تَفْسِيرُ ٱلْمُيَسَّر
Tafsir Al-Muyassar —
کنگ فہد قرآن کمپلیکس
فهزموهم بإذن الله، وقتل داود -عليه السلام- جالوتَ قائدَ الجبابرة، وأعطى الله عز وجل داود بعد ذلك الملك والنبوة في بني إسرائيل، وعَلَّمه مما يشاء من العلوم. ولولا أن يدفع الله ببعض الناس -وهم أهل الطاعة له والإيمان به- بعضًا، وهم أهل المعصية لله والشرك به، لفسدت الأرض بغلبة الكفر، وتمكُّن الطغيان، وأهل المعاصي، ولكن الله ذو فضل على المخلوقين جميعًا.
تَفْسِيرُ ٱلْجَلَالَيْنِ
Tafsir al-Jalalayn —
جلال الدین محلی اور جلال الدین سیوطی
«فهزموهم» كسروهم «بإذن الله» بإرادته «وقتل داود» وكان في عسكر طالوت «جالوت وآتاه» أي داود «الله الملك» في بني إسرائيل «والحكمة» النبوة بعد موت شمويل وطالوت ولم يجتمعا لأحد قبله «وعلّمه مما يشاء» كصنعة الدروع ومنطق الطير «ولولا دفع الله الناس بعضهم» بدل بعض من الناس «ببعض لفسدت الأرض» بغلبة المشركين وقتل المسلمين وتخريب المساجد «ولكنّ الله ذو فضل على العالمين» فدفع بعضهم ببعض.
تَفْسِيرُ ٱلْقُرْطُبِيِّ
Tafsir al-Qurtubi —
علامہ قرطبی
قوله تعالى : فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمينقوله تعالى : فهزموهم بإذن الله أي فأنزل الله عليهم النصر فهزموهم : فكسروهم . والهزم : الكسر ومنه سقاء متهزم ، أي انثنى بعضه على بعض مع الجفاف ، ومنه ما قيل في زمزم : إنها هزمة جبريل أي هزمها جبريل برجله فخرج الماء . والهزم : ما تكسر من يابس الحطب .قوله تعالى : وقتل داود جالوت وذلك أن طالوت الملك اختاره من بين قومه لقتال جالوت ، وكان رجلا قصيرا مسقاما مصفارا أصغر أزرق ، وكان جالوت من أشد الناس وأقواهم وكان يهزم الجيوش وحده ، وكان قتل جالوت وهو رأس العمالقة على يده . وهو داود بن إيشى - بكسر الهمزة ، ويقال : داود بن زكريا بن رشوى ، وكان من سبط يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام ، وكان من أهل بيت المقدس جمع له بين النبوة والملك بعد أن كان راعيا وكان أصغر إخوته وكان يرعى غنما ، وكان له سبعة إخوة في أصحاب طالوت ، فلما حضرت الحرب قال في نفسه : لأذهبن إلى رؤية هذه الحرب ، فلما نهض في طريقه مر بحجر فناداه : يا داود خذني فبي تقتل جالوت ، ثم ناداه حجر آخر ثم آخر فأخذها وجعلها في مخلاته وسار ، فخرج جالوت يطلب مبارزا فكع الناس عنه حتى قال طالوت : من يبرز إليه ويقتله فأنا أزوجه ابنتي وأحكمه في مالي ، فجاء داود عليه السلام فقال : أنا أبرز إليه وأقتله ، فازدراه طالوت حين رآه لصغر سنه وقصره فرده ، وكان داود أزرق قصيرا ، ثم نادى ثانية وثالثة فخرج داود ، فقال طالوت له : هل جربت نفسك بشيء ؟ قال نعم ، قال بماذا ؟ قال : وقع ذئب [ ص: 235 ] في غنمي فضربته ثم أخذت رأسه فقطعته من جسده . قال طالوت : الذئب ضعيف ، هل جربت نفسك في غيره ؟ قال : نعم ، دخل الأسد في غنمي فضربته ثم أخذت بلحييه فشققتهما ، أفترى هذا أشد من الأسد ؟ قال لا ، وكان عند طالوت درع لا تستوي إلا على من يقتل جالوت ، فأخبره بها وألقاها عليه فاستوت ، فقال طالوت : فاركب فرسي وخذ سلاحي ففعل ، فلما مشى قليلا رجع فقال الناس : جبن الفتى فقال داود : إن الله إن لم يقتله لي ويعني عليه لم ينفعني هذا الفرس ولا هذا السلاح ، ولكني أحب أن أقاتله على عادتي . قال : وكان داود من أرمى الناس بالمقلاع ، فنزل وأخذ مخلاته فتقلدها وأخذ مقلاعه وخرج إلى جالوت ، وهو شاك في سلاحه على رأسه بيضة فيها ثلاثمائة رطل ، فيما ذكر الماوردي وغيره ، فقال له جالوت : أنت يا فتى تخرج إلي! قال نعم ، قال : هكذا كما تخرج إلى الكلب! قال نعم ، وأنت أهون . قال : لأطعمن لحمك اليوم للطير والسباع ، ثم تدانيا وقصد جالوت أن يأخذ داود بيده استخفافا به ، فأدخل داود يده إلى الحجارة ، فروي أنها التأمت فصارت حجرا واحدا ، فأخذه فوضعه في المقلاع وسمى الله وأداره ورماه فأصاب به رأس جالوت فقتله ، وحز رأسه وجعله في مخلاته ، واختلط الناس وحمل أصحاب طالوت فكانت الهزيمة . وقد قيل : إنما أصاب بالحجر من البيضة موضع أنفه ، وقيل : عينه وخرج من قفاه ، وأصاب جماعة من عسكره فقتلهم . وقيل : إن الحجر تفتت حتى أصاب كل من في العسكر شيء منه ، وكان كالقبضة التي رمى بها النبي صلى الله عليه وسلم هوازن يوم حنين ، والله أعلم . وقد أكثر الناس في قصص هذه الآي ، وقد ذكرت لك منها المقصود والله المحمود .قلت : وفي قول طالوت : ( من يبرز له ويقتله فإني أزوجه ابنتي وأحكمه في مالي ) معناه ثابت في شرعنا ، وهو أن يقول الإمام : من جاء برأس فله كذا ، أو أسير فله كذا على ما يأتي بيانه في ( الأنفال ) إن شاء الله تعالى . وفيه دليل على أن المبارزة لا تكون إلا بإذن الإمام ، كما يقوله أحمد وإسحاق وغيرهما . واختلف فيه عن الأوزاعي فحكي عنه أنه قال : لا يحمل أحد إلا بإذن إمامه . وحكي عنه أنه قال : لا بأس به ، فإن نهى الإمام عن البراز فلا يبارز أحد إلا بإذنه . وأباحت طائفة البراز ولم تذكر بإذن الإمام ولا بغير إذنه ، هذا قول مالك . سئل مالك عن الرجل يقول بين الصفين : من يبارز ؟ فقال : ذلك إلى نيته إن كان يريد بذلك الله فأرجو ألا يكون به بأس ، قد كان يفعل ذلك فيما مضى . وقال الشافعي : لا بأس بالمبارزة . قال ابن [ ص: 236 ] المنذر : المبارزة بإذن الإمام حسن ، وليس على من بارز بغير إذن الإمام حرج ، وليس ذلك بمكروه لأني لا أعلم خبرا يمنع منه .