تَفْسِيرُ ٱلْمُيَسَّر
Tafsir Al-Muyassar —
کنگ فہد قرآن کمپلیکس
محمد رسول الله، والذين معه على دينه أشداء على الكفار، رحماء فيما بينهم، تراهم ركعًا سُجَّدًا لله في صلاتهم، يرجون ربهم أن يتفضل عليهم، فيدخلهم الجنة، ويرضى عنهم، علامة طاعتهم لله ظاهرة في وجوههم من أثر السجود والعبادة، هذه صفتهم في التوراة. وصفتهم في الإنجيل كصفة زرع أخرج ساقه وفرعه، ثم تكاثرت فروعه بعد ذلك، وشدت الزرع، فقوي واستوى قائمًا على سيقانه جميلا منظره، يعجب الزُّرَّاع؛ ليَغِيظ بهؤلاء المؤمنين في كثرتهم وجمال منظرهم الكفار. وفي هذا دليل على كفر من أبغض الصحابة -رضي الله عنهم-؛ لأن من غاظه الله بالصحابة، فقد وُجد في حقه موجِب ذاك، وهو الكفر. وعد الله الذين آمنوا منهم بالله ورسوله وعملوا ما أمرهم الله به، واجتنبوا ما نهاهم عنه، مغفرة لذنوبهم، وثوابًا جزيلا لا ينقطع، وهو الجنة. (ووعد الله حق مصدَّق لا يُخْلَف، وكل من اقتفى أثر الصحابة رضي الله عنهم فهو في حكمهم في استحقاق المغفرة والأجر العظيم، ولهم الفضل والسبق والكمال الذي لا يلحقهم فيه أحد من هذه الأمة، رضي الله عنهم وأرضاهم).
تَفْسِيرُ ٱلْجَلَالَيْنِ
Tafsir al-Jalalayn —
جلال الدین محلی اور جلال الدین سیوطی
«محمد» مبتدأ «رسول الله» خبره والذين معه» أي أصحابه من المؤمنين مبتدأ خبره «أشداء» غلاظ «على الكفار» لا يرحمونهم «رحماء بينهم» خبر ثان، أي متعاطفون متوادون كالوالد مع الولد «تراهم» تبصرهم «ركعا سجدا» حالان «يبتغون» مستأنف يطلبون «فضلا من الله ورضوانا سيماهم» علامتهم مبتدأ «في وجوههم» خبره وهو نور وبياض يُعرفون به في الآخرة أنهم سجدوا في الدنيا «من أثر السجود» متعلق بما تعلق به الخبر، أي كائنة وأعرب حالا من ضميره المنتقل إلى الخبر «ذلك» الوصف المذكور «مثلهم» صفتهم مبتدأ «في التوراة» خبره «ومثلهم في الإنجيل» مبتدأ خبره «كزرع أخرج شطأه» بسكون الطاء وفتحها: فراخه «فآزره» بالمد والقصر قواه وأعانه «فاستغلظ» غلظ «فاستوى» قوي واستقام «على سوقه» أصوله جمع ساق «يعجب الزراع» أي زرَّاعه لحسنه، مثل الصحابة رضي الله عنهم بذلك لأنهم بدأوا في قلة وضعف فكثروا وقووا على أحسن الوجوه «ليغيظ بهم الكفار» متعلق بمحذوف دل عليه ما قبله، أي شبهوا بذلك «وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم» الصحابة ومن لبيان الجنس لا للتبعيض لأنهم كلهم بالصفة المذكورة «مغفرة وأجرا عظيما» الجنة وهما لمن بعدهم أيضا في آيات.
تَفْسِيرُ ٱلْقُرْطُبِيِّ
Tafsir al-Qurtubi —
علامہ قرطبی
قوله تعالى : محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما .فيه خمس مسائل : الأولى : قوله تعالى : محمد رسول الله محمد مبتدأ و ( رسول ) خبره . وقيل : محمد ابتداء و ( رسول ) الله نعته .والذين معه عطف على المبتدأ ، والخبر فيما بعده ، فلا يوقف على هذا التقدير على رسول الله وعلى الأول يوقف على رسول الله ; [ ص: 266 ] لأن صفاته - عليه السلام - تزيد على ما وصف أصحابه ، فيكون محمد ابتداء ورسول الله الخبر والذين معه ابتداء ثان . وأشداء خبره ورحماء خبر ثان . وكون الصفات في جملة أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الأشبه . وقيل : المراد بالذين معه جميع المؤمنين .رحماء بينهم أي يرحم بعضهم بعضا . وقيل : متعاطفون متوادون . وقرأ الحسن أشداء على الكفار رحماء بينهم بالنصب على الحال ، كأنه قال : والذين معه في حال شدتهم على الكفار وتراحمهم بينهم . تراهم ركعا سجدا إخبار عن كثرة صلاتهم . يبتغون فضلا من الله ورضوانا أي يطلبون الجنة ورضا الله تعالى .الثانية : قوله تعالى : سيماهم في وجوههم من أثر السجود السيما العلامة ، وفيها لغتان : المد والقصر ، أي : لاحت علامات التهجد بالليل وأمارات السهر . وفي سنن ابن ماجه قال : حدثنا إسماعيل بن محمد الطلحي قال حدثنا ثابت بن موسى أبو يزيد عن شريك عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار . وقال ابن العربي : ودسه قوم في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - على وجه الغلط ، وليس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه ذكر بحرف . وقد روى ابن وهب عن مالك سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مما يتعلق بجباههم من الأرض عند السجود ، وبه