تَفْسِيرُ ٱلْمُيَسَّر
Tafsir Al-Muyassar —
کنگ فہد قرآن کمپلیکس
أو هل رأيت -أيها الرسول- مثل الذي مرَّ على قرية قد تهدَّمت دورها، وخَوَتْ على عروشها، فقال: كيف يحيي الله هذه القرية بعد موتها؟ فأماته الله مائة عام، ثم ردَّ إليه روحه، وقال له: كم قدر الزمان الذي لبثت ميتًا؟ قال: بقيت يومًا أو بعض يوم، فأخبره بأنه بقي ميتًا مائة عام، وأمره أن ينظر إلى طعامه وشرابه، وكيف حفظهما الله من التغيُّر هذه المدة الطويلة، وأمره أن ينظر إلى حماره كيف أحياه الله بعد أن كان عظامًا متفرقة؟ وقال له: ولنجعلك آية للناس، أي: دلالة ظاهرة على قدرة الله على البعث بعد الموت، وأمره أن ينظر إلى العظام كيف يرفع الله بعضها على بعض، ويصل بعضها ببعض، ثم يكسوها بعد الالتئام لحمًا، ثم يعيد فيها الحياة؟ فلما اتضح له ذلك عِيانًا اعترف بعظمة الله، وأنه على كل شيء قدير، وصار آية للناس.
تَفْسِيرُ ٱلْجَلَالَيْنِ
Tafsir al-Jalalayn —
جلال الدین محلی اور جلال الدین سیوطی
«أو» رأيت «كالذي» الكاف زائدة «مرَّ على قرية» هي بيت المقدس راكبا على حمار ومعه سلة تين وقدح عصير وهوعزيز «وهي خاوية» ساقطة «على عروشها» سقوطها لما خرَّبها بختنصر «قال أنَّى» كيف «يحيي هذه الله بعد موتها» استعظاما لقدرته تعالى «فأماته الله» وألبثه «مائه عام ثم بعثه» أحياء ليريه كيفية ذلك «قال» تعالى له «كم لبثت» مكثت هنا «قال لبثت يوما أو بعض يوم» لأنه نام أول النهار فقبض وأحيي عند الغروب فظن أنه يوم النوم «قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك» التين «وشرابك» العصير «لم يتسنَّه» لم يتغير مع طول الزمان، والهاء قيل أصل من سانهت وقيل للسكت من سانيت وفي قراءة بحذفها «وانظر إلى حمارك» كيف هو فرآه ميتا وعظامه بيض تلوح فعلْنا ذلك لتعلم «ولنجعلك آية» على البعث «للناس وانظر إلى العظام» من حمارك «كيف ننشزها» نحييها بضم النون وقرئ بفتحها من أنشز ونشز - لغتان - وفي قراءة بضمها والزاي- نحركها ونرفعها- «ثم نكسوها لحما» فنظر إليه وقد تركبت وكسيت لحما ونفخ فيه الروح ونهق «فلما تبيَّن له» ذلك بالمشاهدة «قال أعلم» علم مشاهدة «أن الله على كل شيء قدير» وفي قراءة إعْلَمْ أمر من الله له.
تَفْسِيرُ ٱلْقُرْطُبِيِّ
Tafsir al-Qurtubi —
علامہ قرطبی
أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قديرقوله تعالى : أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها " أو " للعطف حملا على المعنى والتقدير عند الكسائي والفراء : هل رأيت كالذي حاج إبراهيم في ربه ، أو كالذي مر على قرية . وقال المبرد : المعنى ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه ، ألم تر من مر! كالذي مر على قرية . فأضمر في الكلام من هو . وقرأ أبو سفيان بن حسين " أو كالذي مر " بفتح الواو ، وهي واو العطف دخل عليها ألف الاستفهام الذي معناه التقرير . وسميت القرية قرية لاجتماع الناس فيها ، من قولهم : قريت الماء أي جمعته ، وقد تقدم . قال سليمان بن بريدة وناجية بن كعب وقتادة وابن عباس والربيع وعكرمة والضحاك : الذي مر على القرية هو عزير . وقال وهب بن منبه وعبد الله بن عبيد بن عمير وعبد الله بن بكر بن مضر : هو إرمياء وكان نبيا . وقال ابن إسحاق : إرمياء هو الخضر ، وحكاه النقاش عن وهب بن منبه . قال ابن عطية : وهذا كما تراه ، إلا أن يكون اسما وافق اسما ؛ لأن الخضر معاصر لموسى ، وهذا الذي مر على القرية هو بعده بزمان من سبط هارون فيما رواه وهب بن منبه .قلت : إن كان الخضر هو إرمياء فلا يبعد أن يكون هو ؛ لأن الخضر لم يزل حيا من وقت موسى حتى الآن على الصحيح في ذلك ، على ما يأتي بيانه في سورة " الكهف " . وإن كان مات قبل هذه القصة فقول ابن عطية صحيح ، والله أعلم . وحكى النحاس ومكي عن مجاهد أنه [ ص: 264 ] رجل من بني إسرائيل غير مسمى . قال النقاش : ويقال هو غلام لوط عليه السلام . وحكى السهيلي عن القتبي هو شعيا في أحد قوليه . والذي أحياها بعد خرابها كوشك الفارسي . والقرية المذكورة هي بيت المقدس في قول وهب بن منبه وقتادة والربيع بن أنس وغيرهم . قال : وكان مقبلا من مصر وطعامه وشرابه المذكوران تين أخضر وعنب وركوة من خمر . وقيل من عصير . وقيل : قلة ماء هي شرابه . والذي أخلى بيت المقدس حينئذ بختنصر وكان واليا على العراق للهراسب ثم ليستاسب بن لهراسب والد اسبندياد . وحكى النقاش أن قوما قالوا : هي المؤتفكة . وقال ابن عباس في رواية أبي صالح : إن بختنصر غزا بني إسرائيل فسبى منهم أناسا كثيرة فجاء بهم وفيهم عزير بن شرخيا وكان من علماء بني إسرائيل فجاء بهم إلى بابل ، فخرج ذات يوم في حاجة له إلى دير هزقل على شاطئ الدجلة . فنزل تحت ظل شجرة وهو على حمار له ، فربط الحمار تحت ظل الشجرة ثم طاف بالقرية فلم ير بها ساكنا وهي خاوية على عروشها فقال : أنى يحيي هذه الله بعد موتها وقيل : إنها القرية التي خرج منها الألوف حذر الموت ، قاله ابن زيد . وعن ابن زيد أيضا أن القوم الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ، مر رجل عليهم وهم عظام نخرة تلوح فوقف ينظر فقال : أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام . قال : ابن عطية : وهذا القول من ابن زيد مناقض لألفاظ الآية ، إذ الآية إنما تضمنت قرية خاوية لا أنيس فيها ، والإشارة ب " هذه " إنما هي إلى القرية . وإحياؤها إنما هو بالعمارة ووجود البناء والسكان . وقال وهب بن منبه وقتادة والضحاك والربيع وعكرمة : القرية بيت المقدس لما خربها بختنصر البابلي . وفي الحديث الطويل حين أحدثت بنو إسرائيل الأحداث وقف إرمياء أو عزير على القرية وهي كالتل العظيم وسط بيت المقدس ؛ لأن بختنصر أمر جنده بنقل التراب إليه حتى جعله كالجبل ، ورأى إرمياء البيوت قد سقطت حيطانها على سقفها فقال : أنى يحيي هذه الله بعد موتها .والعريش : سقف البيت . وكل ما يتهيأ ليظل أو يكن فهو عريش ، ومنه عريش الدالية ، ومنه قوله تعالى : ومما يعرشون . قال السدي : يقول هي ساقطة على سقفها ، أي سقطت السقف ثم سقطت الحيطان عليها ، واختاره الطبري . وقال غير السدي : معناه خاوية من الناس والبيوت قائمة ، وخاوية معناها خالية ، وأصل الخواء الخلو ، يقال : خوت الدار وخويت تخوى خواء ( ممدود ) وخويا : أقوت ، وكذلك إذا سقطت ، ومنه قوله تعالى : فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا ؛ أي خالية ، ويقال ساقطة ، كما يقال : فهي خاوية على عروشها أي ساقطة على [ ص: 265 ] سقفها . والخواء الجوع لخلو البطن من الغذاء . وخوت المرأة وخويت أيضا خوى أي خلا جوفها عند الولادة . وخويت لها تخوية إذا عملت لها خوية تأكلها وهي طعام . والخوي البطن السهل من الأرض على فعيل . وخوى البعير إذا جافى بطنه عن الأرض في بروكه ، وكذلك الرجل في سجوده .