وآتاه الله الملك والحكمة قال السدي : أتاه الله ملك طالوت ونبوة شمعون . والذي علمه ، هو صنعة الدروع ومنطق الطير وغير ذلك من أنواع ما علمه صلى الله عليه وسلم . وقال ابن عباس : هو أن الله أعطاه سلسلة موصولة بالمجرة والفلك ورأسها عند صومعة داود ، فكان لا يحدث في الهواء حدث إلا صلصلت السلسلة فيعلم داود ما حدث ، ولا يمسها ذو عاهة إلا برئ ، وكانت علامة دخول قومه في الدين أن يمسوها بأيديهم ثم يمسحون أكفهم على صدورهم ، وكانوا يتحاكمون إليها بعد داود عليه السلام إلى أن رفعت .قوله تعالى : ( مما يشاء ) أي مما شاء ، وقد يوضع المستقبل موضع الماضي ، وقد تقدم .قوله تعالى : ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين فيه مسألتان : الأولى : قوله تعالى : ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض كذا قراءة الجماعة ، إلا نافعا فإنه قرأ " دفاع " ويجوز أن يكون مصدرا لفعل كما يقال : حسبت الشيء حسابا ، وآب إيابا ، ولقيته لقاء ، ومثله كتبه كتابا ، ومنه " كتاب الله عليكم " . النحاس : وهذا حسن ، فيكون دفاع ودفع مصدرين لدفع وهو مذهب سيبويه . وقال أبو حاتم : دافع ودفع بمعنى واحد ، مثل طرقت النعل وطارقت ، أي خصفت إحداهما فوق الأخرى ، والخصف : الخرز . واختار أبو عبيدة قراءة الجمهور ولولا دفع الله . وأنكر أن يقرأ " دفاع " وقال : لأن الله عز وجل لا يغالبه أحد . قال مكي : هذا وهم توهم فيه باب المفاعلة وليس به ، واسم الله في موضع رفع بالفعل ، أي لولا أن يدفع الله . و " دفاع " مرفوع بالابتداء عند سيبويه . " الناس " مفعول ، " بعضهم " بدل من الناس ، " ببعض " في موضع المفعول الثاني عند سيبويه ، وهو عنده مثل قولك : ذهبت بزيد ، فزيد في موضع مفعول فاعلمه .الثانية : واختلف العلماء في الناس المدفوع بهم الفساد من هم ؟ فقيل : هم الأبدال وهم أربعون رجلا كلما مات واحد بدل الله آخر ، فإذا كان عند القيامة ماتوا كلهم ، اثنان وعشرون منهم بالشام وثمانية عشر بالعراق . وروي عن علي رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 237 ] يقول : ( إن الأبدال يكونون بالشام وهم أربعون رجلا كلما مات منهم رجل أبدل الله مكانه رجلا ، يسقى بهم الغيث وينصر بهم على الأعداء ويصرف بهم عن أهل الأرض البلاء ) ذكره الترمذي الحكيم في " نوادر الأصول " . وخرج أيضا عن أبي الدرداء قال : إن الأنبياء كانوا أوتاد الأرض ، فلما انقطعت النبوة أبدل الله مكانهم قوما من أمة محمد صلى الله عليه وسلم يقال لهم الأبدال ، لم يفضلوا الناس بكثرة صوم ولا صلاة ولكن بحسن الخلق وصدق الورع وحسن النية وسلامة القلوب لجميع المسلمين والنصيحة لهم ابتغاء مرضاة الله بصبر وحلم ولب وتواضع في غير مذلة ، فهم خلفاء الأنبياء ، قوم اصطفاهم الله لنفسه واستخلصهم بعلمه لنفسه ، وهم أربعون صديقا منهم ثلاثون رجلا على مثل يقين إبراهيم خليل الرحمن ، يدفع الله بهم المكاره عن أهل الأرض والبلايا عن الناس ، وبهم يمطرون ويرزقون ، لا يموت الرجل منهم حتى يكون الله قد أنشأ من يخلفه . وقال ابن عباس : ولولا دفع الله العدو بجنود المسلمين لغلب المشركون فقتلوا المؤمنين وخربوا البلاد والمساجد . وقال سفيان الثوري : هم الشهود الذين تستخرج بهم الحقوق . وحكى مكي أن أكثر المفسرين على أن المعنى : لولا أن الله يدفع بمن يصلي عمن لا يصلي وبمن يتقي عمن لا يتقي لأهلك الناس بذنوبهم ، وكذا ذكر النحاس والثعلبي أيضا . قال الثعلبي وقال سائر المفسرين : ولولا دفاع الله المؤمنين الأبرار عن الفجار والكفار لفسدت الأرض ، أي هلكت وذكر حديثا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الله يدفع العذاب بمن يصلي من أمتي عمن لا يصلي وبمن يزكي عمن لا يزكي وبمن يصوم عمن لا يصوم وبمن يحج عمن لا يحج وبمن يجاهد عمن لا يجاهد ، ولو اجتمعوا على ترك هذه الأشياء ما أنظرهم الله طرفة عين - ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم - ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض . وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن لله ملائكة تنادي كل يوم لولا عباد ركع وأطفال رضع وبهائم رتع لصب عليكم العذاب صبا خرجه أبو بكر الخطيب بمعناه من حديث الفضيل بن عياض . حدثنا منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لولا فيكم رجال خشع وبهائم رتع وصبيان رضع لصب العذاب على المؤمنين صبا . أخذ بعضهم هذا المعنى فقال :لولا عباد للإله ركع وصبية من اليتامى رضع ومهملات في الفلاة رتعصب عليكم العذاب الأوجعوروى جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الله ليصلح بصلاح الرجل ولده وولد ولده وأهل [ ص: 238 ] دويرته ودويرات حوله ولا يزالون في حفظ الله ما دام فيهم . وقال قتادة : يبتلي الله المؤمن بالكافر ويعافي الكافر بالمؤمن . وقال ابن عمر قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله ليدفع بالمؤمن الصالح عن مائة من أهل بيته وجيرانه البلاء . ثم قرأ ابن عمر ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض . وقيل : هذا الدفع بما شرع على ألسنة الرسل من الشرائع ، ولولا ذلك لتسالب الناس وتناهبوا وهلكوا ، وهذا قول حسن فإنه عموم في الكف والدفع وغير ذلك فتأمله . ولكن الله ذو فضل على العالمين . بين سبحانه أن دفعه بالمؤمنين شر الكافرين فضل منه ونعمة .
