تَفْسِيرُ ٱلْمُيَسَّر
Tafsir Al-Muyassar —
کنگ فہد قرآن کمپلیکس
ذلك القرآن هو الكتاب العظيم الذي لا شَكَّ أنه من عند الله، فلا يصح أن يرتاب فيه أحد لوضوحه، ينتفع به المتقون بالعلم النافع والعمل الصالح وهم الذين يخافون الله، ويتبعون أحكامه.
تَفْسِيرُ ٱلْجَلَالَيْنِ
Tafsir al-Jalalayn —
جلال الدین محلی اور جلال الدین سیوطی
«ذلك» أي هذا «الكتاب» الذي يقرؤه محمد «لا ريب» لا شك «فيه» أنه من عند الله وجملة النفي خبر مبتدؤه ذلك والإشارة به للتعظيم «هدىً» خبر ثان أي هاد «للمتقين» الصائرين إلى التقوى بامتثال الأوامر واجتناب النواهي لاتقائهم بذلك النار.
تَفْسِيرُ ٱلْقُرْطُبِيِّ
Tafsir al-Qurtubi —
علامہ قرطبی
ذلك الكتاب قيل : المعنى هذا الكتاب . و ذلك قد تستعمل في الإشارة إلى حاضر ، وإن كان موضوعا للإشارة إلى غائب ; كما قال تعالى في الإخبار عن نفسه جل وعز : ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم ; ومنه قول خفاف بن ندبة : أقول له والرمح يأطر متنه تأمل خفافا إنني أنا ذلكاأي أنا هذا . ف ( ذلك ) إشارة إلى القرآن ، موضوع موضع هذا ، تلخيصه : الم هذا الكتاب لا ريب فيه . وهذا قول أبي عبيدة وعكرمة وغيرهما ; ومنه قوله تعالى : وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق أي هذه ; لكنها لما انقضت صارت كأنها بعدت فقيل تلك . وفي البخاري " وقال معمر : ذلك الكتاب هذا القرآن " . هدى للمتقين بيان ودلالة ; كقوله : ذلكم حكم الله يحكم بينكم هذا حكم الله .قلت : وقد جاء " هذا " بمعنى " ذلك " ; ومنه قوله عليه السلام في حديث أم حرام : يركبون ثبج هذا البحر أي ذلك البحر ; والله أعلم . وقيل : هو على بابه إشارة إلى غائب .واختلف في ذلك الغائب على أقوال عشرة ; فقيل : ذلك الكتاب أي الكتاب الذي كتبت على الخلائق بالسعادة والشقاوة والأجل والرزق . لا ريب فيه ; أي لا مبدل له . وقيل : ذلك الكتاب ; أي الذي كتبت على نفسي في الأزل أن رحمتي سبقت غضبي . وفي [ ص: 154 ] صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لما قضى الله الخلق كتب في كتابه على نفسه فهو موضوع عنده : أن رحمتي تغلب غضبي في رواية : ( سبقت ) . وقيل : إن الله تعالى قد كان وعد نبيه عليه السلام أن ينزل عليه كتابا لا يمحوه الماء ; فأشار إلى ذلك الوعد كما في صحيح مسلم من حديث عياض بن حمار المجاشعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب وقال : إنما بعثتك ; لأبتليك وأبتلي بك ، وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء تقرؤه نائما ويقظان الحديث .وقيل : الإشارة إلى ما قد نزل من القرآن بمكة .وقيل : إن الله تبارك وتعالى لما أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم بمكة : إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا لم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مستشرفا لإنجاز هذا الوعد من ربه عز وجل ; فلما أنزل عليه بالمدينة : الم . ذلك الكتاب لا ريب فيه كان فيه معنى هذا القرآن الذي أنزلته عليك بالمدينة ، ذلك الكتاب الذي وعدتك أن أوحيه إليك بمكة .وقيل : إن ذلك إشارة إلى ما في التوراة والإنجيل . و ( الم ) اسم للقرآن ; والتقدير هذا القرآن ذلك الكتاب المفسر في التوراة والإنجيل ; يعني أن التوراة والإنجيل يشهدان بصحته ويستغرق ما فيهما ويزيد عليهما ما ليس فيهما .وقيل : إن ذلك الكتاب إشارة إلى التوراة والإنجيل كليهما ; والمعنى : الم ذانك الكتابان أو مثل ذينك الكتابين ; أي : هذا القرآن جامع لما في ذينك الكتابين ; فعبر ب ( ذلك ) عن الاثنين بشاهد من القرآن ; قال الله تبارك وتعالى : إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك أي عوان بين تينك : الفارض والبكر ; وسيأتي .وقيل : إن ذلك إشارة إلى اللوح المحفوظ .وقال الكسائي : ذلك إشارة إلى القرآن الذي في السماء لم ينزل بعد .وقيل : إن الله تعالى قد كان وعد أهل الكتاب أن ينزل على محمد صلى الله عليه وسلم كتابا ; فالإشارة إلى ذلك الوعد . قال المبرد : المعنى هذا القرآن ذلك الكتاب [ ص: 155 ] الذي كنتم تستفتحون به على الذين كفروا .وقيل : إلى حروف المعجم في قول من قال : ( الم ) الحروف التي تحديتكم بالنظم منها .والكتاب مصدر من كتب يكتب إذا جمع ; ومنه قيل : كتيبة ; لاجتماعها . وتكتبت الخيل صارت كتائب . وكتبت البغلة : إذا جمعت بين شفري رحمها بحلقة أو سير ; قال :لا تأمنن فزاريا حللت بهعلى قلوصك واكتبها بأسياروالكتبة ( بضم الكاف ) : الخرزة ، والجمع كتب . والكتب : الخرز . قال ذو الرمة :وفراء غرفية أثأى خوارزها مشلشل ضيعته بينها الكتبوالكتاب : هو خط الكاتب حروف المعجم مجموعة أو متفرقة ; وسمي كتابا وإن كان مكتوبا ; كما قال الشاعر :تؤمل رجعة مني وفيها كتاب مثل ما لصق الغراءوالكتاب : الفرض والحكم والقدر ; قال الجعدي :يا بنة عمي كتاب الله أخرجني عنكم وهل أمنعن الله ما فعلاقوله تعالى : لا ريب نفي عام ; ولذلك نصب الريب به . وفي الريب ثلاثة معان : أحدها : الشك ; قال عبد الله بن الزبعرى :ليس في الحق يا أميمة ريب إنما الريب ما يقول الجهولوثانيها : التهمة ; قال جميل :بثينة قالت يا جميل أربتني فقلت كلانا يا بثين مريبوثالثها : الحاجة ; قال [ كعب بن مالك ] :قضينا من تهامة كل ريبوخيبر ثم أجمعنا السيوفافكتاب الله تعالى لا شك فيه ولا ارتياب ; والمعنى : أنه في ذاته حق وأنه منزل من عند الله ، وصفة من صفاته ، غير مخلوق ولا محدث ، وإن وقع ريب للكفار .