته ، وقاله الأزهري أيضا ، وقال ابن عرفة : الرفث ها هنا الجماع ، والرفث : التصريح بذكر الجماع والإعراب به . قال الشاعرويرين من أنس الحديث زوانيا وبهن عن رفث الرجال نفاروقيل : الرفث أصله قول الفحش ، يقال : رفث وأرفث إذا تكلم بالقبيح ، ومنه قول الشاعر :ورب أسراب حجيج كظم عن اللغا ورفث التكلموتعدى الرفث بإلى في قوله تعالى جده : الرفث إلى نسائكم ، وأنت لا تقول : رفثت إلى النساء ، ولكن جيء به محمولا على الإفضاء الذي يراد به الملابسة في مثل قوله : وقد أفضى بعضكم إلى بعض . ومن هذا المعنى : وإذا خلوا إلى شياطينهم كما تقدم ، وقوله : يوم يحمى عليها أي يوقد ; لأنك تقول : أحميت الحديدة في النار ، وسيأتي ، ومنه قوله : فليحذر الذين يخالفون عن أمره ، حمل على معنى ينحرفون عن أمره أو يروغون عن أمره ; لأنك تقول : خالفت زيدا ، ومثله قوله تعالى : وكان بالمؤمنين رحيما حمل على رءوف في نحو بالمؤمنين رءوف رحيم ، ألا ترى أنك تقول : رؤفت به ، ولا تقول رحمت به ، ولكنه لما وافقه في المعنى نزل منزلته في التعدية ، ومن هذا الضرب قول أبي كبير الهذلي :حملت به في ليلة مزءودة كرها وعقد نطاقها لم يحللعدى " حملت " بالباء ، وحقه أن يصل إلى المفعول بنفسه ، كما جاء في التنزيل : حملته أمه كرها ووضعته كرها ولكنه قال : حملت به ; لأنه في معنى حبلت به .[ ص: 295 ] الثالثة : قوله تعالى : هن لباس لكم ابتداء وخبر ، وشددت النون من هن لأنها بمنزلة الميم والواو في المذكر . وأنتم لباس لهن أصل اللباس في الثياب ، ثم سمي امتزاج كل واحد من الزوجين بصاحبه لباسا ، لانضمام الجسد إلى الجسد وامتزاجهما وتلازمهما تشبيها بالثوب ، وقال النابغة الجعدي :إذا ما الضجيع ثنى جيدها تداعت فكانت عليه لباساوقال أيضا :لبست أناسا فأفنيتهم وأفنيت بعد أناس أناساوقال بعضهم : يقال لما ستر الشيء وداراه : لباس ، فجائز أن يكون كل واحد منهما سترا لصاحبه عما لا يحل ، كما ورد في الخبر ، وقيل : لأن كل واحد منهما ستر لصاحبه فيما يكون بينهما من الجماع من أبصار الناس ، وقال أبو عبيد وغيره : يقال للمرأة هي لباسك وفراشك وإزارك . قال رجل لعمر بن الخطاب :ألا أبلغ أبا حفص رسولا فدى لك من أخي ثقة إزاريقال أبو عبيد : أي نسائي ، وقيل نفسي ، وقال الربيع : هن فراش لكم ، وأنتم لحاف لهن . مجاهد : أي سكن لكم ، أي يسكن بعضكم إلى بعض .الرابعة : قوله تعالى : علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم يستأمر بعضكم بعضا في مواقعة المحظور من الجماع والأكل بعد النوم في ليالي الصوم ، كقوله تعالى : تقتلون أنفسكم يعني يقتل بعضكم بعضا ، ويحتمل أن يريد به كل واحد منهم في نفسه بأنه يخونها ، وسماه خائنا لنفسه من حيث كان ضرره عائدا عليه ، كما تقدم . وقوله : فتاب عليكم يحتمل معنيين : أحدهما - قبول التوبة من خيانتهم لأنفسهم . والآخر : التخفيف عنهم بالرخصة والإباحة ، كقوله تعالى : علم أن لن تحصوه فتاب عليكم يعني خفف عنكم ، وقوله عقيب القتل الخطأ : فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله يعني تخفيفا ; لأن القاتل خطأ لم يفعل شيئا تلزمه التوبة منه ، وقال تعالى : لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة وإن لم يكن من النبي صلى الله عليه وسلم ما يوجب التوبة منه . وقوله : وعفا عنكم يحتمل العفو من الذنب ، ويحتمل التوسعة [ ص: 296 ] والتسهيل ، كقول النبي صلى الله عليه وسلم : أول الوقت رضوان الله وآخره عفو الله يعني تسهيله وتوسعته ، فمعنى علم الله أي علم وقوع هذا منكم مشاهدة فتاب عليكم بعد ما وقع ، أي خفف عنكم وعفا أي سهل . وتختانون من الخيانة ، كما تقدم . قال ابن العربي : وقال علماء الزهد : وكذا فلتكن العناية وشرف المنزلة ، خان نفسه عمر رضي الله عنه فجعلها الله تعالى شريعة ، وخفف من أجله عن الأمة فرضي الله عنه وأرضاه .قوله تعالى : فالآن باشروهن كناية عن الجماع ، أي قد أحل لكم ما حرم عليكم . وسمي الوقاع مباشرة لتلاصق البشرتين فيه . قال ابن العربي : ( وهذا يدل على أن سبب الآية جماع عمر رضي الله عنه لا جوع قيس ; لأنه لو كان السبب جوع قيس لقال : فالآن كلوا ، ابتدأ به لأنه المهم الذي نزلت الآية لأجله ) .الخامسة : قوله تعالى : وابتغوا ما كتب الله لكم قال ابن عباس ومجاهد والحكم بن عيينة وعكرمة والحسن والسدي والربيع والضحاك : معناه وابتغوا الولد ، يدل عليه أنه عقيب قوله : فالآن باشروهن ، وقال ابن عباس : ما كتب الله لنا هو القرآن . الزجاج : أي ابتغوا القرآن بما أبيح لكم فيه وأمرتم به ، وروي عن ابن عباس ومعاذ بن جبل أن المعنى وابتغوا ليلة القدر ، وقيل : المعنى اطلبوا الرخصة والتوسعة ، قاله قتادة . قال ابن عطية : وهو قول حسن . قيل : وابتغوا ما كتب الله لكم من الإماء والزوجات . وقرأ الحسن البصري والحسن ابن قرة ( واتبعوا ) من الاتباع ، وجوزها ابن عباس ، ورجح ابتغوا من الابتغاء .السادسة : وكلوا واشربوا هذا جواب نازلة قيس ، والأول جواب عمر ، وقد ابتدأ بنازلة عمر لأنه المهم فهو المقدم .السابعة : قوله تعالى : حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر حتى غاية للتبيين ، ولا يصح أن يقع التبيين لأحد ويحرم عليه الأكل إلا وقد مضى لطلوع الفجر قدر ، واختلف في الحد الذي بتبينه يجب الإمساك ، فقال الجمهور : ذلك الفجر المعترض في الأفق يمنة ويسرة ، وبهذا جاءت الأخبار ومضت عليه الأمصار . روىمسلم عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يغرنكم من سحوركم أذان بلال ولا بياض الأفق المستطيل هكذا حتى يستطير هكذا ، وحكاه حماد بيديه قال : يعني معترضا ، وفي حديث ابن مسعود : إن الفجر ليس الذي يقول هكذا - وجمع أصابعه ثم [ ص: 297 ] نكسها إلى الأرض - ولكن الذي يقول هكذا - ووضع المسبحة على المسبحة ومد يديه ، وروى الدارقطني عن عبد الرحمن بن عباس أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : هما فجران فأما الذي كأنه ذنب السرحان فإنه لا يحل شيئا ولا يحرمه وأما المستطيل الذي عارض الأفق ففيه تحل الصلاة ويحرم الطعام هذا مرسل وقالت طائفة : ذلك بعد طلوع الفجر وتبينه في الطرق والبيوت ، روي ذلك عن عمر وحذيفة وابن عباس وطلق بن علي وعطاء بن أبي رباح والأعمش سليمان وغيرهم أن الإمساك يجب بتبيين الفجر في الطرق وعلى رءوس الجبال . وقال مسروق : لم يكن يعدون الفجر فجركم إنما كانوا يعدون الفجر الذي يملأ البيوت ، وروى النسائي عن عاصم عن زر قال قلنا لحذيفة : أي ساعة تسحرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : هو النهار إلا أن الشمس لم تطلع ، وروى الدارقطني عن طلق بن علي أن نبي الله قال : كلوا واشربوا ولا يغرنكم الساطع المصعد وكلوا واشربوا حتى يعرض لكم الأحمر . قال الدارقطني : قيس بن طلق ليس بالقوي ، وقال أبو داود : هذا مما تفرد به أهل اليمامة . قال الطبري : والذي قادهم إلى هذا أن الصوم إنما هو في النهار ، والنهار عندهم من طلوع الشمس ، وآخره غروبها ، وقد مضى الخلاف في هذا بين اللغويين . وتفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله : إنما هو سواد الليل وبياض النهار الفيصل في ذلك ، وقوله أياما معدودات وروى الدارقطني عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من لم يبيت الصيام قبل طلوع الفجر فلا صيام له . تفرد به عبد الله بن عباد عن المفضل بن فضالة بهذا الإسناد ، وكلهم ثقات . وروي عن حفصة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له . رفعه عبد الله بن أبي بكر وهو من الثقات الرفعاء ، وروي عن حفصة مرفوعا من [ ص: 298 ] قولها ، ففي هذين الحديثين دليل على ما قاله الجمهور في الفجر ، ومنع من الصيام دون نية قبل الفجر ، خلافا لقول أبي حنيفة ، وهي :الثامنة : وذلك أن الصيام من جملة العبادات فلا يصح إلا بنية ، وقد وقتها الشارع قبل الفجر ، فكيف يقال : إن الأكل والشرب بعد الفجر جائز . وروى البخاري ومسلم عن سهل بن سعد قال : نزلت وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود ولم ينزل من الفجر وكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود ، ولا يزال يأكل ويشرب حتى يتبين له رؤيتهما ، فأنزل الله بعد " من الفجر " فعلموا أنه إنما يعني بذلك بياض النهار . وعن عدي بن حاتم قال قلت : يا رسول الله ، ما الخيط الأبيض من الخيط الأسود أهما الخيطان ؟ قال : إنك لعريض القفا إن أبصرت الخيطين - ثم قال - لا بل هو سواد الليل وبياض النهار . أخرجه البخاري ، وسمي الفجر خيطا لأن ما يبدو من البياض يرى ممتدا كالخيط . قال الشاعر :الخيط الابيض ضوء الصبح منفلق والخيط الاسود جنح الليل مكتوموالخيط في كلامهم عبارة عن اللون ، والفجر مصدر فجرت الماء أفجره فجرا إذا جرى وانبعث ، وأصله الشق ، فلذلك قيل للطالع من تباشير ضياء الشمس من مطلعها : فجر لانبعاث ضوئه ، وهو أول بياض النهار الظاهر المستطير في الأفق المنتشر ، تسميه العرب الخيط الأبيض ، كما بيناه . قال أبو داود الإيادي :فلما أضاءت لنا سدفة ولاح من الصبح خيط أناراوقال آخر :قد كاد يبدو وبدت تباشره وسدف الليل البهيم ساتره[ ص: 299 ] وقد تسميه أيضا الصديع ، ومنه قولهم : انصدع الفجر ، قال بشر بن أبي خازم أو عمرو بن معديكرب :ترى السرحان مفترشا يديه كأن بياض لبته صديعوشبهه الشماخ بمفرق الرأس فقال :إذا ما الليل كان الصبح فيه أشق كمفرق الرأس الدهينويقولون في الأمر الواضح : هذا كفلق الصبح ، وكانبلاج الفجر ، وتباشير الصبح . قال الشاعر [ هو حميد الأرقط ] :فوردت قبل انبلاج الفجر وابن ذكاء كامن في كفرالتاسعة : قوله تعالى : ثم أتموا الصيام إلى الليل جعل الله جل ذكره الليل ظرفا للأكل والشرب والجماع ، والنهار ظرفا للصيام ، فبين أحكام الزمانين وغاير بينهما ، فلا يجوز في اليوم شيء مما أباحه بالليل إلا لمسافر أو مريض ، كما تقدم بيانه ، فمن أفطر في رمضان من غير من ذكر فلا يخلو إما أن يكون عامدا أو ناسيا ، فإن كان الأول فقال مالك : من أفطر في رمضان عامدا بأكل أو شرب أو جماع فعليه القضاء والكفارة ، لما رواه في موطئه ، ومسلم في صحيحه عن أبي هريرة أن رجلا أفطر في رمضان وأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكفر بعتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينا الحديث ، وبهذا قال الشعبي ، وقال الشافعي وغيره : إن هذه الكفارة إنما تختص بمن أفطر بالجماع ، لحديث أبي هريرة أيضا قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : هلكت يا رسول الله قال : وما أهلكك قال : وقعت على امرأتي في رمضان ، الحديث ، وفيه ذكر الكفارة على الترتيب ، أخرجه مسلم وحملوا هذه القضية على القضية الأولى فقالوا : هي واحدة ، وهذا غير مسلم به بل هما قضيتان مختلفتان ; لأن مساقهما مختلف ، وقد علق الكفارة على من أفطر مجردا عن القيود فلزم مطلقا ، وبهذا قال مالك وأصحابه والأوزاعي وإسحاق وأبو ثور والطبري وابن المنذر ، وروي ذلك عن عطاء في رواية ، وعن الحسن والزهري ، ويلزم الشافعي القول به فإنه يقول : ترك [ ص: 300 ] الاستفصال مع تعارض الأحوال يدل على عموم الحكم ، وأوجب الشافعي عليه مع القضاء العقوبة لانتهاك حرمة الشهر .