تَفْسِيرُ ٱلْمُيَسَّر
Tafsir Al-Muyassar —
کنگ فہد قرآن کمپلیکس
ألم تعلم -أيها الرسول- قصة الذين فرُّوا من أرضهم ومنازلهم، وهم ألوف كثيرة؛ خشية الموت من الطاعون أو القتال، فقال لهم الله: موتوا، فماتوا دفعة واحدة عقوبة على فرارهم من قدر الله، ثم أحياهم الله تعالى بعد مدة؛ ليستوفوا آجالهم، وليتعظوا ويتوبوا؟ إن الله لذو فضل عظيم على الناس بنعمه الكثيرة، ولكن أكثر الناس لا يشكرون فضل الله عليهم.
تَفْسِيرُ ٱلْجَلَالَيْنِ
Tafsir al-Jalalayn —
جلال الدین محلی اور جلال الدین سیوطی
«ألم تر» استفهام تعجيب وتشويق إلى استماع ما بعده أي ينته علمك «إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف» أربعة أو ثمانية أو عشرة أو ثلاثون أو أربعون أو سبعون ألفا «حذر الموت» مفعول له وهم قوم من بني إسرائيل وقع الطاعون ببلادهم ففروا «فقال لهم الله موتوا» فماتوا «ثم أحياهم» بعد ثمانية أيام أو أكثر بدعاء نبيهم حزقيل بكسر المهملة والقاف وسكون الزاي فعاشوا دهرا عليهم أثر الموت لا يلبسون ثوبا إلا عاد كالكفن واستمرت في أسباطهم «إن الله لذو فضل على الناس» ومنه إحياء هؤلاء «ولكن أكثر الناس» وهم الكفار «لا يشكرون» والقصد من ذكر خبر هؤلاء تشجيع المؤمنين على القتال ولذا عطف عليه.
تَفْسِيرُ ٱلْقُرْطُبِيِّ
Tafsir al-Qurtubi —
علامہ قرطبی
قوله تعالى : ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون [ ص: 210 ] فيه ست مسائل : الأولى : قوله تعالى : ( ألم تر ) هذه رؤية القلب بمعنى ألم تعلم . والمعنى عند سيبويه تنبه إلى أمر الذين . ولا تحتاج هذه الرؤية إلى مفعولين . وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي " ألم تر " بجزم الراء ، وحذفت الهمزة حذفا من غير إلقاء حركة لأن الأصل ألم ترء .وقصة هؤلاء أنهم قوم من بني إسرائيل وقع فيهم الوباء ، وكانوا بقرية يقال لها ( داوردان ) فخرجوا منها هاربين فنزلوا واديا فأماتهم الله تعالى . قال ابن عباس : كانوا أربعة آلاف خرجوا فرارا من الطاعون وقالوا : نأتي أرضا ليس بها موت ، فأماتهم الله تعالى ، فمر بهم نبي فدعا الله تعالى فأحياهم . وقيل : إنهم ماتوا ثمانية أيام . وقيل : سبعة ، والله أعلم . قال الحسن : أماتهم الله قبل آجالهم عقوبة لهم ، ثم بعثهم إلى بقية آجالهم . وقيل : إنما فعل ذلك بهم معجزة لنبي من أنبيائهم ، قيل : كان اسمه شمعون . وحكى النقاش أنهم فروا من الحمى . وقيل : إنهم فروا من الجهاد ولما أمرهم الله به على لسان حزقيل النبي عليه السلام ، فخافوا الموت بالقتل في الجهاد فخرجوا من ديارهم فرارا من ذلك ، فأماتهم الله ليعرفهم أنه لا ينجيهم من الموت شيء ، ثم أحياهم وأمرهم بالجهاد بقوله تعالى : وقاتلوا في سبيل الله ، قاله الضحاك . قال ابن عطية : وهذا القصص كله لين الأسانيد ، وإنما اللازم من الآية أن الله تعالى أخبر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم إخبارا في عبارة التنبيه والتوقيف عن قوم من البشر خرجوا من ديارهم فرارا من الموت فأماتهم الله تعالى ثم أحياهم ، ليروا هم وكل من خلف من بعدهم أن الإماتة إنما هي بيد الله تعالى لا بيد غيره ، فلا معنى لخوف خائف ولا لاغترار مغتر . وجعل الله هذه الآية مقدمة بين يدي أمره المؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالجهاد ، هذا قول الطبري وهو ظاهر وصف الآية .قوله تعالى : وهم ألوف قال الجمهور : هي جمع ألف . قال بعضهم : كانوا ستمائة ألف . وقيل : كانوا ثمانين ألفا . ابن عباس : أربعين ألفا . أبو مالك : ثلاثين ألفا . السدي : سبعة وثلاثين ألفا . وقيل : سبعين ألفا ، قاله عطاء بن أبي رباح . وعن ابن عباس أيضا أربعين ألفا ، وثمانية آلاف ، رواه عنه ابن جريج . وعنه أيضا ثمانية آلاف ، وعنه أيضا أربعة آلاف ، وقيل : ثلاثة آلاف . والصحيح أنهم زادوا على عشرة آلاف لقوله تعالى : ( وهم ألوف ) وهو جمع الكثرة ، ولا يقال في عشرة فما دونها ألوف . وقال ابن زيد في لفظة ألوف : إنما معناها وهم مؤتلفون ، أي لم تخرجهم فرقة قومهم ولا فتنة بينهم إنما كانوا مؤتلفين ، فخالفت هذه الفرقة فخرجت فرارا من الموت وابتغاء الحياة بزعمهم ، فأماتهم الله في منجاهم بزعمهم . فألوف [ ص: 211 ] على هذا جمع آلف ، مثل جالس وجلوس . قال ابن العربي : أماتهم الله تعالى مدة عقوبة لهم ثم أحياهم ، وميتة العقوبة بعدها حياة ، وميتة الأجل لا حياة بعدها . قال مجاهد : إنهم لما أحيوا رجعوا إلى قومهم يعرفون أنهم كانوا موتى ولكن سحنة الموت على وجوههم ، ولا يلبس أحد منهم ثوبا إلا عاد كفنا دسما حتى ماتوا لآجالهم التي كتبت لهم . ابن جريج عن ابن عباس : وبقيت الرائحة على ذلك السبط من بني إسرائيل إلى اليوم . وروي أنهم كانوا بواسط العراق . ويقال : إنهم أحيوا بعد أن أنتنوا ، فتلك الرائحة موجودة في نسلهم إلى اليوم .