قوله تعالى : قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها معناه من أي طريق وبأي سبب ، وظاهر اللفظ السؤال عن إحياء القرية بعمارة وسكان ، كما يقال الآن في المدن الخربة التي يبعد أن تعمر وتسكن : أنى تعمر هذه بعد خرابها . فكأن هذا تلهف من الواقف المعتبر على مدينته التي عهد فيها أهله وأحبته . وضرب له المثل في نفسه بما هو أعظم مما سأل عنه ، والمثال الذي ضرب له في نفسه يحتمل أن يكون على أن سؤاله إنما كان على إحياء الموتى من بني آدم ، أي أنى يحيي الله موتاها . وقد حكى الطبري عن بعضهم أنه قال : كان هذا القول شكا في قدرة الله تعالى على الإحياء ، فلذلك ضرب له المثل في نفسه . قال ابن عطية : وليس يدخل شك في قدرة الله تعالى على إحياء قرية بجلب العمارة إليها وإنما يتصور الشك من جاهل في الوجه الآخر ، والصواب ألا يتأول في الآية شك .قوله تعالى : فأماته الله مائة عام " مائة " نصب على الظرف . والعام : السنة ، يقال : سنون عوم وهو تأكيد للأول ، كما يقال : بينهم شغل شاغل . وقال العجاج :من مر أعوام السنين العوموهو في التقدير جمع عائم ، إلا أنه لا يفرد بالذكر ؛ لأنه ليس باسم وإنما هو توكيد ، قاله الجوهري . وقال النقاش : العام مصدر كالعوم ، سمي به هذا القدر من الزمان لأنها عومة من الشمس في الفلك . والعوم كالسبح ، وقال الله تعالى : كل في فلك يسبحون . قال ابن عطية : هذا بمعنى قول النقاش ، والعام على هذا كالقول والقال ، وظاهر هذه الإماتة أنها بإخراج الروح من الجسد . وروي في قصص هذه الآية أن الله تعالى بعث لها ملكا من الملوك يعمرها ويجد في ذلك حتى كان كمال عمارتها عند بعث القائل . وقد قيل : إنه لما مضى لموته سبعون سنة أرسل الله ملكا من ملوك فارس عظيما يقال له " كوشك " فعمرها في ثلاثين سنة .قوله تعالى : ثم بعثه معناه أحياه ، وقد تقدم الكلام فيه .قوله تعالى : قال كم لبثت اختلف في القائل له كم لبثت ، فقيل . الله جل وعز ، [ ص: 266 ] ولم يقل له إن كنت صادقا كما قال للملائكة على ما تقدم . وقيل : سمع هاتفا من السماء يقول له ذلك . وقيل : خاطبه جبريل . وقيل : نبي . وقيل : رجل مؤمن ممن شاهده من قومه عند موته وعمر إلى حين إحيائه فقال له : كم لبثت .قلت : والأظهر أن القائل هو الله تعالى ، لقوله : وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما والله أعلم . وقرأ أهل الكوفة " كم لبت " بإدغام الثاء في التاء لقربها منها في المخرج . فإن مخرجهما من طرف اللسان وأصول الثنايا وفي أنهما مهموستان . قال النحاس : والإظهار أحسن لتباين مخرج الثاء من مخرج التاء . ويقال : كان هذا السؤال بواسطة الملك على جهة التقرير . و " كم " في موضع نصب على الظرف .قال لبثت يوما أو بعض يوم إنما قال هذا على ما عنده وفي ظنه ، وعلى هذا لا يكون كاذبا فيما أخبر به ، ومثله قول أصحاب الكهف قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم ، وإنما لبثوا ثلاثمائة سنة وتسع سنين - على ما يأتي - ولم يكونوا كاذبين لأنهم أخبروا عما عندهم ، كأنهم قالوا : الذي عندنا وفي ظنوننا أننا لبثنا يوما أو بعض يوم . ونظيره قول النبي صلى الله عليه وسلم في قصة ذي اليدين : لم أقصر ولم أنس . ومن الناس من يقول : إنه كذب على معنى وجود حقيقة الكذب فيه ولكنه لا مؤاخذة به ، وإلا فالكذب الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو عليه وذلك لا يختلف بالعلم والجهل ، وهذا بين في نظر الأصول . فعلى هذا يجوز أن يقال : إن الأنبياء لا يعصمون عن الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو عليه إذا لم يكن عن قصد ، كما لا يعصمون عن السهو والنسيان . فهذا ما يتعلق بهذه الآية ، والقول الأول أصح . قال ابن جريج وقتادة والربيع : أماته الله غدوة يوم ثم بعث قبل الغروب فظن هذا اليوم واحدا فقال : لبثت يوما ، ثم رأى بقية من الشمس فخشي أن يكون كاذبا فقال : أو بعض يوم . فقيل : بل لبثت مائة عام ، ورأى من عمارة القرية وأشجارها ومبانيها ما دله على ذلك .قوله تعالى : فانظر إلى طعامك وهو التين الذي جمعه من أشجار القرية التي مر عليها . وشرابك لم يتسنه قرأ ابن مسعود " وهذا طعامك وشرابك لم يتسنه " . وقرأ طلحة بن مصرف وغيره " وانظر لطعامك وشرابك لمائة سنة " . وقرأ الجمهور بإثبات الهاء في الوصل إلا الأخوان فإنهما يحذفانها ، ولا خلاف أن الوقف عليها بالهاء . وقرأ طلحة بن مصرف أيضا " لم يسن " " وانظر " أدغم التاء في السين ، فعلى قراءة الجمهور الهاء أصلية ، وحذفت الضمة [ ص: 267 ] للجزم ، ويكون " يتسنه " من السنة أي لم تغيره السنون . قال الجوهري : ويقال سنون ، والسنة واحدة السنين ، وفي نقصانها قولان : أحدهما الواو ، والآخر الهاء . وأصلها سنهة مثل الجبهة ؛ لأنه من سنهت النخلة وتسنهت إذا أتت عليها السنون . ونخلة سناء أي تحمل سنة ولا تحمل أخرى ، وسنهاء أيضا ، قال بعض الأنصار :فليست بسنهاء ولا رجبية ولكن عرايا في السنين الجوائحوأسنهت عند بني فلان أقمت عندهم ، وتسنيت أيضا . واستأجرته مساناة ومسانهة أيضا . وفي التصغير سنية وسنيهة . قال النحاس : من قرأ " لم يتسن " و " انظر " قال في التصغير : سنية وحذفت الألف للجزم ، ويقف على الهاء فيقول : " لم يتسنه " تكون الهاء لبيان الحركة . قال المهدوي : ويجوز أن يكون أصله من سانيته مساناة ، أي عاملته سنة بعد سنة ، أو من سانهت بالهاء ، فإن كان من سانيت فأصله يتسنى فسقطت الألف للجزم ، وأصله من الواو بدليل قولهم " سنوات " والهاء فيه للسكت ، وإن كان من سانهت فالهاء لام الفعل ، وأصل سنة على هذا سنهة . وعلى القول الأول سنوة . وقيل : هو من أسن الماء إذا تغير ، وكان يجب أن يكون على هذا يتأسن . أبو عمرو الشيباني : هو من قوله حمإ مسنون فالمعنى لم يتغير . الزجاج ، ليس كذلك ؛ لأن قوله ( مسنون ) ليس معناه ( متغير ) وإنما معناه ( مصبوب ) على سنة الأرض . قال المهدوي : وأصله على قول الشيباني " يتسنن " فأبدلت إحدى النونين ياء كراهة التضعيف فصار يتسنى ، ثم سقطت الألف للجزم ودخلت الهاء للسكت . وقال مجاهد : لم يتسنه لم ينتن . قال النحاس : أصح ما قيل فيه إنه من السنة ، أي لم تغيره السنون . ويحتمل أن يكون من السنة وهي الجدب ، ومنه قوله تعالى : ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ، وقوله عليه السلام اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف . يقال منه : أسنت القوم أي أجدبوا ، فيكون المعنى لم يغير طعامك القحوط والجدوب ، أو لم تغيره السنون والأعوام ، أي هو باق على طراوته وغضارته .