تَفْسِيرُ ٱلْمُيَسَّر
Tafsir Al-Muyassar —
کنگ فہد قرآن کمپلیکس
وإن كنتم مسافرين ولم تجدوا مَن يكتب لكم فادفعوا إلى صاحب الحق شيئًا يكون عنده ضمانًا لحقِّه إلى أن يردَّ المدينُ ما عليه من دين، فإن وثق بعضكم ببعض فلا حرج في ترك الكتابة والإشهاد والرهن، ويبقى الدَّين أمانة في ذمَّة المدين، عليه أداؤه، وعليه أن يراقب الله فلا يخون صاحبه. فإن أنكر المدين ما عليه من دين، وكان هناك مَن حضر وشهد، فعليه أن يظهر شهادته، ومن أخفى هذه الشهادة فهو صاحب قلب غادر فاجر. والله المُطَّلِع على السرائر، المحيط علمه بكل أموركم، سيحاسبكم على ذلك.
تَفْسِيرُ ٱلْجَلَالَيْنِ
Tafsir al-Jalalayn —
جلال الدین محلی اور جلال الدین سیوطی
«وإن كنتم على سفر» أي مسافرين وتداينتم «ولم تجدوا كاتبا فَرِهاَنٌ» وفي قراءة فَرهُنٌ جمع رهن «مقبوضة» تستوثقون بها وبينت السنة جواز الرهن في الحضر ووجود الكاتب فالتقيد بما ذكر لأن التوثيق فيه أشد وأفاد قوله مقبوضة اشتراط القبض في الرهن والاكتفاء به من المرتهن ووكيله «فإن أمن بعضكم بعضا» أي الدائن المدين على حقه فلم يرتهن «فليؤد الذي أؤتمن» أي المدين «أمانته» دينه «وليتق الله ربَّه» في أدائه «ولا تكتموا الشهادة» إذا دُعيتم لإقامتها «ومن يكتمها فإنه آثم قلبه» خص بالذكر لأنه محل الشهادة ولأنه إذا أثم تبعه غيره فيعاقب عليه معاقبة الآثمين «والله بما تعلمون عليم» لا يخفَى عليه شيء منه.
تَفْسِيرُ ٱلْقُرْطُبِيِّ
Tafsir al-Qurtubi —
علامہ قرطبی
قوله تعالى : وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه والله بما تعملون عليمفيه أربع وعشرون مسألة :الأولى : لما ذكر الله تعالى الندب إلى الإشهاد والكتب لمصلحة حفظ الأموال والأديان ، عقب ذلك بذكر حال الأعذار المانعة من الكتب ، وجعل لها الرهن ، ونص من [ ص: 369 ] أحوال العذر على السفر الذي هو غالب الأعذار ، لا سيما في ذلك الوقت لكثرة الغزو ، ويدخل في ذلك بالمعنى كل عذر . فرب وقت يتعذر فيه الكاتب في الحضر كأوقات أشغال الناس وبالليل ، وأيضا فالخوف على خراب ذمة الغريم عذر يوجب طلب الرهن . وقد رهن النبي صلى الله عليه وسلم درعه عند يهودي طلب منه سلف الشعير فقال : إنما يريد محمد أن يذهب بمالي . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : كذب إني لأمين في الأرض أمين في السماء ولو ائتمنني لأديت اذهبوا إليه بدرعي فمات ودرعه مرهونة صلى الله عليه وسلم ، على ما يأتي بيانه آنفا .الثانية : قال جمهور من العلماء : الرهن في السفر بنص التنزيل ، وفي الحضر ثابت بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهذا صحيح . وقد بينا جوازه في الحضر من الآية بالمعنى ، إذ قد تترتب الأعذار في الحضر ، ولم يرو عن أحد منعه في الحضر سوى مجاهد والضحاك وداود ، متمسكين بالآية . ولا حجة فيها ؛ لأن هذا الكلام وإن كان خرج مخرج الشرط فالمراد به غالب الأحوال . وليس كون الرهن في الآية في السفر مما يحظر في غيره . وفي الصحيحين وغيرهما عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعاما إلى أجل ورهنه درعا له من حديد . وأخرجه النسائي من حديث ابن عباس قال : توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعا من شعير لأهله .الثالثة : قوله تعالى : ولم تجدوا كاتبا قرأ الجمهور " كاتبا " بمعنى رجل يكتب . وقرأ ابن عباس وأبي ومجاهد والضحاك وعكرمة وأبو العالية " ولم تجدوا كتابا " . قال أبو بكر الأنباري : فسره مجاهد فقال : معناه فإن لم تجدوا مدادا يعني في الأسفار . وروي عن ابن عباس " كتابا " . قال النحاس : هذه القراءة شاذة والعامة على خلافها . وقلما يخرج شيء عن قراءة العامة إلا وفيه مطعن ، ونسق الكلام على كاتب ، قال الله عز وجل قبل هذا : وليكتب بينكم كاتب بالعدل و " كتاب " يقتضي جماعة . قال ابن عطية : كتابا يحسن من حيث لكل نازلة [ ص: 370 ] كاتب ، فقيل للجماعة : ولم تجدوا كتابا . وحكى المهدوي عن أبي العالية أنه قرأ " كتبا " وهذا جمع كتاب من حيث النوازل مختلفة . وأما قراءة أبي وابن عباس " كتابا " فقال النحاس ومكي : هو جمع كاتب كقائم وقيام . مكي : المعنى وإن عدمت الدواة والقلم والصحيفة . ونفي وجود الكاتب يكون بعدم أي آلة اتفق ، ونفي الكاتب أيضا يقتضي نفي الكتاب ، فالقراءتان حسنتان إلا من جهة خط المصحف .الرابعة : قوله تعالى : فرهان مقبوضة وقرأ أبو عمرو وابن كثير " فرهن " بضم الراء والهاء ، وروي عنهما تخفيف الهاء . وقال الطبري : تأول قوم أن " رهنا " بضم الراء والهاء جمع رهان ، فهو جمع جمع ، وحكاه الزجاج عن الفراء . وقال المهدوي : فرهان ابتداء والخبر محذوف . والمعنى فرهان مقبوضة يكفي من ذلك . قال النحاس : وقرأ عاصم بن أبي النجود " فرهن " بإسكان الهاء ، ويروى عن أهل مكة . والباب في هذا " رهان " ، كما يقال : بغل وبغال ، وكبش وكباش ، ورهن سبيله أن يكون جمع رهان ، مثل كتاب وكتب . وقيل : هو جمع رهن ، مثل سقف وسقف ، وحلق وحلق ، وفرش وفرش ، ونشر ونشر ، وشبهه . " ورهن " بإسكان الهاء سبيله أن تكون الضمة حذفت لثقلها . وقيل : هو جمع رهن ، مثل سهم حشر أي دقيق ، وسهام حشر . والأول أولى ؛ لأن الأول ليس بنعت وهذا نعت . وقال أبو علي الفارسي : وتكسير " رهن " على أقل العدد لم أعلمه جاء ، فلو جاء كان قياسه أفعلا ككلب وأكلب ، وكأنهم استغنوا بالقليل عن الكثير ، كما استغني ببناء الكثير عن بناء القليل في قولهم : ثلاثة شسوع ، وقد استغني ببناء القليل عن الكثير في رسن وأرسان ، فرهن يجمع على بناءين وهما فعل وفعال . الأخفش : فعل على فعل قبيح وهو قليل شاذ ، قال : وقد يكون " رهن " جمعا للرهان ، كأنه يجمع رهن على رهان ، ثم يجمع رهان على رهن ، مثل فراش وفرش .الخامسة : معنى الرهن : احتباس العين وثيقة بالحق ليستوفى الحق من ثمنها أو من ثمن منافعها عند تعذر أخذه من الغريم ، وهكذا حده العلماء ، وهو في كلام العرب بمعنى الدوام والاستمرار . وقال ابن سيده : ورهنه أي أدامه ، ومن رهن بمعنى دام قول الشاعر :الخبز واللحم لهم راهن وقهوة راووقها ساكبقال الجوهري : ورهن الشيء رهنا أي دام . وأرهنت لهم الطعام والشراب أدمته لهم ، وهو طعام راهن . والراهن : الثابت ، والراهن : المهزول من الإبل والناس ، قال :إما تري جسمي خلا قد رهن هزلا وما مجد الرجال في السمن[ ص: 371 ] قال ابن عطية : ويقال في معنى الرهن الذي هو الوثيقة من الرهن : أرهنت إرهانا ، حكاه بعضهم . وقال أبو علي : أرهنت في المغالاة ، وأما في القرض والبيع فرهنت . وقال أبو زيد : أرهنت في السلعة إرهانا : غاليت بها ، وهو في الغلاء خاصة . قال ( مهرة بن حيدان أبو قبيلة ) :يطوي ابن سلمة بها من راكب بعرا عيدية أرهنت فيها الدنانيريصف ناقة . والعيد بطن من مهرة ، وإبل مهرة موصوفة بالنجابة . وقال الزجاج : يقال في الرهن : رهنت وأرهنت ، وقاله ابن الأعرابي والأخفش . قال عبد الله بن همام السلولي :فلما خشيت أظافيرهم نجوت وأرهنتهم مالكاقال ثعلب : الرواة كلهم على ( أرهنتهم ) ، على أنه يجوز رهنته وأرهنته ، إلا الأصمعي فإنه رواه وأرهنهم ، على أنه عطف بفعل مستقبل على فعل ماض ، وشبهه بقولهم : قمت وأصك وجهه ، وهو مذهب حسن ؛ لأن الواو واو الحال ، فجعل أصك حالا للفعل الأول على معنى قمت صاكا وجهه ، أي تركته مقيما عندهم ؛ لأنه لا يقال : أرهنت الشيء ، وإنما يقال : رهنته . وتقول : رهنت لساني بكذا ، ولا يقال فيه : أرهنت . وقال ابن السكيت : أرهنت فيها بمعنى أسلفت . والمرتهن : الذي يأخذ الرهن . والشيء مرهون ورهين ، والأنثى رهينة . وراهنت فلانا على كذا مراهنة : خاطرته . وأرهنت به ولدي إرهانا : أخطرتهم به خطرا . والرهينة واحدة الرهائن ، كله عن الجوهري . ابن عطية : ويقال بلا خلاف في البيع والقرض : رهنت رهنا ، ثم سمي بهذا المصدر الشيء المدفوع تقول : رهنت رهنا ، كما تقول رهنت ثوبا .