الثانية : حذر الموت أي لحذر الموت ، فهو نصب لأنه مفعول له . و ( موتوا ) أمر تكوين ، ولا يبعد أن يقال : نودوا وقيل لهم : موتوا . وقد حكي أن ملكين صاحا بهم : موتوا فماتوا ، فالمعنى قال لهم الله بواسطة الملكين " موتوا " ، والله أعلم .الثالثة : أصح هذه الأقوال وأبينها وأشهرها أنهم خرجوا فرارا من الوباء ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : خرجوا فرارا من الطاعون فماتوا ، فدعا الله نبي من الأنبياء أن يحييهم حتى يعبدوه فأحياهم الله . وقال عمرو بن دينار في هذه الآية : وقع الطاعون في قريتهم فخرج أناس وبقي أناس ، ومن خرج أكثر ممن بقي ، قال : فنجا الذين خرجوا ومات الذين أقاموا ، فلما كانت الثانية خرجوا بأجمعهم إلا قليلا فأماتهم الله ودوابهم ، ثم أحياهم فرجعوا إلى بلادهم وقد توالدت ذريتهم . وقال الحسن : خرجوا حذارا من الطاعون فأماتهم الله ودوابهم في ساعة واحدة ، وهم أربعون ألفا .قلت : وعلى هذا تترتب الأحكام في هذه الآية . فروى الأئمة واللفظ للبخاري من حديث عامر بن سعد بن أبي وقاص أنه سمع أسامة بن زيد يحدث سعدا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الوجع فقال رجز أو عذاب عذب به بعض الأمم ثم بقي منه بقية فيذهب المرة ويأتي الأخرى فمن سمع به بأرض فلا يقدمن عليه ومن كان بأرض وقع بها فلا يخرج فرارا منه وأخرجه أبو عيسى الترمذي فقال : حدثنا قتيبة أنبأنا حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن عامر بن سعد عن أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الطاعون فقال : بقية رجز أو عذاب أرسل على طائفة من بني إسرائيل فإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها وإذا وقع بأرض ولستم بها فلا تهبطوا [ ص: 212 ] عليها قال : حديث حسن صحيح . وبمقتضى هذه الأحاديث عمل عمر والصحابة رضوان الله عليهم لما رجعوا من سرغ حين أخبرهم عبد الرحمن بن عوف بالحديث ، على ما هو مشهور في الموطأ وغيره . وقد كره قوم الفرار من الوباء والأرض السقيمة ، روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : الفرار من الوباء كالفرار من الزحف . وقصة عمر في خروجه إلى الشام مع أبي عبيدة معروفة ، وفيها : أنه رجع . وقال الطبري : في حديث سعد دلالة على أن على المرء توقي المكاره قبل نزولها ، وتجنب الأشياء المخوفة قبل هجومها ، وأن عليه الصبر وترك الجزع بعد نزولها ، وذلك أنه عليه السلام نهى من لم يكن في أرض الوباء عن دخولها إذا وقع فيها ، ونهى من هو فيها عن الخروج منها بعد وقوعه فيها فرارا منه ، فكذلك الواجب أن يكون حكم كل متق من الأمور غوائلها ، سبيله في ذلك سبيل الطاعون . وهذا المعنى نظير قوله عليه السلام : لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا .قلت : وهذا هو الصحيح في الباب ، وهو مقتضى قول الرسول عليه السلام ، وعليه عمل أصحابه البررة الكرام رضي الله عنهم ، وقد قال عمر لأبي عبيدة محتجا عليه لما قال له : أفرارا من قدر الله! فقال عمر : لو غيرك قالها يا أبا عبيدة ! نعم ، نفر من قدر الله إلى قدر الله . المعنى : أي لا محيص للإنسان عما قدره الله له وعليه ، ولكن أمرنا الله تعالى بالتحرز من المخاوف والمهلكات ، وباستفراغ الوسع في التوقي من المكروهات . ثم قال له : أرأيت لو كانت لك إبل فهبطت واديا له عدوتان إحداهما خصبة والأخرى جدبة ، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله ، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله عز وجل . فرجع عمر من موضعه ذلك إلى المدينة . قال الكيا الطبري : ولا نعلم خلافا أن الكفار أو قطاع الطريق إذا قصدوا بلدة ضعيفة لا طاقة لأهلها بالقاصدين فلهم أن يتنحوا من بين أيديهم ، وإن كانت الآجال المقدرة لا تزيد ولا تنقص . وقد قيل : إنما نهي عن الفرار منه لأن الكائن بالموضع الذي الوباء فيه لعله قد أخذ [ ص: 213 ] بحظ منه ، لاشتراك أهل ذلك الموضع في سبب ذلك المرض العام ، فلا فائدة لفراره ، بل يضيف إلى ما أصابه من مبادئ الوباء مشقات السفر ، فتتضاعف الآلام ويكثر الضرر فيهلكون بكل طريق ويطرحون في كل فجوة ومضيق ، ولذلك يقال : ما فر أحد من الوباء فسلم ، حكاه ابن المدائني . ويكفي في ذلك موعظة قوله تعالى : ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ولعله إن فر ونجا يقول : إنما نجوت من أجل خروجي عنه فيسوء اعتقاده . وبالجملة فالفرار منه ممنوع لما ذكرناه ، ولما فيه من تخلية البلاد : ولا تخلو من مستضعفين يصعب عليهم الخروج منها ، ولا يتأتى لهم ذلك ، ويتأذون بخلو البلاد من المياسير الذين كانوا أركانا للبلاد ومعونة للمستضعفين . وإذا كان الوباء بأرض فلا يقدم عليه أحد أخذا بالحزم والحذر والتحرز من مواضع الضرر ، ودفعا للأوهام المشوشة لنفس الإنسان ، وفي الدخول عليه الهلاك ، وذلك لا يجوز في حكم الله تعالى ، فإن صيانة النفس عن المكروه واجبة ، وقد يخاف عليه من سوء الاعتقاد بأن يقول : لولا دخولي في هذا المكان لما نزل بي مكروه . فهذه فائدة النهي عن دخول أرض بها الطاعون أو الخروج منها ، والله أعلم . وقد قال ابن مسعود : الطاعون فتنة على المقيم والفار ، فأما الفار فيقول : فبفراري نجوت ، وأما المقيم فيقول : أقمت فمت ، وإلى نحو هذا أشار مالك حين سئل عن كراهة النظر إلى المجذوم فقال : ما سمعت فيه بكراهة ، وما أرى ما جاء من النهي عن ذلك إلا خيفة أن يفزعه أو يخيفه شيء يقع في نفسه ، قال النبي صلى الله عليه وسلم في الوباء : إذا سمعتم به في أرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه . وسئل أيضا عن البلدة يقع فيها الموت وأمراض ، فهل يكره الخروج منها ؟ فقال : ما أرى بأسا خرج أو أقام .الرابعة : في قوله عليه السلام : إذا وقع الوباء بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه . دليل على أنه يجوز الخروج من بلدة الطاعون على غير سبيل الفرار منه ، إذا اعتقد أن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وكذلك حكم الداخل إذا أيقن أن دخولها لا يجلب إليه قدرا لم يكن الله قدره له ، فباح له الدخول إليه والخروج منه على هذا الحد الذي ذكرناه ، والله أعلم .الخامسة : في فضل الصبر على الطاعون وبيانه . الطاعون وزنه فاعول من الطعن ، غير أنه لما عدل به عن أصله وضع دالا على الموت العام بالوباء ، قاله الجوهري . ويروى من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فناء أمتي بالطعن والطاعون - قالت : [ ص: 214 ] الطعن قد عرفناه فما الطاعون ؟ قال : غدة كغدة البعير تخرج في المراق والآباط . قال العلماء : وهذا الوباء قد يرسله الله نقمة وعقوبة على من يشاء من العصاة من عبيده وكفرتهم ، وقد يرسله شهادة ورحمة للصالحين ، كما قال معاذ في طاعون عمواس : إنه شهادة ورحمة لكم ودعوة نبيكم ، اللهم أعط معاذا وأهله نصيبهم من رحمتك . فطعن في كفه رضي الله عنه . قال أبو قلابة : قد عرفت الشهادة والرحمة ولم أعرف ما دعوة نبيكم ؟ فسألت عنها فقيل : دعا عليه السلام أن يجعل فناء أمته بالطعن والطاعون حين دعا ألا يجعل بأس أمته بينهم فمنعها فدعا بهذا . ويروى من حديث جابر وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : الفار من الطاعون كالفار من الزحف والصابر فيه كالصابر في الزحف . وفي البخاري عن يحيى بن يعمر عن عائشة أنها أخبرته أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطاعون فأخبرها نبي الله صلى الله عليه وسلم : أنه كان عذابا يبعثه الله على من يشاء فجعله الله رحمة للمؤمنين فليس من عبد يقع الطاعون فيمكث في بلده صابرا يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر الشهيد . وهذا تفسير لقوله عليه الصلاة والسلام : ( الطاعون شهادة والمطعون شهيد ) . أي الصابر عليه المحتسب أجره على الله العالم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله عليه ، ولذلك تمنى معاذ أن يموت فيه لعلمه أن من مات فهو شهيد . وأما من جزع من الطاعون وكرهه وفر منه فليس بداخل في معنى الحديث ، والله أعلم .السادسة : قال أبو عمر : لم يبلغني أن أحدا من حملة العلم فر من الطاعون إلا ما ذكره ابن المدائني أن علي بن زيد بن جدعان هرب من الطاعون إلى السيالة فكان يجمع كل [ ص: 215 ] جمعة ويرجع ، فكان إذا جمع صاحوا به : فر من الطاعون! فمات بالسيالة . قال : وهرب عمرو بن عبيد ورباط بن محمد إلى الرباطية فقال إبراهيم بن علي الفقيمي في ذلك :ولما استفز الموت كل مكذب صبرت ولم يصبر رباط ولا عمرووذكر أبو حاتم عن الأصمعي قال : هرب بعض البصريين من الطاعون فركب حمارا له ومضى بأهله نحو سفوان ، فسمع حاديا يحدو خلفه :لن يسبق الله على حمار ولا على ذي منعة طيارأو يأتي الحتف على مقدار قد يصبح الله أمام الساريوذكر المدائني قال : وقع الطاعون بمصر في ولاية عبد العزيز بن مروان فخرج هاربا منه فنزل قرية من قرى الصعيد يقال لها ( سكر ) . فقدم عليه حين نزلها رسول لعبد الملك بن مروان . فقال له عبد العزيز : ما اسمك ؟ فقال له : طالب بن مدرك . فقال : أوه ما أراني راجعا إلى الفسطاط ! فمات في تلك القرية .