[ ص: 268 ] قوله تعالى : وانظر إلى حمارك قال وهب بن منبه وغيره : وانظر إلى اتصال عظامه وإحيائه جزءا جزءا . ويروى أنه أحياه الله كذلك حتى صار عظاما ملتئمة ، ثم كساه لحما حتى كمل حمارا ، ثم جاءه ملك فنفخ فيه الروح فقام الحمار ينهق ، على هذا أكثر المفسرين . وروي عن الضحاك ووهب بن منبه أيضا أنهما قالا : بل قيل له : وانظر إلى حمارك قائما في مربطه لم يصبه شيء مائة عام ، وإنما العظام التي نظر إليها عظام نفسه بعد أن أحيا الله منه عينيه ورأسه ، وسائر جسده ميت ، قالا : وأعمى الله العيون عن إرمياء وحماره طول هذه المدة .قوله تعالى : ولنجعلك آية للناس قال الفراء : إنما أدخل الواو في قوله ( ولنجعلك ) دلالة على أنها شرط لفعل بعده ، معناه ولنجعلك آية للناس ودلالة على البعث بعد الموت جعلنا ذلك . وإن شئت جعلت الواو مقحمة زائدة . وقال الأعمش : موضع كونه آية هو أنه جاء شابا على حاله يوم مات ، فوجد الأبناء والحفدة شيوخا . عكرمة : وكان يوم مات ابن أربعين سنة . وروي عن علي رضوان الله عليه أن عزيرا خرج من أهله وخلف امرأته حاملا ، وله خمسون سنة فأماته الله مائة عام ، ثم بعثه فرجع إلى أهله وهو ابن خمسين سنة وله ولد من مائة سنة فكان ابنه أكبر منه بخمسين سنة . وروي عن ابن عباس قال : لما أحيا الله عزيرا ركب حماره فأتى محلته فأنكر الناس وأنكروه ، فوجد في منزله عجوزا عمياء كانت أمة لهم ، خرج عنهم عزير وهي بنت عشرين سنة ، فقال لها : أهذا منزل عزير ؟ فقالت نعم! ثم بكت وقالت : فارقنا عزير منذ كذا وكذا سنة قال : فأنا عزير ، قالت : إن عزيرا فقدناه منذ مائة سنة . قال : فالله أماتني مائة سنة ثم بعثني . قالت : فعزير كان مستجاب الدعوة للمريض وصاحب البلاء فيفيق ، فادع الله يرد علي بصري ، فدعا الله ومسح على عينيها بيده فصحت مكانها كأنها أنشطت من عقال . قالت : أشهد أنك عزير ثم انطلقت إلى ملإ بني إسرائيل وفيهم ابن لعزير شيخ ابن مائة وثمان وعشرين سنة ، وبنو بنيه شيوخ ، فقالت : يا قوم ، هذا والله عزير فأقبل إليه ابنه مع الناس فقال ابنه : كانت لأبي شامة سوداء مثل الهلال بين كتفيه ، فنظرها فإذا هو عزير . وقيل : جاء وقد هلك كل من يعرف ، فكان آية لمن كان حيا من قومه إذ كانوا موقنين بحاله سماعا . قال ابن عطية : وفي إماتته هذه المدة ثم إحيائه بعدها أعظم آية ، وأمره كله آية غابر الدهر ، ولا يحتاج إلى تخصيص بعض ذلك دون بعض .قوله تعالى : وانظر إلى العظام كيف ننشزها قرأ الكوفيون وابن عامر بالزاي والباقون بالراء ، وروى أبان عن عاصم " ننشرها " بفتح النون وضم الشين والراء ، وكذلك قرأ ابن عباس والحسن وأبو حيوة ، فقيل : هما لغتان في الإحياء بمعنى ، كما يقال رجع ورجعته ، [ ص: 269 ] وغاض الماء وغضته ، وخسرت الدابة وخسرتها ، إلا أن المعروف في اللغة أنشر الله الموتى فنشروا ، أي أحياهم الله فحيوا ، قال الله تعالى : ثم إذا شاء أنشره ويكون نشرها مثلا ( نشر الثوب ) . نشر الميت ينشر نشورا أي عاش بعد الموت ، قال الأعشى :حتى يقول الناس مما رأوا يا عجبا للميت الناشرفكأن الموت طي للعظام والأعضاء ، وكأن الإحياء وجمع الأعضاء بعضها إلى بعض نشر . وأما قراءة ننشزها بالزاي فمعناه نرفعها . والنشز : المرتفع من الأرض ، قال :ترى الثعلب الحولي فيها كأنه إذا ما علا نشزا حصان مجللقال مكي : المعنى : انظر إلى العظام كيف نرفع بعضها على بعض في التركيب للإحياء ؛ لأن النشز الارتفاع ، ومنه المرأة النشوز ، وهي المرتفعة عن موافقة زوجها ، ومنه قوله تعالى : وإذا قيل انشزوا فانشزوا ؛ أي ارتفعوا وانضموا . وأيضا فإن القراءة بالراء بمعنى الإحياء ، والعظام لا تحيا على الانفراد حتى ينضم بعضها إلى بعض ، والزاي أولى بذلك المعنى ، إذ هو بمعنى الانضمام دون الإحياء . فالموصوف بالإحياء هو الرجل دون العظام على انفرادها ، ولا يقال : هذا عظم حي ، وإنما المعنى فانظر إلى العظام كيف نرفعها من أماكنها من الأرض إلى جسم صاحبها للإحياء . وقرأ النخعي " ننشزها " بفتح النون وضم الشين والزاي ، وروي ذلك عن ابن عباس وقتادة . وقرأ أبي بن كعب " ننشيها " بالياء .والكسوة : ما وارى من الثياب ، وشبه اللحم بها . وقد استعاره لبيد للإسلام فقال :الحمد لله إذ لم يأتني أجلي حتى اكتسيت من الإسلام سربالاوقد تقدم أول السورة .قوله تعالى : فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير بقطع الألف . وقد روي أن الله جل ذكره أحيا بعضه ثم أراه كيف أحيا باقي جسده . قال قتادة : إنه جعل ينظر كيف يوصل بعض عظامه إلى بعض ؛ لأن أول ما خلق الله منه رأسه وقيل له : انظر ، فقال عند ذلك : ( أعلم ) بقطع الألف ، أي أعلم هذا . وقال الطبري : المعنى في قوله فلما تبين له أي لما اتضح له عيانا ما كان مستنكرا في قدرة الله عنده قبل عيانه قال : أعلم . قال ابن عطية : وهذا خطأ ؛ لأنه ألزم ما لا يقتضيه اللفظ ، وفسر على القول الشاذ والاحتمال الضعيف ، وهذا عندي ليس بإقرار بما كان قبل ينكره كما زعم الطبري ، بل هو قول بعثه الاعتبار ، كما يقول الإنسان [ ص: 270 ] المؤمن إذا رأى شيئا غريبا من قدرة الله تعالى : لا إله إلا الله ونحو هذا . وقال أبو علي : معناه أعلم هذا الضرب من العلم الذي لم أكن علمته .قلت : وقد ذكرنا هذا المعنى عن قتادة ، وكذلك قال مكي رحمه الله ، قال مكي : إنه أخبر عن نفسه عندما عاين من قدرة الله تعالى في إحيائه الموتى ، فتيقن ذلك بالمشاهدة ، فأقر أنه يعلم أن الله على كل شيء قدير ، أي أعلم أنا هذا الضرب من العلم الذي لم أكن أعلمه على معاينة ، وهذا على قراءة من قرأ ( أعلم ) بقطع الألف وهم الأكثر من القراء . وقرأ حمزة والكسائي بوصل الألف ، ويحتمل وجهين : أحدهما قال له الملك : اعلم ، والآخر هو أن ينزل نفسه منزلة المخاطب الأجنبي المنفصل ، فالمعنى فلما تبين له قال لنفسه : اعلمي يا نفس هذا العلم اليقين الذي لم تكوني تعلمين معاينة ، وأنشد أبو علي في مثل هذا المعنى ( للشاعر الأعشى :ودع هريرة إن الركب مرتحل وهل تطيق وداعا أيها الرجلألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا وعاك ما عاد السليم المسهداقال ابن عطية : وتأنس أبو علي في هذا الشعر بقول الشاعر :تذكر من أنى ومن أين شربه يؤامر نفسيه كذي الهجمة الإبلقال مكي : ويبعد أن يكون ذلك أمرا من الله جل ذكره له بالعلم ؛ لأنه قد أظهر إليه قدرته ، وأراه أمرا أيقن صحته وأقر بالقدرة فلا معنى لأن يأمره الله بعلم ذلك ، بل هو يأمر نفسه بذلك وهو جائز حسن . وفي حرف عبد الله ما يدل على أنه أمر من الله تعالى له بالعلم على معنى الزم هذا العلم لما عاينت وتيقنت ، وذلك أن في حرفه : قيل اعلم . وأيضا فإنه موافق لما قبله من الأمر في قوله انظر إلى طعامك و انظر إلى حمارك و انظر إلى العظام فكذلك واعلم أن الله وقد كان ابن عباس يقرؤها " قيل اعلم " ويقول أهو خير أم إبراهيم ؟ إذ قيل له : واعلم أن الله عزيز حكيم . فهذا يبين أنه من قول الله سبحانه له لما عاين من الإحياء .