وقيل : هو خبر ومعناه النهي ; أي لا ترتابوا ، وتم الكلام كأنه قال ذلك الكتاب حقا . وتقول : رابني هذا الأمر إذا أدخل عليك شكا وخوفا . وأراب : صار ذا ريبة ; فهو مريب . ورابني أمره . وريب الدهر : صروفه .قوله تعالى : فيه هدى للمتقين فيه ست مسائل :الأولى : قوله تعالى : ( فيه ) الهاء في ( فيه ) في موضع خفض بفي ، وفيه خمسة أوجه ; أجودها : فيه هدى ويليه فيه هدى ( بضم الهاء بغير واو ) وهي قراءة الزهري وسلام أبي المنذر . ويليه فيهي هدى ( بإثبات الياء ) وهي قراءة ابن كثير . ويجوز فيهو هدى ( بالواو ) . ويجوز فيه هدى ( مدغما ) وارتفع هدى على الابتداء والخبر " فيه " . والهدى في كلام العرب معناه الرشد والبيان ، أي فيه كشف لأهل المعرفة ، ورشد ، وزيادة بيان وهدى .الثانية : الهدى هديان : هدى دلالة ، وهو الذي تقدر عليه الرسل وأتباعهم ; قال الله تعالى : ولكل قوم هاد . وقال : وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم فأثبت لهم الهدى الذي معناه الدلالة والدعوة والتنبيه ; وتفرد هو سبحانه بالهدى الذي معناه التأييد والتوفيق ، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم : إنك لا تهدي من أحببت فالهدى على هذا يجيء بمعنى خلق الإيمان في القلب ; ومنه قوله تعالى : أولئك على هدى من ربهم وقوله : ويهدي من يشاء والهدى : الاهتداء ، ومعناه راجع إلى معنى الإرشاد كيفما تصرفت . قال أبو المعالي : وقد ترد الهداية والمراد بها إرشاد المؤمنين إلى مسالك الجنان والطرق المفضية إليها ; من ذلك قوله تعالى في صفة المجاهدين : فلن يضل أعمالهم . سيهديهم ومنه قوله تعالى : فاهدوهم إلى صراط الجحيم معناه فاسلكوهم إليها .الثالثة : الهدى لفظ مؤنث . قال الفراء : بعض بني أسد تؤنث الهدى فتقول : هذه هدى حسنة . وقال اللحياني : هو مذكر ; ولم يعرب لأنه مقصور والألف لا تتحرك ، ويتعدى بحرف وبغير حرف وقد مضى في " الفاتحة " ، تقول : هديته الطريق وإلى الطريق ، والدار وإلى الدار ; أي عرفته . الأولى لغة أهل الحجاز ، والثانية حكاها الأخفش . وفي التنزيل : اهدنا الصراط المستقيم و الحمد لله الذي هدانا لهذا وقيل : إن الهدى اسم من أسماء النهار ، لأن الناس يهتدون فيه لمعايشهم وجميع مآربهم ; ومنه قول ابن مقبل : حتى استبنت الهدى والبيد هاجمة يخشعن في الآل غلفا أو يصليناالرابعة : قوله تعالى : ( للمتقين ) خص الله تعالى المتقين بهدايته وإن كان هدى للخلق [ ص: 157 ] أجمعين تشريفا لهم ; لأنهم آمنوا وصدقوا بما فيه . وروي عن أبي روق أنه قال : هدى للمتقين أي : كرامة لهم ; يعني إنما أضاف إليهم إجلالا لهم وكرامة لهم وبيانا لفضلهم . وأصل ( للمتقين ) : للموتقيين بياءين مخففتين ، حذفت الكسرة من الياء الأولى لثقلها ثم حذفت الياء لالتقاء الساكنين وأبدلت الواو تاء على أصلهم في اجتماع الواو والتاء وأدغمت التاء في التاء فصار للمتقين .الخامسة : التقوى يقال أصلها في اللغة قلة الكلام ; حكاه ابن فارس .قلت : ومنه الحديث التقي ملجم ، والمتقي فوق المؤمن والطائع وهو الذي يتقي بصالح عمله وخالص دعائه عذاب الله تعالى ، مأخوذ من اتقاء المكروه بما تجعله حاجزا بينك وبينه ; كما قال النابغة :سقط النصيف ولم ترد إسقاطه فتناولته واتقتنا باليدوقال آخر : فألقت قناعا دونه الشمس واتقتبأحسن موصولين كف ومعصموخرج أبو محمد عبد الغني الحافظ من حديث سعيد بن زربي أبي عبيدة عن عاصم بن بهدلة عن زر بن حبيش عن ابن مسعود قال : قال يوما لابن أخيه : يابن أخي ترى الناس ما أكثرهم ؟ قال : نعم ; قال : لا خير فيهم إلا تائب أو تقي ثم قال : يابن أخي ترى الناس ما أكثرهم ؟ قلت : بلى ; قال : لا خير فيهم إلا عالم أو متعلم . وقال أبو يزيد البسطامي : المتقي من إذا قال قال لله ، ومن إذا عمل عمل لله . وقال أبو سليمان الداراني : المتقون الذين نزع الله عن قلوبهم حب الشهوات . وقيل : المتقي الذي اتقى الشرك وبرئ من النفاق . قال ابن عطية : وهذا فاسد ; لأنه قد يكون كذلك وهو فاسق . وسأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه أبيا عن التقوى ; فقال : هل أخذت طريقا ذا شوك ؟ قال : نعم : قال فما عملت فيه ؟ قال : تشمرت وحذرت ; قال : فذاك التقوى . وأخذ هذا المعنى ابن المعتز فنظمه :خل الذنوب صغيرهاوكبيرها ذاك التقى واصنع كماش فوق أرض الشوك يحذر ما يرى لا تحقرن صغيرةإن الجبال من الحصىالسادسة : التقوى فيها جمع الخير كله ، وهي وصية الله في الأولين والآخرين ، وهي خير [ ص: 158 ] ما يستفيده الإنسان ; كما قال أبو الدرداء وقد قيل له : إن أصحابك يقولون الشعر وأنت ما حفظ عنك شيء ; فقال :يريد المرء أن يؤتى مناه ويأبى الله إلا ما أرادا يقول المرء فائدتي وماليوتقوى الله أفضل ما استفاداوروى ابن ماجه في سننه عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول : ما استفاد المؤمن بعد تقوى الله خيرا له من زوجة صالحة إن أمرها أطاعته ، وإن نظر إليها سرته ، وإن أقسم عليها أبرته ، وإن غاب عنها نصحته في نفسها وماله . والأصل في التقوى : وقوى على وزن فعلى فقلبت الواو تاء من وقيته أقيه أي منعته ; ورجل تقي أي خائف ; أصله وقى ; وكذلك تقاة كانت في الأصل وقاة ; كما قالوا : تجاه وتراث ، والأصل وجاه ووراث .
