تَفْسِيرُ ٱلْمُيَسَّر
Tafsir Al-Muyassar —
کنگ فہد قرآن کمپلیکس
لست -أيها الرسول- مسئولا عن توفيق الكافرين للهداية، ولكن الله يشرح صدور مَن يشاء لدينه، ويوفقه له. وما تبذلوا من مال يَعُدْ عليكم نَفْعُه من الله، والمؤمنون لا ينفقون إلا طلبًا لمرضاة الله. وما تنفقوا من مال -مخلصين لله- توفوا ثوابه، ولا تُنْقَصُوا شيئا من ذلك. وفي الآية إثبات صفة الوجه لله تعالى على ما يليق به سبحانه.
تَفْسِيرُ ٱلْجَلَالَيْنِ
Tafsir al-Jalalayn —
جلال الدین محلی اور جلال الدین سیوطی
ولما منع صلى الله عليه وسلم من التصدق على المشركين ليسلموا نزل: «ليس عليك هداهم» أي الناس إلى الدخول في الإسلام إنما عليك البلاغ «ولكن الله يهدي من يشاء» هدايته إلى الدخول فيه «وما تنفقوا من خير» مال «فلأنفسكم» لأن ثوابه لها «وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله» أي ثوابه لاغيره من أعراض الدنيا خبر بمعنى النهي «وما تنفقوا من خير يوفَّ إليكم» جزاؤه «وأنتم لا تُظلمون» تنقصون منه شيئاً والجملتان تأكيد للأولى.
تَفْسِيرُ ٱلْقُرْطُبِيِّ
Tafsir al-Qurtubi —
علامہ قرطبی
قوله تعالى : ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمونقوله تعالى : ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء فيه ثلاث مسائل :الأولى : قوله تعالى : ليس عليك هداهم هذا الكلام متصل بذكر الصدقات ، فكأنه بين فيه جواز الصدقة على المشركين . روى سعيد بن جبير مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم في سبب نزول هذه الآية أن المسلمين كانوا يتصدقون على فقراء أهل الذمة ، فلما كثر فقراء المسلمين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تتصدقوا إلا على أهل دينكم . فنزلت هذه الآية مبيحة للصدقة على من ليس من دين الإسلام . وذكر النقاش أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بصدقات فجاءه يهودي فقال : أعطني . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ليس لك من صدقة المسلمين شيء . فذهب اليهودي غير بعيد فنزلت : ليس عليك هداهم فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه ، ثم نسخ الله ذلك بآية الصدقات . وروى ابن عباس أنه قال : كان ناس من الأنصار لهم قرابات من بني قريظة والنضير ، وكانوا لا يتصدقون عليهم رغبة منهم في أن يسلموا إذا احتاجوا ، فنزلت الآية بسبب أولئك . وحكى بعض المفسرين أن أسماء ابنة أبي بكر الصديق أرادت أن تصل جدها أبا قحافة ثم امتنعت من ذلك لكونه كافرا فنزلت الآية في ذلك . وحكى الطبري أن مقصد النبي صلى الله عليه وسلم بمنع الصدقة إنما كان ليسلموا ويدخلوا في الدين ، فقال الله تعالى : ليس عليك هداهم . وقيل : " ليس عليك هداهم " ليس متصلا بما قبل ، فيكون ظاهرا في الصدقات وصرفها إلى الكفار ، بل يحتمل أن يكون معناه ابتداء كلام .[ ص: 307 ] الثانية : قال علماؤنا : هذه الصدقة التي أبيحت لهم حسب ما تضمنته هذه الآثار هي صدقة التطوع . وأما المفروضة فلا يجزئ دفعها لكافر ، لقوله عليه السلام : أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردها في فقرائكم . قال ابن المنذر : أجمع كل من أحفظ عنه ، من أهل العلم أن الذمي لا يعطى من زكاة الأموال شيئا ، ثم ذكر جماعة ممن نص على ذلك ولم يذكر خلافا . وقال المهدوي : رخص للمسلمين أن يعطوا المشركين من قراباتهم من صدقة الفريضة لهذه الآية . قال ابن عطية : وهذا مردود بالإجماع . والله أعلم . وقال أبو حنيفة : تصرف إليهم زكاة الفطر . ابن العربي : وهذا ضعيف لا أصل له . ودليلنا أنها صدقة طهرة واجبة فلا تصرف إلى الكافر كصدقة الماشية والعين ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : أغنوهم عن سؤال هذا اليوم يعني يوم الفطر .