قال سعيد بن جبير . وفي الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : صلى صبيحة إحدى وعشرين من رمضان وقد وكف المسجد وكان على عريش ، فانصرف النبي - صلى الله عليه وسلم - من صلاته وعلى جبهته وأرنبته أثر الماء والطين . وقال الحسن : هو بياض يكون في الوجه يوم القيامة . وقاله سعيد بن جبير أيضا ، ورواه العوفي عن ابن عباس ، قاله الزهري . وفي الصحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حديث أبي هريرة ، وفيه : [ حتى إذا فرغ الله من القضاء بين العباد وأراد أن يخرج برحمته من أراد من أهل النار أمر [ ص: 267 ] الملائكة أن يخرجوا من النار من كان لا يشرك بالله شيئا ممن أراد الله أن يرحمه ممن يقول لا إله إلا الله فيعرفونهم في النار بأثر السجود تأكل النار ابن آدم إلا أثر السجود حرم الله على النار أن تأكل أثر السجود ] . وقال شهر بن حوشب : يكون موضع السجود من وجوههم كالقمر ليلة البدر . وقال ابن عباس ومجاهد : السيما في الدنيا وهو السمت الحسن . وعن مجاهد أيضا : هو الخشوع والتواضع . قال منصور : سألت مجاهدا عن قوله تعالى : سيماهم في وجوههم أهو أثر يكون بين عيني الرجل ؟ قال لا ، ربما يكون بين عيني الرجل مثل ركبة العنز وهو أقسى قلبا من الحجارة ولكنه نور في وجوههم من الخشوع . وقال ابن جريج : هو الوقار والبهاء . وقال شمر بن عطية : هو صفرة الوجه من قيام الليل . قال الحسن : إذا رأيتهم حسبتهم مرضى وما هم بمرضى . وقال الضحاك : أما إنه ليس بالندب في وجوههم ولكنه الصفرة . وقال سفيان الثوري : يصلون بالليل فإذا أصبحوا رئي ذلك في وجوههم ، بيانه قوله - صلى الله عليه وسلم - : من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار . وقد مضى القول فيه آنفا . وقال عطاء الخراساني : دخل في هذه الآية كل من حافظ على الصلوات الخمس .الثالثة : قوله تعالى : ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل قال الفراء : فيه وجهان ، إن شئت قلت المعنى ذلك مثلهم في التوراة وفي الإنجيل أيضا ، كمثلهم في القرآن ، فيكون الوقف على الإنجيل وإن شئت قلت : تمام الكلام ذلك مثلهم في التوراة ، ثم ابتدأ فقال : ومثلهم في الإنجيل . وكذا قال ابن عباس وغيره : هما مثلان ، أحدهما في التوراة والآخر في الإنجيل ، فيوقف على هذا على التوراة وقال مجاهد : هو مثل واحد ، يعني أن هذه صفتهم في التوراة والإنجيل ، فلا يوقف على التوراة على هذا ، ويوقف على الإنجيل ويبتدئ كزرع أخرج شطأه على معنى وهم كزرع . وشطأه يعني فراخه وأولاده ، قاله ابن زيد وغيره . وقال مقاتل : هو نبت واحد ، فإذا خرج ما بعده فقد شطأه . قال الجوهري : شطء الزرع والنبات فراخه ، والجمع أشطاء . وقد أشطأ الزرع خرج شطؤه . قال الأخفش في قوله : أخرج شطأه أي : طرفه . وحكاه الثعلبي عن الكسائي . وقال الفراء : أشطأ الزرع فهو مشطئ إذا خرج . قال الشاعر :أخرج الشطء على وجه الثرى ومن الأشجار أفنان الثمرالزجاج : أخرج شطأه أي : نباته . وقيل : إن الشطء شوك السنبل ، والعرب أيضا تسميه : [ ص: 268 ] السفا ، وهو شوك البهمى ، قاله قطرب . وقيل : إنه السنبل ، فيخرج من الحبة عشر سنبلات وتسع وثمان ، قال الفراء ، حكاه الماوردي . وقرأ ابن كثير وابن ذكوان ( شطأه ) بفتح الطاء ، وأسكن الباقون . وقرأ أنس ونصر بن عاصم وابن وثاب ( شطاه ) مثل عصاه . وقرأ الجحدري وابن أبي إسحاق ( شطه ) بغير همز ، وكلها لغات فيها .وهذا مثل ضربه الله تعالى لأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، يعني أنهم يكونون قليلا ثم يزدادون ويكثرون ، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - حين بدأ بالدعاء إلى دينه ضعيفا فأجابه الواحد بعد الواحد حتى قوي أمره ، كالزرع يبدو بعد البذر ضعيفا فيقوى حالا بعد حال حتى يغلظ نباته وأفراخه . فكان هذا من أصح مثل وأقوى بيان . وقال قتادة : مثل أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - في الإنجيل مكتوب أنه سيخرج من قوم ينبتون نبات الزرع ، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر .فآزره أي قواه وأعانه وشده ، أي : قوى الشطء الزرع . وقيل : بالعكس ، أي : قوى الزرع الشطء . وقراءة العامة آزره بالمد . وقرأ ابن ذكوان وأبو حيوة وحميد بن قيس ( فأزره ) مقصورة ، مثل فعله . والمعروف المد . قال امرؤ القيس :بمحنية قد آزر الضال نبتها مجر جيوش غانمين وخيبفاستوى على سوقه على عوده الذي يقوم عليه فيكون ساقا له . والسوق : جمع الساق . يعجب الزراع أي يعجب هذا الزرع زراعه . وهو مثل كما بينا ، فالزرع محمد - صلى الله عليه وسلم - ، والشطء أصحابه ، كانوا قليلا فكثروا ، وضعفاء فقووا ، قاله الضحاك وغيره . ليغيظ بهم الكفار اللام متعلقة بمحذوف ، أي : فعل الله هذا لمحمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ليغيظ بهم الكفار .الرابعة : قوله تعالى : وعد الله الذين آمنوا أي وعد الله هؤلاء الذين مع محمد ، وهم المؤمنون الذين أعمالهم صالحة . و ( من ) في قوله : منهم مبعضة لقوم من الصحابة دون قوم ، ولكنها عامة مجنسة ، مثل قوله تعالى : فاجتنبوا الرجس من الأوثان لا يقصد للتبعيض لكنه يذهب إلى الجنس ، أي : فاجتنبوا الرجس من جنس الأوثان ، إذ كان الرجس يقع من أجناس شتى ، منها الزنى والربا وشرب الخمر والكذب ، فأدخل ( من ) يفيد بها الجنس وكذا منهم ، أي : من هذا الجنس ، يعني جنس الصحابة . ويقال : أنفق نفقتك من الدراهم ، أي : اجعل نفقتك هذا الجنس . وقد [ ص: 269 ] يخصص أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - بوعد المغفرة تفضيلا لهم ، وإن وعد الله جميع المؤمنين المغفرة . وفي الآية جواب آخر : وهو أن ( من ) مؤكدة للكلام ، والمعنى وعدهم الله كلهم مغفرة وأجرا عظيما . فجرى مجرى قول العربي : قطعت من الثوب قميصا ، يريد قطعت الثوب كله قميصا . و ( من ) لم يبعض شيئا . وشاهد هذا من القرآن وننزل من القرآن ما هو شفاء معناه وننزل القرآن شفاء ; لأن كل حرف منه يشفي ، وليس الشفاء مختصا به بعضه دون بعض . على أن من اللغويين من يقول : ( من ) مجنسة ، تقديرها ننزل الشفاء من جنس القرآن ، ومن جهة القرآن ، ومن ناحية القرآن . قال زهير :أمن أم أوفى دمنة لم تكلمأراد من ناحية أم أوفى دمنة ، أم من منازلها دمنة . وقال الآخر [ الأعشى ] :أخو رغائب يعطيها ويسألها يأبى الظلامة منه النوفل الزفرف ( من ) لم تبعض شيئا ، إذ كان المقصد يأبى الظلامة لأنه نوفل زفر . والنوفل : الكثير العطاء . والزفر : حامل الأثقال والمؤن عن الناس .الخامسة : روى أبو عروة الزبيري من ولد الزبير : كنا عند مالك بن أنس ، فذكروا رجلا ينتقص أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقرأ مالك هذه الآية محمد رسول الله والذين معه حتى بلغ يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار فقال مالك : من أصبح من الناس في قلبه غيظ على أحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد أصابته هذه الآية ، ذكره الخطيب أبو بكر .قلت : لقد أحسن مالك في مقالته وأصاب في تأويله . فمن نقص واحدا منهم أو طعن عليه في روايته فقد رد على الله رب العالمين ، وأبطل شرائع المسلمين ، قال الله تعالى : محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار الآية . وقال : لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة إلى غير ذلك من الآي التي تضمنت الثناء عليهم ، والشهادة لهم بالصدق والفلاح ، قال الله تعالى : رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه وقال : للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا إلى قوله أولئك هم الصادقون ، ثم قال عز من قائل : والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم إلى قوله فأولئك هم المفلحون . وهذا كله مع علمه تبارك [ ص: 270 ] وتعالى بحالهم ومآل أمرهم ، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : خير الناس قرني ثم الذين يلونهم وقال : لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا لم يدرك مد أحدهم ولا نصيفه خرجهما البخاري . وفي حديث آخر : فلو أن أحدكم أنفق ما في الأرض لم يدرك مد أحدهم ولا نصيفه .