تَنْوِيرُ ٱلْمِقْبَاسِ مِن تَفْسِيرِ ٱبْنِ عَبَّاس
Tafsir Tanwir al-Miqbas —
حضرت ابن عباسؓ
مبدأ كلام لا اتصال له في الإعراب بحروف { الم } [ البقرة : 1 ] كما علمتَ مما تقدم على جميع الاحتمالات كما هو الأظهر . وقد جوز صاحب «الكشاف» علَى احتمال أن تكون حروف { ألم } مسوقة مساق التهجي لإظهار عجز المشركين عن الإتيان بمثل بعض القرآن ، أَن يكون اسمُ الإشارة مشاراً به إلى { الم } باعتباره حرفاً مقصوداً للتعجيز ، أي ذلك المعنى الحاصل من التهجي أي ذلك الحروف باعتبارها من جنس حروفكم هي الكتابُ أي منها تراكيبه فما أَعجزَكم عن معارضته ، فيكون { الم } جملة مستقلة مسوقة للتعريض .واسم الإشارة مبتدأ و ( الكتابُ ) خبراً . وعلى الأظهر تكون الإشارة إلى القرآن المعروف لَدَيْهم يومئذٍ واسم الإشارة مبتدأ و ( الكتاب ) بدل وخبرُه ما بعده ، فالإشارة إلى ( الكتاب ) النازِل بالفعل وهي السور المتقدمة على سورة البقرة؛ لأن كل ما نزل من القرآن فهو المعبر عنه بأنه القرآن وينضم إليه ما يلحق به ، فيكون ( الكتاب ) على هذا الوجه أطلق حقيقة على ما كُتب بالفعل ، ويكون قوله ( الكتاب ) على هذا الوجه خبراً عن اسم الإشارة ، ويجوز أن تكون الإشارة إلى جميع القرآن ما نزل منه وما سينزل لأن نزوله مترقَّب فهو حاضر في الأذهان فشبه بالحاضر في العيان ، فالتعريف فيه للعهد التقديري والإشارة إليه للحضور التقديري فيكون قوله ( الكتاب ) حينئذٍ بدلاً أو بياناً من { ذلك } والخبر هو { لا ريب فيه } .ويجوز الإتيان في مثل هذا باسم الإشارة الموضوع للقريب والموضوع للبعيد ، قال الرضي «وُضِع اسم الإشارة للحضور والقرببِ لأنه للمشار إليه حسًّا ثم يصح أن يشار به إلى الغائب فيصح الإتيان بلفظ البعد لأن المحكي عنه غائب ، ويقل أن يذكر بلفظ الحاضر القريب فتقول جاءني رجل فقلت لذلك الرجل وقلت لهذا الرجل ، وكذا يجوز لك في الكلام المسموع عن قريب أن تشير إليه بلفظ الغيبة والبعد كما تقول : «واللَّهِ وذلك قسم عظيم» لأن اللفظ زال سماعه فصار كالغائب ولكن الأغلب في هذا الإشارةُ بلفظ الحضور فتقول وهذا قسم عظيم» ا ه ، أي الأكثر في مثله الإتيان باسم إشارة البعيد ويقل ذكره بلفظ الحاضر ، وعكس ذلك في الإشارة للقول .وابن مالك في «التسهيل» سوَّى بين الإتيان بالقريب والبعيد في الإشارة لكلام متقدم إذ قال : وقد يتعاقبان ( أي اسم القريب والبعيد ) مشاراً بهما إلى ماوَلياه أي من الكلام ، ومثَّله شارحه بقوله تعالى بعد قصة عيسى : { ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم } [ آل عمران : 58 ] ثم قال : { إن هذا لهو القصص الحق } [ آل عمران : 62 ] فأشار مرة بالبعيد ومرة بالقريب والمشار إليه واحد ، وكلام ابن مالك أوفق بالاستعمال إذ لا يكاد يحصر ما ورد من الاستعمالين فدعوى الرضي قلة أن يذكر بلفظ الحاضر دعوى عريضة .وإذا كان كذلك كان حكم الإشارة إلى غائب غير كلام مثلَ الإشارة إلى الكلام في جواز الوجهين لكثرة كليهما أيضاً ، ففي القرآن : { فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه } [ القصص : 15 ] فإذا كان الوجهان سواء كان ذلك الاستعمال مجالاً لتسابق البلغاء ومراعاة مقتضيات الأحوال ، ونحن قد رأيناهم يتخيرون في مواقع الإتيان باسم الإشارة ما هو أشد مناسبة لذلك المقام فدلنا على أنهم يعرِّفون مخاطبيهم بأغراض لا قبل لتعرفها إلا إذا كان الاستعمال سواء في أصل اللغة ليكون الترجيح لأحد الاستعمالين لا على معنى ، مثل زيادة التنبيه في اسم الإشارة البعيد كما هنا ، وكما قال خُفاف بن نَدْبة :أقول لَه والرمحُ يأطر مَتْنَه ... تأمل خُفَافاً إِنني أَنَا ذلكوقد يؤتى بالقريب لإظهار قلة الاكتراث كقول قيس بن الخَطِيم في «الحماسة» :متَى يأتتِ هذَا الموتُ لا يلففِ حاجة ... لنفسيَ إلا قد قضيتُ قضاءهافلا جرم أن كانت الإشارة في الآية باستعمال اسم الإشارة للبعيد لإظهار رفعة شأن هذا القرآن لجعله بعيد المنزلة . وقد شاع في الكلام البليغ تمثيل الأمر الشريف بالشيء المرفوع في عزة المنال لأن الشيء النفيس عزيز على أهله فمن العادة أن يجعلوه في المرتفعات صوناً له عن الدروس وتناول كثرة الأيدي والابتذال ، فالكتاب هنا لما ذكر في مقام التحدي بمعارضته بما دلت عليه حروف التهجي في { الم } [ البقرة : 1 ] كان كالشيء العزيز المنال بالنسبة إلى تناولهم إياه بالمعارضة أو لأنه لصدق معانيه ونفع إرشاده بعيد عمن يتناوله بهُجر القول كقولهم : { افتراه } [ يونس : 38 ] وقولهم : { أساطير الأولين } [ الأنعام : 25 ] . ولا يرد على هذا قوله : { وهذا كتاب أنزلناه } [ الأنعام : 92 ] فذلك للإشارة إلى كتاب بين يدي أهله لترغيبهم في العكوف عليه والإتعاظ بأوامره ونواهيه . ولعل صاحب «الكشاف» بنى على مثل ما بنى عليه الرضي فلم يعُدَّ : { ذلك الكتاب } تنبيهاً على التعظيم أو الاعتبار ، فللَّه در صاحب «المفتاح» إذ لم يُغفل ذلك فقال في مقتضِيات تعريف المسند إليه بالإشارة : أوْ أنْ يقصد ببعده تعظيمه كما تقول في مقام التعظيم ذلك الفاضل وأولئك الفحول وكقوله عز وعلا : { الم ذلك الكتاب } ذهاباً إلى بعده درجةً .