العاشرة : واختلفوا أيضا فيما يجب على المرأة يطؤها زوجها في رمضان ، فقال مالك وأبو يوسف وأصحاب الرأي : عليها مثل ما على الزوج ، وقال الشافعي : ليس عليها إلا كفارة واحدة ، وسواء طاوعته أو أكرهها ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم أجاب السائل بكفارة واحدة ولم يفصل . وروي عن أبي حنيفة : إن طاوعته فعلى كل واحد منهما كفارة ، وإن أكرهها فعليه كفارة واحدة لا غير ، وهو قول سحنون بن سعيد المالكي ، وقال مالك : عليه كفارتان ، وهو تحصيل مذهبه عند جماعة أصحابه .الحادية عشرة : واختلفوا أيضا فيمن جامع ناسيا لصومه أو أكل ، فقال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابه وإسحاق : ليس عليه في الوجهين شيء ، لا قضاء ولا كفارة ، وقال مالك والليث والأوزاعي : عليه القضاء ولا كفارة ، وروي مثل ذلك عن عطاء . وقد روي عن عطاء أن عليه الكفارة إن جامع ، وقال : مثل هذا لا ينسى ، وقال قوم من أهل الظاهر : سواء وطئ ناسيا أو عامدا فعليه القضاء والكفارة ، وهو قول ابن الماجشون عبد الملك ، وإليه ذهب أحمد بن حنبل ; لأن الحديث الموجب للكفارة لم يفرق فيه بين الناسي والعامد . قال ابن المنذر : لا شيء عليه .الثانية عشرة : قال مالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي : إذا أكل ناسيا فظن أن ذلك قد فطره فجامع عامدا أن عليه القضاء ولا كفارة عليه . قال ابن المنذر : وبه نقول ، وقيل في المذهب : عليه القضاء والكفارة إن كان قاصدا لهتك حرمة صومه جرأة وتهاونا . قال أبو عمر : وقد كان يجب على أصل مالك ألا يكفر ; لأن من أكل ناسيا فهو عنده مفطر يقضي يومه ذلك ، فأي حرمة هتك وهو مفطر ، وعند غير مالك : ليس بمفطر كل من أكل ناسيا لصومه .قلت : وهو الصحيح ، وبه قال الجمهور : إن كل من أكل أو شرب ناسيا فلا قضاء عليه وإن صومه تام ، لحديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا أكل الصائم ناسيا أو شرب ناسيا فإنما هو رزق ساقه الله تعالى إليه ولا قضاء عليه - في رواية - وليتم صومه فإن الله أطعمه وسقاه . أخرجه الدارقطني ، وقال : إسناد صحيح وكلهم ثقات . قال أبو بكر الأثرم : [ ص: 301 ] سمعت أبا عبد الله يسأل عمن أكل ناسيا في رمضان ، قال : ليس عليه شيء لحديث أبي هريرة . ثم قال أبو عبد الله مالك : وزعموا أن مالكا يقول عليه القضاء وضحك ، وقال ابن المنذر : لا شيء عليه ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم لمن أكل أو شرب ناسيا : يتم صومه وإذا قال ( يتم صومه ) فأتمه فهو صوم تام كامل .قلت : وإذا كان من أفطر ناسيا لا قضاء عليه وصومه صوم تام فعليه إذا جامع عامدا القضاء والكفارة - والله أعلم - كمن لم يفطر ناسيا ، وقد احتج علماؤنا على إيجاب القضاء بأن قالوا : المطلوب منه صيام يوم تام لا يقع به خرم ، لقوله تعالى : ثم أتموا الصيام إلى الليل وهذا لم يأت به على التمام فهو باق عليه ، ولعل الحديث في صوم التطوع لخفته ، وقد جاء في صحيحي البخاري ومسلم : من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فلم يذكر قضاء ولا تعرض له ، بل الذي تعرض له سقوط المؤاخذة والأمر بمضيه على صومه وإتمامه ، هذا إن كان واجبا فدل على ما ذكرناه من القضاء ، فأما صوم التطوع فلا قضاء فيه لمن أكل ناسيا ، لقوله صلى الله عليه وسلم : لا قضاء عليه .قلت : هذا ما احتج به علماؤنا وهو صحيح ، لولا ما صح عن الشارع ما ذكرناه ، وقد جاء بالنص الصريح الصحيح وهو ما رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من أفطر في شهر رمضان ناسيا فلا قضاء عليه ولا كفارة أخرجه الدارقطني وقال : تفرد به ابن مرزوق وهو ثقة عن الأنصاري ، فزال الاحتمال وارتفع الإشكال ، والحمد لله ذي الجلال والكمال .الثالثة عشرة : لما بين سبحانه محظورات الصيام وهي الأكل والشرب والجماع ، ولم يذكر المباشرة التي هي اتصال البشرة بالبشرة كالقبلة والجسة وغيرها ، دل ذلك على صحة صوم من قبل وباشر ; لأن فحوى الكلام إنما يدل على تحريم ما أباحه الليل وهو الأشياء الثلاثة ، ولا دلالة فيه على غيرها بل هو موقوف على الدليل ; ولذلك شاع الاختلاف فيه ، واختلف علماء السلف فيه ، فمن ذلك المباشرة . قال علماؤنا : يكره لمن لا يأمن على نفسه ولا يملكها ، لئلا يكون سببا إلى ما يفسد الصوم . روى مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان ينهى عن القبلة والمباشرة للصائم ، وهذا - والله أعلم - خوف ما يحدث عنهما ، فإن قبل وسلم فلا جناح عليه ، وكذلك إن باشر . وروى البخاري عن عائشة قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل ويباشر [ ص: 302 ] وهو صائم ، وممن كره القبلة للصائم عبد الله بن مسعود وعروة بن الزبير ، وقد روي عن ابن مسعود أنه يقضي يوما مكانه ، والحديث حجة عليهم . قال أبو عمر : ولا أعلم أحدا رخص فيها لمن يعلم أنه يتولد عليه منها ما يفسد صومه ، فإن قبل فأمنى عليه القضاء ولا كفارة ، قاله أبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن والشافعي ، واختاره ابن المنذر وقال : لا ليس لمن أوجب عليه الكفارة حجة . قال أبو عمر : ولو قبل فأمذى لم يكن عليه شيء عندهم ، وقال أحمد : من قبل فأمذى أو أمنى فعليه القضاء ولا كفارة عليه ، إلا على من جامع فأولج عامدا أو ناسيا ، وروى ابن القاسم عن مالك فيمن قبل أو باشر فأنعظ ولم يخرج منه ماء جملة عليه القضاء ، وروى ابن وهب عنه لا قضاء عليه حتى يمذي . قال القاضي أبو محمد : واتفق أصحابنا على ألا كفارة عليه ، وإن كان منيا فهل تلزمه الكفارة مع القضاء ، فلا يخلو أن يكون قبل قبلة واحدة فأنزل ، أو قبل فالتذ فعاود فأنزل ، فإن كان قبل قبلة واحدة أو باشر أو لمس مرة فقال أشهب وسحنون : لا كفارة عليه حتى يكرر ، وقال ابن القاسم : يكفر في ذلك كله ، إلا في النظر فلا كفارة عليه حتى يكرر . وممن قال بوجوب الكفارة عليه إذا قبل أو باشر أو لاعب امرأته أو جامع دون الفرج فأمنى : الحسن البصري وعطاء وابن المبارك وأبو ثور وإسحاق ، وهو قول مالك في المدونة ، وحجة قول أشهب : أن اللمس والقبلة والمباشرة ليست تفطر في نفسها ، وإنما يبقى أن تئول إلى الأمر الذي يقع به الفطر ، فإذا فعل مرة واحدة لم يقصد الإنزال وإفساد الصوم فلا كفارة عليه كالنظر إليها ، وإذا كرر ذلك فقد قصد إفساد صومه فعليه الكفارة كما لو تكرر النظر . قال اللخمي : واتفق جميعهم في الإنزال عن النظر ألا كفارة عليه إلا أن يتابع ، والأصل أنه لا تجب الكفارة إلا على من قصد الفطر وانتهاك حرمة الصوم ، فإذا كان ذلك وجب أن ينظر إلى عادة من نزل به ذلك ، فإن كان ذلك شأنه أن ينزل عن قبلة أو مباشرة مرة ، أو كانت عادته مختلفة : مرة ينزل ، ومرة لا ينزل ، رأيت عليه الكفارة ; لأن فاعل ذلك قاصد لانتهاك صومه أو متعرض له ، وإن كانت عادته السلامة فقدر أن يكون منه خلاف العادة لم يكن عليه كفارة ، وقد يحتمل قول مالك في وجوب الكفارة ; لأن ذلك لا يجري إلا ممن يكون ذلك طبعه واكتفى بما ظهر منه . وحمل أشهب الأمر على الغالب من الناس أنهم يسلمون من ذلك ، وقولهم في النظر دليل على ذلك .[ ص: 303 ] قلت : ما حكاه من الاتفاق في النظر وجعله أصلا ليس كذلك ، فقد حكى الباجي في المنتقى " فإن نظر نظرة واحدة يقصد بها اللذة فقد قال الشيخ أبو الحسن : عليه القضاء والكفارة . قال الباجي : وهو الصحيح عندي ; لأنه إذا قصد به الاستمتاع كان كالقبلة وغير ذلك من أنواع الاستمتاع ، والله أعلم " ، وقال جابر بن زيد والثوري والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي فيمن ردد النظر إلى المرأة حتى أمنى : فلا قضاء عليه ولا كفارة ، قاله ابن المنذر . قال الباجي : وروى في المدونة ابن نافع عن مالك أنه إن نظر إلى امرأة متجردة فالتذ فأنزل عليه القضاء دون الكفارة .الرابعة عشرة : والجمهور على صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب ، وقال القاضي أبو بكر بن العربي : وذلك جائز إجماعا ، وقد كان وقع فيه بين الصحابة كلام ثم استقر الأمر على أن من أصبح جنبا فإن صومه صحيح .قلت : أما ما ذكر من وقوع الكلام فصحيح مشهور ، وذلك قول أبي هريرة : من أصبح جنبا فلا صوم له ، أخرجه الموطأ وغيره ، وفي كتاب النسائي أنه قال لما روجع : والله ما أنا قلته ، محمد صلى الله عليه وسلم والله قاله . وقد اختلف في رجوعه عنها ، وأشهر قوليه عند أهل العلم أنه لا صوم له ، حكاه ابن المنذر ، وروي عن الحسن بن صالح ، وعن أبي هريرة أيضا قول ثالث قال : إذا علم بجنابته ثم نام حتى يصبح فهو مفطر ، وإن لم يعلم حتى أصبح فهو صائم ، روي ذلك عن عطاء وطاوس وعروة بن الزبير ، وروي عن الحسن والنخعي أن ذلك يجزي في التطوع ويقضى في الفرض .قلت : فهذه أربعة أقوال للعلماء فيمن أصبح جنبا ، والصحيح منها مذهب الجمهور ، لحديث عائشة رضي الله عنها وأم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصبح جنبا من جماع غير احتلام ثم يصوم . وعن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدركه الفجر في [ ص: 304 ] رمضان وهو جنب من غير حلم فيغتسل ويصوم ، أخرجهما البخاري ومسلم ، وهو الذي يفهم من ضرورة قوله تعالى : فالآن باشروهن الآية ، فإنه لما مد إباحة الجماع إلى طلوع الفجر فبالضرورة يعلم أن الفجر يطلع عليه وهو جنب ، وإنما يتأتى الغسل بعد الفجر ، وقد قال الشافعي : ولو كان الذكر داخل المرأة فنزعه مع طلوع الفجر أنه لا قضاء عليه ، وقال المزني : عليه القضاء لأنه من تمام الجماع ، والأول أصح لما ذكرنا ، وهو قول علمائنا .