تَنْوِيرُ ٱلْمِقْبَاسِ مِن تَفْسِيرِ ٱبْنِ عَبَّاس
Tafsir Tanwir al-Miqbas —
حضرت ابن عباسؓ
وقد أشارت الآية في قوله : { فهزموهم } إلخ إلى انتصار بني إسرائيل على الفلسطينيين وهو انتصار عظيم كان به نجاح بني إسرائيل في فلسطين وبلاد العمالقة ، مع قلة عددهم فقد قال مؤرخوهم إن طالوت لما خرج لحرب الفلسطينيين جمع جيشاً فيه ثلاثة آلاف رجل ، فلما رأوا كثرة الفلسطينيين حصل لهم ضنك شديد واختبأ معظم الجيش في جبل افرايم في المغارات والغياض والآبار ، ولم يعبروا الأردن ، ووجم طالوت واستخار صمويل ، وخرج للقتال فلما اجتاز نهر الأردن عد الجيش الذي معه فلم يجد إلاّ نحو ستمائة رجل ، ثم وقعت مقاتلات كان النصر فيها لبني إسرائيل ، وتشجع الذين جبنوا واختبأوا في المغارات وغيرها فخرجوا وراء الفلسطينيين وغنموا غنيمة كثيرة ، وفي تلك الأيام من غير بيان في كتب اليهود لمقدار المدد بين الحوادث ولا تنصيص على المتقدم منها والمتأخر ومع انتقالات في القصص غير متناسبة ، ظهر داود بن يسى اليهودي إذ أوحى الله إلى صمويل أن يذهب إلى بيت يسى في بيت لحم ويمسح أصغر أبناء يسى ليكون ملكاً على إسرائيل بعد حين ، وساق الله داود إلى شاول ( طالوت ) بتقدير عجيب فحظى عند شاول ، وكان داود من قبل راعي غنم أبيه ، وكان ذا شجاعة ونشاط وحسن سمت ، وله نبوغ في رمي المقلاع ، فكان ذات يوم التقى الفلسطينيون مع جيش طالوت وخرج زعيم من زعماء فلسطين اسمه جُلْيَات كما تقدم ، فلم يستطع أحد مبارزته فانبرى له داود ورماه بالمقلاع فأصاب الحجر جبهته وأسقطه إلى الأرض واعتلاه داود واخترط سيفه وقطع رأسه ، فذهب به إلى شاول وانهزم الفلسطينيون ، وزوج شاول ابنته المسماة ميكال من داود ، وصار داود بعد حين ملكاً عوض شاول ، ثم آتاه الله النبوءة فصار ملكاً نبيئاً ، وعلمه مما يشاء .ويأتي ذكر داود عند قوله تعالى : { وتلك حجتنا أتيناها إبراهيم على قومه } في سورة الأنعام ( 83 ) .وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرض ولكن الله ذُو فَضْلٍ عَلَى العالمين } .ذيلت هذه الآية العظيمة كل الوقائع العجيبة التي أشارت بها الآيات السالفة لتدفع عن السامع المتبصر ما يخامره من تطلب الحكمة في حدثان هذه الوقائع وأمثالها في هذا العالم ولكون مضمون هذه الآية عبرة من عبر الأكوان وحكمة من حكم التاريخ ، ونظم العمران التي لم يهتد إليها أحد قبل نزول هذه الآية ، وقبل إدراك ما في مطاويها ، عطفت على العبر الماضية كما عطف قوله : { وقال لهم نبيهم } [ البقرة : 247 ] وما بعده من رؤوس الآي . وعدل عن المتعارف في أمثالها من ترك العطف ، وسلوك سبيل الاستئناف .وقرأ نافع وأبو جعفر ويعقوب ( ولولا دفاع الله الناس ) بصيغة المفاعلة ، وقرأه الجمهور ( دفع ) بصيغة المجرد .والدفاع مصدر دافع الذي هو مبالغة في دفع لا للمفاعلة ، كقول موسى بن جابر الحنفي :لا أشتهي يا قوم إلاّ كارهاً ... باب الأمير ولا دفاع الحاجبوإضافته إلى الله مجاز عقلي كما هو في قوله : { إن الله يدفع عن الذين آمنوا } [ الحج : 38 ] أي يدفع لأن الذي يدفع حقيقة هو الذي يباشر الدفع في متعارف الناس وإنما أسند إلى الله لأنه الذي قدره وقدر أسبابه ، ولذلك قال : { بعضهم ببعض } فجعل سبب الدفاع بعضهم وهو من باب { وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى } [ الأنفال : 17 ] وأصل معنى الدفع الضرب باليد للإقصاء عن المرام . قال :فدفعتها فتدافعت ... وهو ذب عن مصلحة الدافع . ومعنى الآية : أنه لولا وقوع دفع بعض الناس بعضاً آخر بتكوين الله وإيداعه قوة الدفع وبواعثه في الدافع لفسدت الأرض ، أي من على الأرض ، واختل نظام ما عليها ، ذلك أن الله تعالى لما خلق الموجودات التي على الأرض من أجناس وأنواع وأصناف ، خلقها قابلة للاضمحلال ، وأودع في أفرادها سننا دلت على أن مراد الله بقاؤها إلى أمد أراده ، ولذلك نجد قانون الخَلَفية منبثاً في جميع أنواع الموجودات فما من نوع إلاّ وفي أفراده قوة إيجاد أمثالها لتكون تلك الأمثال أخلافاً عن الأفراد عند اضمحلالها ، وهذه القوة هي المعبر عنها بالتناسل في الحيوان ، والبذر في النبت ، والنضح في المعادن ، والتولد في العناصر الكيماوية . ووجود هذه القوة في جميع الموجودات أول دليل على أن موجِدها قد أراد بقاء الأنواع ، كما أراد اضمحلال الأفراد عند آجال معينة ، لاختلال أو انعدام صلاحيتها ، ونعلم من هذا أن الله خالق هذه الأكوان لا يحب فسادها ، وقد تقدم لنا تفسير قوله : { وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد } [ البقرة : 205 ] .