وقوله : { الكتاب } يجوز أن يكون بدلاً من اسم الإشارة لقصد بيان المشار إليه لعدم مشاهدته ، فالتعريف فيه إذن للعهد ، ويكون الخبر هو جملة { لا ريب فيه } ، ويجوز أن يكون ( الكتاب ) خبراً عن اسم الإشارة ويكون التعريف تعريف الجنس فتفيد الجملة قصر حقيقة الكتاب على القرآن بسبب تعريف الجُزءين فهو إذن قصر ادِّعائي ومعناه ذلك هو الكتاب الجامع لصفات الكمال في جنس الكتب بناء على أن غيره من الكتب إذا نسبت إليه كانت كالمفقود منها وصفُ الكتاب لعدم استكمالها جميع كمالات الكتب ، وهذا التعريف قد يعبر عنه النحاة في تعداد معاني لام التعريف بمعنى الدلالة على الكمال فلا يرد أنه كيف يحصر الكتاب في أنه الم أو في السورة أو نحو ذلك إذ ليس المقام مقام الحصر وإنما هو مقام التعريف لا غير ، ففائدة التعريف والإشارة ظاهرية وليس شيء من ذلك لغواً بحال وإن سبق لبعض الأوهام على بعض احتمال .و ( الكتاب ) فِعال بمعنى المكتوب إما مصدر كاتَب المصوغ للمبالغة في الكتابة ، فإن المصدر يجىء بمعنى المفعول كالخَلق ، وإما فعال بمعنى مَفعول كلِباس بمعنى ملبوس وعِماد بمعنى مَعمود به . واشتقاقه من كَتَب بمعنى جمع وضم لأن الكتاب تجمع أوراقه وحروفه ، فإن النبيء صلى الله عليه وسلم أمر بكتابة كل ما ينزل من الوحي وجعل للوحي كتاباً ، وتسمية القرآن كتاباً إشارة إلى وجوب كتابته لحفظه . وكتابة القرآن فرض كفاية على المسلمين .{ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } .حال من الكتاب أو خبر أول أو ثان على ما مر قريباً . والريب الشك وأصل الريب القلق واضطراب النفس ، وريبُ الزماننِ وريبُ المنون نوائِب ذلك ، قال الله تعالى : { تتربص به ريب المنون } [ الطور : 30 ] ولما كان الشك يلزمه اضطراب النفس وقلقها غلب عليه الريب فصار حقيقة عرفية يقال رابه الشيء إذا شككه أي بِجَعللِ ما أوجب الشك في حاله فهو متعد ، ويقال أرابه كذلك إذ الهمزة لم تكسبه تعدية زائدة فهو مثل لَحِق وأَلْحق ، وزَلَقه وأزلقه وقد قيل إن أراب أضعف من راب أراب بمعنى قَرَّبه من أن يشك قاله أبو زيد ، وعلى التفرقة بينهما قال بشار :أخوك الذي إن ربته قال إنما ... أرَبْتَ وإن عاتبتَه لان جانبهوفي الحديث : " دع ما يُريبك إلى ما لا يُريبك " أي دع الفعل الذي يقربك من الشك في التحريم إلى فعل آخر لا يدخل عليك في فعله شك في أنه مباح .ولم يختلف متواتر القراء في فتح { لا ريب } نفياً للجنس على سبيل التنصيص وهو أبلغه لأنه لو رفعَ لاحتمل نفي الفرد دون الجنس فإن كان الإشارة بقوله : { ذلك } إلى الحروف المجتمعة في { الم } على إرادة التعريض بالمتحَدَّيْنَ وكان قوله : { الكتاب } خبراً لاسم الإشارة على ما تقدم كان قوله : { لا ريب } نفياً لريب خاص وهو الريب الذي يعرض في كون هذا الكتاب مؤلفاً من حروف كلامهم فكيف عجزوا عن مثله ، وكان نفي الجنس فيه حقيقة وليس بادعاء ، فتكون جملة { لا ريبَ } منزَّلة منزِلةَ التأكيد لمفاد الإشارة في قوله : { ذلك الكتاب } وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون المجرور وهو قوله : { فيه } متعلقاً بريب على أنه ظرف لغو فيكون الوقف على قوله : { فيه ، وهو مختار الجمهور على نحو قوله تعالى : { وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه } [ الشورى : 7 ] وقوله : { ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه } [ آل عمران : 9 ] ويجوز أن يكون قوله : { فيه } ظرفاً مستقراً خبراً لقوله بعده : { هدى للكتقين } ومعنى «في» هو الظرفية المجازية العرفية تشبيهاً لدلالة اللفظ باحتواء الظرف فيكون تخطئة للذين أعرضوا عن استماع القرآن فقالوا :{ لا تسمعوا لهذا القرآن } [ فصلت : 26 ] استنزالاً لطائر نفورهم كأنه قيل هذا الكتاب مشتمل على شيء من الهدى فاسمعوا إليه ولذلك نكر الهدى أي فيه شيء من هدى على حد قول النبيء صلى الله عليه وسلم لأبي ذر : " إنك امْرؤ فيك جاهلية " ويكون خبر ( لا ) محذوفاً لظهوره أي لا ريب موجود ، وحذف الخبر مستعمل كثيراً في أمثاله نحو : { قالوا لا ضير } [ الشعراء : 50 ] وقول العرب لا بأس ، وقول سعد بن مالك :من صد عن نيرانها ... فأنا ابن قيس لا بَرَاحُأي لا بقاء في ذلك ، وهو استعمال مجازي فيكون الوقف على قوله : { لا ريب } وفي «الكشاف» أن نافعاً وعاصماً وقفا على قوله : { ريب .وإن كانت الإشارة بقوله : ذلك } إلى { الكتاب } باعتبار كونه كالحاضر المشاهد وكان قوله { الكتاب } بدلاً من اسم الإشارة لبيانه فالمجرور من قوله : { فيه } ظرف لغو متعلق بريب وخبر لا محذوف على الطريقة الكثيرة في مثله ، والوقف على قوله { فيه } ، فيه معنى نفي وقوع الريب في الكتاب على هذا الوجه نفي الشك في أنه منزل من الله تعالى لأن المقصود خطاب المرتابين في صدق نسبته إلى الله تعالى وسيجىء خطابهم بقوله : { وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله } [ البقرة : 23 ] فارتيابهم واقع مشتهر ، ولكن نزل ارتيابهم منزلة العدم لأن في دلائل الأحوال ما لو تأملوه لزال ارتيابهم فنزل ذلك الارتياب مع دلائل بطلانه منزلة العدم . قال صاحب «المفتاح» : «ويقلبون القضية مع المنكر إذا كان معه ما إن تأمله ارتدع فيقولون لمنكر الإسلام : الإسلام حق وقوله عز وجل في حق القرآن : { لا ريب فيه } وكم من شقي مرتاب فيه وارد على هذا فيكون المركب الدال على النفي المؤكد للريب مستعملاً في معنى عدم الاعتداد بالريب لمشابهة حال المرتاب في وهن ريبه بحال من ليس بمرتاب أصلاً على طريقة التمثيل .