تَنْوِيرُ ٱلْمِقْبَاسِ مِن تَفْسِيرِ ٱبْنِ عَبَّاس
Tafsir Tanwir al-Miqbas —
حضرت ابن عباسؓ
استئناف ابتدائي للتحريض على الجهاد والتذكير بأن الحذر لا يؤخر الأجل ، وأن الجبان قد يلقى حتفه في مظنة النجاة . وقد تقدم أن هذه السورة نزلت في مدة صلح الحديبية وأنها تمهيد لفتح مكة ، فالقتال من أهم أغراضها ، والمقصود من هذا الكلام هو قوله : { وقاتلوا في سبيل الله } الآية . فالكلام رجوع إلى قوله : { كتب عليكم القتال وهو كره لكم } [ البقرة : 216 ] وفصلت بين الكلامين الآيات النازلة خلالهما المفتتحة ب { يسألونك } [ البقرة : 217 ، 219 ، 220 ، 222 ] .وموقع { ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم } قبل قوله : { وقاتلوا في سبيل الله } موقع ذكر الدليل قبل المقصود ، وهذا طريق من طرق الخطابة أن يقدم الدليل قبل المستدل عليه لمقاصد كقول علي رضي الله عنه في بعض خطبه لما بلغه استيلاء جند الشام على أكثر البلاد ، إذ افتتح الخطبة فقال : «ما هي إلا الكوفة أقبضها وأبسطها أنبئت بُسْراً هو ابن أبي أرطأة من قادة جنود الشام قد اطلع اليمن ، وإني والله لأظن أن هؤلاء القوم سيدالون منكم باجتماعهم على باطلهم ، وتفرقكم عن حقكم» فقوله : «ما هي إلا الكوفة» موقعه موقع الدليل على قوله : «لأظن هؤلاء القوم إلخ» وقال عيسى بن طلحة لما دخل على عروة بن الزبير حين قطعت رجل «ما كنا نعدك للصراع ، والحمد لله الذي أبقى لنا أكثرك : أبقى لنا سمعك ، وبصرك ، ولسانك ، وعقلك ، وإحدى رجليك» فقدم قوله : ما كنا نعدك للصراع ، والمقصود من مثل ذلك الاهتمام والعناية بالحجة قبل ذكر الدعوى تشويقاً للدعوى ، أو حملاً على التعجيل بالامتثال .واعلم أن تركيب ( ألم تر إلى كذا ) إذا جاء فعل الرؤية فيه متعدياً إلى ما ليس من شأن السامع أن يكون رآه ، كان كلاماً مقصوداً منه التحريض على علم ما عدي إليه فعل الرؤية ، وهذا مما اتفق عليه المفسرون ولذلك تكون همزة الاستفهام مستعملة في غير معنى الاستفهام بل في معنى مجازي أو كنائي ، من معاني الاستفهام غير الحقيقي ، وكان الخطاب به غالباً موجهاً إلى غير معين ، وربما كان المخاطب مفروضاً متخيلاً .ولنا في بيان وجه إفادة هذا التحريض من ذلك التركيب وجوه ثلاثة :الوجه الأول : أن يكون الاستفهام مستعملاً في التعجب أو التعجيب ، من عدم علم المخاطب بمفعول فعل الرؤية ، ويكون فعل الرؤية علمياً من أخوات ظن ، على مذهب الفراء وهو صواب؛ لأن إلى ولام الجر يتعاقبان في الكلام كثيراً ، ومنه قوله تعالى : { والأمر إليك } [ النمل : 33 ] أي لك وقالوا : { أحمد الله إليك } كما يقال : { أحمد لك الله } والمجرور بإلى في محل المفعول الأول ، لأن حرف الجر الزائد لا يطلب متعلقاً ، وجملة { وهم ألوف } في موضع الحال ، سادة مسد المفعول الثاني ، لأن أصل المفعول الثاني لأفعال القلوب أنه حال ، على تقدير : ما كان من حقهم الخروج ، وتفرع على قوله : { وهم ألوف } قوله : { فقال لهم الله موتوا } فهو من تمام معنى المفعول الثاني أو تجعل ( إلى ) تجريداً لاستعارة فعل الرؤية لمعنى العلم ، أو قرينة عليها ، أو لتضمين فعل الرؤية معنى النظر ، ليحصل الادعاء أن هذا الأمر المدرك بالعقل كأنه مدرك بالنظر ، لكونه بين الصدق لمن علمه ، فيكون قولهم : { ألم تر إلى كذا } في قوله : جملتين : ألم تعلم كذا وتنظر إليه .الوجه الثاني : أن يكون الاستفهام تقريرياً فإنه كثر مجيء الاستفهام التقريري في الأفعال المنفية ، مثل : { ألم نشرح لك صدرك } [ الشرح : 1 ] { ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير } [ البقرة : 106 ] . والقول في فعل الرؤية وفي تعدية حرف ( إلى ) نظير القول فيه في الوجه الأول .الوجه الثالث : أن تجعل الاستفهام إنكارياً ، إنكاراً لعدم علم المخاطب بمفعول فعل الرؤية والرؤية علمية ، والقول في حرف ( إلى ) نظير القول فيه على الوجه الأول ، أو أن تكون الرؤية بصرية ضمن الفعل معنى تنظر على أن أصله أن يخاطب به من غفل عن النظر إلى شيء مبصر ويكون الاستفهام إنكارياً : حقيقة أو تنزيلاً ، ثم نقل المركب إلى استعماله في غير الأمور المبصرة فصار كالمثل ، وقريب منه قول الأعشى: ... ترى الجود يجري ظاهراً فوق وجههواستفادة التحريض ، على الوجوه الثلاثة إنما هي من طريق الكناية بلازم معنى الاستفهام لأن شأن الأمر المتعجب منه أو المقرر به أو المنكور علمه ، أن يكون شأنه أن تتوافر الدواعي على علمه ، وذلك مما يحرض على علمه .واعلم أن هذا التركيب جرى مجرى المثل في ملازمته لهذا الأسلوب ، سوى أنهم غيروه باختلاف أدوات الخطاب التي يشتمل عليها من تذكير وضده ، وإفراد وضده ، نحو ألم ترَيْ في خطاب المرأة وألم تريا وألم تروا وألم ترين ، في التثنية والجمع هذا إذا خوطب بهذا المركب في أمر ليس من شأنه أن يكون مبصراً للمخطاب أو مطلقاً .