قال أبو عبيد : معناه لم يدرك مد أحدهم إذا تصدق به ولا نصف المد ، فالنصيف هو النصف هنا . وكذلك يقال للعشر عشير ، وللخمس خميس ، وللتسع تسيع ، وللثمن ثمين ، وللسبع سبيع ، وللسدس سديس ، وللربع ربيع . ولم تقل العرب للثلث ثليث . وفي البزار عن جابر مرفوعا صحيحا : [ إن الله اختار أصحابي على العالمين سوى النبيين والمرسلين واختار لي من أصحابي أربعة - يعني أبا بكر وعمر وعثمان وعليا - فجعلهم أصحابي ] . وقال : [ في أصحابي كلهم خير ] . وروى عويم بن ساعدة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : [ إن الله - عز وجل - اختارني واختار لي أصحابي فجعل لي منهم وزراء وأختانا وأصهارا فمن سبهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ولا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا ] . والأحاديث بهذا المعنى كثيرة ، فحذار من الوقوع في أحد منهم ، كما فعل من طعن في الدين فقال : إن المعوذتين ليستا من القرآن ، وما صح حديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في [ ص: 271 ] تثبيتهما ودخولهما في جملة التنزيل إلا عن عقبة بن عامر ، وعقبة بن عامر ضعيف لم يوافقه غيره عليها ، فروايته مطرحة . وهذا رد لما ذكرناه من الكتاب والسنة ، وإبطال لما نقلته لنا الصحابة من الملة . فإن عقبة بن عامر بن عيسى الجهني ممن روى لنا الشريعة في الصحيحين البخاري ومسلم وغيرهما ، فهو ممن مدحهم الله ووصفهم وأثنى عليهم ووعدهم مغفرة وأجرا عظيما . فمن نسبه أو واحدا من الصحابة إلى كذب فهو خارج عن الشريعة ، مبطل للقرآن طاعن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . ومتى ألحق واحد منهم تكذيبا فقد سب ; لأنه لا عار ولا عيب بعد الكفر بالله أعظم من الكذب ، وقد لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من سب أصحابه ، فالمكذب لأصغرهم - ولا صغير فيهم - داخل في لعنة الله التي شهد بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وألزمها كل من سب واحدا من أصحابه أو طعن عليه . وعن عمر بن حبيب قال : حضرت مجلس هارون الرشيد فجرت مسألة تنازعها الحضور وعلت أصواتهم ، فاحتج بعضهم بحديث يرويه أبو هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فرفع بعضهم الحديث وزادت المدافعة والخصام حتى قال قائلون منهم : لا يقبل هذا الحديث على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ; لأن أبا هريرة متهم فيما يرويه ، وصرحوا بتكذيبه ، ورأيت الرشيد قد نحا نحوهم ونصر قولهم فقلت أنا : الحديث صحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأبو هريرة صحيح النقل صدوق فيما يرويه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيره ، فنظر إلي الرشيد نظر مغضب ، وقمت من المجلس فانصرفت إلى منزلي ، فلم ألبث حتى قيل : صاحب البريد بالباب ، فدخل فقال لي : أجب أمير المؤمنين إجابة مقتول ، وتحنط وتكفن فقلت : اللهم إنك تعلم أني دافعت عن صاحب نبيك ، وأجللت نبيك أن يطعن على أصحابه ، فسلمني منه . فأدخلت على الرشيد وهو جالس على كرسي من ذهب ، حاسر عن ذراعيه ، بيده السيف وبين يديه النطع ، فلما بصر بي قال لي : يا عمر بن حبيب ما تلقاني أحد من الرد والدفع لقولي بمثل ما تلقيتني به ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، إن الذي قلته وجادلت عنه فيه ازدراء على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى ما جاء به ، إذا كان أصحابه كذابين فالشريعة باطلة ، والفرائض والأحكام في الصيام والصلاة والطلاق والنكاح والحدود كله مردود غير مقبول فرجع إلى نفسه ثم قال : أحييتني يا عمر بن حبيب أحياك الله ، وأمر لي بعشرة آلاف درهم .قلت : فالصحابة كلهم عدول ، أولياء الله تعالى وأصفياؤه ، وخيرته من خلقه بعد أنبيائه ورسله . هذا مذهب أهل السنة ، والذي عليه الجماعة من أئمة هذه الأمة . وقد ذهبت شرذمة لا مبالاة بهم إلى أن حال الصحابة كحال غيرهم ، فيلزم البحث عن عدالتهم . ومنهم من فرق بين [ ص: 272 ] حالهم في بداءة الأمر فقال : إنهم كانوا على العدالة إذ ذاك ، ثم تغيرت بهم الأحوال فظهرت فيهم الحروب وسفك الدماء ، فلا بد من البحث . وهذا مردود ، فإن خيار الصحابة وفضلاءهم كعلي وطلحة والزبير وغيرهم - رضي الله عنهم - ممن أثنى الله عليهم وزكاهم ورضي عنهم وأرضاهم ووعدهم الجنة بقوله تعالى : مغفرة وأجرا عظيما وخاصة العشرة المقطوع لهم بالجنة بإخبار الرسول هم القدوة مع علمهم بكثير من الفتن والأمور الجارية عليهم بعد نبيهم بإخباره لهم بذلك . وذلك غير مسقط من مرتبتهم وفضلهم ، إذ كانت تلك الأمور مبنية على الاجتهاد ، وكل مجتهد مصيب . وسيأتي الكلام في تلك الأمور في سورة ( الحجرات ) مبينة إن شاء الله تعالى :تم تفسير سورة ( الفتح ) والحمد لله .