ومن المفسرين من فسر قوله تعالى : { لا ريب فيه } بمعنى أنه ليس فيه ما يوجب ارتياباً في صحته أي ليس فيه اضطراب ولا اختلاف فيكون الريب هنا مجازاً في سببه ويكون المجرور ظرفاً مستقراً خبرَ ( لا ) فيَنظُر إلى قوله تعالى : { أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً } [ النساء : 82 ] أي إن القرآن لا يشتمل على كلام يوجب الريبة في أنه من عند الحق رب العالمين ، من كلام يناقض بعضه بعضاً أو كلام يجافي الحقيقة والفضيلة أو يأمر بارتكاب الشر والفساد أو يصرف عن الأخلاق الفاضلة ، وانتفاء ذلك عنه يقتضي أن ما يشتمل عليه القرآن إذا تدبَّر فيه المتدبرُ وجده مفيداً اليقين بأنه من عند الله والآية هنا تحتمل المعنيين فلنجعلهما مقصودين منها على الأصل الذي أصلناه في المقدمة التاسعة .وهذا النفي ليس فيه ادعاء ولا تنزيل فهذا الوجه يغني عن تنزيل الموجود منزلة المعدوم فيفيد التعريض بما بين يدي أهل الكتاب يومئذٍ من الكتب فإنها قد اضطربت أقوالها وتخالفت لما اعتراها من التحريف وذلك لأن التصدي للإخبار بنفي الريب عن القرآن مع عدم وجود قائل بالريب فيما تضمنه أي بريب مستند لموجب ارتياب إذ قصارى ما قالوه فيه أقوال مجملة مثل هذا سحر ، هَذا أساطير الأولين يدل ذلك التحدي على أن المراد التعريض لا سيما بعد قوله : { ذلك الكتاب } كما تقول لمن تكلم بعد قوم تكلموا في مجلس وأنتَ ساكت : هذا الكلام صوابٌ تعرض بغيره .وبهذا الوجه أيضاً يتسنى اتحاد المعنى عند الوقف لدى من وقف على { فيه } ولَدى من وقف { على ريب } ، لأنه إذا اعتبر الظرف غير خبر وكان الخبر محذوفاً أمكن الاستغناء عن هذا الظرف من هاته الجملة ، وقد ذكر «الكشاف» أن الظرف وهو قوله : { فيه } لم يقدم على المسند إليه وهو { ريب } ( أي على احتمال أن يكون خبراً عن اسم لا ) كما قُدم الظرف في قوله : { لا فيها غول } [ الصافات : 47 ] لأنه لو قدم الظرف هنا لقصد أن كتاباً آخر فيه الريب ا ه . يعني لأن التقديم في مثله يفيد الاختصاص فيكون مفيداً أن نفي الريب عنه مقصور عليه وأن غيره من الكتب فيه الريب وهو غير مقصود هنا . وليس الحصر في قوله : { لا ريب فيه } بمقصود لأن السياق خطاب للعرب المتحدَّيْنَ بالقرآن وليسوا من أهل كتاب حتى يُرد عليهم . وإنما أريد أنهم لا عذر لهم في إنكارهم أنه من عند الله إذ هم قد دُعوا إلى معارضته فعَجزوا . نعم يستفاد منه تعريض بأهل الكتاب الذين آزروا المشركين وشجعوهم على التكذيب به بأن القرآنَ لعلو شأنه بين نظرائه من الكُتب ليس فيه ما يدعو إلى الارتياب في كونه منزلاً من الله إثارة للتدبر فيه هل يجدون ما يوجب الارتياب فيه وذلك يستطير جاثم إعجابهم بكتابهم المبدللِ المحرف فإن الشك في الحقائق رائد ظهورها . والفجر بالمستطير بين يدي طلوع الشمس بشير بسفورها . وقد بنَى كلامه على أن الجملة المكيفة بالقصر في حالة الإثبات لو دخل عليها نفي وهي بتلك الكيفية أفاد قصر النفي لا نفىَ القصر ، وأمثلة صاحب «المفتاح» في تقديم المسند للاختصاص سوَّى فيها بين ما جاء بالإثبات وما جاء بالنفي . وعندي فيه نظر سأذكره عند قوله تعالى : { ليس عليك هداهم } [ البقرة : 272 ] . وحكم حركة هاء الضمير أو سكونها مقررة في علم القراءات في قسم أصولها .وقوله : { هدى للمتقين } الهدى اسم مصدر الهَدْي ليس له نظير في لغة العرب إلا سُرًى وتُقىً وبُكًى ولُغًى مصدر لغي في لغة قليلة . وفعله هدَى هدياً يتعدى إلى المفعول الثاني بإلى وربما تعدى إليه بنفسه على طريقة الحذف المتوسع فيما تقدم في قوله تعالى :{ اهدنا الصراط المستقيم } [ الفاتحة : 6 ] .والهدى على التحقيق هو الدلالة التي من شأنها الإيصال إلى البغية وهذا هو الظاهر في معناه لأن الأصل عدم الترادف فلا يكون هُدى مرادفاً لدل ولأن المفهوم من الهُدى الدلالة الكاملة وهذا موافق للمعنى المنقول إليه الهدى في العرف الشرعي . وهو أسعد بقواعد الأشعري لأن التوفيق الذي هو الإيصال عند الأشعري مِنْ خلق الله تعالى في قلب الموفَّق فيناسب تفسير الهداية بما يصلح له ليكون الذي يهدي يوصل الهداية الشرعية . فالقرآن هدى ووصفه بالمصدر للمبالغة أي هو هاد .والهدى الشرعي هو الإرشاد إلى ما فيه صلاح العاجل الذي لا ينقض صلاح الآجل . وأثر هذا الهدى هو الاهتداء فالمتقون يهتدون بهديه والمعاندون لا يهتدون لأنهم لا يتدبرون ، وهذا معنى لا يختلف فيه وإنما اختلف المتكلمون في منشأ حصول الاهتداء وهي مسألة لا حاجة إليها في فهم الآية . وتفصيل أنواع الهداية تقدم عند قوله تعالى : { اهدنا الصراط } . ومحل ( هدى ) إن كان هو صدر جملة أن يكون خبراً لمبتدأ محذوف هو ضمير ( الكتاب ) فيكون المعنى الإخبار عن الكتاب بأنه الهدى وفيه من المبالغة في حصول الهداية به ما يقتضيه الإخبار بالمصدر للإشارة إلى بلوغه الغاية في إرشاد الناس حتى كانَ هو عين الهُدى تنبيهاً على رجحان هُداه على هدى ما قبله من الكتب ، وإن كان الوقف على قوله { لا ريب } وكان الظرف صدرَ الجملةِ الموالية وكان قوله { هدى } مبتدأ خبره الظرف المتقدم قبله فيكون إخباراً بأن فيه هدى فالظرفية تدل على تمكن الهدى منه فيساوي ذلك في الدلالة على التمكن الوجهَ المتقدم الذي هو الإخبار عنه بأنه عين الهدى .