قلت : وذلك لتشاغلهم بالعيد وصلاة العيد وهذا لا يتحقق في المشركين . وقد يجوز صرفها إلى غير المسلم في قول من جعلها سنة ، وهو أحد القولين عندنا ، وهو قول أبي حنيفة على ما ذكرنا ، نظرا إلى عموم الآية في البر وإطعام الطعام وإطلاق الصدقات . قال ابن عطية : وهذا الحكم متصور للمسلمين مع أهل ذمتهم ومع المسترقين من الحربيين .قلت : وفي التنزيل ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا والأسير في دار الإسلام لا يكون إلا مشركا . وقال تعالى : لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم . فظواهر هذه الآيات تقتضي جواز صرف الصدقات إليهم جملة ، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم خص منها الزكاة المفروضة ، لقوله عليه السلام لمعاذ : خذ الصدقة من أغنيائهم وردها على فقرائهم واتفق العلماء على ذلك على ما [ ص: 308 ] تقدم . فيدفع إليهم من صدقة التطوع إذا احتاجوا ، والله أعلم . قال ابن العربي : فأما المسلم العاصي فلا خلاف أن صدقة الفطر تصرف إليه إلا إذا كان يترك أركان الإسلام من الصلاة والصيام فلا تدفع إليه الصدقة حتى يتوب . وسائر أهل المعاصي تصرف الصدقة إلى مرتكبيها لدخولهم في اسم المسلمين . وفي صحيح مسلم أن رجلا تصدق على غني وسارق وزانية وتقبلت صدقته ، على ما يأتي بيانه في آية " الصدقات " .الثالثة : قوله تعالى : ولكن الله يهدي من يشاء أي يرشد من يشاء . وفي هذا رد على القدرية وطوائف من المعتزلة ، كما تقدم .قوله تعالى : وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله شرط وجوابه . والخير في هذه الآية المال ؛ لأنه قد اقترن بذكر الإنفاق فهذه القرينة تدل على أنه المال ، ومتى لم تقترن بما يدل على أنه المال فلا يلزم أن يكون بمعنى المال ، نحو قوله تعالى : خير مستقرا ، وقوله مثقال ذرة خيرا يره . إلى غير ذلك . وهذا تحرز من قول عكرمة : كل خير في كتاب الله تعالى فهو المال . وحكي أن بعض العلماء كان يصنع كثيرا من المعروف ثم يحلف أنه ما فعل مع أحد خيرا ، فقيل له في ذلك فيقول : إنما فعلت مع نفسي ، ويتلو وما تنفقوا من خير فلأنفسكم . ثم بين تعالى أن النفقة المعتد بقبولها إنما هي ما كان ابتغاء وجهه . و ( ابتغاء ) هو على المفعول له . وقيل : إنه شهادة من الله تعالى للصحابة رضي الله عنهم أنهم إنما ينفقون ابتغاء وجهه ، فهذا خرج مخرج التفضيل والثناء عليهم . وعلى التأويل الأول هو اشتراط عليهم ، ويتناول الاشتراط غيرهم من الأمة . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص : إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله تعالى إلا أجرت بها حتى ما تجعل في في امرأتك .قوله تعالى : وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون يوف إليكم تأكيد وبيان لقوله : وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وأن ثواب الإنفاق يوفى إلى المنفقين ولا يبخسون منه شيئا فيكون ذلك البخس ظلما لهم .