السادسة : قال أبو علي : ولما كان الرهن بمعنى الثبوت والدوام ؛ فمن ثم بطل الرهن عند الفقهاء إذا خرج من يد المرتهن إلى الراهن بوجه من الوجوه ؛ لأنه فارق ما جعل باختيار المرتهن له .قلت : هذا هو المعتمد عندنا في أن الرهن متى رجع إلى الراهن باختيار المرتهن بطل الرهن ، وقاله أبو حنيفة ، غير أنه قال : إن رجع بعارية أو وديعة لم يبطل . وقال الشافعي : إن رجوعه إلى يد الراهن مطلقا لا يبطل حكم القبض المتقدم ، ودليلنا فرهان مقبوضة ، فإذا خرج عن يد القابض لم يصدق ذلك اللفظ عليه لغة ، فلا يصدق عليه حكما ، وهذا واضح .السابعة : إذا رهنه قولا ولم يقبضه فعلا لم يوجب ذلك ، حكما ، لقوله تعالى : فرهان مقبوضة قال الشافعي : لم يجعل الله الحكم إلا برهن موصوف بالقبض ، فإذا عدمت الصفة وجب أن يعدم الحكم ، وهذا ظاهر جدا . وقالت المالكية : يلزم الرهن بالعقد ويجبر الراهن [ ص: 372 ] على دفع الرهن ليحوزه المرتهن ، لقوله تعالى : أوفوا بالعقود وهذا عقد ، وقوله ( بالعهد ) وهذا عهد . وقوله عليه السلام : المؤمنون عند شروطهم وهذا شرط ، فالقبض عندنا شرط في كمال فائدته . وعندهما شرط في لزومه وصحته .الثامنة : قوله تعالى : مقبوضة يقتضي بينونة المرتهن بالرهن . وأجمع الناس على صحة قبض المرتهن ، وكذلك على قبض وكيله . واختلفوا في قبض عدل يوضع الرهن على يديه ، فقال مالك وجميع أصحابه وجمهور العلماء : قبض العدل قبض . وقال ابن أبي ليلى وقتادة والحكم وعطاء : ليس بقبض ، ولا يكون مقبوضا إلا إذا كان عند المرتهن ، ورأوا ذلك تعبدا . وقول الجمهور أصح من جهة المعنى ؛ لأنه إذا صار عند العدل صار مقبوضا لغة وحقيقة ؛ لأن العدل نائب عن صاحب الحق وبمنزلة الوكيل ، وهذا ظاهر .التاسعة : ولو وضع الرهن على يدي عدل فضاع لم يضمن المرتهن ولا الموضوع على يده ؛ لأن المرتهن لم يكن في يده شيء يضمنه . والموضوع على يده أمين والأمين غير ضامن .العاشرة : لما قال تعالى : ( مقبوضة ) قال علماؤنا : فيه ما يقتضي بظاهره ومطلقه جواز رهن المشاع . خلافا لأبي حنيفة وأصحابه ، لا يجوز عندهم أن يرهنه ثلث دار ولا نصفا من عبد ولا سيف ، ثم قالوا : إذا كان لرجلين على رجل مال هما فيه شريكان فرهنهما بذلك أرضا فهو جائز إذا قبضاها . قال ابن المنذر : وهذا إجازة رهن المشاع ؛ لأن كل واحد منهما مرتهن نصف دار . قال ابن المنذر : رهن المشاع جائز كما يجوز بيعه .الحادية عشرة : ورهن ما في الذمة جائز عند علمائنا ؛ لأنه مقبوض خلافا لمن منع ذلك ، ومثاله رجلان تعاملا لأحدهما على الآخر دين فرهنه دينه الذي عليه . قال ابن خويزمنداد : وكل عرض جاز بيعه جاز رهنه ، ولهذه العلة جوزنا رهن ما في الذمة ؛ لأن بيعه جائز ، ولأنه مال تقع الوثيقة به فجاز أن يكون رهنا ، قياسا على سلعة موجودة . وقال من منع ذلك : لأنه لا يتحقق [ ص: 373 ] إقباضه والقبض شرط في لزوم الرهن ؛ لأنه لابد أن يستوفى الحق منه عند المحل ، ويكون الاستيفاء من ماليته لا من عينه ولا يتصور ذلك في الدين .الثانية عشرة : روى البخاري عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونا ، ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهونا وعلى الذي يركب ويشرب النفقة . وأخرجه أبو داود وقال بدل ( يشرب ) في الموضعين : ( يحلب ) . قال الخطابي : هذا كلام مبهم ليس في نفس اللفظ بيان من يركب ويحلب ، هل الراهن أو المرتهن أو العدل الموضوع على يده الرهن ؟ .قلت : قد جاء ذلك مبينا مفسرا في حديثين ، وبسببهما اختلف العلماء في ذلك ، فروى الدارقطني من حديث أبي هريرة ذكر النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا كانت الدابة مرهونة فعلى المرتهن علفها ، ولبن الدر يشرب وعلى الذي يشرب نفقته . أخرجه عن أحمد بن علي بن العلاء حدثنا زياد بن أيوب حدثنا هشيم حدثنا زكريا عن الشعبي عن أبي هريرة . وهو قول أحمد وإسحاق : أن المرتهن ينتفع من الرهن بالحلب والركوب بقدر النفقة . وقال أبو ثور : إذا كان الراهن ينفق عليه لم ينتفع به المرتهن . وإن كان الراهن لا ينفق عليه وتركه في يد المرتهن فأنفق عليه فله ركوبه واستخدام العبد . وقاله الأوزاعي والليث . الحديث الثاني خرجه الدارقطني أيضا ، وفي إسناده مقال ويأتي بيانه - من حديث إسماعيل بن عياش عن ابن أبي ذئب عن الزهري عن المقبري عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يغلق الرهن ولصاحبه غنمه وعليه غرمه . وهو قول الشافعي والشعبي وابن سيرين . وهو قول مالك وأصحابه . قال الشافعي : منفعة الرهن للراهن ، ونفقته عليه ، والمرتهن لا ينتفع بشيء من الرهن خلا الإحفاظ للوثيقة . قال الخطابي : وهو أولى الأقوال وأصحها ، بدليل قوله عليه السلام : لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه ، له غنمه وعليه غرمه . قال الخطابي : وقوله : ( من صاحبه ) : أي لصاحبه . والعرب تضع " من " موضع اللام ، كقولهم ( زهير ) :[ ص: 374 ]أمن أم أوفى دمنة لم تكلمقلت : قد جاء صريحا ( لصاحبه ) فلا حاجة للتأويل . وقال الطحاوي : كان ذلك وقت كون الربا مباحا ، ولم ينه عن قرض جر منفعة ، ولا عن أخذ الشيء بالشيء وإن كانا غير متساويين ، ثم حرم الربا بعد ذلك . وقد أجمعت الأمة على أن الأمة المرهونة لا يجوز للراهن أن يطأها ، فكذلك لا يجوز له خدمتها . وقد قال الشعبي : لا ينتفع من الرهن بشيء . فهذا الشعبي روى الحديث وأفتى بخلافه ، ولا يجوز عنده ذلك إلا وهو منسوخ . وقال ابن عبد البر وقد أجمعوا أن لبن الرهن وظهره للراهن . ولا يخلو من أن يكون احتلاب المرتهن له بإذن الراهن أو بغير إذنه ، فإن كان بغير إذنه ففي حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم : لا يحتلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه ما يرده ويقضي بنسخه . وإن كان بإذنه ففي الأصول المجتمع عليها في تحريم المجهول والغرر وبيع ما ليس عندك وبيع ما لم يخلق ، ما يرده أيضا ، فإن ذلك كان قبل نزول تحريم الربا . والله أعلم .وقال ابن خويزمنداد : ولو شرط المرتهن الانتفاع بالرهن فلذلك حالتان : إن كان من قرض لم يجز ، وإن كان من بيع أو إجارة جاز ؛ لأنه يصير بائعا للسلعة بالثمن المذكور ومنافع الرهن مدة معلومة فكأنه بيع وإجارة ، وأما في القرض فلأنه يصير قرضا جر منفعة ، ولأن موضوع القرض أن يكون قربة ، فإذا دخله نفع صار زيادة في الجنس وذلك ربا .