وقد اختلف في المراد من هؤلاء الذين خرجوا من ديارهم ، والأظهر أنهم قوم خرجوا خائفين من أعدائهم فتركوا ديارهم جبناً ، وقرينة ذلك عندي قوله تعالى : { وهم ألوف } فإنه جملة حال وهي محل التعجيب ، وإنما تكون كثرة العدد محلاً للتعجيب إذا كان المقصود الخوف من العدو ، فإن شأن القوم الكثيرين ألا يتركوا ديارهم خوفاً وهلعاً والعرب تقول للجيش إذا بلغ الألوف { لا يغلب من قلة . } فقيل هم من نبي إسرائيل خالفوا على نبي لهم في دعوته إياهم للجهاد ، ففارقوا وطنهم فراراً من الجهاد ، وهذا الأظهر ، فتكون القصة تمثيلاً لحال أهل الجبن في القتال ، بحال الذين خرجوا من ديارهم ، بجامع الجبن وكانت الحالة الشبه بها أظهر في صفة الجبن وأفظع ، مثل تمثيل حال المتردد في شيء بحال من يقدم رجلاً ويؤخر أخرى ، فلا يقال إن ذلك يرجع إلى تشبيه الشيء بمثله ، وهذا أرجح الوجوه لأن أكثر أمثال القرآن أن تكون بأحوال الأمم الشهيرة وبخاصة بني إسرائيل .وقيل هم من قوم من بني إسرائيل من أهل داوردان قرب واسط وقع طاعون ببلدهم فخرجوا إلى واد أفيح فرماهم الله بداء موت ثمانية أيام ، حتى انتفخوا ونتنت أجسامهم ثم أحياها . وقيل هم من أهل أذرعات ، بجهات الشام . واتفقت الروايات كلها على أن الله أحياهم بدعوة النبي حزقيال بن بوزى فتكون القصة استعارة شبه الذين يجبنون عن القتال بالذين يجبنون من الطاعون ، بجامع خوف الموت ، والمشبهون يحتمل أنهم قوم من المسلمين خامرهم الجبن لما دُعوا إلى الجهاد في بعض الغزوات ، ويحتمل أنهم فريق مفروض وقوعه قبل أن يقع ، لقطع الخواطر التي قد تخطر في قلوبهم .وفي «تفسير ابن كثير» عن ابن جريج عن عطاء أن هذا مثل لا قصة واقعة ، وهذا بعيد يبعده التعبير عنهم بالموصول وقوله : { فقال لهم الله } . وانتصب { حذر الموت } على المفعول لأجله ، وعامله { خرجوا } .والأظهر أنهم قوم فروا من عدوهم ، مع كثرتهم ، وأخلوا له الديار ، فوقعت لهم في طريقهم مصائب أشرفوا بها على الهلاك ، ثم نجوا ، أو أوبئة وأمراض ، كانت أعراضها تشبه أعراض الموت ، مثل داء السكت ثم برئوا منها فهم في حالهم تلك مثَل قول الراجز: ... وخارججٍ أَخرجه حب الطمعفَرَّ من الموت وفي الموت وقع ... ويؤيد أنها إشارة إلى حادثةٍ وليست مثلاً قولُه : { إن الله لذو فضل على الناس } الآية ويؤيد أن المتحدث عنهم ليسوا من بني إسرائيل قوله تعالى بعد هذه { ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى } [ البقرة : 246 ] والآية تشير إلى معنى قوله تعالى : { أينما تكونوا يدرككم الموت } [ النساء : 78 ] وقوله { قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم } [ آل عمران : 154 ] .فأما الذين قالوا إنهم قوم من بني إسرائيل أحياهم الله بدعوة حزقيال ، والذين قالوا إنما هذا مثَل لا قصةٌ واقعةٌ ، فالظاهر أنهم أرادوا الرؤيا التي ذكرت في كتاب حزقيال في الإصحاح 37 منه إذ قال : «أخرجَني روحُ الرب وأنزلني في وسط بقعة ملآنة عظاماً ومرَّ بي من حولها وإذا هي كثيرة ويابسة فقال لي يابن آدم أتحيا هذه العظام؟ فقلت يا سيدي أنت تعلم ، فقال لي تنبأْ على هذه العظام وقُل لها أيتها العظام اليابسة اسمعي كلمة الرب ، فتقاربت العظام ، وإذا بالعصَب واللحم كساها وبُسط الجلدُ عليها من فوق وليس فيها روح فقال لي تنبأْ للروح وقل قال الرب هلم يا روح من الرياح الأربععِ وهِبِّ على هؤلاء القتلى فتنبأْتُ كما أمرني فدخل فيهم الروح فحيُوا وقاموا على أقدامهم جيش عظيم جداً جداً» وهذا مثل ضربهُ النبي لاستماتة قومه ، واستسلامهم لأعدائهم ، لأنه قال بعده «هذه العظام وهي كل بيوت إسرائيل هم يقولون يبست عظامنا وهلك رجاؤنا قد انقطعنا فتنبأْ وقل لهم قال السيد الرب هأنذا أفتح قبوركم وأصعدكم منها يا شعبي وآتي بكم إلى أرض إسرائيل وأجعل روحي فيكم فتحيَوْن» فلعل هذا المثل مع الموضع الذي كانت فيه مرائي هذا النبي ، وهو الخابور ، وهو قرب واسط ، هو الذي حدا بعض أهل القصص إلى دعوى أن هؤلاء القوم من أهل دَاوَرْدَان : إذ لعل دَاوَرْدَان كانت بجهات الخابور الذي رأى عنده النبي حزقيال ما رأى .وقوله تعالى : { فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم } القَولُ فيه إما مجاز في التكوين والموت حقيقة أي جعل فيهم حالة الموت ، وهي وقوف القلب وذهاب الإدراك والإحساس ، استعيرت حالة تلقي المكوَّن لأثر الإرادة بتلقي المأمور للأمر ، فأطلق على الحالة المشبهة المركبُ الدال على الحالة المشبَّه بها على طريقة التمثيل ، ثم أحياهم بزوال ذلك العارض فعلموا أنهم أصيبوا بما لو دام لكان موتاً مستمراً ، وقد يكون هذا من الأدواء النادرة المشْبِهة داء السكت وإما أن يكون القول مجازاً عن الإنذار بالموت ، والموتُ حقيقة ، أي أراهم الله مهالك شموا منها رائحة الموت ، ثم فرج الله عنهم فأحياهم . وإما أن يكون كلاماً حقيقياً بوحي الله ، لبعض الأنبياء ، والموتُ موت مجازي ، وهو أمر للتحقير شتماً لهم ، ورَماهم بالذل والصغار ، ثم أحياهم ، وثبتَ فيهم روح الشجاعة .والمقصود من هذا موعظة المسلمين بترك الجبن ، وأن الخوف من الموت لا يدفع الموت ، فهؤلاء الذين ضُرب بهم هذا المثلُ خرجوا من ديارهم خائفين من الموت ، فلم يغن خوفهم عنهم شيئاً ، وأراهم الله الموت ثم أحياهم ، ليصير خُلُق الشجاعة لهم حاصلاً بإدراك الحس . ومحل العبرة من القصة هو أنهم ذاقوا الموت الذي فروا منه ، ليعلموا أن الفرار لا يغني عنهم شيئاً ، وأنهم ذاقوا الحياة بعد الموت ، ليعلموا أن الموت والحياة بيد الله ، كما قال تعالى : { قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل } [ الأحزاب : 16 ] .