تَنْوِيرُ ٱلْمِقْبَاسِ مِن تَفْسِيرِ ٱبْنِ عَبَّاس
Tafsir Tanwir al-Miqbas —
حضرت ابن عباسؓ
استئناف معترض به بين قوله { إن تبدوا الصدقات } [ البقرة : 271 ] وبين قوله : { وما تنفقوا من خير فلأنفسكم } ، ومناسبته هنا أنّ الآيات المتقدمة يلوح من خلالها أصناف من الناس : منهم الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ، ومنهم الذين يبطلون صدقاتهم بالمَنّ والأذى ، ومنهم الذين يتيمّمون الخبيث منه ينفقون ، ومنهم من يعَدهم الشيطان الفقرَ ويأمرهم بالفحشاء . وكان وجود هذه الفرق مما يَثقل على النبي صلى الله عليه وسلم فعقّب الله ذلك بتسكين نفس رسوله والتهوين عليه بأن ليس عليه هُداهم ولكن عليه البلاغ . فالهُدى هنا بمعنى الإلجاء لحصول الهدي في قلوبهم ، وأما الهدى بمعنى التبليغ والإرشاد فهو على النَّبِيء ، ونظائر هذا في القرآن كثيرة . فالضمير رَاجع إلى جميع من بقي فيهم شيء من عدم الهدى وأشدّهم المشركون والمنافقون ، وقيل الضمير راجع إلى ناس معروفين ، روي أنّه كان لأسماء ابنةِ أبي بكر أمٌّ كافرة وجَدٌّ كافر فأرادت أسماء عام عمرة القضية أن تواسيهما بمال ، وأنّه أراد بعض الأنصار الصدقة على قرابتهم وأصهارهم في بني النضير وقريظة ، فنهَى النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين عن الصدقة على الكفّار ، إلجاء لأولئك الكفّار على الدّخول في الإسلام ، فأنزل الله تعالى : { ليس عليك هداهم } الآيات ، أي هدى الكفّار إلى الإسلام ، أي فرخّص للمسلمين الصدقة على أولئك الكفرة .فالضمير عائد إلى معلوم للمخاطب . فيكون نزول الآية لذلك السبب ناشئاً عن نزول آيات الأمر بالإنفاق والصدقة ، فتكون الآيات المتقدمة سببَ السبب لنزول هذه الآية .والمعنى أنْ ليس عليك أن تهديهم بأكثر من الدعوة والإرشاد ، دون هداهم بالفعل أو الإلجاء؛ إذ لا هادي لمن يضلل الله ، وليس مثل هذا بميسّر للهُدى .والخطاب في { ليس عليك هداهم } ظاهره أنّه خطاب للرسول على الوجه الأول الذي ذكرناه في معاد ضمير هداهم . ويجوز أن يكون خطاباً لمن يسمع على الوجه الآتي في الضمير إذا اعتبرنا ما ذكروه في سبب النزول ، أي ليس عليك أيها المتردّد في إعطاء قريبك .و ( على ) في قوله { عليك } للاستعلاء المجازي ، أي طلب فعل على وجه الوجوب . والمعنى ليس ذلك بواجب على الرسول ، فلا يحزن على عدم حصول هداهم لأنّه أدّى واجب التبليغ ، أو المعنى ليس ذلك بواجب عليكم أيّها المعالجين لإسلامهم بالحرمان من الإنفاق حتى تسعوا إلى هداهم بطرق الإلجاء .وتقديم الظرف وهو { عليك } على المسند إليه وهو { هُداهم } إذا أجرى على ما تقرّر في علم المعاني من أنّ تقديم المسند الذي حقّه التأخير يفيد قصر المسند إليه إلى المسند ، وكان ذلك في الإثبات بيّناً لا غبار عليه نحو { لكم دينكم ولي ديني } [ الكافرون : 6 ] وقولِه : { لها ما كسبت عليها ما اكتسبت }[ البقرة : 286 ] ، فهو إذا وقع في سياق النفي غير بيّن لأنّه إذا كان التقديم في صورة الإثبات مفيداً للحصر اقتضى أنّه إذا نفي فقد نفي ذلك الانحصار؛ لأنّ الجملة المكيّفة بالقصر في حالة الإثبات هي جملة مقيَّدة نسبتُها بقيد الانحصار أي بقيد انحصار موضوعها في معنى محمولها . فإذا دخل عليها النفي كان مقتضياً نفي النسبة المقيّدة ، أي نفي ذلك الانحصارِ ، لأنّ شأن النفي إذا توجّه إلى كلام مقيَّد أن ينْصَبّ على ذلك القيد . لكنّ أئمة الفن حين ذكروا أمثلة تقديم المسند على المسند إليه سَوّوا فيها بين الإثبات كما ذكرنا وبين النفي نحْو { لا فيها غَوْل } [ الصافات : 47 ] ، فقد مثل به في «الكشاف» عند قوله تعالى : { لا ريب فيه } [ البقرة : 2 ] فقال : «قصد تفضيل خمر الجنّة على خمور الدنيا» ، وقال السيد في شرحه هنالك «عُدّ قصراً للموصوف على الصفة ، أي الغول مقصور على عدم الحصول في خمور الجنة لا يتعدّاه إلى عدم الحصول فيما يقابلها ، أو عَدمُ الغول مقصور على الحصول فيها لا يتجاوزه إلى الحصول في هذه الخمور» . وقد أحلتُ عند قوله تعالى : { لا ريب فيه } [ البقرة : 2 ] على هذه الآية هنا ، فبِنَا أن نبيِّن طريقة القصر بالتقديم في النفي ، وهي أنّ القصر لما كان كيفية عارضة للتركيب ولم يكن قيداً لفظياً بحيث يتوجّه النفي إليه كانت تلك الكيفية مستصحبة مع النفي ، فنحو { لا فيها غول } يفيد قصر الغَول على الانتفاء عن خمور الدنيا ولا يفيد نفي قصر الغول على الكون في خمور الجنة . وإلى هذا أشار السيّد في شرح «الكشاف» عند قوله { لا ريب فيه } إذ قال «وبالجملة يجعل حرف النفي جزءاً أو حرفاً من حروف المسند أو المسند إليه» . / وعلى هذا بنى صاحب «الكشاف» فجعل وجه أن لم يقدّمْ الظرفُ في قوله : { لا ريب فيه } كما قدم الظرف في قوله : { لا فيها غول } لأنّهُ لو أوّل لقُصد أنّ كتاباً آخر فيه الريب ، لا في القرآن ، وليس ذلك بمراد .فإذا تقرر هذا فقوله : { ليس عليك هداهم } إذا أجرى على هذا المنوال كان مفاده هداهم مقصور على انتفاء كونه عليك ، فيلزم منه استفادة إبطال انتفاء كونه على غير المخاطب ، أي إبطال انتفاء كونه على الله ، وكلا المفادين غير مراد إذ لا يُعتقد الأول ولا الثاني . فالوجه : إما أن يكون التقديم هنا لِمجرد الاهتمام كتقديم يوم الندى في قول الحريري: ... ما فيه من عيب سوى أنّهيوم النَّدى قِسمته ضيزى ... بنفي كون هداهم حقاً على الرسول تهوينا للأمر عليه ، فأما الدلالة على كون ذلك مفوّضاً إلى الله فمن قوله : { ولكن الله يهدي من يشاء } . وإما أن يكون جرى على خلاف مقتضى الظاهر بتنزيل السامعين منزلة من يعتقد أنّ إيجاد الإيمان في الكفّار يكون بتكوين الله وبالإلجاء من المخلوق ، فقُصر هداهم على عدم الكون في إلجاء المخلوقين إياهم لا على عدم الكون في أنّه على الله ، فيلزم من ذلك أنّه على الله ، أي مفوّض إليه .وقوله : { ولكن الله يهدي من يشاء } جيء فيه بحرف الاستدراك لما في الكلام المنفي من توهمّ إمكان هديهم بالحرص أو بالإلجاء ، فمصَبُّ الاستدراك هو الصلة ، أعْني { من يشاء } ؛ أي فلا فائدة في إلجاء من لم يشأ الله هديه . والتقدير : ولكن هداهم بيد الله ، وهو يهدي من يشاء ، فإذا شاء أن يهديهم هداهم .{ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلاَِنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابتغآء وَجْهِ الله وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ } .عطف على جملة { إن تبدوا الصدقات } [ البقرة : 271 ] ؛ وموقعها زيادة بيان فضل الصدقات كلّها ، وأنّها لما كانت منفعتها لنفس المتصدّق فليختر لنفسه ما هو خير ، وعليه أن يُكثر منها بنبذ كل ما يدعو لترك بعضها .وقوله : { وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله } جملة حالية ، وهو خبر مستعمل في معنى الأمر ، أي إنّما تكون منفعة الصدقات لأنفسكم إن كنتم ما تنفقون إلاّ ابتغاء وجه الله لا للرياء ولا لمراعاة حال مسلممٍ وكافر ، وهذا المعنى صالح لكلا المعنيين المحتمَلين في الآية التي قبلها . ويجوز كونها معطوفة عليها إذا كان الخبر بمعنى النهي ، أي لا تنفقوا إلاّ ابتغاء وجه الله . وهذا الكلام خبر مستعمل في الطلب لقصد التحقيق والتأكيد ، ولذلك خولف فيه أسلوب ما حفّ به من جملة { وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وجملة وما تنفقوا من خير يوف إليكم } .وقوله : { وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون } عطف على التي قبلها لبيان أنّ جزاء النفقات بمقدارها وأنّ مَن نُقِص له من الأجر فهو الساعي في نقصه . وكُرّر فعل تنفقون ثلاث مرات في الآية لمزيد الاهتمام بمدلوله وجيء به مرتين بصيغة الشرط عند قصد بيان الملازمة بين الإنفاق والثواب ، وجيء به مرة في صيغة النفي والاستثناء لأنّه قصد الخبر بمعنى الإنشاء ، أي النهي عن أن ينفقوا إلاّ لابتغاء وجه الله .وتقديم { وأنتم } على الخَبَر الفعلي لمجرد التقوّي وزيادة التنبيه على أنّهم لا يُظلَمون ، وإنّما يَظْلمون أنفسهم .وإنما جعلت هاته الأحكام جملاً مستقلاً بعضُها عن بعض ولم تجعل جملة واحدة مقيَّدة فائدتها بقيود جميع الجمل وأعيد لفظ الإنفاق في جميعها بصيغ مختلفة تكريراً للاهتمام بشأنه ، لتكون كل جملة مستقلة بمعناها قصيرة الألفاظ كثيرة المعاني ، فتجري مجرى الأمثال ، وتتناقلها الأجيال .وقد أخذ من الآيات الأخيرة على أحد التفسيرين جواز الصدقة على الكفّار ، والمراد الكفّار الذي يختلطون بالمسلمين غير مؤذين لهم وهم أهل العهد وأهل الذمّة والجيران . واتفق فقهاء الإسلام على جواز إعطاء صدقة التطوع للكافرين ، وحكمة ذلك أنّ الصدقة من إغاثة الملهوف والكافر من عباد الله ، ونحن قد أمرنا بالإحسان إلى الحيوان ، ففي الحديث الصحيح : قالوا يا رسول الله وإنّ لنا في البهائم لأجراً .فقال : «في كل ذي كَبِدٍ رَطْبَةٍ أجرٌ» .واتفق الفقهاء على أنّ الصدقة المفروضة أعني الزكاة لا تعطى للكفّار ، وحكمة ذلك أنّها إنّما فرضت لإقامة أوَد المسلمين ومواساتهم ، فهي مال الجامعة الإسلامية يؤخذ بمقادير معيّنة ، ففيه غنَى المسلمين ، بخلاف ما يعطيه المرء عن طيب نفس لأجل الرأفة والشفقة . واختلفوا في صدقة الفطر ، فالجمهور ألحقوها بالصدقات المفروضة ، وأبو حنيفة ألحقها بصدقة التطوّع فأجاز إعطاءها إلى الكافر . ولو قيل ذلك في غير زكاة الفطر كان أشْبَه ، فإنّ العيد عيد المسلمين ، ولعله رآها صدقةَ شكر على القدرة على الصيام ، فكان المنظور فيها حال المتصدِّق لا حال المتصدَّق عليه . وقوله الجمهور أصح لأنّ مشروعيتها لكفاية فقراء المسلمين عن المسألة في يوم عيدهم وليكونوا في ذلك اليوم أوسع حالاً منهم في سائر المدة ، وهذا القدر لا تظهر حكمته في فقراء الكافرين .