الثالثة عشرة : لا يجوز غلق الرهن ، وهو أن يشترط المرتهن أنه له بحقه إن لم يأته به عند أجله . وكان هذا من فعل الجاهلية فأبطله النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : ( لا يغلق الرهن ) هكذا قيدناه برفع القاف على الخبر ، أي ليس يغلق الرهن . تقول : أغلقت الباب فهو مغلق . وغلق الرهن في يد مرتهنه إذا لم يفتك ، قال الشاعر :أجارتنا من يجتمع يتفرق ومن يك رهنا للحوادث يغلقوقال زهير :وفارقتك برهن لا فكاك له يوم الوداع فأمسى الرهن قد غلقاالرابعة عشرة : روى الدارقطني من حديث سفيان بن عيينة عن زياد بن سعد عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا يغلق الرهن له غنمه [ ص: 375 ] وعليه غرمه . زياد بن سعد أحد الحفاظ الثقات ، وهذا إسناد حسن . وأخرجه مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب مرسلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لا يغلق الرهن ) . قال أبو عمر : وهكذا رواه كل من روى الموطأ عن مالك فيما علمت ، إلا معن بن عيسى فإنه وصله ، ومعن ثقة ، إلا أني أخشى أن يكون الخطأ فيه من علي بن عبد الحميد الغضائري عن مجاهد بن موسى عن معن بن عيسى . وزاد فيه أبو عبد الله عمروس عن الأبهري بإسناده : ( له غنمه وعليه غرمه ) . وهذه اللفظة قد اختلف الرواة في رفعها ، فرفعها ابن أبي ذئب ومعمر وغيرهما . ورواه ابن وهب وقال : قال يونس قال ابن شهاب : وكان سعيد بن المسيب يقول : الرهن ممن رهنه ، له غنمه وعليه غرمه ، فأخبر ابن شهاب أن هذا من قول سعيد لا عن النبي صلى الله عليه وسلم . إلا أن معمرا ذكره عن ابن شهاب مرفوعا ، ومعمر أثبت الناس في ابن شهاب . وتابعه على رفعه يحيى بن أبي أنيسة ويحيى ليس بالقوي . وأصل هذا الحديث عند أهل العلم بالنقل مرسل ، وإن كان قد وصل من جهات كثيرة فإنهم يعللونها . وهو مع هذا حديث لا يرفعه أحد منهم وإن اختلفوا في تأويله ومعناه . ورواه الدارقطني أيضا عن إسماعيل بن عياش عن ابن أبي ذئب عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة مرفوعا . قال أبو عمر : لم يسمعه إسماعيل من ابن أبي ذئب وإنما سمعه من عباد بن كثير عن ابن أبي ذئب ، وعباد عندهم ضعيف لا يحتج به . وإسماعيل عندهم أيضا غير مقبول الحديث إذا حدث عن غير أهل بلده ، فإذا حدث عن الشاميين فحديثه مستقيم ، وإذا حدث عن المدنيين وغيرهم ففي حديثه خطأ كثير واضطراب .الخامسة عشرة : : نماء الرهن داخل معه إن كان لا يتميز كالسمن ، أو كان نسلا كالولادة والنتاج ، وفي معناه فسيل النخل ، وما عدا ذلك من غلة وثمرة ولبن وصوف فلا يدخل فيه إلا أن يشترطه . والفرق بينهما أن الأولاد تبع في الزكاة للأمهات ، وليس كذلك الأصواف والألبان وثمر الأشجار ؛ لأنها ليست تبعا للأمهات في الزكاة ولا هي في صورها ولا في معناها ولا تقوم معها ، فلها حكم نفسها لا حكم الأصل خلاف الولد والنتاج . والله أعلم بصواب ذلك .السادسة عشرة : ورهن من أحاط الدين بماله جائز ما لم يفلس ، ويكون المرتهن أحق [ ص: 376 ] بالرهن من الغرماء ، قاله مالك وجماعة من الناس . وروي عن مالك خلاف هذا - وقاله عبد العزيز بن أبي سلمة - إن الغرماء يدخلون معه في ذلك وليس بشيء ؛ لأن من لم يحجر عليه فتصرفاته صحيحة في كل أحواله من بيع وشراء ، والغرماء عاملوه على أنه يبيع ويشتري ويقضي ، لم يختلف قول مالك في هذا الباب ، فكذلك الرهن . والله أعلم .السابعة عشرة : فإن أمن بعضكم بعضا الآية شرط ربط به وصية الذي عليه الحق بالأداء وترك المطل . يعني إن كان الذي عليه الحق أمينا عند صاحب الحق وثقة فليؤد له ما عليه اؤتمن .وقوله : ( فليؤد ) من الأداء مهموز ، وهو جواب الشرط ويجوز تخفيف همزه فتقلب الهمزة واوا ولا تقلب ألفا ولا تجعل بين بين ؛ لأن الألف لا يكون ما قبلها إلا مفتوحا . وهو أمر معناه الوجوب ، بقرينة الإجماع على وجوب أداء الديون ، وثبوت حكم الحاكم به وجبره الغرماء عليه ، وبقرينة الأحاديث الصحاح في تحريم مال الغير .الثامنة عشرة : قوله تعالى : ( أمانته ) : الأمانة مصدر سمي به الشيء الذي في الذمة ، وأضافها إلى الذي عليه الدين من حيث لها إليه نسبة ، كما قال تعالى : ولا تؤتوا السفهاء أموالكم .التاسعة عشرة : قوله تعالى : وليتق الله ربه أي في ألا يكتم من الحق شيئا . ولا تكتموا الشهادة تفسير لقوله : " ولا يضارر " بكسر العين . نهى الشاهد عن أن يضر بكتمان الشهادة ، وهو نهي على الوجوب بعدة قرائن منها الوعيد . وموضع النهي هو حيث يخاف الشاهد ضياع حق . وقال ابن عباس : على الشاهد أن يشهد حيثما استشهد ، ويخبر حيثما استخبر ، قال : ولا تقل أخبر بها عند الأمير بل أخبره بها لعله يرجع ويرعوي . وقرأ أبو عبد الرحمن " ولا يكتموا " بالياء ، جعله نهيا للغائب .الموفية عشرين : إذا كان على الحق شهود تعين عليهم أداؤها على الكفاية ، فإن أداها اثنان واجتزأ الحاكم بهما سقط الفرض عن الباقين ، وإن لم يجتزأ بها تعين المشي إليه حتى يقع الإثبات . وهذا يعلم بدعاء صاحبها ، فإذا قال له : أحيي حقي بأداء ما عندك لي من الشهادة تعين ذلك عليه .الحادية والعشرون : قوله تعالى : ومن يكتمها فإنه آثم قلبه خص القلب بالذكر إذ الكتم من أفعاله ، وإذ هو المضغة التي بصلاحها يصلح الجسد كله كما قال عليه السلام [ ص: 377 ] فعبر بالبعض عن الجملة ، وقد تقدم في أول السورة . وقال الكيا : لما عزم على ألا يؤديها وترك أداءها باللسان رجع المأثم إلى الوجهين جميعا . فقوله آثم قلبه مجاز ، وهو آكد من الحقيقة في الدلالة على الوعيد ، وهو من بديع البيان ولطيف الإعراب عن المعاني . يقال : إثم القلب سبب مسخه ، والله تعالى إذا مسخ قلبا جعله منافقا وطبع عليه ، نعوذ بالله منه وقد تقدم في أول السورة . و ( قلبه ) رفع ب ( آثم ) و ( آثم ) خبر ، " إن " ، وإن شئت رفعت آثما بالابتداء ، و ( قلبه ) فاعل يسد مسد الخبر والجملة خبر إن . وإن شئت رفعت آثما على أنه خبر الابتداء تنوي به التأخير . وإن شئت كان ( قلبه ) بدلا من ( آثم ) بدل البعض من الكل . وإن شئت كان بدلا من المضمر الذي في ( آثم ) .وتعرضت هنا ثلاث مسائل تتمة أربع وعشرين :الأولى : اعلم أن الذي أمر الله تعالى به من الشهادة والكتابة لمراعاة صلاح ذات البين ونفي التنازع المؤدي إلى فساد ذات البين ، لئلا يسول له الشيطان جحود الحق وتجاوز ما حد له الشرع ، أو ترك الاقتصار على المقدار المستحق ، ولأجله حرم الشرع البياعات المجهولة التي اعتيادها يؤدي إلى الاختلاف وفساد ذات البين وإيقاع التضاغن والتباين . فمن ذلك ما حرمه الله من الميسر والقمار وشرب الخمر بقوله تعالى : إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر الآية . فمن تأدب بأدب الله في أوامره وزواجره حاز صلاح الدنيا والدين ، قال الله تعالى : ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم الآية .الثانية : روى البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله وروى النسائي عن ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها استدانت ، فقيل : يا أم المؤمنين ، تستدينين وليس عندك وفاء ؟ قالت : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من أخذ دينا وهو يريد أن يؤديه أعانه الله عليه . وروى الطحاوي وأبو جعفر الطبري والحارث بن أبي أسامة في مسنده عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا تخيفوا الأنفس بعد أمنها قالوا : يا رسول الله ، وما ذاك ؟ قال : ( الدين ) . وروى البخاري عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء ذكره : اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل والجبن والبخل وضلع الدين وغلبة الرجال . قال العلماء : ضلع [ ص: 378 ] الدين هو الذي لا يجد دائنه من حيث يؤديه . وهو مأخوذ من قول العرب : حمل مضلع أي ثقيل ، ودابة مضلع لا تقوى على الحمل ، قاله صاحب العين . وقال صلى الله عليه وسلم : الدين شين الدين . وروي عنه أنه قال : الدين هم بالليل ومذلة بالنهار . قال علماؤنا : وإنما كان شينا ومذلة لما فيه من شغل القلب والبال والهم اللازم في قضائه ، والتذلل للغريم عند لقائه ، وتحمل منته بالتأخير إلى حين أوانه . وربما يعد من نفسه القضاء فيخلف ، أو يحدث الغريم بسببه فيكذب ، أو يحلف له فيحنث ، إلى غير ذلك . ولهذا كان عليه السلام يتعوذ من المأثم والمغرم ، وهو الدين . فقيل له : يا رسول الله ، ما أكثر ما تتعوذ من المغرم ؟ فقال : إن الرجل إذا غرم حدث فكذب ووعد فأخلف . وأيضا فربما قد مات ولم يقض الدين فيرتهن به ، كما قال عليه السلام : نسمة المؤمن مرتهنة في قبره بدينه حتى يقضى عنه . وكل هذه الأسباب مشائن في الدين تذهب جماله وتنقص كماله . والله أعلمالثالثة : لما أمر الله تعالى بالكتب والإشهاد وأخذ الرهان كان ذلك نصا قاطعا على مراعاة حفظ الأموال وتنميتها ، وردا على الجهلة المتصوفة ورعاعها الذين لا يرون ذلك ، فيخرجون عن جميع أموالهم ولا يتركون كفاية لأنفسهم وعيالهم ، ثم إذا احتاج وافتقر عياله فهو إما أن يتعرض لمنن الإخوان أو لصدقاتهم ، أو أن يأخذ من أرباب الدنيا وظلمتهم ، وهذا الفعل مذموم منهي عنه . قال أبو الفرج الجوزي : ولست أعجب من المتزهدين الذين فعلوا هذا مع قلة علمهم ، إنما أتعجب من أقوام لهم علم وعقل كيف حثوا على هذا ، وأمروا به مع مضادته للشرع والعقل . فذكر المحاسبي في هذا كلاما كثيرا ، وشيده أبو حامد الطوسي ونصره . [ ص: 379 ] والحارث عندي أعذر من أبي حامد ؛ لأن أبا حامد كان أفقه ، غير أن دخوله في التصوف أوجب عليه نصرة ما دخل فيه . قال المحاسبي في كلام طويل له : ولقد بلغني أنه لما توفي عبد الرحمن بن عوف قال ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما نخاف على عبد الرحمن فيما ترك . فقال كعب : سبحان الله! وما تخافون على عبد الرحمن ؟ كسب طيبا وأنفق طيبا وترك طيبا . فبلغ ذلك أبا ذر فخرج مغضبا يريد كعبا ، فمر بلحى بعير فأخذه بيده ، ثم انطلق يطلب كعبا ، فقيل لكعب : إن أبا ذر يطلبك . فخرج هاربا حتى ، دخل على عثمان يستغيث به وأخبره الخبر . فأقبل أبو ذر يقص الأثر في طلب كعب حتى انتهى إلى دار عثمان ، فلما دخل قام كعب فجلس خلف عثمان هاربا من أبي ذر ، فقال له أبو ذر : يا ابن اليهودية ، تزعم ألا بأس بما تركه عبد الرحمن ! لقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال : الأكثرون هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال هكذا وهكذا . قال المحاسبي : فهذا عبد الرحمن مع فضله يوقف في عرصة يوم القيامة بسبب ما كسبه من حلال ، للتعفف وصنائع المعروف فيمنع السعي إلى الجنة مع الفقراء وصار يحبو في آثارهم حبوا ، إلى غير ذلك من كلامه . ذكره أبو حامد وشيده وقواه بحديث ثعلبة ، وأنه أعطي المال فمنع الزكاة . قال أبو حامد : فمن راقب أحوال الأنبياء والأولياء وأقوالهم لم يشك في أن فقد المال أفضل من وجوده ، وإن صرف إلى الخيرات ، إذ أقل ما فيه اشتغال الهمة بإصلاحه عن ذكر الله . فينبغي للمريد أن يخرج عن ماله حتى لا يبقى له إلا قدر ضرورته ، فما بقي له درهم يلتفت إليه قلبه فهو محجوب عن الله تعالى . قال الجوزي : وهذا كله خلاف الشرع والعقل ، وسوء فهم المراد بالمال ، وقد شرفه الله وعظم قدره وأمر بحفظه ، إذ جعله قواما للآدمي وما جعل قواما للآدمي الشريف فهو شريف ، فقال تعالى : ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما ونهى جل وعز أن يسلم المال إلى غير رشيد فقال : فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم . ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال ، قال لسعد : إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة [ ص: 380 ] يتكففون الناس . وقال : ما نفعني مال كمال أبي بكر . وقال لعمرو بن العاص : نعم المال الصالح للرجل الصالح . ودعا لأنس ، وكان في آخر دعائه : اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيه . وقال كعب : يا رسول الله ، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله . فقال : أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك . قال الجوزي : هذه الأحاديث مخرجة في الصحاح ، وهي على خلاف ما تعتقده المتصوفة من أن إكثار المال حجاب وعقوبة ، وأن حبسه ينافي التوكل ، ولا ينكر أنه يخاف من فتنته ، وأن خلقا كثيرا اجتنبوه لخوف ذلك ، وأن جمعه من وجهه ليعز ، وأن سلامة القلب من الافتتان به تقل ، واشتغال القلب مع وجوده بذكر الآخرة يندر ، فلهذا خيف فتنته . فأما كسب المال فإن من اقتصر على كسب البلغة من حلها فذلك أمر لا بد منه وأما من قصد جمعه والاستكثار منه من الحلال نظر في مقصوده ، فإن قصد نفس المفاخرة والمباهاة فبئس المقصود ، وإن قصد إعفاف نفسه وعائلته ، وادخر لحوادث زمانه وزمانهم ، وقصد التوسعة على الإخوان وإغناء الفقراء وفعل المصالح أثيب على قصده ، وكان جمعه بهذه النية أفضل من كثير من الطاعات . وقد كانت نيات خلق كثير من الصحابة في جمع المال سليمة لحسن مقاصدهم بجمعه ، فحرصوا عليه وسألوا زيادته . ولما أقطع النبي صلى الله عليه وسلم الزبير حضر فرسه أجرى الفرس حتى قام ثم رمى سوطه ، فقال : أعطوه حيث بلغ سوطه . وكان سعد بن عبادة يقول في دعائه : اللهم وسع علي . وقال إخوة يوسف : ونزداد كيل بعير . وقال شعيب لموسى : فإن أتممت عشرا فمن عندك [ ص: 381 ] . وإن أيوب لما عوفي نثر عليه رجل من جراد من ذهب ، فأخذ يحثي في ثوبه ويستكثر منه ، فقيل له : أما شبعت ؟ فقال : يا رب فقير يشبع من فضلك ؟ . وهذا أمر مركوز في الطباع . وأما كلام المحاسبي فخطأ يدل على الجهل بالعلم ، وما ذكره من حديث كعب وأبي ذر فمحال . من وضع الجهال وخفيت عدم صحته عنه للحوقه بالقوم . وقد روي بعض هذا وإن كان طريقه لا يثبت ؛ لأن في سنده ابن لهيعة وهو مطعون فيه . قال يحيى : لا يحتج بحديثه . والصحيح في التاريخ أن أبا ذر توفي سنة خمس وعشرين ، وعبد الرحمن بن عوف توفي سنة اثنتين وثلاثين ، فقد عاش بعد أبي ذر سبع سنين . ثم لفظ ما ذكروه من حديثهم يدل على أن حديثهم موضوع ، ثم كيف تقول الصحابة : إنا نخاف على عبد الرحمن ! أوليس الإجماع منعقدا على إباحة جمع المال من حله ، فما وجه الخوف مع الإباحة ؟ أويأذن الشرع في شيء ثم يعاقب عليه ؟ هذا قلة فهم وفقه . ثم أينكر أبو ذر على عبد الرحمن ، وعبد الرحمن خير من أبي ذر بما لا يتقارب ؟ ثم تعلقه بعبد الرحمن وحده دليل على أنه لم يسبر سير الصحابة ، فإنه قد خلف طلحة ثلاثمائة بهار في كل بهار ثلاثة قناطير . والبهار الحمل . وكان مال الزبير خمسين ألفا ومائتي ألف . وخلف ابن مسعود تسعين ألفا . وأكثر الصحابة كسبوا الأموال وخلفوها ولم ينكر أحد منهم على أحد . وأما قوله : " إن عبد الرحمن يحبو حبوا يوم القيامة " فهذا دليل على أنه ما عرف الحديث ، وأعوذ بالله أن يحبو عبد الرحمن في القيامة ، أفترى من سبق وهو أحد العشرة ، المشهود لهم بالجنة ومن أهل بدر والشورى يحبو ؟ ثم الحديث يرويه عمارة بن زاذان ، وقال البخاري : ربما اضطرب حديثه . وقال أحمد : يروي عن أنس أحاديث مناكير ، وقال أبو حاتم الرازي : لا يحتج به . وقال الدارقطني : ضعيف . وقوله : " ترك المال الحلال أفضل من جمعه " ليس كذلك ، ومتى صح القصد فجمعه أفضل بلا خلاف عند العلماء . وكان سعيد بن المسيب يقول : لا خير فيمن لا يطلب المال ، يقضي به دينه ويصون به عرضه ، فإن مات تركه ميراثا لمن بعده . وخلف ابن المسيب أربعمائة دينار ، وخلف سفيان الثوري مائتين ، وكان يقول : المال في هذا الزمان سلاح . وما زال السلف يمدحون المال ويجمعونه للنوائب وإعانة الفقراء ، وإنما تحاماه قوم منهم إيثارا للتشاغل بالعبادات ، وجمع الهم فقنعوا باليسير . فلو قال هذا القائل : إن التقليل منه أولى قرب الأمر ولكنه زاحم به مرتبة الإثم .[ ص: 382 ] قلت : ومما يدل على حفظ الأموال ومراعاتها إباحة القتال دونها وعليها ، قال صلى الله عليه وسلم : من قتل دون ماله فهو شهيد . وسيأتي بيانه في " المائدة " إن شاء الله تعالى .