ثم إن الله تعالى كما أودع في الأفراد قوة بها بقاء الأنواع ، أودع في الأفراد أيضاً قوى بها بقاء تلك الأفراد بقدر الطاقة ، وهي قوى تطلُّب الملائم ودفع المنافي ، أو تطلُّب البقاء وكراهية الهلاك ، ولذلك أودع في جميع الكائنات إدراكات تنساق بها ، بدون تأمل أو بتأمل ، إلى ما فيه صلاحها وبقاؤها ، كانسياق الوليد لالتهام الثدي ، وأطفال الحيوان إلى الأثداء والمراعي ، ثم تتوسع هذه الإدراكات ، فيتفرع عنها كل ما فيه جلب النافع الملائم عن بصيرة واعتياد ، ويسمى ذلك بالقوة الشاهية .وأودع أيضاً في جميع الكائنات إدراكات تندفع بها إلى الذب عن أنفسها ، ودفع العوادي عنها ، عن غير بصيرة ، كتعريض اليد بين الهاجم وبين الوجه ، وتعريض البقرة رأسها بمجرد الشعور بما يهجم عليها من غير تأمل في تفوق قوة الهاجم على قوة المدافع ، ثم تتوسع هاته الإدراكات فتتفرع إلى كل ما فيه دفع المنافر من ابتداء بإهلاك من يُتوقع منه الضر ، ومن طلب الكِن ، واتخاذ السلاح ، ومقاومة العدو عند توقع الهلاك ، ولو بآخر ما في القوة وهو القوة الغاضبة ولهذا تزيد قوة المدافعة اشتداداً عند زيادة توقع الأخطار حتى في الحيوان . وما جعله الله في كل أنواع الموجودات من أسباب الأذى لمريد السوء به أدل دليل على أن الله خلقها لإرادة بقائها ، وقد عَوَّضَ الإنسان عما وهبه إلى الحيوان العقلَ والفكرة في التحيل على النجاة ممن يريد به ضرراً ، وعلى إيقاع الضر بمن يريده به قبل أن يقصده به ، وهو المعبر عنه بالاستعداد .ثم إنه تعالى جعل لكل نوع من الأنواع ، أو فرد من الأفراد خصائص فيها منافع لغيره ولنفسه ليحرص كل على إبقاء الآخر ، فهذا ناموس عام ، وجعل الإنسان بما أودَعه من العقل هو المهيمن على بقية الأنواع . وجعل له العلم بما في الأنواع من الخصائص ، وبما في أفراد نوعه من الفوائد . فخلق الله تعالى أسباب الدفاع بمنزلة دفع من الله يدفع مريد الضر بوسائل يستعملها المراد إضراره ، ولولا هذه الوسائل التي خولها الله تعالى أفراد الأنواع ، لاشتد طمع القوي في إهلاك الضعيف ، ولاشتدت جراءة من يجلب النفع إلى نفسه على منافع يجدها في غيره ، فابتزها منه ، ولأفرَطتْ أفراد كل نوع في جلب النافع الملائم إلى أنفسها بسلب النافع الملائم لغيرها ، مما هو له ، ولتناسى صاحب الحاجة حين الاحتياج ما في بقاء غيره من المنفعة له أيضاً . وهكذا يتسلط كل ذي شهوة على غيره ، وكل قوي على ضعيفه ، فيهلك القوي الضعيف ، ويهلك الأقوى القويَّ ، وتذهب الأفراد تباعاً ، والأنواع كذلك حتى لا يبقى إلاّ أقوى الأفراد من أقوى الأنواع ، وذلك شيء قليل ، حتى إذا بقي أعوزته حاجات كثيرة لا يجدها في نفسه ، وكان يجدها في غيره من أفراد نوعه ، كحاجة أفراد البشر بعضهم إلى بعض ، أو من أنواع أخر ، كحاجة الإنسان إلى البقرة ، فيذهب هدراً .ولما كان نوع الإنسان هو المهيمن على بقية موجودات الأرض وهو الذي تظهر في أفراده جميع التطورات والمساعي ، خصتهُ الآية بالكلام فقالت : { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض } إذ جعل الله في الإنسان القوة الشاهية لبقائه وبقاء نوعه ، وجعل فيه القوة الغاضبة لرد المفرط في طلب النافع لنفسه ، وفي ذلك استبقاء بقية الأنواع؛ لأن الإنسان يذب عنها لما في بقائها من منافع له .وبهذا الدفاع حصلت سلامة القوي ، وهو ظاهر ، وسلامة الضعيف أيضاً لأن القوي إذا وجد التعب والمكدرات في جلب النافع سئم ذلك ، واقتصر على ما تدعو إليه الضرورة . وإنما كان الحاصل هو الفساد ، لولا الدفاع ، دون الصلاح ، لأن الفساد كثيراً ما تندفع إليه القوة الشاهية بما يوجد في أكثر المفاسد من اللذات العاجلة القصيرة الزمن ، ولأن في كثير من النفوس أو أكثرها الميل إلى مفاسد كثيرة ، لأن طبع النفوس الشريرة ألا تراعي مضرة غيرها ، بخلاف النفوس الصالحة ، فالنفوس الشريرة أعمد إلى انتهاك حرمات غيرها ، ولأن الأعمال الفاسدة أسرع في حصول آثارها وانتشارها ، فالقليل منها يأتي على الكثير من الصالحات ، فلا جرم لولا دفاع الناس بأن يدافع صالحهم المفسدين ، لأسرع ذلك في فساد حالهم ، ولعم الفساد أمورهم في أسرع وقت .وأعظم مظاهر هذا الدفاع هو الحروب؛ فبالحرب الجائرة يطلب المحارب غصب منافع غيره ، وبالحرب العادلة ينتصف المحق من المبطل ، ولأجلها تتألف العصبيات والدعوات إلى الحق ، والإنحاء على الظالمين ، وهزم الكافرين .ثم إن دفاع الناس بعضهم بعضاً يصد المفسد عن محاولة الفساد ، ونفس شعور المفسد بتأهب غيره لدفاعه يصده عن اقتحام مفاسد جمة .