تَنْوِيرُ ٱلْمِقْبَاسِ مِن تَفْسِيرِ ٱبْنِ عَبَّاس
Tafsir Tanwir al-Miqbas —
حضرت ابن عباسؓ
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29({ شَهِيداً * مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله والذين مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ }لما بيّن صدق الرسول صلى الله عليه وسلم في رؤياه واطمأنت نفوس المؤمنين أعقب ذلك بتنويه شأن الرسول صلى الله عليه وسلم والثناء على المؤمنين الذين معه .و { محمد } خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : هو محمد يعود هذا الضمير المحذوف على قوله : { رسوله } [ الفتح : 28 ] في الآية قبلها . وهذا من حذف المسند الذي وصفه السكاكي بالحذف الذي الاستعمال وارد على ترك المسند إليه وترك نظائره . قال التفتازاني في «المطول» «ومنه قولهم بعد أن يذكروا رجلاً : فتى من شأنه كذا وكذا ، وهو أن يذكروا الديار أو المنازل ربع كذا وكذا» . ومن أمثلة «المفتاح» لذاك قوله : ( فراجعهما ( أي العقل السليم والطبع المستقيم في مثل : قولهسأشكر عمراً إن تراخَتْ منيتي ... أياديَ لم تُمنن وإنْ هيَ جلّتفتى غير محجوب الغنى عن صديقه ... ولا مظهر الشكوى إذا النعل زلتإذ لم يقل : هو فتى .وهذا المعنى هو الأظهر هنا إذ ليس المقصود إفادة أن محمداً رسول الله وإنما المقصود بيان رسول الله من هو بعد أن أجرى عليه من الأخبار من قوله : { لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق } [ الفتح : 27 ] إلى قوله : { ليظهره على الدين كله } [ الفتح : 28 ] فيعتبر السامع كالمشتاق إلى بيان : مَنْ هذا المتحدث عنه بهذه الأخبار؟ فيقال له : محمد رسول الله ، أي هو محمد رسول الله . وهذا من العناية والاهتمام بذكر مناقبه صلى الله عليه وسلم فتعتبر الجملةُ المحذوفُ مبتدؤها مستأنفةً استئنافاً بيانياً . وفيه وجوه أخر لا تخفى ، والأحسن منها هذا .وفي هذا نداء على إبطال جحود المشركين رسالته حين امتنعوا من أن يكتب في صحيفة الصلح «هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله . وقالوا : لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت» .وقوله : { والذين معه } يجوز أن يكون مبتدأ و { أشداء } خبراً عنه وما بعده إخبار . والمقصود الثناء على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنى { معه } : المصاحَبة الكاملة بالطاعة والتأييد كقوله تعالى : { وقال الله إني معكم } . والمراد : أصحابه كلهم لا خصوص أهل الحديبية .وإن كانوا هم المقصود ابتداء فقد عُرفوا بصدق ما عاهدوا عليه الله ، ولذلك لما انهزم المسلمون يوم حنين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس بن عبد المطلب نادِ يا أصل السَّمُرة . ويجوز أن يكون { والذين معه } عطفاً على { رسولَه } من قوله : { هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق } [ التوبة : 33 ] . والتقدير : وأرسل الذين معه ، أي أصحابه على أن المراد بالإرسال ما يشمل الإذن لهم بواسطة الرسول صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى : { إذ أرسلنا إليهم اثنين } [ يس : 14 ] الآية فإن المرسلين إلى أهل أنطاكية كانوا من الحواريين ، أمرهم عيسى بنشر الهدى والتوحيد .فيكون الإرسال البعث له في قوله تعالى : { بعثنا عليكم عبادا لَنَا } وعلى هذا يكون { أرسلنا } في هذه الآية مستعملاً في حقيقته ومجازه .و { أشداء } : جمع شديد ، وهو الموصوف بالشدة المعنوية وهي صلابة المعاملة وقساوتها ، قال تعالى في وصف النار { عليها ملائكة غلاظٌ شداد } [ التحريم : 6 ] .