تَنْوِيرُ ٱلْمِقْبَاسِ مِن تَفْسِيرِ ٱبْنِ عَبَّاس
Tafsir Tanwir al-Miqbas —
حضرت ابن عباسؓ
هذا معطوف على قوله : { إذا تداينتم بدَين وَإِن كُنتُمْ على سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فرهان مَّقْبُوضَةٌ } [ البقرة : 282 ] الآية ، فجميع ما تقدّم حكم في الحضر والمُكنة ، فإن كانوا على سفر ولم يتمكّنوا من الكتابة لعدم وجود من يكتب ويشهد فقد شُرع لهم حكم آخر وهو الرهن ، وهذا آخر الأقسام المتوقّعة في صور المعاملة ، وهي حالة السفر غالباً ، ويلحق بها ما يماثل السفر في هاته الحالة .والرهان جمع رهن ويجمع أيضاً على رُهُن بضم الراء وضم الهاء وقد قرأه جمهور العشرة : بكسر الراء وفتح الهاء ، وقرأه ابن كثير ، وأبو عَمْرو : بضم الراء وضم الهاء ، وجمْعُه باعتبار تعدّد المخاطبين بهذا الحكم .والرهن هنا اسم للشيء المرهون تسميةً للمفعول بالمصدر كالخلْق . ومعنى الرهن أن يجعل شيء من متاع المدين بيد الدائن توثقة له في دينه . وأصل الرهن في كلام العرب يدل على الحَبس قال تعالى : { كل نفس ما كسبت رهينة } [ المدثر : 38 ] فالمرهون محبوس بيد الدائن إلى أن يستوفي دينه قال زهير: ... وفارقْتَك برهن لا فَكَاكَ لَهيومَ الوَدَاععِ فأمسَى الرهن قد غَلِقَا ... والرهن شائع عند العرب : فقد كانوا يرهنون في الحمالات والدَيات إلى أن يقع دفعها ، فربّما رهنوا أبناءهم ، وربّما رهنوا واحداً من صناديدهم ، قال الأعشى يَذْكر أنّ كِسْرى رام أخذ رهائن من أبنائهم: ... آلَيْتُ لا أُعْطِيه من أبنائنارُهُنا فنفسدَهم كمَن قد أفْسَدا ... وقال عبد الله بن هَمَّام السلولي: ... فلمّا خَشِيتُ أظَافِيرَهمنَجَوْت وأرْهَنْتُهُم مَالِكَا ... ومن حديث كعب بن الأشْرَففِ أنّه قال لعبد الرحمان بن عَوْف : ارْهَنُوني أبْنَاءَكم .ومعنى فرِهانٌ : أي فرهان تعَوّض بها الكتابة . ووصفُها بمقبوضة إمّا لمجرّد الكشف ، لأنّ الرهان لا تكون إلاّ مقبوضة ، وإمّا للاحتراز عن الرهن للتوثقة في الديون في الحضر فيؤخَذ مِن الإذن في الرهن أنّه مباح فلذلك إذا سأله ربّ الدين أجيبَ إليه فدلّت الآية على أنّ الرهن توثقة في الدين .والآية دالة على مشروعية الرهن في السفر بصريحها . وأمّا مشروعية الرهن في الحضر فلأنّ تعليقه هنا على حال السفر ليس تعليقاً بمعنى التقييد بل هو تعليق بمعنى الفرض والتقدير ، إذا لم يوجد الشاهد في السفر ، فلا مفهوم للشرط لوروده مورد بيان حالة خاصة لا للاحتراز ، ولا تعتبر مفاهيم القيود إلاّ إذا سيقت مساق الاحتراز ، ولذا لم يعتدّوا بها إذا خرجت مخرج الغالب . ولا مفهوم له في الانتقال عن الشهادة أيضاً؛ إذ قد علم من الآية أنّ الرهن معاملة لهم ، فلذلك أحيلوا عليها عند الضرورة على معنى الإرشاد والتنبيه .وقد أخذ مجاهد ، والضحّاك ، وداود الظاهري ، بظاهر الآية من تقييد الرهن بحال السفر ، مع أنّ السنّة أثبتت وقوع الرهن من الرسول صلى الله عليه وسلم ومن أصحابه في الحضَر .والآية دليل على أنّ القبض من متمّمات الرّهن شرعاً ، ولم يختلف العلماء في ذلك ، وإنّما اختلفوا في الأحكام الناشئة عن ترك القبض ، فقال الشافعي : القبض شرط في صحة الرهن ، لظاهر الآية ، فلو لم يقارن عقدة الرهن قبض فسدت العقدة عنده ، وقال محمد بن الحسن ، صاحب أبي حنيفة : لا يجوز الرهن بدون قبض ، وتردّد المتأخّرون من الحنفية في مفاد هذه العبارة؛ فقال جماعة : هو عنده شرط في الصحة كقول الشافعي ، وقال جماعة : هو شرط في اللزوم قريباً من قول مالك ، واتفق الجميع على أنّ للراهن أن يرجع بعد عقد الرهن إذا لم يقع الحوز ، وذهب مالك إلى أنّ القبض شرط في اللزوم ، لأنّ الرهن عقد يثبت بالصيغة كالبيع ، والقبضُ من لوازمه ، فلذلك يُجبر الراهن على تحويز المرتهن إلاّ أنّه إذا مات الراهن أو أفلس قبل التحويز كان المرتهن أسوةَ الغرماء؛ إذ ليس له ما يؤثره على بقية الغرماء ، والآية تشهد لهذا لأنّ الله جعل القبض وصفاً للرهن ، فعلم أنّ ماهية الرهن قد تحقّقت بدون القبض . وأهل تونس يكتفون في رهن الرباع والعقار برهن رسوم التملّك ، ويعدّون ذلك في رهن الدين حوزاً . وفي الآية دليل واضح على بطلان الانتفاع؛ لأنّ الله تعالى جعل الرهن عوضاً عن الشهادة في التوثّق فلا وجه للانتفاع ، واشتراط الانتفاع بالرهن يخرجه عن كونه توثّقاً إلى ماهية البيع .{ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الذى اؤتمن أمانته وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ } .متفرّع على جميع ما تقدّم من أحكام الدين : أي إنْ أمِنَ كلّ من المتداينين الآخر أي وثق بعضكم بأمانة بعض فلم يطالبه بإشهاد ولا رهن ، فالبعض المرفوع هو الدائن ، والبعض المنصوب هو المدين وهو الذي ائتُمن .والأمانة مصدر آمنه إذا جعله آمناً . والأمن اطمئنان النفس وسلامتها ممّا تخافه ، وأطلقت الأمانة على الشيء المؤمَّن عليه ، من إطلاق المصدر على المفعول . وإضافة أمانته تشبه إضافة المصدر إلى مفعوله . وسيجيء ذكر الأمانة بمعنى صفةِ الأمين عندَ قوله تعالى : { وأنا لكم ناصح أمين } في سورة الأعراف ( 68 ) .وقد أطلق هنا اسم الأمانة على الدَّين في الذمّة وعلى الرهن لتعظيم ذلك الحق لأنّ اسم الأمانات له مهابَة في النفوس ، فذلك تحذير من عدم الوفاء به؛ لأنّه لما سمّي أمانة فعدم أدائه ينعكس خِيانة؛ لأنّها ضدّها ، وفي الحديث : أدِّ الأمَانَة إلى من ائتَمنك ولا تَخن من خانك .والأداء : الدفع والتوفية ، وردّ الشيء أو رَدُّ مثله فيما لا تقصد أعيانه ، ومنه أداء الأمانة وأداء الدّين أي عدم جحده قال تعالى : { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها } [ النساء : 58 ] .والمعنى : إذا ظننتم أنّكم في غُنية عن التوثّق في ديونكم بأنّكم أمناء عند بعضكم ، فأعْطُوا الأمانَة حَقَّها .وقد علمتَ ممّا تقدم عند قوله تعالى : { فاكتبوه } أنّ آية { فإن أمن بعضكم بعضاً فليود الذي أؤتمن أمانته } تعتبر تكميلاً لطلب الكتابة والإشهادِ طلَبَ ندب واستحباب عند الذين حملوا الأمر في قوله تعالى : { فاكتبوه } على معنى الندب والاستحباب ، وهم الجمهور .ومعنى كونها تكميلاً لذلك الطلب أنّها بيّنت أنّ الكتابة والإشهاد بين المتداينين ، مقصود بهما حسن التعامل بينهما ، فإن بدَا لهما أن يأخذا بهما فنعمَّا ، وإن اكتفيا بما يعلمانه من أماننٍ بينهما فلهما تركهما .وأتبع هذا البيان بوصاية كلا المتعاملين بأن يؤدّيا الأمانة ويتّقيا الله .وتقدم أيضاً أنّ الذين قالوا بأنّ الكتابة والإشهاد على الديون كان واجباً ثم نسخ وجوبه ، ادّعوا أنّ ناسخه هو قوله تعالى : { فإن أمن بعضكم بعضاً } الآية ، وهو قول الشعبي ، وابن جريج ، وجابر بن زيد ، والربيع بن سليمان ، ونسب إلى أبي سعيد الخدري .ومحمل قولهم وقوللِ أبي سعيد إن صحّ ذلك عنه أنّهم عنّوا بالنسخ تخصيص عموم الأحوال والأزمنة . وتسميةُ مثل ذلك نسخاً تسمية قديمة .