تَنْوِيرُ ٱلْمِقْبَاسِ مِن تَفْسِيرِ ٱبْنِ عَبَّاس
Tafsir Tanwir al-Miqbas —
حضرت ابن عباسؓ
تَخيير في التشبيه على طريقة التشبيه ، وقد تقدم بيانها عند قوله تعالى : { أو كصيب من السماء } [ البقرة : 19 ] لأنّ قوله : { ألم تر إلى الذي حاجَ إبرهيم } [ البقرة : 258 ] في معنى التمثيل والتشبيه كما تقدم ، وهو مراد صاحب «الكشاف» بقوله : «ويجوز أن يحمل على المعنى دون اللفظ كأنه قيل : أرأيت كالذي حاجَّ أو كالذي مرَّ» وإذ قد قرّر بالآية قبلها ثبوت انفراد الله بالإلااهية ، وذلك أصل الإسلام ، أعقب بإثبات البعث الذي إنكاره أصل أهل الإشراك .واعلم أنّ العرب تستعمل الصيغتين في التعجّب : يقولون ألم تر إلى كذا ، ويقولون أرأيتَ مثل كذا أو ككَذا ، وقد يقال ألم تر ككذا لأنّهم يقولون لم أر كاليوم في الخير أو في الشر ، وفي الحَديث «فلم أَره كاليوم مَنْظَرا قط» ، وإذا كان ذلك يقال في الخير جاز أن يدخل عليه الاستفهام فتقول : ألم تر كاليوم في الخير والشر ، وحيث حذف الفعل المستفهَم عنه فلك أن تقدره على الوجهين ، ومال صاحب «الكشاف» إلى تقديره : أرأيتَ كالذي لأنّه الغالب في التعجّب مع كاف التشبيه .والذي مر على قريةٍ قيل هو أرْمِيَا بن حلقيا ، وقيل هو عُزَير بن شرخيا ( عزرا بن سَرَّيَّا ) . والقرية بيت المقدس في أكثر الأقوال ، والذي يظهر لي أنّه حزقيال ابن بوزي نبيء إسرائيل كان معاصراً لأرميا ودانيال وكان من جملة الذين أسرهم بختنصر إلى بابل في أوائل القرن السادس قبل المسيح ، وذلك أنه لما رأى عزم بختنصر على استئصال اليهود وجمعه آثار الهيكل ليأتي بها إلى بابل ، جمع كتب شريعة موسى وتابوتَ العهد وعصَا موسى ورماها في بئر في أورشليم خشية أن يحرقها بختنصر ، ولعله اتّخذ علامة يعرفها بها وجعلها سراً بينه وبين أنبياء زمانِه وورثتهم من الأنبياء . فلما أخرج إلى بابل بقي هنالك وكتب كتاباً في مَراءً رآها وَحْيا تدل على مصائب اليهودِ وما يرجى لهم من الخلاص ، وكان آخر ما كتبه في السنة الخامسة والعشرين بعد سبي اليهود ، ولم يعرف له خبر بعدُ كما ورد في تاريخهم ، ويظن أنّه مات أو قُتل . ومن جملة ما كتبه «أخْرَجَنِي روحُ الرب وأنزلني في وسط البقعة وهي ملآنة عظاماً كثيرة وأمّرَني عليها وإذا تلك البقعة يابسة فقال لي : أتَحيَى هذه العظامُ؟ فقلت : يا سيدي الرّب أنتَ تعلم . فقال لي : تنبأْ على هذه العظام وقل لها : أيتها العظام اليابسة اسمعي كلمة الرب قال ها أنا ذا أدخل فيكم الروح وأضع عليكم عصباً وأكسوكم لحماً وجلداً . فتنبأت ، كما أمرني فتقاربتْ العظام كل عظم إلى عطمه ، ونظرت وإذا باللحم والعصب كساها وبسط الجلد عليها من فوق ودخل فيهم الروح فحيُوا وقاموا على أقدامهم جيش عظيم جداً» .ولما كانت رؤيا الأنبياء وحيا فلا شكّ أن الله لما أعاد عُمران أورشليم في عهد عزرا النبي في حدود سنة450 قبل المسيح أحيا النبي حزقيال عليه السلام ليرى مصداق نبوته ، وأراه إحياء العظام ، وأراه آية في طعامه وشرابه وحماره وهذه مخاطبة بين الخالق وبعض أصفيائه على طريق المعجزة وجعل خبره آية للناس من أهل الإيمان الذين يوقنون بما أخبرهم الله تعالى ، أو لقوم أطلعهم الله على ذلك من أصفيائه ، أو لأهل القرية التي كان فيها وفُقِد من بينهم فجاءهم بعد مائة سنة وتحققه من يعرفه بصفاته ، فيكون قوله تعالى : { مرّ على قرية } إشارة إلى قوله : «أخرجني روح الرب وأمّرني عليها» . فقوله : { قال أنَّى يحيي هذه الله } إشارة إلى قوله أتحيي هذه العظام فقلت يا سيدي أنت تعلم لأنّ كلامه هذا ينبىء باستبعاد إحيائها ، ويكون قوله تعالى : { فأماته الله مائة عام } إلخ مما زاده القرآن من البيان على ما في كتب اليهود لأنّهم كتبوها بعد مرور أزمنة ، ويظن من هنا أنّه مات في حدود سنة 560 قبل المسيح ، وكان تجديد أورشليم في حدود 458 فتلك مائة سنة تقريباً ، ويكون قوله : { وانظر إلى العظام كيف ننشرها ثم نكسوها لحمَا } تذكرة له بتلك النبوءة وهي تجديد مدينة إسرائيل .وقوله : { وهي خاوية على عروشها } الخاوية : الفارغة من السكان والبناء . والعروش جمع عرش وهو السقف . والظرف مستقرٌ في موضع الحال ، والمعنى أنّها خاوية ساقطة على سقفها وذلك أشدّ الخراب لأنّ أول ما يسقط من البناء السُقُف ثم تسقط الجدران على تلك السُقُف . والقرية هي بيت المقدس رآها في نومه كذلك أو رآها حين خربها رسل بختنصر ، والظاهر الأول لأنّه كان ممن سُبي مع ( يهويا قيم ) ملككِ إسرائيل وهو لم يقع التخريب في زمنه بل وقع رفي زمن ( صدقيا ) أخيه بعد إحدى عشرة سنة .وقوله : { أنّى يحيي هذه الله بعد موتها } استفهامُ إنكار واستبعاد ، وقوله : { فأماته الله } التعقيب فيه بحسب المعقب فلا يلزم أن يكون أماته في وقت قوله : { أنَّى يحيي هذه الله } . وقد قيل : إنّه نام فأماته الله في نومه .وقوله : { ثم بعثه } أي أحياه وهي حياة خاصة ردّت بها روحه إلى جسده؛ لأنّ جسده لم يبلَ كسائر الأنبياء ، وهذا بعث خارق للعادة وهو غير بعث الحشر .وقوله : { لبثت يوماً أو بعض يوم } اعتقد ذلك بعلم أودعه الله فيه أو لأنّه تذكر أنّه نام في أول النهار ووجد الوقت الذي أفاق فيه آخر نهار .وقوله : { فانظر إلى طعامك } تفريع على قوله : { لبثت مائة عام } . والأمرُ بالنظر أمر للاعتبار أي فانظُره في حال أنّه لم يتسنه ، والظاهر أنّ الطعام والشراب كانا معه حين أميت أو كانا موضوعين في قبره إذا كان من أمة أو في بلد يضعون الطعام للموتى المكرّمين كما يفعل المصريون القدماء ، أو كان معه طعام حين خرج فأماته الله في نومه كما قيل ذلك .