الخامسة عشرة : واختلفوا في الحائض تطهر قبل الفجر وتترك التطهر حتى تصبح ، فجمهورهم على وجوب الصوم عليها وإجزائه ، سواء تركته عمدا أو سهوا كالجنب ، وهو قول مالك وابن القاسم ، وقال عبد الملك : إذا طهرت الحائض قبل الفجر فأخرت غسلها حتى طلع الفجر فيومها يوم فطر ; لأنها في بعضه غير طاهرة ، وليست كالجنب لأن الاحتلام لا ينقض الصوم ، والحيضة تنقضه . هكذا ذكره أبو الفرج في كتابه عن عبد الملك ، وقال الأوزاعي : تقضي لأنها فرطت في الاغتسال ، وذكر ابن الجلاب عن عبد الملك أنها إن طهرت قبل الفجر في وقت يمكنها فيه الغسل ففرطت ولم تغتسل حتى أصبحت لم يضرها كالجنب ، وإن كان الوقت ضيقا لا تدرك فيه الغسل لم يجز صومها ويومها يوم فطر ، وقاله مالك ، وهي كمن طلع عليها الفجر وهي حائض ، وقال محمد بن مسلمة في هذه : تصوم وتقضي ، مثل قول الأوزاعي ، وروي عنه أنه شذ فأوجب على من طهرت قبل الفجر ففرطت وتوانت وتأخرت حتى تصبح - الكفارة مع القضاء .السادسة عشرة : وإذا طهرت المرأة ليلا في رمضان فلم تدر أكان ذلك قبل الفجر أو بعده ، صامت وقضت ذلك اليوم احتياطا ، ولا كفارة عليها .السابعة عشرة : روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : أفطر الحاجم والمحجوم . من حديث ثوبان وحديث شداد بن أوس وحديث رافع بن خديج ، وبه قال أحمد وإسحاق ، وصحح أحمد [ ص: 305 ] حديث شداد بن أوس ، وصحح علي بن المديني حديث رافع بن خديج ، وقال مالك والشافعي والثوري : لا قضاء عليه ، إلا أنه يكره له ذلك من أجل التغرير ، وفي صحيح مسلم من حديث أنس أنه قيل له : أكنتم تكرهون الحجامة للصائم ؟ قال لا ، إلا من أجل الضعف ، وقال أبو عمر : حديث شداد ورافع وثوبان عندنا منسوخ بحديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( احتجم صائما محرما ) لأن في حديث شداد بن أوس وغيره أنه صلى الله عليه وسلم مر عام الفتح على رجل يحتجم لثمان عشرة ليلة خلت من رمضان فقال : أفطر الحاجم والمحجوم واحتجم هو صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع وهو محرم صائم ، فإذا كانت حجته صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع فهي ناسخة لا محالة ; لأنه صلى الله عليه وسلم لم يدركه بعد ذلك رمضان ; لأنه توفي في ربيع الأول .الثامنة عشرة : قوله تعالى : ثم أتموا الصيام إلى الليل أمر يقتضي الوجوب من غير خلاف . وإلى غاية ، فإذا كان ما بعدها من جنس ما قبلها فهو داخل في حكمه ، كقوله اشتريت الفدان إلى حاشيته ، أو اشتريت منك من هذه الشجرة إلى هذه الشجرة - والمبيع شجر ، فإن الشجرة داخلة في المبيع . بخلاف قولك : اشتريت الفدان إلى الدار ، فإن الدار لا تدخل في المحدود إذ ليس من جنسه ، فشرط تعالى تمام الصوم حتى يتبين الليل ، كما جوز الأكل حتى يتبين النهار .التاسعة عشرة : من تمام الصوم استصحاب النية دون رفعها ، فإن رفعها في بعض النهار ونوى الفطر إلا أنه لم يأكل ولم يشرب فجعله في المدونة مفطرا وعليه القضاء ، وفي كتاب ابن حبيب أنه على صومه ، قال : ولا يخرجه من الصوم إلا الإفطار بالفعل وليس بالنية ، وقيل : عليه القضاء والكفارة ، وقال سحنون : إنما يكفر من بيت الفطر ، فأما من نواه في نهاره فلا يضره ، وإنما يقضي استحسانا .قلت : هذا حسن .الموفية عشرين : قوله تعالى : إلى الليل إذا تبين الليل سن الفطر شرعا ، أكل أو لم يأكل . قال ابن العربي : وقد سئل الإمام أبو إسحاق الشيرازي عن رجل حلف بالطلاق ثلاثا أنه [ ص: 306 ] لا يفطر على حار ولا بارد ، فأجاب أنه بغروب الشمس مفطر لا شيء عليه ، واحتج بقوله صلى الله عليه وسلم : إذا جاء الليل من ها هنا وأدبر النهار من ها هنا فقد أفطر الصائم ، وسئل عنها الإمام أبو نصر بن الصباغ صاحب الشامل فقال : لا بد أن يفطر على حار أو بارد ، وما أجاب به الإمام أبو إسحاق أولى ; لأنه مقتضى الكتاب والسنة .الحادية والعشرون : فإن ظن أن الشمس قد غابت لغيم أو غيره ثم ظهرت الشمس فعليه القضاء في قول أكثر العلماء ، وفي البخاري عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت : أفطرنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم غيم ثم طلعت الشمس ، قيل لهشام : فأمروا بالقضاء ، قال : فلا بد من قضاء ؟ . قال عمر في الموطأ في هذا : الخطب يسير ، وقد اجتهدنا في الوقت يريد القضاء ، وروي عن عمر أنه قال : لا قضاء عليه ، وبه قال الحسن البصري : لا قضاء عليه كالناسي ، وهو قول إسحاق وأهل الظاهر ، وقول الله تعالى : إلى الليل يرد هذا القول ، والله أعلم .الثانية والعشرون : فإن أفطر وهو شاك في غروبها كفر مع القضاء ، قاله مالك إلا أن يكون الأغلب عليه غروبها ، ومن شك عنده في طلوع الفجر لزمه الكف عن الأكل ، فإن أكل مع شكه فعليه القضاء كالناسي ، لم يختلف في ذلك قوله ، ومن أهل العلم بالمدينة وغيرها من لا يرى عليه شيئا حتى يتبين له طلوع الفجر ، وبه قال ابن المنذر ، وقال إلكيا الطبري : ( وقد ظن قوم أنه إذا أبيح له الفطر إلى أول الفجر فإذا أكل على ظن أن الفجر لم يطلع فقد أكل بإذن الشرع في وقت جواز الأكل فلا قضاء عليه ، كذلك قال مجاهد وجابر بن زيد ، ولا خلاف في وجوب القضاء إذا غم عليه الهلال في أول ليلة من رمضان فأكل ثم بان أنه من رمضان ، والذي نحن فيه مثله ، وكذلك الأسير في دار الحرب إذا أكل ظنا أنه من شعبان ثم بان خلافه ) .الثالثة والعشرون : قوله تعالى : إلى الليل فيه ما يقتضي النهي عن الوصال ، إذ الليل غاية الصيام ، وقالته عائشة ، وهذا موضع اختلف فيه ، فمن واصل عبد الله بن الزبير وإبراهيم التيمي وأبو الجوزاء وأبو الحسن الدينوري وغيرهم . كان ابن الزبير يواصل سبعا ، فإذا أفطر شرب السمن والصبر حتى يفتق أمعاءه ، قال : وكانت تيبس أمعاؤه ، وكان أبو الجوزاء يواصل سبعة أيام وسبع ليال ولو قبض على ذراع الرجل الشديد لحطمها ، وظاهر القرآن والسنة يقتضي المنع ، قال صلى الله عليه وسلم : إذا غابت الشمس من ها هنا وجاء الليل من ها هنا فقد أفطر [ ص: 307 ] الصائم . خرجه مسلم من حديث عبد الله بن أبي أوفى . ونهى عن الوصال ، فلما أبوا أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم يوما ثم يوما ثم رأوا الهلال فقال : لو تأخر الهلال لزدتكم كالمنكل لهم حين أبوا أن ينتهوا . أخرجه مسلم عن أبي هريرة ، وفي حديث أنس : لو مد لنا الشهر لواصلنا وصالا يدع المتعمقون تعمقهم . خرجه مسلم أيضا ، وقال صلى الله عليه وسلم : إياكم والوصال إياكم والوصال تأكيدا في المنع لهم منه ، أخرجه البخاري ، وعلى كراهية الوصال - لما ذكرنا ولما فيه من ضعف القوى وإنهاك الأبدان - جمهور العلماء ، وقد حرمه بعضهم لما فيه من مخالفة الظاهر والتشبه بأهل الكتاب ، قال صلى الله عليه وسلم : إن فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر . خرجه مسلم وأبو داود . وفي البخاري عن أبي سعيد الخدري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا تواصلوا فأيكم أراد أن يواصل فليواصل حتى السحر قالوا : فإنك تواصل يا رسول الله ؟ قال : لست كهيئتكم إني أبيت لي مطعم يطعمني وساق يسقيني . قالوا : وهذا إباحة لتأخير الفطر إلى السحر ، وهو غاية في الوصال لمن أراده ، ومنع من اتصال يوم بيوم ، وبه قال أحمد وإسحاق وابن وهب صاحب مالك . واحتج من أجاز الوصال بأن قال : إنما كان النهي عن الوصال لأنهم كانوا حديثي عهد بالإسلام ، فخشي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتكلفوا الوصال وأعلى المقامات فيفتروا أو يضعفوا عما كان أنفع منه من الجهاد والقوة على العدو ، ومع حاجتهم في ذلك الوقت ، وكان هو يلتزم في خاصة نفسه الوصال وأعلى مقامات الطاعات ، فلما سألوه عن وصالهم أبدى لهم فارقا بينه وبينهم ، وأعلمهم أن حالته في ذلك غير حالاتهم فقال : لست مثلكم إني أبيت يطعمني ربي [ ص: 308 ] ويسقيني ، فلما كمل الإيمان في قلوبهم واستحكم في صدورهم ورسخ ، وكثر المسلمون وظهروا على عدوهم ، واصل أولياء الله وألزموا أنفسهم أعلى المقامات والله أعلم .قلت : ترك الوصال مع ظهور الإسلام وقهر الأعداء أولى ، وذلك أرفع الدرجات وأعلى المنازل والمقامات ، والدليل على ذلك ما ذكرناه ، وأن الليل ليس بزمان صوم شرعي ، حتى لو شرع إنسان فيه الصوم بنية ما أثيب عليه ، والنبي صلى الله عليه وسلم ما أخبر عن نفسه أنه واصل ، وإنما الصحابة ظنوا ذلك فقالوا : إنك تواصل ، فأخبر أنه يطعم ويسقى ، وظاهر هذه الحقيقة : وأنه صلى الله عليه وسلم يؤتى بطعام الجنة وشرابها ، وقيل : إن ذلك محمول على ما يرد على قلبه من المعاني واللطائف ، وإذا احتمل اللفظ الحقيقة والمجاز فالأصل الحقيقة حتى يرد دليل يزيلها ، ثم لما أبوا أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم وهو على عادته كما أخبر عن نفسه ، وهم على عادتهم حتى يضعفوا ويقل صبرهم فلا يواصلوا ، وهذه حقيقة التنكيل حتى يدعوا تعمقهم وما أرادوه من التشديد على أنفسهم ، وأيضا لو تنزلنا على أن المراد بقوله : ( أطعم وأسقى ) المعنى لكان مفطرا حكما ، كما أن من اغتاب في صومه أو شهد بزور مفطر حكما ، ولا فرق بينهما ، قال صلى الله عليه وسلم : من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه ، وعلى هذا الحد ما واصل النبي صلى الله عليه وسلم ولا أمر به ، فكان تركه أولى ، وبالله التوفيق .الرابعة والعشرون : ويستحب للصائم إذا أفطر أن يفطر على رطبات أو تمرات أو حسوات من الماء ، لما رواه أبو داود عن أنس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر على رطبات قبل أن يصلي ، فإن لم تكن رطبات فعلى تمرات ، فإن لم تكن تمرات حسا حسوات من ماء ، وأخرجه الدارقطني وقال فيه : إسناد صحيح ، وروى الدارقطني عن ابن عباس قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أفطر قال : لك صمنا وعلى رزقك أفطرنا فتقبل منا إنك أنت السميع العليم ، وعن ابن عمر قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا أفطر : ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله . خرجه أبو داود أيضا . وقال الدارقطني : تفرد به الحسين بن واقد إسناده [ ص: 309 ] حسن ، وروى ابن ماجه عن عبد الله بن الزبير قال : أفطر رسول الله صلى الله عليه وسلم عند سعد بن معاذ فقال : أفطر عندكم الصائمون وأكل طعامكم الأبرار وصلت عليكم الملائكة ، وروي أيضا عن زيد بن خالد الجهني قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من فطر صائما كان له مثل أجرهم من غير أن ينقص من أجورهم شيئا وروي أيضا عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن للصائم عند فطره لدعوة ما ترد . قال ابن أبي مليكة : سمعت عبد الله بن عمرو يقول إذا أفطر : اللهم إني أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء أن تغفر لي ، وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم : للصائم فرحتان يفرحهما إذا أفطر فرح بفطره وإذا لقي ربه فرح بصومه .