ٱلتَّفْسِيرُ ٱلْوَسِيط
Tafsir Al-Waseet —
علمائے جامعہ ازہر
قال الآلوسي : قوله - تعالى - : ( أَلَمْ تَر ) هذه الكلمة قد تذكر لمن تقدم علمه فتكون للتعجب والتقرير والتذكير لمن علم بما يأتي - كالأحبار وأهل التواريخ - وقد تذكر لمن لا يكون كذلك فتكون لتعريفه وتعجيبه ، وقد اشتهرت في ذلك حتى أجريت مجرى المثل في هذا الباب ، بأن شبه من " لم ير " الشيء بحال من رآه في أنه لا ينبغي أن يخفى عليه وأنه ينبغي أن يتعجب منه ، ثم أجرى الكلام معه كما يجرى مع من رأى ، قصداً إلى المبالغة في شهرته وعراقته في التعجب . ثم قال : والرؤية إما بمعنى الإِبصار مجازاً عن النظر ، وفائدة التجوز الحث على الاعتبار ، لأن النظر اختياري دون الإدراك الذي بعده ، وإما بمعنى الإِدراك القلبي متضمناً معنى الوصول والانتهاء ولهذا تعدت - أي الرؤية - بإلى في قوله : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين خَرَجُواْ . . ) .والمعنى : قد علمت أيها الرسول الكريم أو أيها الإنسان العاقل - حال أولئك القوم الذين خرجوا من ديارهم التي ألفوها واستوطنوها ، وهم ألوف مؤلفة ، وكثرة كاثرة ، وما كان خروجهم إلا فراراً وخوفاً من الموت الذي سيلاقيهم - إن عاجلا أو آجلا - .ومن لم يعلم حالهم فها نحن أولاء نعلمه بها ونحيطه بما جرى لهم عن طريق هذا الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .والمقصود من هذه الآية الكريمة حض الناس جميعاً على الاعتبار والاتعاظ وزجرهم عن الفرار من الموت هلعاً وجبناً ، وتحريضهم على القتال في سبيل الله فقد قال - تعالى - بعد ذلك : ( وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ . . . ) وإفهامهم أن الفرار من الموت لن يؤدي إلا إلى الوقوع فيه .وقوله : ( وَهُمْ أُلُوفٌ ) جملة حالية من الضمير في ( خَرَجُواْ ) و ( أُلُوفٌ ) جمع ألف . والتعبير بألوف يفيد أنهم كانوا كثيرى العدد ، ومن شأن الكثرة أنها تدعو إلى الشجاعة ولكنهم مع هذه الكثرة قد استولى عليهم الجبن فخرجوا من ديارهم هرباً من الموت .وقيل إن معنى ( وَهُمْ أُلُوفٌ ) أنهم خرجوا مؤتلفي القلوب ، ولم يخرجوا عن افتراق كان منهم ، ولا عن تباغض حدث بينهم . وألوف على هذا القول جمع آلف مثل قاعد وقعود وشهود . قالوا : والوجه الأول أجدر بالاتباع لأن ورود الموت عليهم وهم كثرة عظيمة يفيد مزيد اعتبار بحالهم ، ولأنه هو الظاهر من معنى الآية الكريمة .وقوله : ( حَذَرَ الموت ) أي خرجوا لحذر الموت وخشيته ، فقوله : ( حَذَرَ ) منصوب على أنه مفعول لأجله . الجملة الكريمة تشير إلى أن خروجهم كان الباعث عليه الحرص على مطلق حياة ولو كانت حياة ذل ومهانة ، وأنه لم يكن هناك سبب معقول يحملهم على هذا الخروج ، ولذا كانت نتيجة ذلك أن عاقبهم الله - تعالى - بالموت الذي هوبوا منه فقال :( فَقَالَ لَهُمُ الله مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ ) أي : فقال لهم الله موتوا فماتوا ثم أحياهم بعد ذلك .فجملة ( ثُمَّ أَحْيَاهُمْ ) معطوفة على مقدر يستدعيه المقام أي ، فماتوا ثم أحياهم . وإنما حذف للدلالة على الاستغناء عن ذكره لاستحالة تخلف مراده - تعالى - عن إرادته .قال صاحب الكشاف : فإن قلت : ما معنى قوله : ( فَقَالَ لَهُمُ الله مُوتُواْ ) قلت : معناه فأماتهم وإنما جيء به على هذه الصورة للدلالة على أنهم ماتوا ميتة رجل واحد بأمر الله ومشيئته ، وتلك ميتة خارجة عن العادة ، كأنهم أمروا بشيء فامتثلوا امتثالا من غير إباء ولا توقف كقوله - تعالى - ( إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) وهذا تشجيع للمسلمين على الجهاد والتعرض للشهادة ، وأن الموت إذا لم يكن منه بد ، ولم ينفع منه مفر ، فأولى أن يكون في سبيل الله .وقال الجمل : " فإن قلت هذا يقتضي أن هؤلاء ماتوا مرتين وهو مناف للمعروف من أن موت الخلق مرة واحدة؟ قلنا في الجواب : لا منافاة إذ الموت هنا عقوبة مع بقاء الأجل كما في قوله في قصة موسى : ( ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ ) وثم موت بانتهاء الأجل ، وتلخيصه : أنه - سبحانه - أماتهم قبل آجالهم عقوبة لهم ثم بعثهم إلى بقية آجالهم ، وميتة العقوبة بعدها حياة - أي في الدنيا - بخلاف ميتة الأجل - فلا حياة بعدها في الدنيا - . . "وبعد هذا البيان لمعنى الآية قد يقال : من هم أولئك القوم الذين خرجوا من ديارهم فراراً من الموت؟ وهل الإِماتة والإِحياء بالنسبة لهم كانا على سبيل الحقيقة؟للإِجابة على السؤال الأول نقول : لم يرد حديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يبين لنا فيه من هؤلاء القوم وفي أي زمن كانوا ، وإنما أورد بعض المفسرين عن بعض الصحابة والتابعين روايات فيها مقال ، وفيها تفصيلات نرى من الخير عدم ذكرها لضعفها . ومن هذه الروايات ما جاء عن ابن عباس أنه قال : كانوا أربعة آلاف خرجوا فراراً من الطاعون ، حتى إذا كانوا بموضع كذا أو كذا ماتوا . . ثم أحياهم الله بدعوة دعاها نبيهم .ومنها أنهم - قوم من بني إسرائيل - فروا من الجهاد حين أمرهم الله به على لسان نبيهم " حزقيل " وخافوا من الموت في الجهاد فخرجوا من ديارهم فأماتهم الله ليعرفهم أنه لا ينجيهم من الموت شيء ، ثم أحياهم وأمرهم بالجهاد . . " .