والمتقي من اتصف بالاتقاء وهو طلب الوقاية ، والوقاية الصيانة والحفظ من المكروه فالمتقي هو الحذر المتطلب للنجاة من شيء مكروه مضر ، والمراد هنا المتقين الله ، أي الذين هم خائفون غضبه واستعدوا لطلب مرضاته واستجابة طلبه فإذا قرىء عليهم القرآن استمعوا له وتدبروا ما يدعو إليه فاهتدوا .والتقوى الشرعية هي امتثال الأوامر واجتناب المنهيات من الكبائر وعدم الاسترسال على الصغائر ظاهراً وباطناً أي اتقاء ما جعل الله الاقتحام فيه موجباً غضبه وعقابه ، فالكبائر كلها متوعد فاعلها بالعقاب دون اللمم .والمراد من الهُدَى ومن المتقين في الآية معناهما اللغوي فالمراد أن القرآن من شأنه الإيصال إلى المطالب الخيرية وأن المستعدين للوصول به إليها هم المتقون أي هم الذين تجردوا عن المكابرة ونزهوا أنفسهم عن حضيض التقليد للمضلين وخشوا العاقبة وصانوا أنفسهم من خطر غضب الله هذا هو الظاهر ، والمراد بالمتقين المؤمنون الذين آمنوا بالله وبمحمد وتلقوا القرآن بقوة وعزم على العمل به كما ستكشف عنهم الأوصاف الآتية في قوله تعالى :{ الذين يؤمنون بالغيب إلى قوله من قبلك } [ البقرة : 3 ، 4 ] .وفي بيان كون القرآن هدى وكيفية صفة المتقي معان ثلاثة :الأول : أن القرآن هدى في زمن الحال لأن الوصف بالمصدر عوض عن الوصف باسم الفاعل وزمن الحال هو الأصل في اسم الفاعل والمراد حال النطق . والمتقون هم المتقون في الحال أيضاً لأن اسم الفاعل حقيقة في الحال كما قلنا ، أي إن جميع من نزه نفسه وأعدها لقبول الكمال يهديه هذا الكتاب ، أو يزيده هدى كقوله تعالى : { والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم } [ محمد : 17 ] .الثاني : أنه هدى في الماضي أي حصل به هدى أي بما نزل من الكتاب ، فيكون المراد من المتقين من كانت التقوى شعارهم أي أن الهدى ظهر أثره فيهم فاتقوا وعليه فيكون مدحاً للكتاب بمشاهدة هديه وثناء على المؤمنين الذين اهتدوا به وإطلاق المتقين على المتصفين بالتقوى فيما مضى ، وإن كان غير الغالب في الوصف باسم الفاعل إطلاق يعتمد على قرينة سياق الثناء على الكتاب .الثالث : أنه هدى في المستقبل للذين سيتقون في المستقبل وتُعين عليه هنا قرينة الوصف بالمصدر في { هدى } لأن المصدر لا يدل على زمان معين .حصل من وصف الكتاب بالمصدر من وفرة المعاني ما لا يحصل ، لو وُصف باسم الفاعل فقيل هادٍ للمتقين ، فهذا ثناء على القرآن وتنويه به وتخلص للثناء على المؤمنين الذين انتفعوا بهديه ، فالقرآن لم يزل ولن يزال هدى للمتقين ، فإن جميع أنواع هدايته نفعت المتقين في سائر مراتب التقوى ، وفي سائر أزمانه وأزمانهم على حسب حرصهم ومبالغ علمهم واختلاف مطالبهم ، فمن منتفع بهديه في الدين ، ومن منتفع في السياسة وتدبير أمور الأمة ، ومن منتفع به في الأخلاق والفضائل ، ومن منتفع به في التشريع والتفقه في الدين ، وكل أولئك من المتقين وانتفاعهم به على حسب مبالغ تقواهم . وقد جعل أئمة الأصول الاجتهاد في الفقه من التقوى ، فاستدلوا على وجوب الاجتهاد بقوله تعالى : { فاتقوا الله ما استطعتم } [ التغابن : 16 ] فإن قَصَّر بأحد سعيُه عن كمال الانتفاع به ، فإنما ذلك لنقص فيه لا في الهداية ، ولا يزال أهل العلم والصلاح يتسابقون في التحصيل على أوفر ما يستطيعون من الاهتداء بالقرآن .وتلتئم الجمل الأربع كمالَ الالتئمام : فإن جملة { الم } [ البقرة : 1 ] تسجيل لإعجاز القرآن وإنحاء على عامة المشركين عجزهم عن معارضته وهو مؤلف من حروف كلامهم وكفى بهذا نداء على تعنتهم .وجملة : { ذلك الكتاب } تنويه بشأنه وأنه بالغ حد الكمال في أحوال الكتب ، فذلك موجه إلى الخاصة من العقلاء أن يقول لهم هذا كتاب مؤلف من حروف كلامكم ، وهو بالغ حد الكمال من بين الكتب ، فكان ذلك مما يوفر دواعيكم على اتباعه والافتخار بأنْ منحتموه فإنكم تعُدون أنفسكم أفضل الأمم ، فكيف لا تسرعون إلى متابعة كتاب نزل فيكم هو أفضل الكتب فوزان هذا وزان قوله تعالى : { أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا إلى قوله :{ ورحمة } [ الأنعام : 156 ، 157 ] ، وموَجَّه إلى أهل الكتاب بإيقاظهم إلى أنه أفضل مما أوتوه .وجملةُ : { لا ريب } إن كان الوقف على قوله : { لا ريب } تعريضٌ بكل المرتابين فيه من المشركين وأهل الكتاب أي إن الارتياب في هذا الكتاب نشأ عن المكابرة ، وأن ( لا ريب ) فإنه الكتاب الكامل ، وإن كان الوقف على قوله : { فيه } كان تعريضاً بأهل الكتاب في تعلقهم بمحرف كتابيهم مع ما فيهما من مثار الريب والشك من الاضطراب الواضح الدال على أنه من صنع الناس ، قال تعالى : { أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً } [ النساء : 82 ] .وقال في «الكشاف» : ثم لم تخل كل واحدة من هذه الأربع بعد أن نظمت هذا التنظيم السري من نكتة ذاتتِ جزالة : ففي الأولى الحذف والرمز إلى الغرض بألطف وجه ، وفي الثانية ما في التعريف من الفخامة ، وفي الثالثة ما في تقديم الريب على الظرف ، وفي الرابعة الحذف ووضع المصدر وهو الهدى موضع الوصف وإيراده منكراً والإيجاز في ذكر المتقين ا ه . فالتقوى إذن بهذا المعنى هي أساس الخير ، وهي بالمعنى الشرعي الذي هو غاية المعنى اللغوي جماع الخيرات . قال ابن العربي لم يتكرر لفظ في القرآن مثلما تكرر لفظ التقوى اهتماماً بشأنها .