الخامسة والعشرون : ويستحب له أن يصوم من شوال ستة أيام ، لما رواه مسلم والترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن أبي أيوب الأنصاري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال كان له كصيام الدهر هذا حديث حسن صحيح من حديث سعد بن سعيد الأنصاري المدني ، وهو ممن لم يخرج له البخاري شيئا ، وقد جاء بإسناد جيد مفسرا من حديث أبي أسماء الرحبي عن ثوبان مولى النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : جعل الله الحسنة بعشر أمثالها فشهر رمضان بعشرة أشهر وستة أيام بعد الفطر تمام السنة . رواه النسائي ، واختلف في صيام هذه الأيام ، فكرهها مالك في موطئه [ ص: 310 ] خوفا أن يلحق أهل الجهالة برمضان ما ليس منه ، وقد وقع ما خافه حتى إنه كان في بعض بلاد خراسان يقومون لسحورها على عادتهم في رمضان ، وروى مطرف عن نافع أنه كان يصومها في خاصة نفسه ، واستحب صيامها الشافعي ، وكرهه أبو يوسف .السادسة والعشرون : قوله تعالى : ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد بين جل وتعالى أن الجماع يفسد الاعتكاف . وأجمع أهل العلم على أن من جامع امرأته وهو معتكف عامدا لذلك في فرجها أنه مفسد لاعتكافه ، واختلفوا فيما عليه إذا فعل ذلك ، فقال الحسن البصري والزهري : عليه ما على المواقع أهله في رمضان ، فأما المباشرة من غير جماع فإن قصد بها التلذذ فهي مكروهة ، وإن لم يقصد لم يكره ; لأن عائشة كانت ترجل رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو معتكف ، وكانت لا محالة تمس بدن رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدها ، فدل بذلك على أن المباشرة بغير شهوة غير محظورة ، هذا قول عطاء والشافعي وابن المنذر . قال أبو عمر : وأجمعوا على أن المعتكف لا يباشر ولا يقبل ، واختلفوا فيما عليه إن فعل ، فقال مالك والشافعي : إن فعل شيئا من ذلك فسد اعتكافه ، قاله المزني ، وقال في موضع آخر من مسائل الاعتكاف : لا يفسد الاعتكاف من الوطء إلا ما يوجب الحد ، واختاره المزني قياسا على أصله في الحج والصوم .السابعة والعشرون : قوله تعالى : وأنتم عاكفون جملة في موضع الحال ، والاعتكاف في اللغة : الملازمة ، يقال عكف على الشيء إذا لازمه مقبلا عليه . قال الراجز :عكف النبيط يلعبون الفنزجاوقال الشاعر :وظل بنات الليل حولي عكفا عكوف البواكي بينهن صريعولما كان المعتكف ملازما للعمل بطاعة الله مدة اعتكافه لزمه هذا الاسم ، وهو في عرف الشرع : ملازمة طاعة مخصوصة في وقت مخصوص على شرط مخصوص في موضع مخصوص ، وأجمع العلماء على أنه ليس بواجب ، وهو قربة من القرب ونافلة من النوافل عمل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأزواجه ، ويلزمه إن ألزمه نفسه ، ويكره الدخول فيه لمن يخاف عليه العجز عن الوفاء بحقوقه .الثامنة والعشرون : أجمع العلماء على أن الاعتكاف لا يكون إلا في المسجد ، لقول الله تعالى : في المساجد واختلفوا في المراد بالمساجد ، فذهب قوم إلى أن الآية خرجت [ ص: 311 ] على نوع من المساجد ، وهو ما بناه نبي كالمسجد الحرام ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم ومسجد إيلياء ، روي هذا عن حذيفة بن اليمان وسعيد بن المسيب ، فلا يجوز الاعتكاف عندهم في غيرها ، وقال آخرون : لا اعتكاف إلا في مسجد تجمع فيه الجماعة ; لأن الإشارة في الآية عندهم إلى ذلك الجنس من المساجد ، روي هذا عن علي بن أبي طالب وابن مسعود ، وهو قول عروة والحكم وحماد والزهري وأبي جعفر محمد بن علي ، وهو أحد قولي مالك ، وقال آخرون : الاعتكاف في كل مسجد جائز ، يروى هذا القول عن سعيد بن جبير وأبي قلابة وغيرهم ، وهو قول الشافعي وأبي حنيفة وأصحابهما ، وحجتهم حمل الآية على عمومها في كل مسجد له إمام ومؤذن ، وهو أحد قولي مالك وبه يقول ابن علية وداود بن علي والطبري وابن المنذر ، وروى الدارقطني عن الضحاك عن حذيفة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : كل مسجد له مؤذن وإمام فالاعتكاف فيه يصلح . قال الدارقطني : والضحاك لم يسمع من حذيفة .التاسعة والعشرون : وأقل الاعتكاف عند مالك وأبي حنيفة يوم وليلة ، فإن قال : لله علي اعتكاف ليلة لزمه اعتكاف ليلة ويوم ، وكذلك إن نذر اعتكاف يوم لزمه يوم وليلة ، وقال سحنون : من نذر اعتكاف ليلة فلا شيء عليه ، وقال أبو حنيفة وأصحابه : إن نذر يوما فعليه يوم بغير ليلة ، وإن نذر ليلة فلا شيء عليه ، كما قال سحنون . قال الشافعي : عليه ما نذر ، إن نذر ليلة فليلة ، وإن نذر يوما فيوما . قال الشافعي : أقله لحظة ولا حد لأكثره ، وقال بعض أصحاب أبي حنيفة : يصح الاعتكاف ساعة ، وعلى هذا القول فليس من شرطه صوم ، وروي عن أحمد بن حنبل في أحد قوليه ، وهو قول داود بن علي وابن علية ، واختاره ابن المنذر وابن العربي ، واحتجوا بأن اعتكاف رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في رمضان ، ومحال أن يكون صوم رمضان لرمضان ولغيره ، ولو نوى المعتكف في رمضان بصومه التطوع والفرض فسد صومه عند مالك وأصحابه ، ومعلوم أن ليل المعتكف يلزمه فيه من اجتناب مباشرة النساء ما يلزمه في نهاره ، وأن ليله داخل في اعتكافه ، وأن الليل ليس بموضع صوم ، فكذلك نهاره ليس بمفتقر إلى الصوم ، وإن صام فحسن ، وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد في القول الآخر : لا يصح إلا بصوم ، وروي عن ابن عمر وابن عباس وعائشة رضي الله عنهم ، وفي الموطأ عن القاسم بن محمد ونافع مولى عبد الله بن عمر : لا اعتكاف إلا بصيام ، لقول الله تعالى في كتابه : وكلوا واشربوا إلى قوله : في المساجد وقالا : فإنما ذكر الله الاعتكاف مع الصيام . قال يحيى قال مالك : [ ص: 312 ] وعلى ذلك الأمر عندنا ، واحتجوا بما رواه عبد الله بن بديل عن عمرو بن دينار عن ابن عمر أن عمر جعل عليه أن يعتكف في الجاهلية ليلة أو يوما عند الكعبة فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : اعتكف وصم . أخرجه أبو داود ، وقال الدارقطني : تفرد به ابن بديل عن عمرو وهو ضعيف ، وعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا اعتكاف إلا بصيام . قال الدارقطني : تفرد به سويد بن عبد العزيز عن سفيان بن حسين عن الزهري عن عروة عن عائشة . وقالوا : ليس من شرط الصوم عندنا أن يكون للاعتكاف ، بل يصح أن يكون الصوم له ولرمضان ولنذر ولغيره ، فإذا نذره الناذر فإنما ينصرف إلى مقتضاه في أصل الشرع ، وهذا كمن نذر صلاة فإنها تلزمه ، ولم يكن عليه أن يتطهر لها خاصة بل يجزئه أن يؤديها بطهارة لغيرها .الموفية ثلاثين : وليس للمعتكف أن يخرج من معتكفه إلا لما لا بد له منه ، لما روى الأئمة عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف يدني إلي رأسه فأرجله ، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان تريد الغائط والبول ، ولا خلاف في هذا بين الأمة ولا بين الأئمة ، فإذا خرج المعتكف لضرورة وما لا بد له منه ورجع في فوره بعد زوال الضرورة بنى على ما مضى من اعتكافه ولا شيء عليه ، ومن الضرورة المرض البين والحيض . واختلفوا في خروجه لما سوى ذلك ، فمذهب مالك ما ذكرنا ، وكذلك مذهب الشافعي وأبي حنيفة ، وقال سعيد بن جبير والحسن والنخعي : يعود المريض ويشهد الجنائز ، وروي عن علي وليس بثابت عنه ، وفرق إسحاق بين الاعتكاف الواجب والتطوع ، فقال في الاعتكاف الواجب : لا يعود المريض ولا يشهد الجنائز ، وقال في التطوع : يشترط حين يبتدئ حضور الجنائز وعيادة المرضى والجمعة ، وقال الشافعي : يصح اشتراط الخروج من معتكفه لعيادة مريض وشهود الجنائز وغير ذلك من حوائجه ، واختلف فيه عن أحمد ، فمنع منه مرة وقال مرة : أرجو ألا يكون به بأس ، وقال الأوزاعي كما قال مالك : لا يكون في الاعتكاف شرط . قال ابن المنذر : لا يخرج المعتكف من اعتكافه إلا لما لا بد له منه ، وهو الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج له .[ ص: 313 ] الحادية والثلاثون : واختلفوا في خروجه للجمعة ، فقالت طائفة : يخرج للجمعة ويرجع إذا سلم ; لأنه خرج إلى فرض ولا ينتقض اعتكافه . ورواه ابن الجهم عن مالك ، وبه قال أبو حنيفة ، واختاره ابن العربي وابن المنذر ، ومشهور مذهب مالك أن من أراد أن يعتكف عشرة أيام أو نذر ذلك لم يعتكف إلا في المسجد الجامع ، وإذا اعتكف في غيره لزمه الخروج إلى الجمعة وبطل اعتكافه ، وقال عبد الملك : يخرج إلى الجمعة فيشهدها ويرجع مكانه ويصح اعتكافه .قلت : وهو صحيح لقوله تعالى : وأنتم عاكفون في المساجد نعم ، وأجمع العلماء على أن الاعتكاف ليس بواجب وأنه سنة ، وأجمع الجمهور من الأئمة على أن الجمعة فرض على الأعيان ، ومتى اجتمع واجبان أحدهما آكد من الآخر قدم الآكد ، فكيف إذا اجتمع مندوب وواجب ، ولم يقل أحد بترك الخروج إليها ، فكان الخروج إليها في معنى حاجة الإنسان .الثانية والثلاثون : المعتكف إذا أتى كبيرة فسد اعتكافه ; لأن الكبيرة ضد العبادة ، كما أن الحدث ضد الطهارة والصلاة ، وترك ما حرم الله تعالى عليه أعلى منازل الاعتكاف في العبادة . قاله ابن خويز منداد عن مالك .الثالثة والثلاثون : روى مسلم عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكفه . . . الحديث ، واختلف العلماء في وقت دخول المعتكف في اعتكافه ، فقال الأوزاعي بظاهر هذا الحديث ، وروي عن الثوري والليث بن سعد في أحد قوليه ، وبه قال ابن المنذر وطائفة من التابعين . وقال أبو ثور : إنما يفعل هذا من نذر عشرة أيام ، فإن زاد عليها فقبل غروب الشمس ، وقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم : إذا أوجب على نفسه اعتكاف شهر ، دخل المسجد قبل غروب الشمس من ليلة ذلك اليوم . قال مالك : وكذلك كل من أراد أن يعتكف يوما أو أكثر ، وبه قال أبو حنيفة وابن الماجشون ; لأن أول ليلة أيام الاعتكاف داخلة فيها ، وأنه زمن للاعتكاف فلم يتبعض كاليوم ، وقال الشافعي : إذا قال لله علي يوم دخل قبل طلوع الفجر وخرج بعد غروب الشمس ، خلاف قوله في الشهر ، وقال الليث في أحد قوليه وزفر : يدخل قبل طلوع الفجر ، والشهر واليوم عندهم سواء ، وروي مثل ذلك عن أبي يوسف وبه قال القاضي عبد الوهاب ، وأن الليلة إنما تدخل [ ص: 314 ] في الاعتكاف على سبيل التبع ، بدليل أن الاعتكاف لا يكون إلا بصوم وليس الليل بزمن للصوم ، فثبت أن المقصود بالاعتكاف هو النهار دون الليل .قلت : وحديث عائشة يرد هذا القول وهو الحجة عند التنازع ، وهو حديث ثابت لا خلاف في صحته .الرابعة والثلاثون : استحب مالك لمن اعتكف العشر الأواخر أن يبيت ليلة الفطر في المسجد حتى يغدو منه إلى المصلى ، وبه قال أحمد ، وقال الشافعي والأوزاعي : يخرج إذا غابت الشمس ، ورواه سحنون عن ابن القاسم ; لأن العشر يزول بزوال الشهر ، والشهر ينقضي بغروب الشمس من آخر يوم من شهر رمضان ، وقال سحنون : إن ذلك على الوجوب ، فإن خرج ليلة الفطر بطل اعتكافه ، وقال ابن الماجشون : وهذا يرده ما ذكرنا من