أمّا الذين يرون وجوب الكتابة والإشهاد بالديون حكمَا مُحْكَما ، ومنهم الطبري ، فقصروا آية { فإن أمن بعضكم بعضاً } الآية على كونها تكملةً لصورة الرهن في السفر خاصة ، كما صرّح به الطبري ولم يأت بكلام واضح في ذلك ولكنّه جمجم الكلام وطَوَاه .ولَوْ أنّهم قالوا : إنّ هذه الآية تعني حالةَ تعذّر وجود الرهن في حالة السفر ، أي فلم يبق إلاّ أن يأمن بعضكم فالتقدير : فإن لم تجدوا رهناً وأمن بعضكم بعضاً إلى آخره لكان له وجه ، ويُفهم منه أنّه إن لم يأمنه لا يداينه ، ولكن طُوى هذا ترغيباً للناس في المواساة والاتِّسام بالأمانة . وهؤلاء الفرق الثلاثة كلّهم يجعلون هذه الآية مقصورة على بيان حالة ترك التوثّق في الديون .وأظهر ممّا قالوه عندي : أنّ هذه الآية تشريع مستقلّ يعم جميع الأحوال المتعلّقة بالديون : من إشهاد ، ورهننٍ ، ووفاءٍ بالدّين ، والمتعلّقةِ بالتبايع ، ولهذه النكتة أبهم المؤتمنون بكلمة { بعض } ليشمَل الائتمان من كلا الجانبين : الذي من قبل ربّ الدين ، والذي من قبل المدين .فربّ الدين يأتمن المدين إذا لم ير حاجة إلى الإشهاد عليه ، ولم يطالبه بإعطاء الرهن في السفر ولا في الحضر .والمدين يأتمن الدائنَ إذا سَلَّم له رهناً أغلى ثمناً بكثير من قيمة الدين المرتهَن فيه ، والغالب أنّ الرهان تكون أوْفَرَ قيمة من الديون التي أرهنت لأجلها ، فأمر كلّ جانب مؤتمننٍ أن يؤدّي أمانته ، فأداءُ المدين أمانته بدفع الدين ، دون مطل ، ولا جحود ، وأداء الدائن أمانته إذا أعطي رهناً متجاوزَ القيمةِ على الدّين أن يردّ الرهن ولا يجحده غير مكترث بالدّين؛ لأنّ الرهن أوفر منه ، ولا ينقص شيئاً من الرهن .ولفظ الأمانة مستعمل في معنيين : معنى الصفة التي يتَّصف بها الأمين ، ومعنى الشيء المؤمَّن .فيؤخذ من هذا التفسير إبطال غلَق الرهن : وهو أن يصير الشيء المرهون ملكاً لربّ الدّين ، إذا لم يدفع الدينَ عند الأجل ، قال النبي صلى الله عليه وسلم" لا يَغْلق الرهنُ " وقد كان غَلق الرهن من أعمال أهل الجاهلية ، قال زهير: ... وفارقَتْكَ برَهْننٍ لا فَكَاكَ لهعند الوَداع فأمسى الرهن قد غَلِقا ... ومعنى { أمن بعضكم بعضاً } أن يقول كلا المتعاملين للآخر : لا حاجة لنا بالإشهاد ونحن يأمن بعضنا بعضاً ، وذلك كي لا ينتقض المقصد الذي أشرنا إليه فيما مضى من دفع مظنّة اتّهام أحد المتداينين الآخر .وزيد في التحذير بقوله : { وليتق الله ربه } ، وذِكر اسم الجلالة فيه مع إمكان الاستغناء بقوله : «وليتّق ربّه» لإدخال الرّوع في ضمير السامع وتربية المهابة .وقوله : { الذي أؤتمن } وقع فيه ياء هي المدة في آخر ( الذي ) ووقع بعده همزتان أولاهما وصلية وهي همزة الافتعال ، والثانية قطعية أصلية ، فقرأه الجمهور بكسر ذال الذي وبهمزة ساكنة بعد كسرة الذال؛ لأنّ همزة الوصل سقطت في الدرَج فبقيت الهمزة على سكونها؛ إذ الداعي لقلب الهمزة الثانية مدّا قد زال ، وهو الهمزة الأولى ، ففي هذه القراءة تصحيح للهمزة؛ إذ لا داعي للإعلال .وقرأه ورش عن نافع ، وأبو عمرو ، وأبو جعفر : الّذِيتُمن بياء بعد ذال الذي ، ثم فوقية مضمومة : اعتباراً بأنّ الهمزة الأصلية قد انقلبت واواً بعد همزة الافتعال الوصلية؛ لأنّ الشأن ضم همزة الوصل مجانسة لحركة تاء الافتعال عند البناء للمجهول ، فلمّا حذفت همزة الوصل في الدرج بقيت الهمزة الثانية واواً بعد كسرة ذال ( الذي ) فقلبت الواو ياء ففي هذه القراءة قلبان .وقرأه أبو بكر عن عاصم : الذي اوتمن بقلب الهمزة واواً تبعاً للضمة مشيراً بها إلى الهمزة .وهذا الاختلاف راجع إلى وجه الأداء فلا مخالفة فيه لرسم المصحف .{ وَلاَ تَكْتُمُواْ الشهادة وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ ءَاثِمٌ قَلْبُهُ والله بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } .وصاية ثانية للشهداء تجمع الشهادات في جميع الأحوال؛ فإنّه أمر أن يكتب الشاهد بالعدل ، ثم نُهي عن الامتناع من الكتابة بين المتداينين ، وأعقَب ذلك بالنهي عن كتمان الشهادة كلّها . فكان هذا النهي بعمومه بمنزلة التذييل لأحكام الشهادة في الدّين .واعلم أنّ قوله تعالى : { ولا تكتموا الشهادة } نهي ، وأنّ مقتضى النهي إفادة التكرار عند جمهور علماء الأصول : أي تكرارِ الانكفاف عن فعل المنهيّ في أوقات عُروضضِ فعله ، ولولا إفادته التكرار لَما تحقّقت معصية ، وأنّ التكرار الذي يقتضيه النهي تكرار يستغرق الأزمنة التي يعرض فيها داععٍ لِفعل المنهيّ عنه ، فلذلك كان حقّاً على من تحمّل شهادة بحقّ ألاّ يكتمه عند عروض إعلانه : بأن يبلغه إلى من ينتفع به ، أو يقضِي به ، كلّما ظهر الداعي إلى الاستظهار به ، أو قبلَ ذلك إذا خشي الشاهد تلاشي ما في علمه : بغيبة أو طُرُوِّ نسيان ، أو عروض موت ، بحسب ما يتوقّع الشاهد أنّه حافظٌ للحقّ الذي في علمه ، على مقدار طاقته واجتهاده .وإذ قد علمتَ آنفاً أنّ الله أنبأنا بأنّ مراده إقامة الشهادة على وجهها بقوله : { وأقوم للشهادة } [ البقرة : 282 ] ، وأنّه حرّض الشاهد على الحضور للإشهاد إذا طُلب بقوله : { ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا } [ البقرة : 282 ] فعُلم من ذلك كلّه الاهتمام بإظهار الشهادة إظهاراً للحق . ويؤيّد هذا المعنى ويزيده بياناً : قول النبي صلى الله عليه وسلم " ألاَ أخْبِرُكُم بخَيْر الشهداءِ الذي يأتي بشهادته قبل أن يُسألَها " رواه مالك في «الموطّأ» ، ورواه عنه مسلم والأربعة .فهذا وجه تفسير الآية تظاهرَ فيه الأثر والنظرُ . ولكن روى في «الصحيح» عن أبي هريرة : أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " خيرُ أمَّتِي القرنُ الذي بُعِثْتُ فيهم ثم الذين يلونهم قالها ثانية وشكّ أبو هريرة في الثالثة ثم يخلف قوم يشهدون قبل أن يستشهدوا " الحديثَ .وهو مسوق مساق ذَمِّ مَن وصفهم بأنّهم يشهدون قبل أن يُستشهدوا ، وأنّ ذمّهم من أجل تلك الصفة . وقد اختلف العلماء في محمله؛ قال عياض : حمله قوم على ظاهره من ذمّ من يَشهد قبل أن تطلب منه الشهادة ، والجمهور على خلافه وأنّ ذلك غير قادح ، وحملوا ما في الحديث على ما إذا شهِد كاذباً ، وإلاّ فقد جاء في «الصحيح» : " خير الشهود الذي يأتي بشهادته قبل أن يُسْألَها " . وأقول : روى مسلم عن عِمران بن حُصَين : أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إنّ خيركم قرني ثم الذين يلونهم قالها مرتين أو ثلاثاً ثم يكون بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون " الحديث .والظاهرّ أنّ ما رواه أبو هريرة وما رواه عِمران بن حصين حديث واحد ، سمعه كِلاَهما ، واختلفت عبارتهما في حكايته فيكون لفظ عمران بن حصين مبيّناً لفظ أبي هريرة أنّ معنى قوله : قبل أن يستشهدوا دُونَ أن يستشهدوا ، أي دون أن يستشهدهم مُشهد ، أي أن يحمِلوا شهادة أي يشهدون بما لا يعلمون ، وهو الذي عناه المازري بقوله : وحملوا ما في الحديث أي حديث أبي هريرة على ما إذا شهد كاذباً . فهذا طريق للجمع بين الروايتين ، وهي ترجع إلى حمل المجمل على المبيّن .