ٱلتَّفْسِيرُ ٱلْوَسِيط
Tafsir Al-Waseet —
علمائے جامعہ ازہر
ثم ختم السورة حديثها عن النفقة والمنفقين ببيان حسن عاقبة من يبذل ماله في سبيل الله ، وبيان صفات بعض المستحقين للصدقة ، وببيان أن هداية البشر إنما هي بيد الله - تعالى - وحده ، فقال - تعالى - :( لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ولكن . . . )قال القرطبي ما ملخصه : قوله - تعالى - : ( لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ) هذا الكلام متصل بذكر الصدقات ، فكأنه بين فيه جواز الصدقة على المشركين . روى سعيد بن جبير مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم في سبب نزول هذه الآية أن المسلمين كانوا يتصدقون على فقراء أهل الذمة ، فلما أكثر فقراء المسلمين على من ليس من دين الإِسلام . وروى عن ابن عباس أنه قال : كان ناس من الأنصار لهم قرابات من بني قريظة والنضير كانوا لا يتصدقون عليهم رغبة منهم في أن يسلموا إذا احتاجوا فنزلت الآية بسبب أولئك . ثم قال : قال علماؤنا : هذه الصدقة التي أبيحت لهم حسب ما تضمنته هذه الآثار هي صدقة التطوع ، وأما المفروضة فلا يجزئ دفعها لكافر ، لقوله صلى الله عليه وسلم ، " أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردها في فقرائكم " .والمعنى : ليس عليك يا محمد هداية من خالفك في دينك . ولكن الله - تعالى - يهدي من يشاء هداينه إلى نور الإِيمان ، وطريق الحق . وما دام الأمر كذلك فعليك وعلى أتباعك أن تعاملوا غيركم بما يوجبه عليكم إيمانكم من سماحة في الخلق ، وعطف على المحتاجين حتى ولو كانوا من المخالفين لكم في الدين .وعلى هذا المعنى الذي يؤيده سبب النزول يكون الضمير في قوله : ( هُدَاهُمْ ) يعود على غير المسلمين .ومن المفسرين من يرى أن الضمير في قوله : ( هُدَاهُمْ ) يعود إلى المسلمين المخاطبين في الآيات السابقة ، فيكون المعنى : لا يجب عليك أيها الرسول الكريم أن تجعل المسلمين جميعاً مهديين إلى الإِتيان بما أمروا به ومنتهين عما نهوا عنه من ترك المن والأذى والرياء في صدقتهم ، ولكن الله وحده هو الذي يهدي من يشاء هدايته إلى الاستجابة لتوجيهات هذا الدين الحنيف .قال الآلوسي : وعلى هذا الرأي تكون الجملة معترضة جيء بها على طريق تلوين الخطاب وتوجيهه إلى سيد المخاطبين صلى الله عليه وسلم مع الالتفات إلى الغيبة فيما بين الخطابات المتعلقة بأولئك المكلفين مبالغة في حملهم على الامتثال . . ثم قال : " والذي يستدعيه سبب النزول رجوع ضمير ( هُدَاهُمْ ) إلى الكفار ، وحينئذ لا التفات ، وإنما هناك تلوين الخطاب فقط . . . "ثم حض - سبحانه - المؤمنين على الإِنفاق في وجوه الخير فقال : ( وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ ) أي : ما تقدمونه من مال في وجوه البر - أيها المؤمنون - فإن نفعه سيعود عليكم بالسعادة في الدنيا ، وبالثواب الجزيل في الآخرة ، فكونوا أسخياء في الإِحسان إلى الفقراء ، وابتعدوا عن وسوسة الشيطان الذي ( يَعِدُكُمُ الفقر وَيَأْمُرُكُم بالفحشآء ) و " ما " شرطية جازمة لتنفقوا ، وهي منتصبة به على المفعولية ، و " من " للتبعيض وهي متعلقة بمحذوف وقع صفة لفعل الشرط والتقدير : أي شيء تنفقوا كائنا من المال فهو لأنفسكم لا ينتفع به في الآخرة غيرها .قال الفخر الرازي ما ملخصه : وقوله - تعالى - : ( وَمَا تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابتغآء وَجْهِ الله ) يحتمل وجوها .الأول : أن يكون المعنى : ولستم في صدقتكم على أقاربكم من المشركين تقصدون إلا وجه الله ، فقد علم الله هذا من قلوبكم ، فأنفقوا عليهم إذا كنتم إنما تبغون بذلك وجه الله في صلة رحم وسد خلة مضطر ، وليس عليكم اهتداؤهم حتى يمنعكم ذلك من الإِنفاق عليهم .الثاني : أن هذا وإن كان ظاهره خبراً إلا أن معناه نهى أي : ولا تنفقوا إلا ابتغاء وجه الله .