ومعنى { لم يتسنه } لم يتغيّر ، وأصله مشتق من السَّنَة لأنّ مر السنين يوجب التغيّر وهو مثل تحجَّرَ الطين ، والهاء أصلية لا هاء سكت ، وربما عاملوا هَاء سنة معاملة التاء في الاشتقاق فقالوا أسنت فلان إذا أصابته سنة أي مجاعة ، قال مطرود الخزاعي ، أو ابن الزبعري: ... عَمْرُو الذي هشَم الثريدَ لقومِهقوممٍ بمَكَة مُسنتين عجافِ ... وقوله : { وانظر إلى حمارك } قيل : كان حماره قد بلي فلم تبق إلاّ عظامه فأحياه الله أمامه . ولم يؤت مع قوله : { وانظر إلى حمارك } بذكر الحالة التي هي محل الاعتبار لأنّ مجرد النظر إليه كاف ، فٌّءّه رآه عظاماً ثم رآه حيا ، ولعلّه هلك فبقي بتلك الساحة التي كان فيها حزقيال بعيداً عن العُمران ، وقد جمع الله له أنواع الإحياء إذْ أحيى جسده بنفخ الروح عن غير إعادة وأحيى طعامه بحفظه من التغيّر وأحيى حماره بالإعادة فكان آية عظيمة للناس الموقنين بذلك ، ولعلّ الله أطْلَع على ذلك الإحياءِ بعض الأحياء من أصفيائه .فقوله : { ولنجعلك آية } معطوف على مقدر دل عليه قوله { فانظر إلى طعامك } وانظر إلى حمارك؛ فإن الأمر فيه للاعتبار لأنّه ناظر إلى ذلك لا محالة ، والمقصود اعتباره في استبعاده أن يُحيي الله القرية بعد موتها ، فكان من قوة الكلام انظر إلى ما ذكر جعلناه آية لك على البعث وجعلناك آية للناس لأنّهم لم يروا طعامه وشرابَه وحماره ، ولكن رأوا ذاته وتحققّوه بصفاته . ثم قال له : وانظر إلى العظام كيف ننشرها ، والظاهر أنّ المراد عظام بعض الآدميين الذين هلكوا ، أو أراد عظام الحمار فتكون ( أل ) عوضاً عن المضاف إليه فيكون قوله إلى العظام في قوة البدل من حمارك إلاّ أنّه برز فيه العامل المنويّ تكريرُه .وقرأ جمهور العشرة { نُنْشِرها } بالرّاء مضارع أنْشَر الرباعي بمعنى الإحياء . وقرأه ابن عامر وحمزة وعاصم والكسائي وخلف : { نُنشِزها } بالزاي مضارع أنشزه إذا رفعه ، والنشز الارتفاع ، والمراد ارتفاعها حين تغلظ بإحاطة العصب واللحم والدم بها فحصل من القراءتين معنيان لكملة واحدة ، وفي كتاب ( حزقيال ) «فتقاربت العِظام كل عظم إلى عظمه ، ونظرتُ وإذا بالعصب واللحم كساها وبسط الجلد عليها» .وقوله : { قال أعلم أن الله على كل شيء قدير } قرأ الجمهور أعلم بهمزة قطع على أنّه مضارع عَلم فيكون جوابَ الذي مر على قرية عن قول الله له { فانظر إلى طعامك } الآية ، وجاء بالمضارع ليدل على ما في كلام هذا النبي من الدلالة على تجدد علمه بذلك لأنه عَلمِه في قبلُ وتجدد علمه إياه . وقرأه حمزة والكسائي بهمزة وصل على أنه من كلام الله تعالى ، وكان الظاهر أن يكون معطوفاً على { فانظر إلى طعامك } لكنّه ترك عطفه لأنّه جُعل كالنتيجة للاستدلال بقوله : { فانظر إلى طعامك وشرابك } الآية .
ٱلتَّفْسِيرُ ٱلْوَسِيط
Tafsir Al-Waseet —
علمائے جامعہ ازہر
ثم ساتق السورة الكريمة قصتين تدلان أبلغ دلالة على قدرة الله - تعالى - وعلى صحة البعث والنشور استمع إلى القرآن استمع إلى القرآن وهو يحكي هاتين القصتين بأسلوبه البليغ فيقول :( أَوْ كالذي مَرَّ على قَرْيَةٍ . . . )قال الآلوسي ما ملخصه : قوله : ( أَوْ كالذي مَرَّ على قَرْيَةٍ ) معطوف على سابقه - وهو قوله : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الذي حَآجَّ ) والكاف اسمية بمعنى مثل معمولة لا رأيت محذوفاً . أي أو أرأيت مثل الذي مر على قرية . . وحذف لدلالة ( أَلَمْ تَرَ ) عليه . وقيل : إن الكاف زائدة والتقدير : ألأم تر إلى الذي حاج إبراهيم أو الذي مر على قرية . . وقيل : إن العطف هنا محمول على المعنى كأنه قيل : أرأيت شيئاً عجيباً - كالذي حاج إبراهيم في ربه ، أو كالذي مر على قرية " .والذي ( مَرَّ على قَرْيَةٍ ) قيل هو عزير بن شرخيا ، وقيل حزقيال بن بوزي وقيل غير ذلك ، والقرية قيل المراد بها بيت المقدس وكان قد خربها " بختنصر " البابلي . . والقرآن الكريم لم يهتم بتحديد الأشخاص والأماكن لأنه يقصد العبرة وبيان الحال والشأن . وجملة ( وَهِيَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا ) في موضع الحال من الضمير المستتر في ( مَرَّ ) والواو رابطة بين الجملة الحالية وبين صاحبها والإِتيان بها واجب لخلو الجملة من ضمير يعود على صاحبها وقيل هي حال من قرية ، وسوغ إتيان الحال منها مع كونها نكرة وقوعها بعد الاستفهام المقدر وهو أرأيت ومعنى ( وَهِيَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا ) أن جدرانها ساطقة على سقوفها ، أي أن الخراب قد عمها والدمار قد نزل بها ، فأصبحت خالية من أهلها وفارغة ممن كان يعمرها وأصل الخواء الخلو . يقال خوت الدار وخربت تخوى خواء إذا سقطت وخلت .والعروش جمع عرش وهو سقف البيت ويسمى العريش ، وكل شيء يهيأ ليظل أو يكنّ فهو عريش وعرش .وقوله - تعالى - : ( قَالَ أنى يُحْيِي هذه الله بَعْدَ مَوْتِهَا ) حكاية لما قاله ذلك الذي مر على تلك القرية ورأى فيها ما رأى من مظاهر الخراب والدمار والمعنى : أو أرأيت مثل الذي مر على قرية وهي ساقطة حياطانها على سقوفها ، وفارغة ممن كان يسكنها ، فهاله أمرها ، وراعه شأنها ، وقال على سبيل التعجب كيف يحيى الله هذه القرية بعد موتها ، بأن يعيد إليها العمران بعد الخراب ، ويجعلها عامرة بسكانها الذي خلت منهم . فقوله : ( قَالَ أنى يُحْيِي هذه ) بمعنى كيف فتكون منصوبة على الحالية من اسم الإِشارة ويجوز أن تكون ( أنى ) هنا بمعنى متى أي : متى يحيى الله هذه القرية بعد موتها فتكون منصوبة على الظرفية .وقال القرطبي : قوله ( قَالَ أنى يُحْيِي هذه الله بَعْدَ مَوْتِهَا ) معناه من أي طريق وبأي سبب ، وظاهر اللفظ السؤال عن إحياء القرية بعمارة وسكان ، كما يقال الآن في المدن الخربة يبعد أن تعمر وتسكن أي : أنى تعمر هذه بعد خرابها . فكأن هذا تلهف من الواقف المعتبر على مدينته التي عهد فيها أهله وأحبته " .وقوله هذا إنما هو تساؤل عن كيفية الإِعادة لا عن أصل الإِعادة لأنه كان مؤمنا بالبعث والنشور ، إلا أنه لما رأى حال القرية على تلك الصورة من الخراب تعجب من قدرة الله على إحيائها ، وتشوق إلى عمارتها واعترف بالعجو عن معرفة طريق الإِحياء . فماذا كانت نتيجة هذا التساؤل؟ كانت نتيجته كما حكاها القرآن : ( فَأَمَاتَهُ الله مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ) .أي : بعد أن قال هذا الذي مر على تلك القرية الخاوية على عروشها ما قال ، ألبثه الله - تعالى - في الموت مائة عام ( ثُمَّ بَعَثَهُ ) أي أحياه ببعث روحه إلى بدنه ( قَالَ كَمْ لَبِثْتَ ) أي كم مدة من الزمان لبتثها على هذه الحال؟ ( قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ) .وقال - سبحانه - : ( فَأَمَاتَهُ الله مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ ) ولم يقل ثم أحياه ، للدلالة على أنه عاد كهيئته يوم مات عاقلا فاهما مستعدا للنظر والاستدلال وكان ذلك بعد عمارة القرية وللإِشهار بسرعته وسهولة تأتيه على الباري - سبحانه - .قال ابن كثير : كان أول شيء أحيا الله فيه عينيه لينظر بهما إلى صنع الله فيه كيف يحيى بدنه فلما استقل سوياً قال الله له بواسطة الملك ( كَمْ لَبِثْتَ ) ؟ ( قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ) وذلك أنه مات أول النهار ثم بعثه الله في آخر النهار فلما رأى الشمس باقية ظن أنها شمس ذلك اليوم فقال : ( أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ) .وقوله : ( قَالَ كَمْ لَبِثْتَ ) استئناف مبنى على سؤال كأنه قيل : فماذا قال له بعد بعثه؟فقيل : قال كم لبثت ليظهر له العجز عن الإِحاطة بشئون الله - تعالى - على أتم وجه وتنحسم مادة استبعاده بالمرة .وكم منصوبة على الظرفية ومميزها محذوف والتقدير كم يوما أو وقتا والناصب لها قوله : ( لَبِثْتُ ) .وفي هذه الجملة الكريمة بيان للناس بأن الموت يشبه النوم ، وأن البعث يشبه اليقظة بعده وأنه لا شيء محال على الله - تعالى - فهو القائل : ( مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ ) وفي الحديث الشريف : " والله لتموتن كما تنامون ولتبعثن كما تستيقظون ولتحاسبن بما تعملون ، ولتجزون بالإِحسان إحسانا وبالسوء سوءا ، وإنها لجنة أبدا ، أو لنار أبدا " .وقوله - تعالى - : ( قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ ) معطوف على مقدر ، أي : ليس الأمر كما قلت إنك لبثت يوما أو بعض يوم بل إنك لبثت مائة عام ثم أرشده - سبحانه - إلى التأمل في أمور فبها أبلغ دلالة على قدرة الله تعالى وعلى صحة البعث فقال - سبحانه - : ( فانظر إلى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وانظر إلى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وانظر إِلَى العظام كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً ) .قوله : ( لَمْ يَتَسَنَّهْ ) أي لم يتغير بمرور السنين الطويلة ولم تذهب طراوته فكأنه لم تمر عليه السنون ولفظ يتسنه : مشتق من السنة ، والهاء فيه أصلية إذا قدر لام سنة هام ، وأصلها سنهة لتصغيرها على سنيهة وجمعها على سنهات كسجدة وسجدات ، ولقولهم : سانهته إذا عاملته سنة فسنة ، وتسنه عند القوم إذا أقام فيهم سنة . أو الهاء للوقف نحو كتابيه وجزمه بحذف حرف العلة إذا قدر لام سنة واوا ، وأصلها سنوه لتصغيرها على سنية وجمعها على سنوات .وقوله : ( نُنْشِزُهَا ) أي نرفعها . يقال : أنشز الشيء إذا رفعه من مكانه . وأصله من النشز - بفتحتين وبالسكون - وهو الكان المرتفع . وقرئ ( نُنْشِزُهَا ) - بضم النون والراء - أي نحييها من أنشر الله الموتى أي أحياهم . والمعنى : قال الله - تعالى - لهذا الذي مر على قرية وهي خاوية على غروشها إنك لم تلبث يوما أو بعض يوم في الموت كما تظن بل لبثت مائة عام فإن كنت في شك من ذلك فانظر إلى طعامك وشرابك لتشاهد أمرا آخر من دلائل قدرتنا فإن هذا الطعام والشراب كما ترى لم يتغير بمرور السنين وكر الأعوام بل بقي على حالته . وانظر إلى حمارك كيف نخرت عظامه ، وتفرقت أوصاله مما يشهد بأنه قد مرت عليه السنوات الطويلة .وقوله : ( وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ ) معطوف على محذوف متعلق بفعل مقدر قبله بطريق الاستئناف مقرر لمضمون ما سبق ، والتقدير : فعلنا ما فعلنا لترى وتشاهد بنفسك مظاهر قدرة الله ، ولنجعلك آية معجزة ودليلا على صحة البعث وقوله : ( وانظر إِلَى العظام كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً ) أي انظر وتأمل في هذا العظام كيف نركب بعضها في بعض بعد أن نوجدها .وقيل المعنى : وانظر إلى العظام أي عظام حمارك التي تفرقت وتناثرت لتشاهد كيف نرفعها من الأرض فنردها إلى أماكنها في جسده .قال ابن كثير : قال السدي وغيره : " تفرقت عظام حماره يمينا وشمالا حوله فنظر إليها وهي تلوح من بياضها ، فبعث الله ريحا فجمعتها من كل موضع ، ثم ربك كل عظم في موضعه ، وذلك كله بمرأى من العزير " .وجاء الضمير في قوله : ( لَمْ يَتَسَنَّهْ ) بالإِفراد مع أن المتقدم طعام وشراب ، لأنهما متلازمان بمعننى أن أحدهما لا يكتفى به عن الآخر فصارا بمنزلة شيء واحد ، فكأنه قال : انظر إلى غذائك .ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : ( فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) أي فلما تبين له بالأدلة الناصعة ، وبالمشاهدة الحسية قدرة الله - تعالى - على الإِحياء والإِماتة ، وعلى البعث والنشور قال أعلم أي أستيقن وأومن وأعتقد أن الله - تعالى - على كل شيء قدير ، وأنه - سبحانه - لا يعجزه شيء .والفاء في قوله : ( فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ . . . ) عاطفة على مقدر يستدعيه المقام فكأنه قيل : رفع الله العظام من أماكنها وأكساها لحما فلما تبين له ذلك ، وتيقنه قال أعلم أن الله على كل شيء قدير . وفاعل ( تَبَيَّنَ ) مضمر يفسره سياق الكلام والتقدير : فلما تبين له كيفية الإِحياء أو فلما تبين له ما أشكل عليه من أمر إحياء الموتى قال أعلم أن الله على كل شيء قدير .