ٱلتَّفْسِيرُ ٱلْوَسِيط
Tafsir Al-Waseet —
علمائے جامعہ ازہر
ثم قال - تعالى - : ( ذَلِكَ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ) .( ذَلِكَ ) اسم إشارة واللام للبعد حقيقة في الحس ، مجازاً في الرتبة ، والكاف للخطاب ، والمشار إليه - على الراجح - الكتاب الموعود به صلى الله عليه وسلم في قوله - تعالى - ( إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً ) قال صاحب الكشاف : فإن قلت : أخبرني عن تأليف ( ذَلِكَ الكتاب ) مع ( الاما ) قلت : إن جعلت ( الاما ) اسماً للسورة ففي التأليف وجوه . أن يكون ( الاما ) مبتدأ و ( ذَلِكَ ) مبتدأ ثانياً ، و ( الكتاب ) خبره . والجملة خبر المبتدأ الأول .ومعناه أن ذلك الكتاب هو الكتاب الكامل ، كأن ما عداه من الكتب في مقابلته ناقص ، وأنه الذي يستأهل أن يسمى كتاباً ، كما تقول : هو الرجل ، أي : الكامل في الرجولية ، الجامع لما يكون في الرجال من مرضيات الخصال .وإن جعلت ( الاما ) بمنزلة الصوت ، كان " ذلك " مبتدأ خبره " الكتاب " ، أي : ذلك الكتاب المنزل هو الكتاب الكامل .. . اه ملخصاً .وقيل : المشار إليه ( الاما ) على أنه اسم للسورة والمراد المسمى .و ( الكتاب ) مصدر كتب كالكتب ، وأصل الكتب ضم أديم إلى أديم بالخياطة ، واستعمل عرفا في ضم الحروف بعضها إلى بعض بالخط ، وأريد به هنا المنظوم عبارة قبل أن تنظم حروفه التي يتألف منها في الخط ، تسمية للشيء باسم ما يؤول إليه .و ( الريب ) في الأصل مصدر رابه الأمر إذا حصل عنده فيه ريبة ، وحقيقة الريبة ، قلق النفس واضطرابها ، ثم استعمل في معنى الشك مطلقاً . وقال ابن الأثير : الريب هو الشك مع التهمة .و ( هدى ) . مصدر هداه هدى وهداية وهدية - بكسرها - فهدى ، ومعناه الدلالة الموصلة إلى البغية ، وضده الضلال .و ( المتقون ) جمع متق ، اسم فاعل من اتقى وأصله أوتقى - بوزن افتعل - من وقى الشيء وقاية ، أي : صانه وحفظه مما يضره ويؤذيه .والمعنى : ذلك الكتاب الكامل ، وهو القرآن الكريم ، ليس محلا لأن يرتاب عاقل أو منصف في أنه منزل من عند الله ، وأنه هداية وإرشاد للمتقين الذين يجتنبون كل مكروه من قول أو فعل حتى يصونوا أنفسهم عما يضرها ويؤذيها .وكانت الإشارة بصيغة البعيد ، لأنه سامى المنزلة أينما توجهت إليه ، فإن نظرت إليه ناحية تراكيبه فهو معجز للبلغاء ، وإن نظرت إليه من ناحية معانية فهو فوق مدارك الحكماء ، وإن نظرت إليه من ناحية قصصه وتاريخه فهو أصدق محدث عن الماضين ، وأدق محدد لتاريخ السابقين ، فلا جرم أن كانت الإشارة في الآية باستعمال اسم الإشارة للبعيد لإظهار رفعة شأن هذا القرآن ، وقد شاع في كلام البلغاء تمثل الأمر الشريف بالشيء المرفوع في عزة المنال ، لأن الشيء النفيس عزيز على أهله ، فمن العادة أن يجعلوه في مكان مرتفع بعيد عن الأيدي .وصحت الإشارة إلى الكتاب وهو لم ينزل كله بعد ، لأن الإشارة إلى بعضه كالإشارة إلى الكل حيث كان بصدد الإنزال ، فهو حاضر في الأذهان ، فشبه بالحاضر في العيان .ونفى عنه الريب على سبيل الاستغراق مع وقوع الريب فيه من المشركين حيث وصفوه بأنه أساطير الأولين ، لأنه لروعة حكمته ، وسطوع حجته ، لا يرتاب ذو عقل متدبر في كونه وحياً سماوياً ، ومصدر هداية وإصلاح .فالجملة الكريمة تنفى الريب في القرآن عمن شأنهم أن يتدبروه ، ويقبلوا على النظر فيه بروية ، ومن ارتاب في القرآن فلأنه لم يقبل عليه بأذن واعية ، أو بصيرة نافذة ، أو قلب سليم .وقدم جملة ( لاَ رَيْبَ فِيهِ ) على جملة ( هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ) لأنه أراد أن ينفى عن ساحة كونه كتاباً هادياً غبار الريب ، وغيوم الشكوك ، حتى يستقر في النفوس وصفه ، وتطمئن القلوب لآثاره ومقاصده وهداياته .وفصل جملة ( لاَ رَيْبَ فِيهِ ) عما قبلها لكمال الاتصال ، حيث كانت جملة ( ذَلِكَ الكتاب ) مفيدة لكماله ، وجملة ( لاَ رَيْبَ فِيهِ ) مفيدة لنفي الريب عنه .والمراد بكونه ( هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ) مع أنه هداية لهم ولغيرهم ، لأنهم هم المنتفعون به دون سواهم .قال تعالى : ( قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ والذين لاَ يُؤْمِنُونَ في آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أولئك يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ ) ومعنى كونه هدى لهم أنه يزيدهم هدى على ما لديهم من الهدى كما قال - تعالى - :( والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ ) ويصح أن يكون المعنى : هدى للناس الذين صاروا متقين بهذه الهداية ، كما أقول : هديت مهتديا ، أو كتبت مكتوبا ، على معنى أني هديت شخصاً صار مهدياً بهذه الهداية ، وكتبت خطاباً صار مكتوباً بهذه الكتابة ، وهو أسلوب عربي صحيح . كما ورد في حديث " من قتل قتيلا فله سلبه " .