تَنْوِيرُ ٱلْمِقْبَاسِ مِن تَفْسِيرِ ٱبْنِ عَبَّاس
Tafsir Tanwir al-Miqbas —
حضرت ابن عباسؓ
انتقال في أحكام الصيام إلى بيان أعمال في بعض أزمنة رمضان قد يظن أنها تنافي عبادة الصيام ، ولأجل هذا الانتقال فُصلت الجملة عن الجمل السابقة .وذكروا لسبب نزول هذه الآية كلاماً مضطرباً غير مُبيّن فروى أبو داود عن معاذ بن جبل كان المسلمون إذا نام أحدهم إذا صلى العِشاء وسهر بعدها لم يأكل ولم يباشر أهله بعد ذلك فجاء عُمر يريد امرأتْه فقالت : إني قد نمت فظن أنها تعْتَلُّ فباشرها ، وروى البخاري عن البراء بن عازب أن قيس بن صرمة جاء إلى منزله بعد الغروب يريد طعامه فقالت له امرأته : حتى نسخنَ لك شيئاً فنام فجاءت امرأته فوجدته نائماً فقالت : خيبةً لم فبقي كذلك فلما انتصف النهار أغمي عليه من الجوع ، وفي كتاب التفسير من صحيح البخاري أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فالن باشروهن وابتغوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ } عن حديث البراء بن عاوب قال : لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله وكان رجال يخونون أنفسهم فأنزل الله تعالى : { علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم } الآية ، ووقع لكعب بن مالك مثل ما وقع لعمر ، فنزلت هذه الآية بسبب تلك الأحداث ، فقيل : كان ترك الأكل ومباشرة النساء من بعد النوم أو من بعد صلاة العشاء حكماً مشروعاً بالسُّنة ثم نسخ ، وهذا قول جمهور المفسرين ، وأنكر أبو مسلم الأصفهاني أن يكون هذا نسخاً لشيء تقرر في شرعنا وقال : هو نسخ لما كان في شريعة النصارى .وما شرع الصوم إلاّ إمساكاً في النهار دون الليل فلا أحسب أن الآية إنشاء للإباحة ولكنها إخبار عن الإباحة المتقررة في أصل توقيت الصيام بالنهار ، والمقصود منها إبطال شيء توهمه بعض المسلمين وهو أن الأكل بين الليل لا يتجاوز وقتين وقت الإفطار ووقت السحور وجعلوا وقت الإفطار هو ما بين المغرب إلى العشاء ، لأنهم كانوا ينامون إثر صلاة العشاء وقيامها فإذا صلوا العشاء لم يأكلوا إلاّ أكلة السحور وأنهم كانوا في أمر الجماع كشأنهم في أمر الطعام وأنهم لما اعتادوا جعل النوم مبدأ وقت الإمساك الليلي ظنوا أن النوم إن حصل في غير إبانة المعتاد يكون أيضاً مانعاً من الأكل والجماععِ إلى وقت السحور وإن وقت السحور لا يباح فيه إلاّ الأكل دون الجماع؛ إذ كانوا يتأثمون من الإصباح في رمضان على جنابة ، وقد جاء في «صحيح مسلم» أن أبا هريرة كان يرى ذلك يعني بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لعل هذا قد سرى إليْهم من أهل الكتاب كما يقتضيه ما رواه محمد بن جرير من طريق السدي ، ولعلهم التزموا ذلك ولم يسألوا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولعل ذلك لم يتجاوز بعض شهر رمضان من السنة التي شرع لهم فيها صيام رمضان فحدثت هذه الحوادث المختلفة المتقاربة ، وذكر ابن العربي في «العارضة» عن ابن القاسم عن مالك كان في أول الإسلام من رقد قبل أن يَطْعَم لم يَطعم من الليل شيئاً فأنزل الله : { فالئن باشروهن } فأكلوا بعد ذلك فقوله تعالى : { علم الله } دليل على أن القرآن نزل بهذا الحكم لزيادة البيان؛ إذ علم الله ما ضيق به بعض المسلمين على أنفسهم وأوحى به إلى رسوله صلى الله عليه وسلم وهذا يشير إلى أن المسلمين لم يُفشوا ذلك ولا أخبروا به رسول الله ولذلك لا نجد في روايات البخاري والنسائي أن الناس ذكروا ذلك لرسول الله إلاّ في حديث قيْس بن صِرمة عند أبي داود ولعله من زيادات الراوي .فأَما أن يكون ذلك قد شرع ثم نسخ فلا أحسبه ، إذ ليس من شأن الدين الذي شرع الصوم أولَ مرة يوماً في السنة ثم درَّجه فشرع الصوم شهراً على التخيير بينه وبين الإطعام تخفيفاً على المسلمين أن يفرضه بعد ذلك ليلاً ونهاراً فلا يبيح الفطر إلاّ ساعات قليلة من الليل .ولَيْلةُ الصيام الليلةُ التي يعقبها صيام اليوم الموالي لها جرياً على استعمال العرب في إضافة الليلة لليوم الموالي لها إلاّ ليلةَ عرفة فإن المراد بها الليلة التي بعد يوم عرفة .والرَّفث في «الأساس» و«اللسان» أن حقيقته الكلام مع النساء في شؤون الالتذاذ بهن ثم أطلق على الجماع كناية ، وقيل هو حقيقة فيهما وهو الظاهر ، وتعديته بإلى ليتعين المعنى المقصود وهو الإفضاء .وقول : { هن لباس لكم } جملة مستأنفة كالعلة لما قبلها أي أحل لعُسر الاحتراز عن ذلك ، ذلك أن الصوم لو فرض على الناس في الليل وهو وقت الاضطجاع لكان الإمساك عن قربان النساء في ذلك الوقت عنتاً ومشقة شديدة ليست موجودة في الإمساك عن قربانهن في النهار؛ لإمكان الاستعانة عليه في النهار بالبعد عن المرأة ، فقوله تعالى : { هن لباس لكم } استعارة بجامع شدة الاتصال حينئذٍ وهي استعارة أحياها القرآن ، لأن العرب كانت اعتبرتها في قوله : لابَسَ الشيءُ الشيءَ ، إذا اتصل به لكنهم صيروها في خصوص زنة المفاعلة حقيقةً عُرفية فجاء القرآن فأحياها وصيَّرها استعارة أَصلية جديدة بعد أن كانت تبعية منسية وقريبٌ منها قول امرىء القيس: ... فسُلِّي ثيابي من ثيابككِ تَنْسِللِو { تختانون } قال الراغب : «الاختيان مراودة الخيانة» بمعنى أنه افتعال من الخون وأصله تَخْتَوِنُون فصارت الواو ألِفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها ، وخيانة الأنفس تمثيل لتكليفها ما لم تكلف به كأنَّ ذلك تعزيرٌ بها؛ إذ يوهمها أن المشقة مشروعة عليها وهي ليست بمشروعة ، وهو تمثيل لمغالطتها في الترخص بفعل ما ترونه محرماً عليكم فتُقْدِمُون تارة وتحجمون أخرى كمن يحاول خيانة فيكون كالتمثيل في قوله تعالى :{ يخادعون } [ البقرة : 9 ] .والمعنى هنا أنكم تلجئونها للخيانة أو تنسبونها لها ، وقيل : الاختيان أشد من الخيانة كالاكتساب والكَسب كما في «الكشاف» قلت : وهو استعمال كما قال تعالى : { ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم } [ النساء : 107 ] .وقوله تعالى : { فالئن باشروهن } الأمر للإباحة ، وليس معنى قوله { فالئن } إشارة إلى تشريع المباشرة حينئذٍ بل معناه فاللآن اتضح الحكم فباشروهن ولا تختانوا أنفسكم . والابتغاء الطلب ، وما كتبه الله : ما أباحه من مباشرة النساء في غير وقت الصيام أو اطلبوا ما قدر الله لكم من الولد تحريضاً للناس على مباشرة النساء عسى أن يتكون النسل من ذلك وذلك لتكثير الأمة وبقاء النوع في الأرض .عطف على { باشروهن } ، والخيط سلك الكتان أو الصوف أو غيرهما يلفق به بين الثياب بشدة بإبرة أو مِخْيَطٍ ، يقال خاط الثوب وخَيَّطه . وفي خبر قبور بني أمية أنهم وجدوا معاوية رضي الله عنه في قبره كالخيط ، والخيط هنا يراد به الشعاع الممتد في الظلام والسوادُ الممتد بجانبه قال أبو دؤاد من شعراء الجاهلية: ... فَلَمَّا أَضَاءَت لَنَا سَدْفَةٌ ( )ولاَحَ من الصُّبْح خَيْطٌ أَنَارَا ... وقوله : { من الفجر } منْ ابتدائية أي الشعاع الناشىء عن الفجر ، وقيل بيانية وقيل تبعيضية وكذلك قول أبي دُؤَاد «من الصبح» لأن الخيط شائع في السلك الذي يخاط به فهو قرينة إحدى المعنيين للمشترك ، وجعله في «الكشاف» تشبيهاً بليغاً ، فلعله لم يثبت عنده اشتهار إطلاقه على هذا المعنى في غير بعض الكلام ، كالآية وبيت أبي دُؤاد ، وعندي أن القرآن ما أطلقه إلاّ لكونه كالنص في المعنى المراد في اللغة الفصحى دون إرادة التشبيه لأنه ليس بتشبيه واضح .وقد جيء في الغاية بحتى وبالتَّبَيُّن للدلالة على أن الإمساك يكون عند اتضاح الفجر للناظر وهو الفجر الصادق ، ثم قوله تعالى : { حتى يتبين } تحديد لنهاية وقت الإفطار بصريح المنطوق؛ وقد علم منه لا محالة أنه ابتداء زمن الصوم ، إذ ليس في زمان رمضان إلاّ صوم وفطر وانتهاء أحدهما مبدأ الآخر فكان قوله : { أتموا الصيام إلى الليل } بياناً لنهاية وقت الصيام ولذلك قال تعالى : { ثم أتموا } ولم يقل ثم صوموا لأنهم صائمون من قبل .و { إلى الليل } غاية اختير لها ( إلى ) للدلالة على تعجيل الفطر عند غروب الشمس لأن إلى لا تمتد معها الغاية بخلاف حتى ، فالمراد هنا مقارنة إتمام الصيام بالليل .واعلم أن ثم في عطف الجمل للتراخي الرتبي وهو اهتمام بتعيين وقت الإفطار ، لأن ذلك كالبشارة لهم ، ولا التفات إلى ما ذهب إليه أبو جعفر الخباز السمرقندي من قدماء الحنفية من الاستدلال بثم في هاته الآية على صحة تأخير النية عن الفجر احتجاجاً لمذهب أبي حنيفة من جواز تأخير النية إلى الصحوة الكبرى .بناء على أن ثم للتراخي وأن إتمام الصيام يستلزم ابتداءه ، فكأنه قال ثم بعد تبيين الخيطين من الفجر صوموا أو أتموا الصيام إلى الليل فينتج معنى صوموا بعد تراخ عن وقت الفجر وهو على ما فيه من التكلف والمصير إلى دلالة الإشارة الخفيفة غفلة عن معنى التراخي في عطف ( ثم ) للجمل .هذا ، وقد رويت قصة في فهم بعض الصحابة لهذه الآية وفي نزولها مفرقة ، فروى البخاري ومسلم عن عدي بن حاتم قال : " لما نزلت { حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود } عمدت إلى عِقال أسود وإلى عقال أبيض فجعلتهما تحت وسادتي فجعلت أنظر في الليل فلا يستبين لي الأبيض من الأسود فغدوت على رسول الله فذكرتُ له ذلك فقال رسول الله : إن وِسادَك لعَرِيض ، وفي رواية : إنك لعَرِيض القفا ، إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار " .ورَوَيا عن سهل بن سعد قال نزلت : { وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود } ولم ينزل { من الفجر } فكانَ رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض والخيط الأسود ولم يزل يأْكل حتى تتبين له رؤيتهما فأنزل الله بعدُ { من الفجر } ، فيظهر من حديث سهل بن سعد أن مثل ما عمله عدي بن حاتم قد كان عمله غيره من قبلِه بمدة طويلة ، فإن عَدِياً أَسلَمَ سنة تسع أو سنة عشر ، وصيام رمضان فُرض سنة اثنتين ولا يُعقل أن يبقَى المسلمون سبع أو ثمانيَ سنين في مثل هذا الخطأ ، فمحل حديث سهل بن سعد على أن يكون ما فيه وقع في أول مُدة شرع الصيام ، ومحمل حديث عدي بن حاتم أن عدياً وقع في مثل الخطأ الذي وقع فيه مَن تقدموه ، فإن الذي عند مسلم عن عبد الله بن إدريس عن حصين عن الشعبي عن عدي أنه قال لما نزلت : { حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر } الخ فهو قد ذكر الآية مستكملة ، فيتعين أن يكون محمل حديث سهل بن سعد على أن ذلك قد عمله بعض الناس في الصوم المفروض قبلَ فَرْض رمضان أي صوممِ عاشوراء أو صوممِ النَّذْر وفي صوم التَّطوع ، فلما نزلت آية فرض رمضان وفيها { من الفجر } علموا أن ما كانوا يعملونه خطأ ، ثم حَدث مثل ذلك لعدي بن حاتم .وحديث سهل لا شبهة في صحة سنده إلاّ أنه يحتمل أن يكون قوله فيه ولم ينزل { من الفجر } وقوله فأنزل الله بعد ذلك { مِن الفجر } مروياً بالمعنى فجاء راويه بعبارات قلقة غير واضحة ، لأنه لم يقع في «الصحيحين» إلاّ من رواية سعيد بن أبي مريم عن أبي غسان عن أبي حازم عن سهل بن سعد فقال الراوي : «فأنزل بعد أو بعدَ ذلك من الفجر» وكان الأوضح أن يقول فأنزل الله بعدُ : { وكلوا واشربوا } إلى قوله { من الفجر } .وأيّاً ما كان فليس في هذا شيء من تأخير البيان ، لأن معنى الخيط في الآية ظاهر للعرب ، فالتعبير به من قبيل الظاهر لا من قبيل المجمل ، وعدمُ فهم بعضهم المرادَ منه لا يقدح في ظهور الظاهر ، فالذين اشتبه عليهم معنى الخيط الأبيض والخيط الأسود ، فهموا أَشهر معاني الخيط وظَنوا أن قوله : { من الفجر } متعلق بفعل { يتبين } على أن تكون ( مِنْ ) تعليلية أي يكون تبينه بسبب ضوء الفجر ، فصنعوا ما صنعوا ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم «إنّ وسادك لعريض أو إنك لعريض القفا» كناية عن قلة الفِطنة وهي كناية موجهة من جوامع كلمه عليه السلام .وقوله تعالى : { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون } عطف على قوله { باشروهن } لقصد أن يكون المعتكف صالحاً . وأجمعوا على أنه لا يكون إلاّ في المسجد لهاته الآية ، واختلفوا في صفة المسجد فقيل لا بد من المسجد الجامع وقيل مطلق مسجد وهو التحْقيق وهو مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي رحمهم الله ، وأحكامه في كتب الفقه وليست من غرض هذا المفسر .تذييل بالتحذير من مخالفة ما شرع إليه من أحكام الصيام . فالإشارة إلى ما تقدم ، والإخبار عنها بالحدود عيَّن أن المشار إليه هو التحديدات المشتمل عليها الكلام السابق وهي قوله : { حتى يتبين لكم الخيط } وقوله : { إلى الليل } { وأنتم عاكفون } من كل ما فيه تحديد يفضي تجاوزه إلى معصية ، فلا يخطر بالبال دخول أحكام الإباحة في الإشارة مثل : { أحل لكم } ومثل { فالئن باشروهن } .والحدود الحواجز ونهايات الأشياء التي إذا تجاوزها المرء دخل في شيء آخر ، وشبهت الأحكام بالحدود لأن تجاوزها يخرج من حل إلى منع وفي الحديث " وحَدَّ حدوداً فلا تعتدوها " وستأتي زيادة بيان له في قوله تعالى : { تلك حدود الله فلا تقربوها } .وقوله : { فلا تقربوها } نهى عن مقاربتها الموقعةِ في الخروج منها على طريق الكناية لأن القرب من الحد يستلزم قصد الخروج غالباً كما قال تعالى : { ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن } [ الأنعام : 152 ] ، ولهذا قال تعالى في آيات أخرى : { تلك حدود الله فلا تعتدوها } [ البقرة : 229 ] . كما سيأتي هنالك وفي معنى الآية حديث " من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه " .والقول في : { كذلك يبين الله آياته للناس } تقدم نظيره في قوله : { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً } [ البقرة : 143 ] أي كما بين الله أحكام الصيام يبين آياته للناس أي جميع رياته لجميع الناس ، والمقصد أن هذا شأن الله في إيضاح أحكامه لئلا يلتبس شيء منها على الناس ، وقوله : { لعلهم يتقون } ، أي إرادةً لاتقائهم الوقوع في المخالفة ، لأنه لو لم يبين لهم الأحكام لما اهتدوا لطريق الامتثال ، أو لعلهم يلتبسون بغاية الامتثال والإتيان بالمأمورات على وجهها فتحصل لهم صفة التقوى الشرعية ، إذ لو لم يبين الله لهم لأتوا بعبادات غير مستكملة لما أراد الله منها؛ وهم وإن كانوا معذورين عند عدم البيان وغير مؤاخذيم بإثم التقصير إلاّ أنهم لا يبلغون صفة التقوى أي كمال مصادفة مراد الله تعالى ، فلعل يتقون على هذا منزل منزلة اللازم لا يقدَّر له مفعول مثل { هل يستوى الذين يعلمون } [ الزمر : 9 ] ، وهو على الوجه الأول محذوف المفعول للقرينة .
ٱلتَّفْسِيرُ ٱلْوَسِيط
Tafsir Al-Waseet —
علمائے جامعہ ازہر
وبعد هذا الحديث المؤثر عن الدعاء ، عاد القرآن إلى الحديث عن أحكام الصيام ، وعن مظاهر رحمة الله بعباده فيما شرع لهم فقال - تعالى - :( أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ . . . )روى بعض المفسرين في سبب نزول هذه الآية الكريمة أحاديث تفيد أن المسلمين كانوا عند ما فرض صيام شهر رمضان . إذا أفطروا يأكلون ويشربون ويقربون النساء ما لم يناموا ، فإذا ناموا حرم عليهم بعد ذلك الطعام والشراب وقربان النساء حتى يفطروا من الغد .ومن الأحاديث التي وردت في هذا المعنى ما أخرجه الإِمام أحمد وابن جرير وابن حاتم عن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه . قال : كان الناس في رمضان إذا صام الرجل فنام حمر عليه الطعام والشراب والنساء حتى يفطر من الغد فرجع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - من عند النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة وقد سمر عنده ، فأراد امرأته فقالت إني قد نمت ، فقال ما نمت ثم واقعها ، وصنع كعب مثل ذلك . فغدا عمر بن الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبهر فنزلت .ومنها ما رواه البخاري عن البراء قال : كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائما فحضر الإِفطار فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمس . وإن قيس بن صرمة الأنصاري كان صائما وفي رواية : كان يعمل في النخيل بالنهار وكان صائما . فلما حضر الإِفطار أتى امرأته فقال لها : أعندك طعام؟ قالت : لا ، ولكن أنطلق فأطلب لك وكان يومه يعمل ، فغلبته عيناه فجاءته امرأته فما رأته قالت : خيبة لك . فلما انتصف النهار غشى عليه ، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية ( أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ ) ففرحوا فرحاً شديداً ، ونزلت ( وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود مِنَ الفجر ) .وجمهور المفسرين - كما يقول الإِمام الرازي - على أن هذه الآية من قبيل النسخ ، لأنها قد نسخت ما كان حاصلا في أول فرضية من أن الصائم إذا نام بعد فطره لا يحل له الأكل أو الشرب أو الجماع إلى أن يفطر من الغد .ويرى بعض العلماء أن الآية ليست من قبيل النسخ وإنما هي إرشاد إلى ما شرعه الله - تعالى - لعباده خلال شهر الصوم من إباحة غشيان أزواجهن ليلا . ومن جواز الأكل والشرب ، حتى يتبين لهم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ، وكأن الصحابة كانوا يتحرجون عن ذلك ظناً منهم أنه من تتمة الصوم ، ورأوا أن لا صبر لأنفسهم عن الأكل والشرب والجماع ليلا ، فبين الله لهم أن ذلك حلال لا حرج فيه .وأصحاب هذا الرأي يستشهدون لذلك بما رواه البخاري عن البراء قال : لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله ، وكان رجال يخونون أنفسهم فأنزل الله - تعالى - ( عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ ) فالمقصود من الآية الكريمة عند هؤلاء رفع ما توهمه بعض الصحابة من أن الأكل أو الشرب أو الجماع لا يجوز ما دامو قد ناموا بعد فطرهم؛ لأن الله - تعالى - رءوف رحيم بهم ، ولم يشرع لهم ما فيه حرج أو مشقة عليهم .وعلى كلا القولين فالآية الكريمة تسوق لنا لونا من ألوان رحمة الله - تعالى - بعباده فيما شرع لهم من فرائض وأحكام .والمراد بليلة الصيام : الليلة التي يصبح فيها الإِنسان صائما دون تحديد ليلة معينة من شهر رمضان ، فالإِضافة لأدنى ملابسة .قال الجمل وقوله : ( لَيْلَةَ الصيام ) منصوب على الظرف ، وفي الناصب له ثلاثة أقوال :أحدها : وهو المشهور عند المعربين أنه أحل ، وليس بشئ ، لأن الإِحلال ثابت قبل ذلك الوقت .الثاني : أنه مقدر مدلول عليه بلفظ الرفث تقديره : أحل لكم أن ترفثوا ليلة الصيام .الثالث : أنه متعلق بالرفث وذلك على رأى من يرى الاتساع في الظرف والمجرورات " .والرفث في الأصل : الفحش من القول ، وكلام النساء حين الجماع ، كنى به عن المباشرة للزومه لها غالباً . يقال رفث في لكامه - كنصر وفرح وكرم - وأرفث ، إذا أفحش فيه . والمراد به في الآية الجماع والمباشرة .وعدي بإلى - مع أن المستعمل الشائع أن يقال : رفث بالمرأة - لتضمنه معنى الإِفضاء كما في قوله - تعالى - : ( وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ ) والمعنى : أحل الله لكم في ليالي صومكم الإِفضاء إلى نسائكم ومباشرتهن وقوله - تعالى - ( هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ ) وارد مورد المقتضى لإِباحة مباشرة النساء في ليالي الصيام ، ذلك أن كلا مع الزوجين يسكن إلى صاحبه ، ويكون من شدة القرب منه كالثوب الملابس له وكانت العرب تسمى المرأة لباساً ، وهذه حال تقوى معها الدواعي إلى المباشرة ، فمن رفقه - تعالى - بعباده أن أحلها لهم ليلة الصيام .قال الراغب : جعل اللباس كناية عن الزوج لكونه ستراً لنفسه ولزوجه أن يظهر منهما سوء ، كما أن اللباس ستر عنه أن يبدو منه السوء .وقال صاحب الكشاف : فإن قلت : ما موقع قوله : ( هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ ) قلت : هو استئناف كالبيان لسبب الإِحلال ، وهو أنه إذا كانت بينكم وبينهن مثل هذه المخالطة والملابسة قل صبركم عنهن وصعب عليكم اجتنابهن ، فلذلك رخص لكم في مباشرتهن " .