وقال النووي : تأوّلَه بعض العلماء بأنّ ذم الشهادة قبل أن يُسألها الشاهد هو في الشهادة بحقوق الناس بخلاف ما فيه حق اللَّه قال النووي : «وهذا الجمع هو مذهب أصحابنا» وهذه طريقة ترجع إلى إعمال كل من الحديثين في باب ، بتأويل كلّ من الحديثين على غير ظاهره؛ لئلا يلغَى أحدهما .قلت : وبنى عليه الشافعية فرعا بردّ الشهادة التي يؤدّيها الشاهد قبل أن يُسألها ، ذكره الغزالي في «الوجيز» ، والذي نقل ابن مرزوق في «شرح مُختصر خليل عن الوجيز» «الحرص على الشهادة بالمبادرة قبلَ الدعوى لا تقبل ، وبعد الدعوى وقبل الاستشهاد وجهان فإن لم تقبل فهل يصير مجروحاً وجهان» .فأما المالكية فقد اختلفَ كلامهم .فالذي ذهب إليه عياض وابن مرزوق أنّ أداء الشاهد شهادته قبل أن يسألها مقبول لحديث «الموطأ» «خَيْر الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يُسألها» ونقل الباجي عن مالك : «أنّ معنى الحديث أن يكون عند الشاهد شهادة لرجل لا يعلم بها ، فيخبره بها ، ويؤدّيها له عند الحاكم» فإنّ مالكاً ذكره في «الموطأ» ولم يذيّله بما يقتضي أنّه لا عمل عليه وتبعَ الباجي ابنُ مرزوق في «شرحه لمختصر خليل» ، وادّعى أنَّه لا يعرف في المذهب ما يخالفه والذي ذهب إليه ابن الحاجب ، وخليلٌ ، وشارحو مختصرَيْهما : أنّ أداء الشهادة قبل أن يطلب من الشاهد أداؤُها مانع من قبولها : قال ابن الحاجب «وفي الأداء يُبدأ به دونَ طلب فيما تمحّض من حق الآدمي قادِحة» وقال خليل عاطفاً على موانع قبول الشهادة : «أوْ رَفَع قبل الطلب في مَحْض حقّ الآدمي» . وكذلك ابن راشد القفصي في كتابه «الفائِق في الأحكام والوثائق» ونسبه النووي في «شرحه على صحيح مسلم لمالك» ، وحمله على أنّ المستند متّحد وهو إعمال حديث أبي هريرة ولعلّه أخذ نسْبة ذلك لمالك من كلام ابن الحاجب المتقدّم .وادّعى ابن مرزوق أنّ ابن الحاجب تبع ابن شاس إذ قال : «فإن بادر بها من غير طلب لم يقبل» وأنّ ابن شاس أخذه من كلام الغزالي قال : «والذي تقتضيه نصوص المذهب أنّه إنْ رفعها قبل الطلب لم يقدح ذلك فيها بل إن لم يكن فعله مندوباً فلا أقلّ من أن لا تُردّ» واعتضد بكلام الباجي في شرح حديث : خير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يُسألها .وقد سلكوا في تعليل المسألة مسلكين : مسلك يرجع إلى الجمع بين الحديثين ، وهو مسلك الشافعية ، ومسلك إعمال قاعدة رَدّ الشهادةِ بتهمة الحرص على العمل بشهادته وأنّه ريبة .وقوله : { ومن يكتمها فإنه آثم قلبه } زيادة في التحذير . والإثمُ : الذنب والفجور .والقلب اسم للإدراك والانفعالات النفسية والنَوايا . وأسد الإثم إلى القلب وإنّما الآثم الكاتم لأنّ القلب أي حركات العقل يسبّب ارتكاب الإثم : فإنّ كتمان الشهادة إصْرار قلبي على معصية ، ومثله قوله تعالى : { [ الأعراف : 116 ] وإنّما سحَروا الناس بواسطة مرئيات وتخيّلات وقول الأعشى: ... كذلكَ فافعل ما حييتَ إذا شَتَوْاوأقْدِمْ إذَا ما أعْيُنُ الناسسِ تَفْرق ... لأنْ الفرَق ينشأ عن رؤية الأهوال .وقوله : والله بما تعملون عليم } تهديد ، كناية عن المجازاة بمثل الصنيع؛ لأنّ القادر لا يحُول بينه وبين المؤاخذة إلاّ الجهل فإذا كان عليماً أقام قسطاس الجزاء .
ٱلتَّفْسِيرُ ٱلْوَسِيط
Tafsir Al-Waseet —
علمائے جامعہ ازہر
ثم بين - سبحانه - ما يحب على المسلمين فعله إذا لم يتمكنوا من كتابة ديونهم بأن كانوا مسافرين وليس معهم كاتب فقال - تعالى - :( وَإِن كُنتُمْ على سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ . . . )الرهان : جمع رهن بمعنى مرهون من باب إطلاق المصدر على اسم المفعول وقرأ ابن كثير وأبو عمر ( فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌْْ ) وأصل الرهن في كلام العرب يدل على الحبس قال - تعالى - : ( كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ) ومعنى الرهن : أن يوضع شيء يناسب قيمةالدين من متاع المدين بيد الدائن توثقه له في دينه ، ليستطيع أن يستوفي حقه من هذا الشيء المرهون عند تعذر الدفع .والمعنى : وإن كنتم . أيها المؤمنون - مسافرين وتداينتم بدين إلى أجل مسمى ، ولم تجدوا كاتباً يكتب لكم ديونكم ، أو لم تتيسر لكم أسباب الكتابة لأي سبب من الأسباب ، فإنه في هذه الحالة يقوم مقام الكتابة رهان مقبوضة صاحب الدين ضماناً لحقه عند تعذر أخذه من الغريم .وفي التعبير بقوله : ( على سَفَرٍ ) استعارة تبعية حيث شبه تمكنهم في السفر بتمكن الراكب من مركوبه . وفيه كذلك إشارة إلى اضطراب الحال ، لأن حال المسافر يغلب عليها التنقل وعدم الاستقرار .وجملة ( وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً ) معطوفة على فعل الشرط ، أي : وإن كنتم مسافرين ولم تجدوا ، كاتبا فتكون في محل جزم تقديراً . ويجوز أن تكون الواو للحال والجملة بعدها في محل نصب على الحال .وقوله : ( فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ ) خبر لمبتدأ محذوف والتقدير : فالذي يستوثق به رهان مقبوضة .أو مبتدأ محذوف الخبر والتقدير : فعليكم رهان مقبوضة .ومن الأحكام التي أخذها الفقهاء من هذه الآية الكريمة : أن تعليق الرهان على السفر ليس لكون السفر شرطاً في صحة الرهان ، فإن التعامل بالرهان مشروع في حالتي السفر والحضر ، وإنما علق هنا على السفر لأنه مظنة تعسر الكتابة لما فيه من التنقل وعدم الاستقرار . وقد ثبت في الصحيحين عن أنس " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي ودرعه مرهونة عند يهودي على ثلاثين وسقاً من شعير رهنها قوتاً لأهله " .ومن الواضح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما رهن درعه لليهودي كان مقيماً ولم يكن مسافرا .قال القرطبي : " ولم يروا عن أحد منع الرهن في الحضر سوى مجاهد والضحاك وداود الأحوال . وليس كون الرهن في الآية في السفر مما يحظر في غيره " .كذلك أخذ بعض الفقهاء من قوله : ( فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ ) أن الرهن لا يتم إلا بالقبض ، فإذا افترق المتعاقدان من غير قبض كان الرهن غير صحيح بنص الآية وهذا مذهب الأحناف والشافعية ، ويرى المالكية والحنابلة أن الرهن يتم من غير القبض ، لأن القبض حكم من أحكامه ، فمن حق الدائن بعد تمام عقد الرهن أن يطالب بقبض العين المرهونة ، فالقبض حكم من أحكام العقد ، وليس ركنا من أركانه ولا شرطاً لتمامه .وقوله : ( فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الذي اؤتمن أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ الله رَبَّه ) تفريع على أحكام الديون السابقة ، وحض على أداء الأمانة وعلى حسن المعاملة .