والشدة على الكفار : هي الشدة في قتالهم وإظهار العداوة لهم ، وهذا وصف مدح لأن المؤمنين الذين مع النبي صلى الله عليه وسلم كانوا هم فئة الحق ونشر الإسلام فلا يليق بهم إلا إظهار الغضب لله والحب في الله والبغض في الله من الإيمان ، وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أقوى المؤمنين إيماناً من أجْل إشراق أنوار النبوءة على قلوبهم فلا جرم أن يكونوا أشد على الكفار فإن بين نفوس الفريقين تمام المضادة وما كانت كراهيتهم للصلح مع الكفار يوم الحديبية ورغبتهم في قتل أسراهم الذين ثقفوهم يوم الحديبية وعفا عنهم النبي صلى الله عليه وسلم إلا من آثار شدتهم على الكفار ولم تكن لاحت لهم المصلحة الراجحة على القتال وعلى القتل التي آثرها النبي صلى الله عليه وسلم ولذلك كان أكثرهم محاورة في إباء الصلح يومئذٍ أشد أشدّائهم على الكفار وهو عمر بن الخطاب وكان أفهمهم للمصلحة التي توخاها النبي صلى الله عليه وسلم في إبرام الصلح أبا بكر . وقد قال سهل بن حنيف يوم صفين : أيها الناس اتهموا الرأي فلقد رأيتنا يوم أبي جندل ، ولو نستطيع أن نرد على رسول الله فعله لرددناه . والله ورسوله أعلم .ثم تكون أحكام الشدة على الكفار من وجوب وندب وإباحة وأحكام صحبتهم ومعاملتهم جارية على مختلف الأحوال ولعلماء الإسلام فيها مقال ، وقد تقدم كثير من ذلك في سورة آل عمران وفي سورة براءة . والشدة على الكفار اقتبسوها من شدة النبي صلى الله عليه وسلم في إقامة الدين قال تعالى { بالمؤمنين رؤوف رحيم } [ التوبة : 128 ] .وأما كونهم رحماء بينهم فذلك من رسوخ أخوة الإيمان بينهم في نفوسهم . وقد وردت أخبار أخوتهم وتراحمهم في مواضع كثيرة من القرآن وكلام الرسول صلى الله عليه وسلموفي الجمع لهم بين هاتين الخلتين المتضادتين الشدّةِ والرحمة إيماء إلى أصالة آرائهم وحكمة عقولهم ، وأنهم يتصرفون في أخلاقهم وأعمالهم تصرف الحكمة والرشد فلا تغلب على نفوسهم محمدة دون أخرى ولا يندفعون إلى العمل بالجبلة وعدم الرؤية . وفي معنى هذه الآية قوله تعالى : { فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعِزّة على الكافرين } في سورة العقود ( 54 ( .وفي تعليق رحماء } مع ظرف ( بين ( المفيد للمكان الداخل وسط ما يضاف هو إليه تنبيه على انبثاث التراحم فيهم جميعاً قال النبي صلى الله عليه وسلم « تجد المسلمين في توادِّهم وتراحمهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو اشتكى له جميع الجسد بالسهر والحمى »والخطاب في { تراهم } لغير معين بل لكل من تتأتى رؤيته إياهم ، أي يراهم الرائي .وإيثار صيغة المضارع للدلالة على تكرر ذلك ، أي تراهم كلما شئت أن تراهم ركعاً سجداً . وهذا ثناء عليهم بشدة إقبالهم على أفضل الأعمال المزكية للنفس ، وهي الصلوات مفروضُها ونافلتها وأنهم يتطلبون بذلك رضى الله ورضوانه . وفي سوق هذا في مساق الثناء إيماء إلى أن الله حقق لهم ما يبتغونه .والسيما : العلامة ، وتقدم عند قوله تعالى : { تعرفهم بسيماهم } في البقرة ( 273 ( وهذه سيما خاصة هي من أثر السجود .واختلف في المراد من السيما التي وصفت بأنها من أثر السجود } على ثلاثة أنحاء الأول : أنها أثر محسوس للسجود ، الثاني أنها من الأثر النفسي للسجود ، الثالث أنها أثر يظهر في وجوههم يوم القيامة . فبالأول فسر مالك بن أنس وعكرمة وأبو العالية قال مالك : السيما هي ما يتعلق بجباههم من الأرض عند السجود مثل ما تعلق بجبهة النبي صلى الله عليه وسلم من أثر الطين والماء لما وَكَف المسجد صبيحة إحدى وعشرين من رمضان . وقال السعيد وعكرمة : الأثر كالغدة يكون في جبهة الرجل .وليس المراد أنهم يتكلفون حدوث ذلك في وجوههم ولكنه يحصل من غير قصد بسبب تكرر مباشرة الجبهة للأرض وبشرات الناس مختلفة في التأثر بذلك فلا حرج على من حصل له ذلك إذا لم يتكلفه ولم يقصد به رياء .وقال أبو العالية : يسجدون على التراب لا على الأثواب .وإلى النحو الثاني فسر الأعمش والحسن وعطاء والربيع ومجاهد عن ابن عباس وابن جزء والضحاك . فقال الأعمش : مَن كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار . وقريب منه عن عطاء والربيع بن سليمان . وقال ابن عباس : هو حسن السمت . وقال مجاهد : هو نور من الخشوع والتواضع . وقال الحسن والضحاك : بياض وصفرة وتهيج يعتري الوجوه من السهر . وإلى النحو الثالث فسر سعيد بن جبير أيضاً والزهري وابن عباس في رواية العوفي والحسن أيضاً وخالد الحنفي وعطية وشهر بن حوشب : أنها سِيما تكون لهم يوم القيامة ، وقالوا : هي بياض يكون في الوجه يوم القيامة كالقمر ليلة البدر يجعله الله كرامة لهم . وأخرج الطبراني وابن مردويه عن أُبيّ بن كعب قال : قال رسول الله في قوله تعالى : { سيماهم في وجوههم من أثر السجود } [ الفتح : 29 ] : النور يوم القيامة ، قيل وسنده حسن وهو لا يقتضي تعطيل بقية الاحتمالات إذ كل ذلك من السيما المحمودة ولكنّ النبي صلى الله عليه وسلم ذَكر أعلاها .