قال القرطبي بعد أن ساق هذه الرواية : وقال ابن عطية : وهذا القصص كله لين الأسانيد ، وإنما اللازم من الآية أن الله - تعالى - أخبر نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم إخباراً في عبارة التنبيه والتوقيف عن قوم من البشر خرجوا من ديارهم فراراً من الموت فأماتهم الله ثم أحياهم ليروا هم وكل من جاء من بعدهم أن الإِماتة إنما هي بيد الله لا بيد غيره ، فلا معنى لخوف خائف ولا لاغترار مغتر .وجعل الله هذه الآية مقدمة بين يدي أمر المؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالجهاد . وهذا قول الطبري وهو ظاهر وصف الآية والذي نراه أن الرواية الثانية التي تقول : إنهم قوم من بني إسرائيل فروا من الجهاد حين أمرهم الله به . . معقولة المعنى ، ويؤيدها سياق الآيات ، لأن الآيات تحض الناس على القتال في سبيل الله ، وتسوق لهم قصة هؤلاء القوم لكي يعتبروا ويتعظوا ولا يتخلفوا عن الجهاد الذي هو باب من أبواب الجنة - كما قال الإِمام على بن أبي طالب - ولأن قوله - تعالى : ( وَهُمْ أُلُوفٌ ) يشعر بأنهم مع كثرة عددهم قد نكصوا على أعقابهم ، وفروا من وجوه أعدائهم وهذا شأن بني إسرائيل في كثير من أدوار تاريخهم وما قاله ابن عطية يشير إليها فهو يقول : وجعل الله هذه الآية مقدمة بين يدي أمر المؤمنين . . . بالجهاد . إلا أنه آثر وصفهم بأنهم قوم من البشر .وللإِجابة على السؤال الثاني وهو - هل الإِماتة والإِحياء بالنسبة لهم كانا على سبيل الحقيقة - نقول : مبلغ علمنا أن المفسرين مجمعون على أن الموت كان موتاً حقيقياً حسياً لهم ، وأن إعادتهم إلى الحياة بعد ذلك كانت إعادة حقيقية حسية .وقد خالف الأستاذ الإِمام محمد عبده إجماع المفسرين هذا فرأى أن المراد بالموت في الآية الموت المعنوي بمعنى أن موت الأمم إنما هو في جبنها وذلتها وأن حياتها إنما تكون في عزتها وحريتها ، فقد قال - رحمه الله - ما ملخصه ." . . والمتبادر من السياق أن أولئك القوم خرجوا من ديارهم بسائق الخوف من عدو مهاجم لا من قلتهم ، فقد كانوا ألوفاً أي كثيرين ، وإنما هو الحذر من الموت الذي يولده الجبن في أنفس الجبناء ، فيريهم أن الفرار من القتال هو الواقي من الموت وما هو إلا سبب الموت بما يمكن الأعداء من رقاب أهله ، قال أبو الطيب :يرى الجبناء أن الجبن حزم ... وتلك خديعة الطبع اللئيمثم قال : لقد خرجوا فارين ( فَقَالَ لَهُمُ الله مُوتُواْ ) أي أماتهم بإمكان العدو منهم . . . فمعنى أولئك القوم هو أن العدو نكل بهم فأفنى قوتهم وأزال استقلال أمتهم حتى صارت لا تعد أمة ، بأن تفرق شملها ، وذهبت جامعتها ، فكل من بقي من أفرادها بقي خاضعاً للغالبين ضائعاً فيهم ، لا وجود له في نفسه ، وإنما وجوده تابع لوجود غيره .ومعنى حياتهم هو عود الاستقلال إليهم ، ذلك أن من رحمة الله في البلاء يصيب الناس أنه يكون تأديباً لهم ، ومطهراً لنفوسهم مما عرض لها من دنس الأخلاق الذميمة .أشعر الله أولئك القوم بسوء عاقبة الخوف والجبن والفشل والتخاذل بما أذاقهم من مرارتها ، فجمعوا كلمتهم ، ووثقوا رابطتهم ، حتى عادت لهم وحدتهم ، فاعتزوا وكثروا حتى خرجوا من ذل العبودية التي كانوا فيها إلى عز الاستقلال فهذا معنى حياة الأمم وموتها " .فأنت ترى أن الأستاذ الإِمام يرى أن الموت والحياة في الآية معنويان ، بمعنى أن موت الأم في جبنها وذلتها ، وحياتها في استقلالها وحريتها .ولعله - رحمه الله - قد اتجه هذا الاتجاه لأن الحض على القتال في سبيل الله واضح في هذه الآيات ، ولأنه يرى أن واقع العالم الإِسلامي يومئذ وما أصابه من ظلم واستبداد واستلاب للحرية يدعوه إلى أن يحرض المسلمين على القتال في سبيل حقهم المسلوب ، وأن يحذرهم من سوء عاقبة الجبن والخنوع .ومع أننا لا نشك في الدوافع الطيبة والبواعث الكريمة التي جعلت الأستاذ الإِمام يتجه هذا الاتجاه ، إلا أننا لا نتردد في اختيار ما ذهب إليه المفسرون من أن الموت والحياة في الآية حسيان حقيقيان ، لأنه هو الظهر من معنى الآية الكريمة ، ولأنه يتجه اتجاهاً أعم من اتجاه الإِمام محمد عبده ، لأن المفسرين يرون أن الآية واضحة في إثبات قدرة الله وفي صحة البعث ، وفي الحض على القتال في سبيل الله .قال بعض العلماء : قوله - تعالى - : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين خَرَجُواْ ) الآية . " كان المشركون يستفتون اليهود في كثير من الأمور وكانت هذه القصة معلومة لليهود في أسفارهم وتواريخهم ، فنزل القرآن بالإِشارة إليها ليرتدع المشركون عما هم فيه من الضلال وإنكار البعث ، ويعلموا أن دلائل القدرة على البعث مشهورة ، وأن عند اليهود منها ما لو رجعوا إليهم فيه لعلموا أنه حق لا ريب فيه . وفي ذكر هذه القصة مع ذلك تشجيع للمؤمنين على الجهاد والتعرض للشهادة ، وتمهيد لما بعد هذه الآية " .ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : ( إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ ) أي : إن الله - تعالى - لصاحب تفضل دائم على الناس حيث أوجدهم بهذه الصورة الحسنة ، وخلق لهم عقولا ليهتدوا بها إلى طريق الخير ، وسخر لهم الكثير مما في هذا الكون . فمن الواجب عليهم أن يشكروه وأن يطيعوه ، ولكن الذي حدث منهم أن أكثرهم لا يشكرون الله - تعالى - على ما منحهم من نعم .وفي قوله : ( ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ ) إنصاف للقلة الشاكرة منهم ، ومديح لهم على استقامتهم وقوة إيمانهم .