ومعنى فساد الأرض : إما فساد الجامعة البشرية كما دل عليه تعليق الدفاع بالناس ، أي لفسد أهل الأرض ، وإما فساد جميع ما يقبل الفساد فيكون في الآية احتباك ، والتقدير : ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض وبقية الموجودات بعضها ببعض لفسدت الأرض أي من على الأرض ولفسد الناس .والآية مسوقة مساق الامتنان ، فلذلك قال تعالى : { لفسدت الأرض } لأنا لا نحب فساد الأرض ، إذ في فسادها بمعنى فساد ما عليها اختلالُ نظامنا وذهاب أسباب سعادتنا ، ولذلك عقبه بقوله : { ولكن الله ذو فضل على العالمين } فهو استدراك مما تضمنته «لولا» من تقدير انتفاء الدفاع؛ لأن أصل لولا لو مع لا النافية ، أي لو كان انتفاءُ الدفاع موجوداً لفسدت الأرض وهذا الاستدراك في هذه الآية أدل دليل على تركيب ( لولا ) من ( لو ) و ( لا ) ، إذ لا يتم الاستدراك على قوله : { لفسدت الأرض } لأن فساد الأرض غير واقع بعد فرض وجود الدفاع ، إن قلنا «لولا» حرف امتناع لوجود .وعلق الفضل بالعالمين كلهم لأن هذه المنة لا تختص .
ٱلتَّفْسِيرُ ٱلْوَسِيط
Tafsir Al-Waseet —
علمائے جامعہ ازہر
فماذا كانت نتيجة هذا الدعاء الخاشع الخالص؟ كانت نتيجته النصر المؤزر الذي حكاه القرآن في قوله : ( فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ الله ) .وأصل الهزم في اللغة الكسر .ومنه سقاء منهزم أي انثنى بعضه على بعض مع الجفاف . ويقال للسحاب هزيم ، لأنه يتشقق بالمطر . والفاء هنا فصيحة أو سببه أي أنهم بسبب دعائهم المخلص ، وإيمانهم القوى ، واستجابتهم لما أمرهم الله به ، استطاعوا أن يكسروا أعداءهم ويهزموهم ، وقوله ، ( بِإِذْنِ الله ) أي بتوفيقه وتيسيره وتأييده . والباء إما للاستعانة والسببية وإما للمصاحبة . ثم قال - تعالى - : ( وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ ) أي : وقتل داود بن إيشا - وكان في جيش طالوت - جالوت الذي كان يقود جيش الكفر ، وبقتله مزق أتباعه شر ممزق ، ورزق الله طالوت ومن معه النصر والغلبة .ثم بين - سبحانه - ما منحه لداود من نعم فقال : ( وَآتَاهُ الله الملك والحكمة وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَآءُ ) والحكمة المراد بها هنا النبوة ، ولم يجتمع الملك والنبوة لأحد قبله في بني إسرائيل ، وورثه فيهما ابنه سليمان - عليه السلام - .أي : وأعطى الله - تعالى - عبده داود ملك بني إسرائيل وأعطاه النبوة التي هي أشرف من الملك زيادة في ترقيته في درجات الشرف والكمال ، وعلمه - سبحانه - مما يشاء من فنون العلم ، ومن أمور الدين والدنيا كمعرفته لغة الطيور ، وكلام الدواب ، وصناعة آلات الحرب وغير ذلك من ألوان العلوم المختلفة التي لا تحدها إلا مشيئة الله وإرادته .وفي قوله - تعالى - : ( وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَآءُ ) بعد الإِخبار بأنه - سبحانه - آتى داود الحكمة ، إشعار بأن الإِنسان لا يستغني عن التعلم سواء أكان نبيا أم لم يكن ، لأن داود - عليه السلام - مع حصولة على النبوة لم يستغن عن تعليم الله إياه ، وقد أمر الله - تعالى - نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يلتمس المزيد من العلم فقال : ( وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً ) ثم بين - سبحانه - بعض مظاهر فضله على عباده فقال : ( وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرض ) .أي : ولولا أن الله - تعالى - يدفع أهل الباطل بأهل الحق ، لفسدت الأرض ، وعمها الخراب لأن أهل الفساد إذا تركوا من غير أن يقاوموا استطارت شرورهم ، وتغلبوا على أهل الصلاح والاستقامة ، وتعطلت مصالح الناس ، وانتشر الفساد في الأرض .فلولا في الجملة الكريمة حرف امتناع لوجود . أي : امتنع فساد الأرض لأجل وجود دفع الناس بعضهم ببعض .فالجملة الكريمة تأمر في كل زمان ومكان أن يقفوا في وجوه الأشرار ، وأن يقاوموهم بكل وسيلة من شأنها أن تحول بينهم وبين الفساد والطغيان .ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : ( ولكن الله ذُو فَضْلٍ عَلَى العالمين ) .أي : ولكن الله - تعالى - صاحب فضل عظيم ، وإنعام كبير على الناس أجمعين ، لأنه وضع لهم هذا التنظيم الحكيم الذي أوجب فيه على المصلحين أن يدافعوا المفسدين ، وأن يقاوموهم بالطريقة التي تمنع فسادهم حتى ولو أدى ذلك إلى رفع السلاح في وجوههم ، لأن السكوت عن فساد المفسدين سيؤدي إلى العقاب الذي يعمهم ويصيب معهم المصلحين .