وفي هذا التعبير القرآني ما فيه من اللطافة والأدب وسمو التصوير لما بين الرجل وزوجه من شدة الاتصال والمودة واستتار كل واحد منهما بصاحبه .وقوله - تعالى - : ( عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ ) جملة معترضة بين قوله : ( أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام ) وبين قوله : ( فالآن بَاشِرُوهُنَّ ) إلخ .وقد جيء بها لبيان حالهم بالنسبة إلى ما فرط منهم ، ولبيان مظهر من مظاهر لطف الله بهم ، ورحمته إياهم .وقوله : ( تَخْتانُونَ ) قال الراغب : الاختيان مراودة الخيانة ، ولم يقل تخونون أنفسكم لأنه لم تكن منهم الخيانة بل كان منهم الاختيان ، فإن الاختيان تحرك شهوة الإِنسان لتحري الخيانة وذلك هو المشار إليه بقوله - تعالى - : ( إِنَّ النفس لأَمَّارَةٌ بالسواء ) والمعنى : علم الله - تعالى - أنكم كنتم تراودون أنفسكم على مباشرة نسائكم ليلا ، وعلى الأكل بعد النوم ، قبل أن يظهر الفجر الصادق ، بل إن بعضكم قد فعل ذلك ، فكان من رحمة الله بكم أن أباح الأكل والشرب والجماع في ليالي الصوم ، وأن قبل توبتكم وعفا عنكم ، أي : محا أثر ما فعلتموه من الأكل والجماع قبل أن يأذن لكم بذلك .وجملة ( فَتَابَ عَلَيْكُمْ ) معطوفة على محذوف ، والتقدير : قتبتم فتاب عليكم .والذين لا يرون أن الآية ناسخة لحكم سابق عبر عن وجهة نظرهم صاحب المنار فقال : وقوله - تعالى - : ( عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ ) أي : تتنقصونها بعض ما أحل الله لها من اللذات توهما أن من قبلكم كان كذلك فيكون بمعنى التخون أي : النقص من الشيء أو معناه : تخونون أنفسكم إذ تعتقدون شيائً ثم لا تلتزمون العمل به فهو مبالغة من الخيانة التي هي مخالفة مقتضي الأدلة ولم يقل تختانون الله كما قال في آية أخرى : لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم " للإِشعار بأن الله - تعالى - لم يحرم عليهم بعد النوم في الليل ما حرمه على الصائم في النهار ، وإنما ذهب بهم اجتهادهم إلى ذلك فهم قد خانوا أنفسهم في اعتقادها ، فكانوا كمن يتغشى امرأته ظاناً أنها أجنبية ، فعصيانه بحسب اجتهاده لا بحسب الواقع ، فهم على أية حال كانوا عاصين بما فعلوا محتاجين إلى التوبة والعفو ولذلك قال ( فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ ) .وقوله - تعالى - : ( فالآن بَاشِرُوهُنَّ ) الأمر فيه للإِباحة وهو مرتب على قوله : ( أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ ) .ولفظ ( فالآن ) يطلق حقيقة على الوقت أنت فيه ، وقد يقع على الماضي القريب منك وعلى المستقبل القريب الوقوع تنزيلا له منزلة الحاضر وهو المراد هنا .( بَاشِرُوهُنَّ ) من المباشرة وأصلها اتصال البشرة بالبشرة ، وكنى بها القرآن عن الجماع الذي يستلزمها .وقوله - تعالى - ( وابتغوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ ) تأكيد لما قبله . والابتغاء الطلب والمعنى : لقد أبحنا لكم الإِفضاء إلى نسائكم في ليالي رمضان بعد أن كان محرماً عليكم فضلا منا ورحمة بكم فالآن باشروهن واطلبوا من وراء هذه المباشرة ما كتبه لكم الله من الذرية الصالحة ومن التعفف عن إتيان الحرام .وفي هذا إشعار بأن النكاح شرع ليبتغي به النسل حتى يتحقق ما يريده الله - تعالى - من بقاء النوع الإِنساني ، ومن صيانة المرء نفسه عن الوقوع في فاحشة الزنا .وقوله - تعالى - ( وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود مِنَ الفجر ) معطوف على باشروهن .والمقصود من الخيط الأبيض : أول ما يبدو من الفجر الصادق المعترض في الأفق قبل انتشاره .والمقصود من الخيط الأسود : ما يمتد مع بياض الفجر من ظلمة الليل .والمعنى : لقد أبحنا لكم مباشرة النساء في ليالي الصوم ، وأبحنا لكم كذلك أن تأكلوا وأن تشربوا في هذه الليالي حتى يتبين لكم بياض الفجر من سواد الليل .قال الإِمام الرازي : ( الفجر ) مصدر قولك : فجرت الماء أفجره فجراً ، وفجرته تفجيراً قال الأزهري : الفجر أصله الشق ، فعلى هذا الفجر في آخر الليل هو انشقاق ظلمة الليل بنور الصبح .وقد وردت روايات صحيحة تفيد أن قوله : ( مِنَ الفجر ) قد تأخر نزوله عن الجمل السابقة له . ففي الصحيحين عن سهل به سعد قال أنزلت ( وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود مِنَ الفجر ) فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود ، ويأكل حتى يتبين له رؤيتها ، فأنزل الله بعده ( مِنَ الفجر ) فعلموا أنه يعني الليل والنهار .ورويا أيضاً عن عدي بن حاتم قال : لما نزلت هذه الآية ( وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود مِنَ الفجر ) عمدت إلى عقالين لي أسود وأبيض فجعلتهما تحت وسادتي وجعلت أنظر في الليل إليهما فلا يتبين لي ، فعمدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك فقال : " إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار " ونزل قوله - تعالى - : ( مِنَ الفجر ) .وشبه بياض النهار وسواد الليل بالخيطين : الأبيض والأسود لأن أول ما يبدوا من الفجر المعترض في الأفق وما يمتد معه من غبش الليل يكون كالخيط الممدود .وفي الإتيان بلفظ التفعل في قوله : ( حتى يَتَبَيَّنَ . . . ) إشعار بأنه لا يكفي إلا التبين الوضاح لا مجرد التوهم ، فقد روى الإِمام مسلم في صحيحه عن سمرة بن جندب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يغرنكم نداء بلال ولا هذا البياض حتى يبدو الفجر - أو قال - حتى ينفجر الفجر " .وقوله : ( مِنَ الفجر ) بيان للخيط الأبيض . واكتفى به عن بيان الخيط الأسود ، لأن بيان أحدهما بيان للثاني ، ويجوز أن تكون " من " للتبعيض ، أي : من بعض الفجر .وقوله - تعالى - : ( ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى الليل ) بيان لإنتهاء وقت الصيام بعد أن بينت الجملة السابقة بدايته . أي : ابدءوا صومكم من طلوع الفجر وانتهوا منه بدخول الليل عند غروب الشمس ، إذ الليل لبس بوقت الصيام .قال الإِمام الرازي : كلمة ( إِلَى ) لإنتهاء الغاية ، فظاهر الآية : أن الصوم ينتهي عند دخول الليل ، وذلك لأن غاية الشيء مقطعه ومنتهاه وإنما يكون مقطعاً ومنتهى إذا لم يبق بعد ذلك وقد تجيء هذه الكلة لا للإِنتهاء كما في قوله - تعالى - : ( إِلَى المرافق ) إلا أن ذلك على خلاف الدليل ، والفرقب بين الصورتين أن الليل من جنس النهار فيكون الليل خارجاً عن حكم النهار ، والمرافق من جنس اليد فيكون داخلا فيه " .وفي الصحيحين عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا أقبل الليل من هنا وأدبر النهار من هنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم " .وكان من عادته صلى الله عليه وسلم تعجيل الفطر ، فقد روى الشيخان عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر " .وقد أخذ العلماء من هذه الآية ومن عمل الرسول صلى الله عليه وسلم وقوله ، أن من واصل الإِمساك عن المفطرات في الليل فلا ثواب له على هذا الإِمساك ، لأنه لم يقع في الوقت لالذي رسمه الشارع لعبادة الصوم ، بل يعد هذا المواصل فاعلا لمحظور ، فلا بد للصائم من تناول شي من المفطرات بعد غروب الشمس ولو قليلا من الماء . فقد روى الترمذي عن أنس بن مالك قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر قبل أن يصلي على رطبات فإن لم تكن رطبات فتميرات ، فإن لم تكن تميزات حسا حسوات من ماء ، والوصال - بمعى أن يصوم الشخص اليوم وما بعده من غير أن يتناول مفطراً في الليل الفاصل بينهما - وردت في النهي عنه أحاديث كثيرة ، ومن ذلك ما جاء في الصحيحين عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا تواصلوا ، قالوا : إنك تواصل يا رسول الله . قال : لست كأحد منكم إني أطعم وأسقى . أو قال : إني أظل يطعمني ربي ويسقيني " .وروى الإِمام أحمد عن ليلى امرأة بشير بن الخصاصية قالت : أردت أن أصوم يومين مواصلة فمنعنى بشير وقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه وقال : " يفعل ذلك النصارى ولكن صوموا كما أمركم الله ثم أتموا الصيام إلى الليل ، فإذا كان الليل فأفطروا " .وقوله : ( وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ ) كان هذا الإِطلاق مظنة لأن يؤخذ منه أن المعتكف كالصائم في أنه يجوز له أن يباشر زوجته ليلا لا نهاراً ، فبين - سبحانه - بهذه الجملة أن المعتكف يحرم عليه أن يباشر النساء فيي الليل والنهار .قال القرطبي : والاعتكاف في اللغة : الملازمة ، يقال عكف على الشيء إذا لازمه مقبلا عليه .قال الشاعر :وظل بنات الليل حولي عكفا ... عكوف البواكي بينهن صريعولما كان المعتكف ملازماً للعمل بطاعة الله مدة اعتكافه لزمه هذا الاسم وهو في عرف الشرع : ملازمة طاعة مخصوصة في وقت مخصوص على شرط مخصوص في مو ضع مخصوص .وأجمع العلماء على أنه ليس بواجب وهو قربة من القرب ونافلة من النوافل عمل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأزواجه ، ويلزمه إن ألزمه نفسه ، ويكره الدخول فيه لمن يخاف عليه العجز عن الوفاء بحقوقه .وأجمع العلماء على أنه لا يكون إلا في المسجد واختلفوا في المراد بالمساجد في قوله - تعالى - ( فِي المساجد ) فذهب قوم إلى أن الآية خرجت على نوع من المساجد وهو ما بناه نبي كالمسجد الحرام والمسجد النبوي وبيت المقدس ، وقال آخرون لا اعتكاف إلا في مسجد تجمع فيه الجمعة ، وقال آخرون الاعتكاف في كل مسجد جائز .والمشار إليه في قوله - تعالى - : ( تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَقْرَبُوهَا ) الأحكام التي سبق تقريرها من إيجاب وتحريم وإباحة .والحدود جمع حد ، وهو في اللغة الحاجز بين الشيئين المتقابلين ليمنع من دخول أحدهما في الآخر . ومنه سمي الحديد حديداً لأنه يمنع وصول السلاح إلى البدن .و سميت الأحكام التي شرعها الله حدوداً لأنها تحجز بين الحق والباطل .أي : تلك الأحكام التي شرعناها لكم من إيجاب الصوم ، وتحريم الأكل والشرب والجماع في نهاره ، وإباحة ذلك في ليله ، هي حدود الله التي لا يحل لكم مخالفتها أو مجازتها .وعبر - سبحانه - عن النهي عن مخالفة تلك الأحكام بقوله : ( فَلاَ تَقْرَبُوهَا ) مبالغة في التحذير من مخالفتها ، لأن النهي عن القرب من الشيء نهى عن إتيانه بالأولى والآية ترشد بقولها ( فَلاَ تَقْرَبُوهَا ) إلى اجتناب ما فيه شبهة كما ترشد إلى ترك الأشياء التي تقضى في غالب أمرها إلى الوقوع في حرام .