تَفْسِيرُ ٱلْبَغَوِيِّ
Tafsir al-Baghawi —
علامہ بغوی
قوله تعالى : ( ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم ) قال أكثر أهل التفسير : كانت قرية يقال لها : داوردان قبل واسط بها وقع الطاعون فخرجت طائفة منها وبقيت طائفة فهلك أكثر من بقي في القرية وسلم الذين خرجوا فلما ارتفع الطاعون رجعوا سالمين فقال الذين بقوا : أصحابنا كانوا أحزم منا لو صنعنا كما صنعوا لبقينا ولئن وقع الطاعون ثانية لنخرجن إلى أرض لا وباء بها فوقع الطاعون من قابل فهرب عامة أهلها وخرجوا حتى نزلوا واديا أفيح فلما نزلوا المكان الذي يبتغون فيه النجاة ناداهم ملك من أسفل الوادي وآخر من أعلاه : أن موتوا فماتوا جميعا .أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن ابن شهاب عن عبد الله بن عامر بن ربيعة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج إلى الشام فلما جاء سرغ بلغه أن الوباء قد وقع بالشام فأخبره عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه " فرجع عمر من سرغ قال الكلبي ومقاتل والضحاك : إنما فروا من الجهاد وذلك أن ملكا من ملوك بني إسرائيل أمرهم أن يخرجوا إلى قتال عدوهم فعسكروا ثم جبنوا وكرهوا الموت فاعتلوا وقالوا لملكهم : إن الأرض التي تأتيها بها الوباء فلا نأتيها حتى ينقطع منها الوباء فأرسل الله عليهم الموت فخرجوا من ديارهم فرارا من الموت فلما رأى الملك ذلك قال : اللهم رب يعقوب وإله موسى قد ترى معصية عبادك فأرهم آية في أنفسهم حتى يعلموا أنهم لا يستطيعون الفرار منك فلما خرجوا قال لهم الله تعالى : موتوا عقوبة لهم فماتوا جميعا وماتت دوابهم كموت رجل واحد فأتى عليهم ثمانية أيام حتى انتفخوا وأروحت أجسادهم فخرج إليهم الناس فعجزوا عن دفنهم فحظروا عليهم حظيرة دون السباع وتركوهم فيها .واختلفوا في مبلغ عددهم قال عطاء الخراساني : كانوا ثلاثة آلاف وقال وهب : أربعة آلاف وقال مقاتل والكلبي : ثمانية آلاف وقال أبو روق : عشرة آلاف وقال السدي : بضعة وثلاثون ألفا وقال ابن جريج : أربعون ألفا وقال عطاء بن أبي رباح : سبعون ألفا وأولى الأقاويل : قول من قال كانوا زيادة على عشرة آلاف لأن الله تعالى قال " وهم ألوف " والألوف جمع الكثير وجمعه القليل آلاف ولا يقال لما دون عشرة آلاف ألوف قالوا : فأتت على ذلك مدة وقد بليت أجسادهم وعريت عظامهم فمر عليهم نبي يقال له حزقيل بن بودى ثالث خلفاء بني إسرائيل من بعد موسى عليه السلام وذلك أن القيم بأمر بني إسرائيل كان بعد موسى يوشع بن نون ثم كالب بن يوقنا ثم حزقيل وكان يقال له ابن العجوز لأن أمه كانت عجوزا فسألت الله الولد بعد ما كبرت وعقمت فوهبه الله تعالى لها قال الحسن ومقاتل : هو ذو الكفل وسمي حزقيل ذا الكفل لأنه تكفل بسبعين نبيا وأنجاهم من القتل فلما مر حزقيل على أولئك الموتى وقف عليهم فجعل يتفكر فيهم متعجبا فأوحى الله تعالى إليه تريد أن أريك آية؟ قال نعم : فأحياهم الله وقيل : دعا حزقيل ربه أن يحييهم فأحياهم .وقال مقاتل والكلبي : هم كانوا قوم حزقيل أحياهم الله بعد ثمانية أيام وذلك أنه لما أصابهم ذلك خرج حزقيل في طلبهم فوجدهم موتى فبكى وقال : يا رب كنت في قوم يحمدونك ويسبحونك ويقدسونك ويكبرونك ويهللونك فبقيت وحيدا لا قوم لي فأوحى الله تعالى إليه : أني جعلت حياتهم إليك قال حزقيل : احيوا بإذن الله فعاشوا .قال مجاهد : إنهم قالوا حين أحيوا سبحانك اللهم ربنا وبحمدك لا إله إلا أنت فرجعوا إلى قومهم وعاشوا دهرا طويلا وسحنة الموت على وجوههم لا يلبسون ثوبا إلا عاد دسما مثل الكفن حتى ماتوا لآجالهم التي كتبت لهم .قال ابن عباس رضي الله عنهما : وإنها لتوجد اليوم في ذلك السبط من اليهود تلك الريح قال قتادة : مقتهم الله على فرارهم من الموت فأماتهم عقوبة لهم ثم بعثوا ليستوفوا مدة آجالهم [ ولو جاءت آجالهم ] ما بعثوا فذلك قوله تعالى : ( ألم تر ) أي ألم تعلم بإعلامي إياك وهو من رؤية القلب .قال أهل المعاني : هو تعجيب يقول هل رأيت مثلهم؟ كما تقول : ألم تر إلى ما يصنع فلان؟ وكل ما في القرآن ألم تر ولم يعاينه النبي صلى الله عليه وسلم فهذا وجهه ( إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف ) جمع ألف وقيل مؤتلفة قلوبهم جمع آلف مثل قاعد وقعود والصحيح أن المراد منه العدد ( حذر الموت ) أي خوف الموت ( فقال لهم الله موتوا ) أمر تحويل كقوله " كونوا قردة خاسئين " ( 65 - البقرة ( ثم أحياهم ) بعد موتهم ( إن الله لذو فضل على الناس ) قيل هو على العموم في حق الكافة في الدنيا وقيل على الخصوص في حق المؤمنين ( ولكن أكثر الناس لا يشكرون ) أما الكفار فلم يشكروا وأما المؤمنون فلم يبلغوا غاية الشكر .