الثالث : أن قوله : ( وَمَا تُنْفِقُونَ ) أي ولا تكونوا منفقين مستحقين الاسم الذي يفيد المدح حتى تبتغوا بذلك وجه الله . وفي ذكر الوجه تشريف عظيم لأنك إذا قلت : فعلت هذا الشيء لوجه زيد فهو أشرف في الذكر من قولك : فعلته له لأن وجه الشيء أشرف ما فيه ، ثم كثر حتى صار يعبر عن الشرف بهذا اللفظ ، وأيضاً فإن قولك : فعلت هذا الفعل لوجهه يدل على أنك فعلت الفعل له فقط وليس لغيره فيه شركة .ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : ( وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ ) أي : أن ما تنفقونه من خير - أيها المؤمنون ستعود عليكم ثماره ومنافعه في الدنيا والآخرة ، أما في الدنيا فإنكم بسبب هذا الانفاق تزكو أموالكم ، وتحسن سيرتكم بين الناس ، وأما في الآخرة فإنكم تنالون من خالقكم ورازقكم أجزل الثواب ، وأفضل الدرجات .وقوله : ( وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ ) أي لا تنقصون شيئاً مما وعدكم الله به على نفقتكم في سبيله .قال الجمل : وهاتان الجملتان أي قوله - تعالى - ( وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ ) وقوله : ( وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ ) تأكيد للجملة الشرطية الأولى وهي قوله : ( وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ ) وقوله : ( وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ ) جملة من مبتدأ وخبر في محل نصب على الحال من الضمير في ( إِلَيْكُمْ ) فالعامل فيها ( يُوَفَّ ) وهي تشبه الحال المؤكدة لأن معناها مفهوم من قوله : ( يُوَفَّ إِلَيْكُمْ ) لأنهم إذا وفقوا حقوقهم لم يظلموا . ويجوز أن تكون مستأنفة لا محل لها من الإعراب أخبرهم فيها أنه لا يقع لهم ظلم فيندرج فيه توفية أجورهم بسبب إنفاقهم في طاعة الله - تعالى - اندراجاً أولياً .هذا ، والذي يتدبر هذه الآية الكريمة يراها من أجمع الآيات التي وردت في الحض على بذل المال في وجوه الخير ، فقدر كرر فيها فعل ( تُنْفِقُواْ ) ثلاث مرات لمزيد الاهتمام بمدلوله ، وجيء به مرتين بصيغة الشرط عند قصد بيان الملازمة بين الإِنفاق والثواب ، وجاءت كل جملة منها مستقلة ببعض الأحكام لكي يسهل حفظها وتأملها فتجري على الألسنة مجرى الأمثال وتتناقلها الأمم والأجيال .ثم بعد هذا التحريض الحكيم على بذل الأموال في وجوه الخير ، خص - سبحانه - بالذكر طائفة من المؤمنين هي أولى الناس بالعون والمساعدة ، ووصف هذه الطائفة بست صفات من شأنها أن تحمل العقلاء على المسارعة في إكرام أفرادها وسد حاجتهم .
تَفْسِيرُ ٱلْبَغَوِيِّ
Tafsir al-Baghawi —
علامہ بغوی
( ليس عليك هداهم ) قال الكلبي سبب نزول هذه الآية أن ناسا من المسلمين كانت لهم قرابة وأصهار في اليهود وكانوا ينفقون عليهم قبل أن يسلموا فلما أسلموا كرهوا أن ينفقوا عليهم وأرادوهم على أن يسلموا وقال سعيد بن جبير كانوا يتصدقون على فقراء أهل الذمة فلما كثر فقراء المسلمين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التصدق على المشركين كي تحملهم الحاجة على الدخول في الإسلام فنزل قوله ( ليس عليك هداهم ) فتمنعهم الصدقة ليدخلوا في الإسلام حاجة منهم إليها ( ولكن الله يهدي من يشاء ) وأراد به هداية التوفيق أما هدى البيان والدعوة فكان على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطوهم بعد نزول الآية .( وما تنفقوا من خير ) أي مال ( فلأنفسكم ) أي تعملونه لأنفسكم ( وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله ) وما جحد لفظه نفي ومعناه نهي أي لا تنفقوا إلا ابتغاء وجه الله ( وما تنفقوا من خير ) شرط كالأول ولذلك حذف النون منهما ( يوف إليكم ) أي يوفر لكم جزاؤه ومعناه : يؤدي إليكم ولذلك دخل فيه إلا ( وأنتم لا تظلمون ) لا تنقصون من ثواب أعمالكم شيئا وهذا في صدقة التطوع أباح الله تعالى أن توضع في أهل الإسلام وأهل الذمة فأما الصدقة المفروضة فلا يجوز وضعها إلا في المسلمين وهم أهل السهمان المذكورون في سورة التوبة .