تَفْسِيرُ ٱلْبَغَوِيِّ
Tafsir al-Baghawi —
علامہ بغوی
قوله تعالى : ( أو كالذي مر على قرية ) وهذه الآية منسوقة على الآية الأولى تقديره ( ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم ) وإلى الذي مر على قرية وقيل : تقديره : هل رأيت الذي حاج إبراهيم في ربه وهل رأيت الذي مر على قرية؟ واختلفوا في ذلك المار فقال قتادة وعكرمة والضحاك : هو عزير بن شرخيا ، وقال وهب بن منبه : هو أرميا بن حلقيا ، وكان من سبط هارون وهو الخضر وقال مجاهد : هو كافر شك في البعث واختلفوا في تلك القرية فقال وهب وعكرمة وقتادة : هي بيت المقدس ، وقال الضحاك : هي الأرض المقدسة وقال الكلبي : هي دير سابر أباد ، وقال السدي : مسلم باذ ، وقيل دير هرقل وقيل : هي الأرض التي أهلك الله فيها الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف وقيل : هي قرية العنب وهي على فرسخين من بيت المقدس ( وهي خاوية ) ساقطة يقال : خوي البيت بكسر الواو يخوي خوى مقصورا إذا سقط وخوى البيت بالفتح خواء ممدودا إذا خلا ( على عروشها ) سقوفها واحدها عرش وقيل : كل بناء عرش ومعناه : أن السقوف سقطت ثم وقعت الحيطان عليها .( قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها ) وكان السبب في ذلك على ما روى محمد بن إسحاق بن منبه أن الله تعالى بعث إرمياء إلى ناشية بن أموص ملك بني إسرائيل يسدده في ذلك ويأتيه بالخبر من الله عز وجل فعظمت الأحداث في بني إسرائيل وركبوا المعاصي فأوحى الله تعالى إلى إرمياء : أن ذكر قومك نعمي وعرفهم أحداثهم وادعهم إلي فقال إرمياء إني ضعيف إن لم تقوني عاجز إن لم تبلغني مخذول إن لم تنصرني فقال الله عز وجل : أنا ألهمك فقام إرمياء فيهم ولم يدر ما يقول فألهمه الله في الوقت خطبة بليغة طويلة بين لهم فيها ثواب الطاعة وعقاب المعصية وقال في آخرها عن الله تعالى : وإني أحلف بعزتي لأقيضن لهم فتنة يتحير فيها الحكيم ولأسلطن عليهم جبارا فارسيا ألبسه الهيبة وأنزع من صدره الرحمة يتبعه عدد مثل سواد الليل المظلم ثم أوحى الله إلى إرمياء إني مهلك بني إسرائيل بيافث ويافث من أهل بابل وهم من ولد يافث بن نوح عليه السلام فلما سمع إرمياء ذلك صاح وبكى وشق ثيابه ونبذ الرماد على رأسه فلما سمع الله تضرعه وبكاءه ناداه : يا أرمياء أشق عليك ما أوحيت إليك قال : نعم يا رب أهلكني قبل أن أرى في بني إسرائيل ما لا أسر به فقال الله تعالى : وعزتي لا أهلك بني إسرائيل حتى يكون الأمر في ذلك من قبلك ففرح إرمياء بذلك وطابت نفسه فقال : لا والذي بعث موسى بالحق لا أرضى بهلاك بني إسرائيل ، ثم أتى الملك فأخبره بذلك وكان ملكا صالحا فاستبشر وفرح فقال : إن يعذبنا ربنا فبذنوب كثيرة وإن عفا عنا فبرحمته .ثم إنهم لبثوا بعد الوحي ثلاث سنين لم يزدادوا إلا معصية وتماديا في الشر وذلك حين اقترب هلاكهم فقل الوحي ودعاهم الملك إلى التوبة فلم يفعلوا فسلط الله عليهم بختنصر فخرج في ستمائة ألف راية يريد أهل بيت المقدس ، فلما فصل سائرا أتى الملك الخبر فقال لإرمياء : أين ما زعمت أن الله أوحى إليك؟ فقال إرمياء : إن الله لا يخلف الميعاد وأنا به واثق ، فلما قرب الأجل بعث الله إلى إرمياء ملكا قد تمثل له رجلا من بني إسرائيل فقال له إرمياء : من أنت؟ قال : أنا رجل من بني إسرائيل أتيتك أستفتيك في أهل رحمي وصلت أرحامهم ولم آت إليهم إلا حسنا ولا يزيدهم إكرامي إياهم إلا إسخاطا لي فأفتني فيهم قال : أحسن فيما بينك وبين الله وصلهم وأبشر بخير . فانصرف الملك فمكث أياما ثم أقبل إليه في صورة ذلك الرجل فقعد بين يديه فقال : أنا الذي أتيتك في شأن أهلي فقال له إرمياء : أما طهرت أخلاقهم لك بعد؟ قال : يا نبي الله والذي بعثك بالحق ما أعلم كرامة يأتيها أحد من الناس إلا رحمة إلا قدمتها إليهم وأفضل فقال له النبي إرمياء عليه السلام : ارجع فأحسن إليهم اسأل الله الذي يصلح عباده الصالحين أن يصلحهم فقام الملك فمكث أياما وقد نزل بختنصر وجنوده حول بيت المقدس بأكثر من الجراد ففزع منهم بنو إسرائيل فقال ملكهم لإرمياء : يا نبي الله أين ما وعدك الله؟ قال : إني بربي واثق ثم أقبل الملك إلى إرمياء وهو قاعد على جدار بيت المقدس يضحك ويستبشر بنصر ربه عز وجل الذي وعده فقعد بين يديه فقال : أنا الذي أتيتك في شأن أهلي مرتين فقال النبي : ألم يأن لهم أن يفيقوا من الذي هم فيه؟ فقال الملك : يا نبي الله كل شيء كان يصيبني منهم قبل اليوم كنت أصبر عليه فاليوم رأيتهم في عمل لا يرضي الله : فقال النبي : على أي عمل رأيتهم؟ قال : على عمل عظيم من سخط الله فغضب الله وأتيتك لأخبرك وإني أسألك بالله الذي بعثك بالحق نبيا إلا ما دعوت الله عليهم ليهلكهم فقال إرمياء : يا مالك السماوات والأرض إن كانوا على حق وصواب فأبقهم وإن كانوا على عمل لا ترضاه فأهلكهم فلما خرجت الكلمة من فم إرمياء أرسل الله صاعقة من السماء في بيت المقدس فالتهب مكان القربان وخسف بسبعة أبواب من أبوابها فلما رأى ذلك إرمياء صاح وشق ثيابه ونبذ الرماد على رأسه وقال : يا مالك السماوات أين ميعادك الذي وعدتني؟ فنودي أنه لم يصبهم ما أصابهم إلا بفتياك ودعائك فاستيقن النبي عليه السلام أنها فتياه وأن ذلك السائل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فطار إرمياء حتى خالط الوحوش .ودخل بختنصر وجنوده بيت المقدس ووطئ الشام وقتل بني إسرائيل حتى أفناهم وخرب بيت المقدس ، ثم أمر جنوده أن يملأ كل رجل منهم ترسه ترابا فيقذفه في بيت المقدس ، ففعلوا حتى ملئوه ثم أمرهم أن يجمعوا من كان في بلدان بيت المقدس فاجتمع عندهم صغيرهم وكبيرهم من بني إسرائيل ، فاختار منهم سبعين ألف صبي فقسمهم بين الملوك الذين كانوا معه فأصاب كل رجل منهم أربعة غلمة وكان من أولئك الغلمان دانيال وحنانيا وفرق من بقي من بني إسرائيل ثلاث فرق فثلثا قتلهم وثلثا سباهم وثلثا أقرهم بالشام ، وكانت هذه الواقعة الأولى التي أنزلها الله في بني إسرائيل بظلمهم فلما ولى عنهم بختنصر راجعا إلى بابل ومعه سبايا بني إسرائيل أقبل إرمياء على حمار له معه عصير عنب في ركوة وسلة تين حتى غشى إيلياء فلما وقف عليها ورأى خرابها قال : ( أنى يحيي هذه الله بعد موتها ) .وقال الذي قال إن المار كان عزيرا : وإن بختنصر لما خرب بيت المقدس وقدم بسبي بني إسرائيل ببابل كان فيهم عزير ودانيال وسبعة آلاف من أهل بيت داود فلما نجا عزير من بابل ارتحل على حمار له حتى نزل دير هرقل على شط دجلة فطاف في القرية فلم ير فيها أحدا وعامة شجرها حامل فأكل من الفاكهة واعتصر من العنب فشرب منه وجعل فضل الفاكهة في سلة وفضل العصير في زق فلما رأى خراب القرية وهلاك أهلها قال : ( أنى يحيي هذه الله بعد موتها ) قالها تعجبا لا شكا في البعث .