قال صاحب الكشاف : فإن قلت : كيف قيل ( فَلاَ تَقْرَبُوهَا ) مع قوله : ( فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله ) قلت : من كان في طاعة الله والعمل بشرائعه فهو متصرف في حيز الحق فنهى أن يتعداه . لأن من تعداه وقع في حيز الباطل ، ثم بولغ في ذلك فنهى أن يقرب الحد الذي هو الحاجز بين حييز الحق والباطل لئلا يداني الباطل ، وأن يكون في الواسطة متباعداً عن الطرف فضلا عن أن يتخطاه كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن لكل ملك حمى ، وحمى الله محارمه ، فمن رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه " فالرتع حول الحمى وقربان حيزه واحد . ويجوز أن يريد بحدود الله محارزه ومناهيه خصوصاً لقوله - تعالى - : ( وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ ) وهي حدود لا تقرب " .ثم ختم - سبحانه - هذه الآية الكريمة بقوله : ( كذلك يُبَيِّنُ الله آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) .أي : مثل ذلك البيان الجامع الذي بين الله به حدوده التي أمركم بالتزامها ونهاكم عن مخالفتها ، يبين لكم آياته ، أي : أدلته وحججه لكي تصونوا أنفسكم عما يؤدي بكم إلى العقوبة ، وتكونوا ممن رضى الله عنهم ورضوا عنه .وبذلك تكون الآية الكريمة قد ختمت الحديث عن الصوم ، ببيان مظاهر رفق الله بعباده ، ورعايته لمصالحهم ومنافعهم بأسلوب بليغ جمع بين الترغيب والترهيب ، والإِباحة والتحريم ، وغير ذلك من أنواع الهداية والإِرشاد إلى ما يسعد الناس في دينهم ودنياهم .وبعد أن أنهى القرآن حديثه عن الصيام ، وما يتعلق به من أحكام ، أردف ذلك بالنهي عن أكل الحرام ، لأنه يؤدي إلى عدم قبول العبادات من صيام واعتكاف ودعاء وغير ذلك فقال - تعالى - :( وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الحكام . . . )
تَفْسِيرُ ٱلْبَغَوِيِّ
Tafsir al-Baghawi —
علامہ بغوی
قوله تعالى ( أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ) فالرفث كناية عن الجماع قال ابن عباس : إن الله تعالى حيي كريم يكني كل ما ذكر في القرآن من المباشرة والملامسة والإفضاء ، والدخول والرفث فإنما عنى به الجماع وقال الزجاج : الرفث كلمة جامعة لكل ما يريده الرجال من النساء قال أهل التفسير كان في ابتداء الأمر إذا أفطر الرجل حل له الطعام والشراب والجماع إلى أن يصلي العشاء الآخرة أو يرقد قبلها فإذا صلى العشاء أو رقد قبلها حرم عليه الطعام والنساء إلى الليلة القابلة ثم إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه واقع أهله بعدما صلى العشاء فلما اغتسل أخذ يبكي ويلوم نفسه فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني أعتذر إلى الله وإليك من نفسي هذه الخاطئة إني رجعت إلى أهلي بعدما صليت العشاء فوجدت رائحة طيبة فسولت لي نفسي فجامعت أهلي فهل تجد لي من رخصة فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما كنت جديرا بذلك يا عمر فقام رجال واعترفوا بمثله فنزل في عمر وأصحابه : .( أحل لكم ) أي أبيح لكم ( ليلة الصيام ) أي في ليلة الصيام ( الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم ) أي سكن لكم ( وأنتم لباس لهن ) أي سكن لهن دليله قوله تعالى : " وجعل منها زوجها ليسكن إليها " ( 189 - الأعراف ) وقيل لا يسكن شيء كسكون أحد الزوجين إلى الآخر ، وقيل سمي كل واحد من الزوجين لباسا لتجردهما عند النوم واجتماعهما في ثوب واحد حتى يصير كل واحد منهما لصاحبه كالثوب الذي يلبسه وقال الربيع بن أنس : هن فراش لكم وأنتم لحاف لهن قال أبو عبيدة وغيره يقال للمرأة هي لباسك وفراشك وإزارك ، وقيل اللباس اسم لما يواري الشيء فيجوز أن يكون كل واحد منهما سترا لصاحبه عما لا يحل كما جاء في الحديث : من تزوج فقد أحرز ثلثي دينه . . . "( علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم ) أي تخونونها وتظلمونها بالمجامعة بعد العشاء قال البراء : لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله وكان رجال يخونون أنفسهم فأنزل الله تعالى " علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم "( فتاب عليكم ) تجاوز عنكم ( وعفا عنكم ) محا ذنوبكم ( فالآن باشروهن ) جامعوهن حلالا سميت المجامعة مباشرة لتلاصق بشرة كل واحد منهم لصاحبه ( وابتغوا ما كتب الله لكم ) أي فاطلبوا ما قضى الله لكم وقيل ما كتب الله لكم في اللوح المحفوظ يعني الولد قاله أكثر المفسرين قال مجاهد : ابتغوا الولد إن لم تلد هذه فهذه وقال قتادة : وابتغوا الرخصة التي كتب الله لكم بإباحة الأكل والشرب والجماع في اللوح المحفوظ وقال معاذ بن جبل : وابتغوا ما كتب الله لكم يعني ليلة القدرقوله : ( وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض ) نزلت في رجل من الأنصار اسمه أبو صرمة بن قيس بن صرمة ، وقال عكرمة : أبو قيس بن صرمة وقال الكلبي : أبو قيس صرمة بن أنس بن أبي صرمة وذلك أنه ظل نهاره يعمل في أرض له وهو صائم فلما أمسى رجع إلى أهله بتمر وقال لأهله قدمي الطعام فأرادت المرأة أن تطعمه شيئا سخينا فأخذت تعمل له سخينة وكان في الابتداء من صلى العشاء ونام حرم عليه الطعام والشراب فلما فرغت من طعامه إذ هي به قد نام وكان قد أعيا وكل ، فأيقظته فكره أن يعصي الله ورسوله فأبى أن يأكل فأصبح صائما مجهودا فلم ينتصف النهار حتى غشي عليه فلما أفاق أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له يا أبا قيس ما لك أمسيت طليحا فذكر له ما له فاغتم لذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل ( وكلوا واشربوا ) يعني في ليالي الصوم ( حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود ) يعني بياض النهار من سواد الليل سميا خيطين لأن كل واحد منهما يبدو في الابتداء ممتدا كالخيطأخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا سعيد بن أبي مريم أخبرنا أبو غسان محمد بن مطرف ثنا أبو حازم عن سهل بن سعد قال أنزلت ( وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود ) ولم ينزل قوله : ( من الفجر ) فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض والخيط الأسود ولا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما فأنزل الله تعالى بعده ( من الفجر ) فعلموا إنما يعني بهما الليل والنهارأخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا الحجاج بن منهال أخبرنا هشيم أخبرنا حصين بن عبد الرحمن عن الشعبي عن عدي بن حاتم قال لما نزلت ( حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود ) عمدت إلى عقال أسود وإلى عقال أبيض فجعلتهما تحت وسادتي فجعلت أنظر إليهما وإلى الليل فلا يستبين لي فغدوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له ، فقال إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار " .أخبرنا أبو الحسن السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن بلالا ينادي بليل فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم " قال كان ابن أم مكتوم رجلا أعمى لا ينادي حتى يقال له أصبحت أصبحت واعلم أن الفجر فجران كاذب وصادق فالكاذب يطلع أولا مستطيلا كذنب السرحان يصعد إلى السماء فبطلوعه لا يخرج الليل ولا يحرم الطعام والشراب على الصائم ثم يغيب فيطلع بعده الفجر الصادق مستطيرا ينتشر سريعا في الأفق فبطلوعه يدخل النهار ويحرم الطعام والشراب على الصائمأخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي أخبرنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي أخبرنا أبو العباس المحبوبي أخبرنا أبو عيسى الترمذي أخبرنا هناد ويوسف بن عيسى قالا أخبرنا وكيع عن أبي هلال عن سوادة بن حنظلة عن سمرة بن جندب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يمنعكم من سحوركم أذان بلال ولا الفجر المستطيل ولكن الفجر المستطير في الأفق " .قوله تعالى : ( ثم أتموا الصيام إلى الليل ) فالصائم يحرم عليه الطعام والشراب بطلوع الفجر الصادق ويمتد إلى غروب الشمس فإذا غربت حصل الفطرأخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا الحميدي أخبرنا سفيان أخبرنا هشام بن عروة قال : سمعت أبي يقول سمعت عاصم بن عمر بن الخطاب عن أبيه رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم " .قوله تعالى : ( ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد ) [ وقد نويتم الاعتكاف في المساجد وليس المراد عن مباشرتهن في المساجد لأن ذلك ممنوع منه في غير الاعتكاف والعكوف هو الإقامة على الشيء والاعتكاف في الشرع هو الإقامة في المسجد على عبادة الله وهو سنة ولا يجوز في غير المسجد ويجوز في جميع المساجدأخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا عبد الله بن يوسف أخبرنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله تعالى ثم اعتكف أزواجه من بعده " والآية نزلت في نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يعتكفون في المسجد فإذا عرضت للرجل منهم الحاجة إلى أهله خرج إليها فجامعها ثم اغتسل فرجع إلى المسجد فنهوا عن ذلك ليلا ونهارا حتى يفرغوا من اعتكافهم فالجماع حرام في حال الاعتكاف ويفسد به الاعتكاف أما ما دون الجماع من المباشرات كالقبلة واللمس بالشهوة فمكروه ولا يفسد به الاعتكاف عند أكثر أهل العلم وهو أظهر قولي الشافعي كما لا يبطل به الحج وقالت طائفة يبطل بها اعتكافه وهو قول مالك وقيل إن أنزل بطل اعتكافه وإن لم ينزل فلا كالصوم ، وأما اللمس الذي لا يقصد به التلذذ فلا يفسد به الاعتكاف لما أخبرنا أبو الحسن السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف أدنى إلي رأسه فأرجله وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان " .قوله تعالى : ( تلك حدود الله ) يعني تلك الأحكام التي ذكرها في الصيام والاعتكاف حدود الله أي ما منع الله عنها قال السدي : شروط الله وقال شهر بن حوشب : فرائض الله وأصل الحد في اللغة المنع ومنه يقال للبواب حداد لأنه يمنع الناس من الدخول وحدود الله ما منع الناس من مخالفتها ( فلا تقربوها ) فلا تأتوها ( كذلك ) هكذا ( يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون ) لكي يتقوها فينجوا من العذاب