وضمائر الغيبة في قوله : { تراهم } و { يبتغون } و { سيماهم في وجوههم } عائدة إلى { الذين معه } على الوجه الأول ، وإلى كل من { محمد رسول اللَّه والذين معه } على الوجه الثاني .{ السجود ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِى } .الإشارة ب { ذلك } إلى المذكور من صفات الذين مع النبي صلى الله عليه وسلم لأن السابق في الذكر بمنزلة الحاضر فيشار إليه بهذا الاعتبار فاسم الإشارة مبتدأ و { مثلهم } خبره .والمَثل يطلق على الحالة العجيبة ، ويطلق على النظير ، أي المُشابه فإن كان هنا محمولاً على الحالة العجيبة فالمعنى : أن الصفات المذكورة هي حالهم الموصوف في «التوراة» . وقوله : { في التوراة } متعلق ب { مثلهم } أو حال منه . فيحتمل أن في «التوراة» وصف قوم سيأتون ووصفوا بهذه الصفات ، فبيّن الله بهذه الآية أن الذين مع النبي صلى الله عليه وسلم هم المقصود بتلك الصفة العجيبة التي في «التوراة» ، أي أن «التوراة» قد جاءت فيها بشارة بمجيء محمد صلى الله عليه وسلم ووصف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والذي وقفنا عليه في «التوراة» مما يصلح لتطبيق هذه الآية هو البشارة الرمزية التي في الإصحاح الثالث والثلاثين من «سفر التثنية» من قول موسى عليه السلام : «جاء الربُ من سينا وأشرقَ لهم من سَعير وتلألأ من جبل فاران ، وأتى من ربوات القُدُس وعن يمينه نار شريعة لهم فأحبّ الشعب جميع قديسيه وهم جالسون عند قدمك يتقبلون من أقوالك» فإن جبل فاران هو حِيال الحجاز . وقوله : «فأحب الشعب جميع قديسيه» يشير إليه قوله : { رحماءُ بينهم } [ الفتح : 29 ] ، وقد تقدم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ما ينطبق على هذا من سورة الفتح وقوله : قديسيه يفيد معنى { تراهم رُكَّعا سُجَّدا } [ الفتح : 29 ] ومعنى { سِيماهم في وجوههم من أثر السجود } [ الفتح : 29 ] . وقوله في «التوراة» «جالسون عند قدمك» يفيد معنى قوله تعالى : { يبتغون فضلاً من الله ورضوانا } [ الحشر : 8 ] . ويكون قوله تعالى : { ذلك } إشارة إلى ما ذكر من الوصف .{ التوراة وَمَثَلُهُمْ فِى الإنجيل كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فاستغلظ فاستوى على سُوقِهِ يُعْجِبُ } .ابتداء كلام مبتدأ . ويكون الوقف على قوله : { في التوراة } والتشبيه في قوله : { كزرع } خبره ، وهو المثَل . وهذا هو الظاهر من سياق الآية فيكون مشيراً إلى نحو قوله في «إنجيل متى» الإصحاح 13 فقرة 3 «هو ذا الزَارع قد خرج ليزرع يعني عيسى عليه السّلام وفيما هو يزرع سقط بعض على الطريق فجاءت الطيور وأكلته» إلى أن قال «وسقط الآخر على الأرض الجيدة فأعطى ثمره بعض مائة وآخر ستين وآخر ثلاثين» . قال فقرة ، ثم قال : «وأما المزروع على الأرض الجيدة فهو الذي يسمع الكلمة ويفهم ، وهو الذي يأتي بثَمر فيصنع بعضٌ مائةً وبعضٌ ستين وآخر ثلاثين» . وهذا يتضمن نماء الإيمان في قلوبهم وبأنهم يدعون الناس إلى الدين حتى يكثر المؤمنون كما تنبت الحبة مائة سنبلة وكما تنبت من النواة الشجرة العظيمة .وفي قوله : { أخرج شطأه } استعارة الإخراج إلى تفرع الفراخ من الحبة لمشابهة التفرع بالخروج ومشابهة الأصل المتفرع عنه بالذي يخرج شيئاً من مكان .والشطْءُ بهمزة في آخره وسكون الطاء : فراخ الزرع وفروع الحبّة .ويقال : أشطأ الزرع ، إذا أخرج فروعا . وقرأه الجمهور بسكون الطاء وبالهمز وقرأه ابن كثير { شَطأه } بفتح الطاء بعدها ألف على تخفيف الهمزة ألفا .و { آزره } قوّاه ، وهو من المؤازرة بالهمز وهي المعاونة وهو مشتق من اسم الإزار لأنه يشد ظهر المتّزر به ويعينه شدهُ على العمل والحَمل كذا قيل . والأظهر عندي عكس ذلك وهو أن يكون الإزار مشتقاً اسمه من : آزر ، لأن الاشتقاق من الأسماء الجامدة نادر لا يصار إلى ادعائه إلا إذا تعين . وصيغة المفاعلة في { آزره } مستعارة لقوة الفعل مثل قولهم : عافاك الله ، وقوله تعالى : { وبارك فيها } [ فصلت : 10 ] .