أي : فإن أمن الدائن المدين واعتمد على ذمته ووفائه ولم يوثق الدين بالكتابة والشهود والرهن ، فعلى المدين أن يكون عند حسن ظن الدائن به بأن يؤدي ما عليه من ديون في الموعد المحدد بدون تسويف أو مماطلة ، وعليه كذلك أن يتقي الله ربه في رعاية حقوق غيره فلا يجحدها ولا يتأخر في أدائها لأن الهل العليم بكل شيء سيحاسب كل إنسان بما قدمت يداه .وعبر - سبحانه - بقوله : ( فَإِنْ أَمِن ) دون أو أودع ، للإِشارة إلى الجانب الذي اعتمد عليه الدائن في المدين وهو خلق الأمانة ، فهو لا يرى فيه إلا جانباً مأموناص لا يتوقع منه شراً أو خيانة ، وللتنبيه إلى أن صفة الأمانة والوفاء من الصفات التي يجب أن يتحلى بها المؤمنون جميعاً حتى ينالوا السعادة في دينهم ودنياهم ، عبر بقوله : ( فَلْيُؤَدِّ الذي اؤتمن ) ولم يقل فليؤد المدين لحضه : على الأداء بأحسن أسلوب ، لأنه ما دام الدائن قد ائتمنه على ما أعطاه من ديون ، فعلى هذا الذي اؤتمن وهو المدين أن يكون عند حسن الظن به وأن يرد إليه حقه في موعده مع شكره على حسن ظنه به .وقوله : ( أَمَانَتَهُ ) أي دينه . والضمير يصح أن يعود إلى الدائن باعتباره مالك الدين ، وإلى المدين باعتبار أن الدين عليه ، وفي إضافتها - أي الأمانة - إلى المدين إشعار له بأنها عبء في ذمته يجب أن يؤديه حتى يتخلص من تكاليفه ، إذ الأمانة عبء ثقيل عند العقلاء الذين يشعرون بالمسئولية نحو أنفسهم ونحو غيرهم .وجمع - سبحانه - بين صفتي الألوهية والربوبية في قوله : ( وَلْيَتَّقِ الله رَبَّه ) للمبالغة في التحذير من الخيانة والمماطلة فإنهما يغضبان الله - تعالى - الذي خلق الإِنسان ورباه وأسبغ عليه نعمه الظاهرة والباطنة ، ولإِشعار هذا المدين بأن التقوى هي الوثيقة الكبرى التي لا تعدها وثيقة أخرى في كتابة أو شهادة أو رهان .وبذلك نرى لوناً من ألوان التدرج الحكيم في شريعة الله - تعالى - فأنت ترى أن الله - تعالى - قد بين قبل ذلك أن الكتابة في الديون والإِشهاد عليها مطلوبان ، فإن تعذرت الكتابة والشهادة لسبب من الأسباب فإنه يترخص حينئذ بالرهن المقبوض .فإن تعذر على المدين المحتاج أن يدفع للدائن رهنا يكون الاعتماد على الأمانة التي هي صفة من صفات الصادقين .فياله من تشريع حكيم - بين الناس ما يصلح شأنهم في دنيهم وفي دنياهم .ثم أمر الله تعالى - عباده بأن يؤدوا الشهادة على وجهها وألا يكتموها فقال - تعالى - ( وَلاَ تَكْتُمُواْ الشهادة وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ) أي : وعليكم - أيها المؤمنون - ألا تمتنعوا عن أدائها إذا دعيتم إليها وألا تخفوها فإن الذي يخفيها ويمتنع عن أدائها يكون معاقباً من الله - تعالى - بسبب ارتكابه لما نهى عنه .وقد أسند - سبحانه - الإِثم إلى القلب خاصة مع أن الإِثم يسند إلى الشخص ، لأن الإِثم في كتمان الشهادة عمل القلب لا عمل الجوارح ، ولأن القلب أساس كل خير وكل شر ، ففي الحديث الشريف : " ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب " .قال صاحب الكشاف : فإن قلت : هلا اقتصر على قوله ( فَإِنَّهُ آثِمٌ ) وما فائدة ذكر القلب والجملة هي الآثمة لا القلب وحده؟ قلت : كتمان الشهادة هو أن يضمرها ولا يتكلم بها . فلما كان إثما مقترنا بالقلب أسند إليه لأن إسناد الفعل إلى الجارحة التي يعمل بها أبلغ ، ألا تراك تقول إذا أردت التوكيد : هذا مما أبصرته عيني ، ووعاه قلبي . ولأن القلب هو رئيس الأعضاء فكأنه قيل : ومن يكتمها فقد تمكن الإِثم من أصل نفسه ، وملك أشرف مكان فيه : ولئلا يظن أن كتمان الشهادة من الآثام التي تتعلق باللسان فقط . وليعلم أن القلب أصل متعلقه ومعند اقترافه ، واللسان ترجمان عنه . ولأن أفعال القلوب أعظم من أفعال سائر الجوارح ، وهي لها كالأصول التي تتشعب عنها . ألأا ترى أن أصل الحسنات والسيئات الإِيمان والكفر . وهما من أفعال القلوب فإذا جعل كتمان الشهادة من آثام القلبو فقد شهد له بأنه من معاظم الذنوب .وقوله : ( آثم ) خبر إن و ( قلبه ) رفع بآثم على الفاعلية كأنه قيل : فإنه يأثم قلبه . ويجوز أن يرتفع قلبه بالابتداء . وآثم خبر مقدم . والجملة خبر إن والضير للشأن .ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : ( والله بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ) أي : والله - تعالى - عليهم بكل أعمالكم وأقوالكم وسائر شئونكم وسيجازي المسحنين إحساناً ، والمسيئين سوءاً فعليكم أيها المؤمنون أن تستجيبوا لأوامر الله ، وأن تجتنبوا ما نهاكم عنه حتى تكونوا من السعداء .فالجلمة الكريمة تذييل قصد به الوعد الحسن للمؤمنين الصادقين ، والوعيد الشديد للعصاة المسيئين ، حتى يزداد المؤمنون إيمانا ، ويقع العصاة عن عصيانهم وسيئاتهم .وبعد هذا البيان الجامع الحكيم لطرق التعامل التي أباحها الله - تعالى - لعباده والتي حرمها عليهم ، بين سبحانه - أن ما في السموات والأرض ملك له ، وأنه سيحاسب عباده بما يقتضيه علمه الشامل ، وإرادته النافذة فقال - تعالى - .( للَّهِ ما فِي السماوات وَمَا فِي . . . )
تَفْسِيرُ ٱلْبَغَوِيِّ
Tafsir al-Baghawi —
علامہ بغوی
( وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة ) قرأ ابن كثير وأبو عمرو فرهن بضم الهاء والراء وقرأ الباقون فرهان وهو جمع رهن مثل بغل وبغال وجبل وجبال والرهن جمع الرهان جمع الجمع قاله الفراء والكسائي وقال أبو عبيد وغيره : هو جمع الرهن أيضا مثل سقف وسقف وقال أبو عمرو وإنما قرأنا فرهن ليكون فرقا بينهما وبين رهان الخيل وقرأ عكرمة فرهن بضم الراء وسكون الهاء والتخفيف والتثقيل في الرهن لغتان مثل كتب وكتب ورسل ورسل ومعنى الآية : وإن كنتم على سفر ولم تجدوا آلات الكاتبة فارتهنوا ممن تداينونه رهونا لتكون وثيقة لكم بأموالكم واتفقوا على أن الرهن لا يتم إلا بالقبض ، وقوله " فرهان مقبوضة " أي ارتهنوا واقبضوا حتى لو رهن ولم يسلم فلا يجبر الراهن على التسليم فإذا سلم لزم من جهة الراهن حتى لا يجوز له أن يسترجعه ما دام شيء من الحق باقيا ، ويجوز في الحضر الرهن مع وجود الكاتب ، وقال مجاهد : لا يجوز الرهن إلا في السفر عند عدم الكاتب لظاهر الآية وعند الآخرين خرج الكلام في الآية على الأعم الأغلب لا على سبيل الشرط .والدليل عليه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم رهن درعه عند أبي الشحم اليهودي ولم يكن ذلك في السفر ولا عند عدم كاتب ( فإن أمن بعضكم بعضا ) وفي حرف أبي " فإن ائتمن " يعني فإن كان الذي عليه الحق أمينا عند صاحب الحق فلم يرتهن منه شيئا لحسن ظنه به .( فليؤد الذي اؤتمن أمانته ) أي فليقضه على الأمانة ( وليتق الله ربه ) في أداء الحق ثم رجع إلى خطاب الشهود وقال : ( ولا تكتموا الشهادة ) إذا دعيتم إلى إقامتها نهى عن كتمان الشهادة وأوعد عليه فقال ( ومن يكتمها فإنه آثم قلبه ) أي فاجر قلبه قيل : ما أوعد الله على شيء كإيعاده على كتمان الشهادة قال : " فإنه آثم قلبه " وأراد به مسخ القلب نعوذ بالله من ذلك ( والله بما تعملون ) بيان الشهادة وكتمانها ( عليم ) .