تَفْسِيرُ ٱلْبَغَوِيِّ
Tafsir al-Baghawi —
علامہ بغوی
( فهزموهم بإذن الله ) أي بعلم الله تعالى ( وقتل داود جالوت ) وصفة قتله : قال أهل التفسيرعبر النهر مع طالوت فيمن عبر إيشا أبو داود في ثلاثة عشر ابنا له وكان داود أصغرهم وكان يرمي بالقذافة فقال لأبيه يوما يا أبتاه ما أرمي بقذافتي شيئا إلا صرعته فقال : أبشر يا بني فإن الله جعل رزقك في قذافتك ثم أتاه مرة أخرى فقال : يا أبتاه لقد دخلت بين الجبال فوجدت أسدا رابضا فركبته فأخذت بأذنيه فلم يهجني فقال : أبشر يا بني فإن هذا خير يريده الله بك ثم أتاه يوما آخر فقال : يا أبتاه إني لأمشي بين الجبال فأسبح فما يبقى جبل إلا سبح معي ، فقال : أبشر يا بني فإن هذا خير أعطاكه الله تعالى فأرسل جالوت إلى طالوت أن ابرز إلي أو أبرز إلي من يقاتلني فإن قتلني فلكم ملكي وإن قتلته فلي ملككم فشق ذلك على طالوت فنادى في عسكره : من قتل جالوت زوجته ابنتي وناصفته ملكي فهاب الناس جالوت فلم يجبه أحد فسأل طالوت نبيهم أن يدعو الله تعالى فدعا الله في ذلك فأتى بقرن فيه دهن القدس وتنور في حديد فقيل : إن صاحبكم الذي يقتل جالوت هو الذي يوضع هذا القرن على رأسه فيغلي الدهن حتى يدهن منه رأسه ولا يسيل على وجهه ويكون على رأسه كهيئة الإكليل ويدخل في هذا التنور فيملؤه ولا يتقلقل فيه فدعا طالوت بني إسرائيل فجربهم فلم يوافقه منهم أحد فأوحى الله إلى نبيهم أن في ولد إيشا من يقتل الله به جالوت فدعا طالوت إيشا فقال : اعرض علي بنيك فأخرج له اثني عشر رجلا أمثال السواري فجعل يعرضهم على القرن فلا يرى شيئا فقال : لإيشا هل بقي لك ولد غيرهم فقال : لا فقال النبي : يا رب إنه زعم أن لا ولد له غيرهم فقال كذب فقال النبي : إن ربي كذبك فقال : صدق الله يا نبي الله إن لي ابنا صغيرا يقال له داود استحييت أن يراه الناس لقصر قامته وحقارته ( فخلفته ) في الغنم يرعاها وهو في شعب كذا وكذا وكان داود رجلا قصيرا مسقاما مصفارا أزرق أمعر ، فدعاه طالوت ويقال : بل خرج طالوت إليه فوجد الوادي قد سال بينه وبين الزريبة التي كان يريح إليها فوجده يحمل شاتين يجيز بهما السيل ولا يخوض بهما الماء فلما رآه قال : هذا هو لا شك فيه هذا يرحم البهائم فهو بالناس أرحم فدعاه ووضع القرن على رأسه ففاض فقال طالوت : هل لك أن تقتل جالوت وأزوجك ابنتي وأجري خاتمك في ملكي قال : نعم قال : وهل آنست من نفسك شيئا تتقوى به على قتله؟ قال : نعم أنا أرعى فيجيء الأسد أو النمر أو الذئب فيأخذ شاة فأقوم إليه فأفتح لحييه عنها وأضرقها إلى قفاه فرده إلى عسكره فمر داود عليه السلام في طريقه بحجر فناداه الحجر يا داود احملني فإني حجر هارون الذي قتل بي ملك كذا فحمله في مخلاته ثم مر بحجر آخر فقال : احملني فإني حجر موسى الذي قتل بي ملك كذا وكذا فحمله في مخلاته ثم مر بحجر آخر فقال : احملني فإني حجرك الذي تقتل بي جالوت فوضعها في مخلاته فلما تصافوا للقتال وبرز جالوت وسأل المبارزة انتدب له داود فأعطاه طالوت فرسا ودرعا وسلاحا فلبس السلاح وركب الفرس وسار قريبا ثم انصرف إلى الملك فقال من حوله جبن الغلام فجاء فوقف على الملك فقال : ما شأنك؟ فقال : إن الله إن لم ينصرني لم يغن عني هذا السلاح شيئا فدعني أقاتل كما أريد قال : فافعل ما شئت قال : نعم فأخذ داود مخلاته فتقلدها وأخذ المقلاع ومضى نحو جالوت وكان جالوت من أشد الرجال وأقواهم وكان يهزم الجيوش وحده وكان له بيضة فيها ثلاثمائة رطل حديد فلما نظر إلى داود ألقي في قلبه الرعب فقال له : أنت تبرز إلي؟ قال : نعم .وكان جالوت على فرس أبلق عليه السلاح التام قال : فأتيتني بالمقلاع والحجر كما يؤتى الكلب؟ قال : نعم أنت شر من الكلب قال لا جرم لأقسمن لحمك بين سباع الأرض وطير السماء قال داود : أو يقسم الله لحمك فقال داود : باسم إله إبراهيم وأخرج حجرا ثم أخرج الآخر وقال : باسم إله إسحاق ووضعه في مقلاعه ثم أخرج الثالث وقال : باسم إله يعقوب ووضعه في مقلاعه فصارت كلها حجرا واحدا ودور داود المقلاع ورمى به فسخر الله له الريح حتى أصاب الحجر أنف البيضة فخالط دماغه وخرج من قفاه وقتل من ورائه ثلاثين رجلا وهزم الله تعالى الجيش وخر جالوت قتيلا فأخذه يجره حتى ألقاه بين يدي طالوت ففرح المسلمون فرحا شديدا وانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين والناس يذكرون داود فجاء داود طالوت وقال انجز لي ما وعدتني فقال : أتريد ابنة الملك بغير صداق؟ فقال داود : ما شرطت علي صداقا وليس لي شيء فقال لا أكلفك إلا ما تطيق أنت رجل جريء وفي حيالنا أعداء لنا غلف فإذا قتلت منهم مائتي رجل وجئتني بغلفهم زوجتك ابنتي فأتاهم فجعل كلما قتل واحدا منهم نظم غلفته في خيط حتى نظم غلفهم فجاء بها إلى طالوت فألقى إليه وقال ادفع إلي امرأتي فزوجه ابنته وأجرى خاتمه في ملكه فمال الناس إلى داود وأحبوه وأكثروا ذكره فحسده طالوت وأراد قتله فأخبر ذلك ابنة طالوت رجل يقال له ذو العينين فقالت لداود إنك مقتول في هذه الليلة قال : ومن يقتلني؟ قالت أبي قال وهل أجرمت جرما قالت : حدثني من لا يكذب ولا عليك أن تغيب هذه الليلة حتى تنظر مصداق ذلك فقال : لئن كان أراد الله ذلك لا أستطيع خروجا ولكن ائتيني بزق خمر فأتت به فوضعه في مضجعه على السرير وسجاه ودخل تحت السرير فدخل طالوت نصف الليل فقال لها : أين بعلك؟ فقالت : هو نائم على السرير فضربه بالسيف ضربة فسال الخمر فلما وجد ريح الشراب قال : يرحم الله داود ما كان أكثر شربه للخمر وخرج .فلما أصبح علم أنه لم يفعل شيئا فقال : إن رجلا طلبت منه ما طلبت لخليق أن لا يدعني حتى يدرك مني ثأره فاشتد حجابه وحراسه وأغلق دونه أبوابه ثم إن داود أتاه ليلة وقد هدأت العيون فأعمى الله سبحانه الحجبة وفتح له الأبواب فدخل عليه وهو نائم على فراشه فوضع سهما عند رأسه وسهما عند رجليه وسهما عن يمينه وسهما عن شماله ثم خرج فلما استيقظ طالوت بصر بالسهام فعرفها فقال : يرحم الله تعالى داود هو خير مني ظفرت به فقصدت قتله وظفر بي فكف عني ولو شاء لوضع هذا السهم في حلقي وما أنا بالذي آمنه فلما كانت القابلة أتاه ثانيا وأعمى الله الحجاب فدخل عليه وهو نائم فأخذ إبريق طالوت الذي كان يتوضأ منه وكوزه الذي كان يشرب منه وقطع شعرات من لحيته وشيئا من هدب ثيابه ثم خرج وهرب وتوارى فلما أصبح طالوت ورأى ذلك سلط على داود العيون وطلبه أشد الطلب فلم يقدر عليه ثم إن طالوت ركب يوما فوجد داود يمشي في البرية فقال : اليوم أقتله فركض على أثره فاشتد داود وكان إذا فزع لم يدرك فدخل غارا فأوحى الله تعالى إلى العنكبوت فنسج عليه بيتا فلما انتهى طالوت إلى الغار ونظر إلى بناء العنكبوت قال : لو كان دخل هاهنا لخرق بناء العنكبوت فتركه ومضى فانطلق داود وأتى الجبل مع المتعبدين فتعبد فيه فطعن العلماء والعباد على طالوت في شأن داود فجعل طالوت لا ينهاه أحد عن قتل داود إلا قتله وأغرى بقتل العلماء فلم يكن يقدر على عالم في بني إسرائيل يطيق قتله إلا قتله حتى أتي بامرأة تعلم اسم الله الأعظم فأمر خبازه بقتلها فرحمها الخباز وقال : لعلنا نحتاج إلى عالم فتركها فوقع في قلب طالوت التوبة وندم على ما فعل وأقبل على البكاء حتى رحمه الناس .وكان كل ليلة يخرج إلى القبور فيبكي وينادي : أنشد الله عبدا يعلم أن لي توبة إلا أخبرني بها فلما أكثر عليهم ناداه مناد من القبور يا طالوت أما ترضى أن قتلتنا حتى تؤذينا أمواتا فازداد بكاء وحزنا فرحمه الخباز فقال : ما لك أيها الملك؟ قال : هل تعلم لي في الأرض عالما أسأله هل لي من توبة فقال الخباز : إنما مثلك مثل ملك نزل قرية عشاء فصاح الديك فتطير منه فقال : لا تتركوا في القرية ديكا إلا ذبحتموه فلما أراد أن ينام قال لأصحابه : إذا صاح الديك فأيقظونا حتى ندلج فقالوا له : وهل تركت ديكا نسمع صوته؟ ولكن هل تركت عالما في الأرض؟ فازداد حزنا وبكاء فلما رأى الخباز ذلك قال له : أرأيتك إن دللتك على عالم لعلك أن تقتله قال : لا فتوثق عليه الخباز فأخبره أن المرأة العالمة عنده قال : انطلق بي إليها أسألها هل لي من توبة؟ وكانت من أهل بيت يعلم الاسم الأعظم فإذا فنيت رجالهم علمت نساؤهم فلما بلغ طالوت الباب قال الخباز إنها إذا رأتك فزعت فخلفه خلفه ثم دخله عليها فقال لها : ألست أعظم الناس منة عليك أنجيتك من القتل وآويتك قالت : بلى قال : فإن لي إليك حاجة هذا طالوت يسأل هل لي من توبة؟ فغشي عليها من الفرق فقال لها : إنه لا يريد قتلك ولكن يسألك : هل له من توبة؟ قالت : لا والله لا أعلم لطالوت توبة ولكن هل تعلمون مكان قبر نبي؟ فانطلق بهما إلى قبر إشمويل فصلت ودعت ثم نادت يا صاحب القبر فخرج إشمويل من القبر ينفض رأسه من التراب فلما نظر إلى ثلاثتهم قال : ما لكم أقامت القيامة؟ قالت : لا ولكن طالوت يسألك : هل له من توبة؟ قال إشمويل : يا طالوت ما فعلت بعدي؟ قال : لم أدع من الشر شيئا إلا فعلته وجئت أطلب التوبة قال : كم لك من الولد؟ قال : عشرة رجال قال : ما أعلم لك من توبة إلا أن تتخلى من ملكك وتخرج أنت وولدك في سبيل الله ثم تقدم ولدك حتى يقتلوا بين يديك ثم تقاتل أنت حتى تقتل آخرهم؟ ثم رجع إشمويل إلى القبر وسقط ميتا ورجع طالوت أحزن ما كان رهبة أن لا يتابعه ولده وقد بكى حتى سقطت أشفار عينيه ونحل جسمه فدخل عليه أولاده فقال لهم : أرأيتم لو دفعت إلى النار هل كنتم تفدونني؟ قالوا : نعم نفديك بما قدرنا عليه قال : فإنها النار إن لم تفعلوا ما أقول لكم قالوا : فاعرض علينا فذكر لهم القصة قالوا : وإنك لمقتول قال : نعم قالوا : فلا خير لنا في الحياة بعدك قد طابت أنفسنا بالذي سألت فتجهز بماله وولده فتقدم ولده وكانوا عشرة فقاتلوا بين يديه حتى قتلوا ثم شد هو بعدهم حتى قتل فجاء قاتله إلى داود ليبشره وقال : قتلت عدوك فقال داود : ما أنت بالذي تحيا بعده فضرب عنقه وكان ملك طالوت إلى أن قتل أربعين سنة وأتى بنو إسرائيل إلى داود وأعطوه خزائن طالوت وملكوه على أنفسهم . قال الكلبي والضحاك : ملك داود بعد قتل طالوت سبع سنين ولم يجتمع بنو إسرائيل على ملك واحد إلا على داود فذلك قوله تعالى : ( وآتاه الله الملك والحكمة ) يعني : النبوة; جمع الله لداود بين الملك والنبوة ولم يكن من قبل بل كان الملك في سبط والنبوة في سبط وقيل : الملك والحكمة هو العلم مع العمل . قوله تعالى : ( وعلمه مما يشاء ) قال الكلبي وغيره يعني صنعة الدروع وكان يصنعها ويبيعها وكان لا يأكل إلا من عمل يده وقيل : منطق الطير ( وكلام الحكل ) والنمل والكلام الحسن وقيل هو الزبور وقيل هو الصوت الطيب والألحان فلم يعط الله أحدا من خلقه مثل صوته وكان إذا قرأ الزبور تدنو الوحوش حتى يأخذ بأعناقها وتظله الطير مصيخة له ويركد الماء ( الجاري ) ويسكن الريح .وروى الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما هو أن الله تعالى أعطاه سلسلة موصولة بالمجرة ورأسها عند صومعته قوتها قوة الحديد ولونها لون النار وحلقها مستديرة مفصلة بالجواهر مدسرة بقضبان اللؤلؤ الرطب فلا يحدث في الهواء حدث إلا صلصلت السلسلة فعلم داود ذلك الحدث ولا يمسها ذو عاهة إلا برئ وكانوا يتحاكمون إليها بعد داود عليه السلام إلى أن رفعت فمن تعدى على صاحبه وأنكر له حقا أتى السلسلة فمن كان صادقا مد يده إلى السلسلة فتناولها ومن كان كاذبا لم ينلها فكانت كذلك إلى أن ظهر بهم المكر والخديعة فبلغنا أن بعض ملوكها أودع رجلا جوهرة ثمينة فلما استردها أنكر فتحاكما إلى السلسلة فعمد الذي عنده الجوهرة إلى عكازة فنقرها وضمنها الجوهرة واعتمد عليها حتى حضر السلسلة فقال صاحب الجوهرة : رد علي الوديعة فقال صاحبه : ما أعرف لك عندي من وديعة فإن كنت صادقا فتناول السلسلة فتناولها بيده فقيل للمنكر : قم أنت فتناولها فقال لصاحب الجوهرة : خذ عكازي هذه فاحفظها حتى أتناول السلسلة فأخذها عنده ثم قام المنكر نحو السلسلة فأخذها فقال الرجل : اللهم إن كنت تعلم أن هذه الوديعة التي يدعيها علي قد وصلت إليه فقرب مني السلسلة فمد يده فتناولها فتعجب القوم وشكوا فيها فأصبحوا وقد رفع الله السلسلة .قوله تعالى : ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض ) قرأ أهل المدينة ويعقوب " دفاع الله " ) بالألف هاهنا وفي سورة الحج وقرأ الآخرون بغير الألف لأن الله تعالى لا يغالبه أحد وهو الدافع وحده ومن قرأ بالألف قال : قد يكون الدفاع من واحد مثل قول العرب : أحسن الله عنك الدفاع ، قال ابن عباس ومجاهد : ولولا دفع الله بجنود المسلمين لغلب المشركون على الأرض فقتلوا المؤمنين وخربوا المساجد والبلاد وقال سائر المفسرين : لولا دفع الله بالمؤمنين والأبرار عن الكفار والفجار لهلكت الأرض بمن فيها ولكن الله يدفع بالمؤمن عن الكافر وبالصالح عن الفاجر .أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي أنا أبو عبد الله بن فنجويه أنا أبو بكر بن خرجة أنا عبد الله بن أحمد بن حنبل أنا أبو حميد الحمصي أنا يحيى بن سعيد العطار أنا حفص بن سليمان عن محمد بن سوقة عن وبرة عن عبد الرحمن عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله عز وجل ليدفع بالمسلم الصالح عن مائة أهل بيت من جيرانه البلاء " ثم قرأ " ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض..( لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين ) .