رجعنا إلى حديث وهب قال : ثم ربط إرمياء حماره بحبل جديد فألقى الله تعالى عليه النوم فلما نام نزع الله منه الروح مائة عام وأمات حماره وعصيره وتينه عنده فأعمى الله عنه العيون فلم يره أحد وذلك ضحى ومنع الله السباع والطير لحمه فلما مضى من موته سبعون سنة أرسل الله ملكا إلى ملك من ملوك فارس يقال له نوشك فقال : إن الله يأمرك أن تنفر بقومك فتعمر بيت المقدس وإيلياء حتى يعود أعمر ما كان فانتدب الملك بألف قهرمان مع كل قهرمان ثلاثمائة ألف عامل وجعلوا يعمرونه فأهلك الله بختنصر ببعوضة دخلت دماغه ونجى الله من بقي من بني إسرائيل ، ولم يمت ببابل وردهم جميعا إلى بيت المقدس ونواحيه وعمروها ثلاثين سنة وكثروا حتى عادوا على أحسن ما كانوا عليه فلما مضت المائة أحيا الله منه عينيه وسائر جسده ميت ثم أحيا جسده وهو ينظر إليه ثم نظر إلى حماره فإذا عظامه متفرقة بيض تلوح فسمع صوتا من السماء : أيتها العظام البالية إن الله يأمرك أن تجتمعي فاجتمع بعضها إلى بعض واتصل بعضها ببعض ثم نودي أن الله يأمرك أن تكتسي لحما وجلدا فكانت كذلك ثم نودي : إن الله يأمرك أن تحيا فقام بإذن الله ونهق وعمر الله إرمياء فهو الذي يرى في الفلوات فذلك قوله تعالى : ( فأماته الله مائة عام ثم بعثه ) أي أحياه ( قال كم لبثت ) أي : كم مكثت؟ يقال : لما أحياه الله بعث إليه ملكا فسأله كم لبثت؟ ( قال لبثت يوما ) وذلك أن الله تعالى أماته ضحى في أول النهار وأحياه بعد مائة عام في آخر النهار قبل غيبوبة الشمس فقال : لبثت يوما وهو يرى أن الشمس قد غربت ثم التفت فرأى بقية من الشمس فقال ( أو بعض يوم ) بل بعض يوم ( قال ) الملك ( بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك ) يعني التين ( وشرابك ) يعني العصير ( لم يتسنه ) أي لم يتغير فكان التين كأنه قطف في ساعته والعصير كأنه عصر في ساعته .قال الكسائي : كأنه لم تأت عليه السنون . وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب لم يتسن بحذف الهاء في الوصل وكذلك " فبهداهم اقتده " ( 90 - الأنعام ) وقرأ الآخرون بالهاء فيهما وصلا ووقفا فمن أسقط الهاء في الوصل جعل الهاء صلة زائدة وقال : أصله يتسنى فحذف الياء بالجزم وأبدل منه هاء في الوقف وقال أبو عمرو : هو من التسنن بنونين : وهو التغير كقوله تعالى : " من حمإ مسنون " ( 26 - الحج ) أي متغير فعوضت من إحدى النونين ياء كقوله تعالى : " ثم ذهب إلى أهله يتمطى " ( 33 - القيامة ) أي يتمطط وكقوله " وقد خاب من دساها " ( 10 - الشمس ) وأصله دسيتها ومن أثبت الهاء في الحالين جعل الهاء أصلية لام الفعل وهذا على قول من جعل أصل السنة السنهة وتصغيرها سنيهة والفعل من السانهة وإنما قال : لم يتسنه ولم يثنه مع أنه أخبر عن شيئين رد التغيير إلى أقرب اللفظين وهو الشراب واكتفى بذكر أحد المذكورين لأنه في معنى الآخر ( وانظر إلى حمارك ) فنظر فإذا هو عظام بيض فركب الله تعالى العظام بعضها على بعض فكساه اللحم والجلد وأحياه وهو ينظر ( ولنجعله آية للناس ) قيل الواو زائدة مقحمة . وقال الفراء أدخلت الواو فيه دلالة على أنها شرط لفعل بعدها معناه ولنجعلك آية أي : عبرة ودلالة على البعث بعد الموت قاله أكثر المفسرين وقال الضحاك وغيره : إنه عاد إلى قريته شابا وأولاده وأولاد أولاده شيوخ وعجائز وهو أسود الرأس واللحية .قوله تعالى : ( وانظر إلى العظام كيف ننشزها ) قرأ أهل الحجاز والبصرة ننشرها بالراء معناه نحييها يقال : أنشر الله الميت إنشارا ونشرة ونشورا قال الله تعالى : " ثم إذا شاء أنشره " ( 22 - عبس ) وقال في اللازم " وإليه النشور " ( 15 - الملك ) وقرأ الآخرون بالزاي أي نرفعها من الأرض ونردها إلى مكانها من الجسد ونركب بعضها على بعض وإنشاز الشيء رفعه وإزعاجه يقال : أنشزته فنشز أي رفعته فارتفع .واختلفوا في معنى الآية فقال الأكثرون : أراد به عظام حماره وقال السدي : إن الله تعالى أحيا عزيرا ثم قال له : انظر إلى حمارك قد هلك وبليت عظامه فبعث الله تعالى ريحا فجاءت بعظام الحمار من كل سهل وجبل وقد ذهبت بها الطير والسباع فاجتمعت فركب بعضها في بعض وهو ينظر فصار حمارا من عظام ليس فيها لحم ولا دم ( ثم نكسوها لحما ) ثم كسا العظام لحما ودما فصار حمارا لا روح فيه ثم أقبل ملك يمشي حتى أخذ بمنخر الحمار فنفخ فيه فقام الحمار ونهق بإذن الله .وقال قوم أراد به عظام هذا الرجل وذلك أن الله تعالى لم يمت حماره بل أماته هو فأحيا الله عينيه ورأسه وسائر جسده ميت ثم قال : انظر إلى حمارك فنظر فرأى حماره قائما واقفا كهيئته يوم ربطه حيا لم يطعم ولم يشرب مائة عام ونظر إلى الرمة في عنقه جديدة لم تتغير وتقدير الآية : ( وانظر إلى حمارك ) وانظر إلى عظامك كيف ننشزها وفي الآية تقديم وتأخير وتقديرهما : وانظر إلى حمارك وانظر إلى العظام كيف ننشزها ولنجعلك آية للناس .وقال قتادة عن كعب والضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما والسدي عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما : لما أحيا الله تعالى عزيرا بعد ما أماته مائة سنة ركب حماره حتى أتى محلته فأنكره الناس وأنكر الناس ومنازله فانطلق على وهم حتى أتى منزله فإذا هو بعجوز عمياء مقعدة قد أتى عليها مائة وعشرون سنة كانت عرفته وعقلته فقال لها عزير : يا هذه هذا منزل عزير؟ قالت : نعم هذا منزل عزير وبكت وقالت : ما رأيت أحدا من كذا وكذا سنة يذكر عزيرا قال : فإني أنا عزير قالت : سبحان الله فإن عزيرا قد فقدناه من مائة سنة لم نسمع له بذكر قال : فإني أنا عزير كان الله أماتني مائة سنة ثم بعثني قالت : فإن عزيرا كان رجلا مستجاب الدعوة ويدعو للمريض ولصاحب البلاء بالعافية فادع الله أن يرد لي بصري حتى أراك فإن كنت عزيرا عرفتك فدعا ربه ومسح بيده على عينيها فصحتا وأخذ بيدها وقال : قومي بإذن الله تعالى فأطلق الله رجليها فقامت صحيحة فنظرت إليه فقالت : أشهد أنك عزير فانطلقت إلى بني إسرائيل وهم في أنديتهم ومجالسهم وابن لعزير شيخ كبير ابن مائة سنة وثماني عشرة سنة وبنو بنيه شيوخ في المجلس فنادت هذا عزير قد جاءكم ، فكذبوها فقالت : أنا فلانة مولاتكم دعا لي ربه فرد علي بصري وأطلق رجلي وزعم أن الله كان أماته مائة سنة ثم بعثه فنهض الناس فأقبلوا إليه فقال ولده : كان لأبي شامة سوداء مثل الهلال بين كتفيه فكشف عن كتفيه فإذا هو عزير .وقال السدي والكلبي : لما رجع عزير إلى قومه وقد أحرق بختنصر التوراة ولم يكن من الله عهد بين الخلق فبكى عزير على التوراة فأتاه ملك بإناء فيه ماء فسقاه من ذلك الماء فمثلت التوراة في صدره فرجع إلى بني إسرائيل وقد علمه الله التوراة وبعثه نبيا فقال : أنا عزير فلم يصدقوه فقال : إني عزير قد بعثني الله إليكم لأجدد لكم توراتكم قالوا : أملها علينا فأملاها عليهم عن ظهر قلبه فقالوا : ما جعل الله التوراة في صدر رجل بعدما ذهبت إلا أنه ابنه فقالوا : عزير ابن الله وستأتي القصة في سورة ( براءة ) إن شاء الله تعالى .قوله تعالى : ( فلما تبين له ) ذلك عيانا ( قال أعلم ) قرأ حمزة والكسائي مجزوما موصولا على الأمر على معنى قال الله تعالى له اعلم وقرأ الآخرون " أعلم " بقطع الألف ورفع الميم على الخبر عن عزير أنه قال لما رأى ذلك أعلم ( أن الله على كل شيء قدير )