قال صاحب الكشاف : ومحل ( هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ) الرفع ، لأنه خبر مبتدأ محذوف ، أو خبر مع ( لاَ رَيْبَ فِيهِ ) ل " ذلك " . . . والذي هو أرسخ عرقاً في البلاعة أن يضرب عن هذه المحال صفحاً ، وأن يقال : إن قوله ( الاما ) جملة برأسها أو طائفة من حروف المعجم مستقلة برأسها .و ( ذَلِكَ الكتاب ) جملة ثانية . و ( لاَ رَيْبَ فِيهِ ) ثالثة . ( هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ) رابعة . وقد أصيب بترتيبها مفصل البلاغة وموجب حسن النظم ، حيث جيء بها متناسقة هكذا من غير نسق ، وذلك لمجيئها متآخية آخذاً بعضها بعنق بعض . فالثانية متحدة بالأولى معتنقة لها ، وهلم جراً إلى الثالثة والرابعة : بيان ذلك أنه نبه أولا على أنه الكلام المتحدى به ، ثم أشير إليه بأنه الكتاب المنعوت بغاية الكمال . فكان تقريراً لجهة التحدى ، وشدا من أعضاده ثم نفى عنه أن يتشبث به من طرف الريب ، فكان شهادة وتسجيلا بكماله . لأنه لا كمال أكمل من الحق واليقين . ولا نقص أنقص ما للباطل والشبه .وقيل لبعض العلماء : فيم لذتك؟ فقال : في حجة تتبختر اتضاحاً ، وفي شبهة تتضاءل افتضاحاً . ثم أخبر عنه بأنه هدى للمتقين ، فقرر بذلك كونه يقيناً لا يحوم الشك حوله ، وحقاً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ثم لم تخل كل واحدة من الأربع - بعد أن رتبت هذا الترتيب الأنيق - من نكتة ذات جزالة . ففي الأولى الحذف والرمز إلى الغرض بألطف وجه وأرشقه . وفي الثانية ما في التعريف من الفخامة ، وفي الثالثة ما في تقديم الريب على الظرف ، وفي الرابعة الحذف .
تَفْسِيرُ ٱلْبَغَوِيِّ
Tafsir al-Baghawi —
علامہ بغوی
قوله تعالى: {ذلك الكتاب}: أي هذا الكتاب وهو القرآن، وقيل: هذا فيه مضمر أي هذا ذلك الكتاب.قال الفراء: "كان الله قد وعد نبيه صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليه كتابا لا يمحوه الماء ولا يخلق عن كثرة الرد فلما أنزل القرآن قال هذا (ذلك) الكتاب الذي وعدتك أن أنزله عليك في التوراة والإنجيل وعلى لسان النبيين من قبلك"و"هذا" للتقريب و"ذلك" للتبعيد.وقال ابن كيسان: "إن الله تعالى أنزل قبل سورة البقرة سورا كَذَّب بها المشركون ثم أنزل سورة البقرة فقال: {ذلك الكتاب} يعني ما تقدم البقرة من السور لا شك فيه".والكتاب: مصدر وهو بمعنى المكتوب؛ كما يقال للمخلوق خلق، وهذا الدرهم ضرب فلان أي مضروبه. وأصل الكتب الضم والجمع، ويقال للجند كتيبة لاجتماعها، وسمي الكتاب كتابا لأنه جمع حرف إلى حرف.قوله تعالى: {لا ريب فيه}: أي لا شك فيه أنه من عند الله عز وجل وأنه الحق والصدق، وقيل: "هو خبر بمعنى النهي أي لا ترتابوا فيه، كقوله تعالى: {فلا رفث ولا فسوق} [197 - البقرة] أي لا ترفثوا ولا تفسقوا".قرأ ابن كثير: فيه بالإشباع في الوصل وكذلك كل هاء كناية قبلها ساكن يشبعها وصلا ما لم يلقها ساكن ثم إن كان الساكن قبل الهاء ياء يشبعها بالكسرة ياء وإن كان غير ياء يشبعها بالضم واوا، ووافقه حفص في قوله: {فيه مهانا} [69 - الفرقان] (فيشبعه).قوله تعالى: {هدى للمتقين}: يدغم الغنة عند اللام والراء أبو جعفر وابن كثير وحمزة والكسائي، زاد حمزة والكسائي عند الياء وزاد حمزة عند الواو والآخرون لا يدغمونها ويُخْفي أبو جعفر النون والتنوين عند الخاء والغين.{هدى للمتقين}: أي هو هدى أي رشد وبيان لأهل التقوى، وقيل: هو نصب على الحال أي هادياً تقديره لا ريب في هدايته للمتقين.و(الهدى) ما يهتدي به الإنسان، (للمتقين) أي للمؤمنين.قال ابن عباس رضي الله عنهما: "المتقي من يتقي الشرك والكبائر والفواحش"وهو مأخوذ من الاتقاء، وأصله الحجز بين الشيئين، ومنه يقال: اتقى بترسه أي جعله حاجزاً بين نفسه وبين ما يقصده. وفي الحديث: (( كنا إذا احمر البأس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم )) أي إذا اشتد الحرب جعلناه حاجزاً بيننا وبين العدو، فكأن المتقي يجعل امتثال أمر الله والاجتناب عما نهاه حاجزاً بينه وبين العذاب.قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لكعب الأحبار: "حدثني عن التقوى، فقال: هل أخذت طريقاً ذا شوك قال: نعم، قال: فما عملت فيه، قال: حذرت وشمرت، قال كعب: ذلك التقوى".وقال شهر بن حوشب: "المتقي الذي يترك ما لا بأس به حذراً لما به بأس".وقال عمر بن عبد العزيز: "التقوى ترك ما حرم الله وأداء ما افترض الله فما رزق الله بعد ذلك فهو خير إلى خير".وقيل هو الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ وفي الحديث: ((جماع التقوى في قوله تعالى: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان.. } [90-النحل] الآية)).وقال ابن عمر: "التقوى أن لا ترى نفسك خيراً من أحد".وتخصيص المتقين بالذكر تشريف لهم أو لأنهم هم المتقون بالهدى.