والضمير المرفوع في { آزره } للشطء ، والضمير المنصوب للزرع ، أي قوًى الشطء أصله .وقرأ الجمهور { فآزره } . وقرأه ابن ذكوان عن ابن عامر { فأزَّره } بدون ألف بعد الهمزة والمعنى واحد .ومعنى { استغلظ } غلظ غلظاً شديداً في نوعه ، فالسين والتاء للمبالغة مثل : استجاب . والضميران المرفوعان في { استغلظ } و { استوى } عائدان إلى الزرع .والسُوق : جمع ساق على غير قياس لأن ساقا ليس بوصف وهو اسم على زِنة فَعَل بفتحتين . وقراءة الجميع { على سوقه } بالواو بعد الضمة . وقال ابن عطية : قرأ ابن كثير { سُؤقه } بالهمزة أي همزة ساكنة بعد السين المضمومة وهي لغة ضعيفة يهْمزون الواو التي قبلها ضمة ومنه قول الشاعر :لحب المؤقِدان إلى مؤسىوتنسب لقنبل عن ابن كثير ولم يذكرها المفسّرون ولم يذكرها في «حرز الأماني» وذكرها النوري في كتاب «غيث النفع» وكلامه غير واضح في صحة نسبة هذه القراءة إلى قنبل .وساق الزرع والشجرة : الأصل الذي تخرج فيه السنبل والأغصان . ومعنى هذا التمثيل تشبيه حال بدء المسلمين ونمائهم حتى كثروا وذلك يتضمن تشبيه بدء دين الإسلام ضعيفاً وتقويه يوماً فيوماً حتى استحكم أمره وتغلب على أعدائه . وهذا التمثيل قابل لاعتبار تجزئة التشبيه في أجزائه بأن يشبه محمد صلى الله عليه وسلم بالزارع كما مثل عيسى غلب الإسلام في الإنجيل ، ويشبه المؤمنون الأولون بحبات الزرع التي يبذرها في الأرض مثل : أبي بكر وخديجة وعلي وبلال وعمّار ، والشطْء : من أيدوا المسلمين فإن النبي صلى الله عليه وسلم دعا إلى الله وحده وانضم إليه نفر قليل ثم قواه الله بمن ضامن معه كما يقوي الطاقة الأولى من الزرع ما يحتف بها مما يتولد منها حتى يعجب الزرّاع . وقوله : { يعجب الزراع } تحسين للمشبّه به ليفيد تحسين المشبه .{ الزراع لِيَغِيظَ بِهِمُ } .تعليل لما تضمنه تمثيلهم بالزرع الموصوف من نمائهم وترقيهم في الزيادة والقوة لأن كونهم بتلك الحالة من تقدير الله لهم أن يكونوا عليها فمثل بأنه فعل ذلك ليغيظ بهم الكفار .قال القرطبي : قال أبو عروة الزبيري : كنا عند مالك بن أنس فذكروا عنده رجلاً ينتقص أصحاب رسول الله فقرأ مالك هذه الآية { محمد رسول الله } إلى أن بلغ قوله : { ليغيظ بهم الكفار } فقال مالك : من أصبح من الناس في قلبه غيظ على أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أصابته هذه الآية .وقلت : رحم الله مالك بن أنس ورضي عنه ما أدق استنباطه .{ الكفار وَعَدَ الله الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً } .أعقب تنويه شأنهم والثناء عليهم بوعدهم بالجزاء على ما اتصفوا به من الصفات التي لها الأثر المتين في نشر ونصر هذا الدين .وقوله : { منهم } يجوز أن تكون ( من ( للبيان كقوله { فاجتنبوا الرجس من الأوثان } [ الحج : 30 ] وهو استعمال كثير ، ويجوز إبقاؤه على ظاهر المعنى من التبعيض لأنه وعد لكل من يكون مع النبي صلى الله عليه وسلم في الحاضر والمستقبل فيكون ذكر ( من ( تحذيراً وهو لا ينافي المغفرة لجميعهم لأن جميعهم آمنوا وعملوا الصالحات وأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم هم خيرة المؤمنين .
ٱلتَّفْسِيرُ ٱلْوَسِيط
Tafsir Al-Waseet —
علمائے جامعہ ازہر
ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بهذه الآية التى فيها ما فيها من الثناء على الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعلى أصحابه ، الذين رضى عنهم وأرضاهم فقال : ( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله والذين مَعَهُ أَشِدَّآءُ . . . ) .وقوله - تعالى - : ( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله ) مبتدأ وخبر ، أو ( مُّحَمَّدٌ ) خبر لمتبدأ محذوف ، و ( رَّسُولُ الله ) بدل أو عطف بيان من الاسم الشريف . أى : هذا الرسول الذى أرسله الله - تعالى - بالهدى ودين الحق ، هو محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . ( والذين مَعَهُ ) وهم أصحابه - وعلى رأسهم من شهد معه صلح الحديبية ، وبايعه تحت الشجرة - من صفاتهم أنهم ( أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار ) أى : غلاظ عليهم ، وأنهم ( رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ ) .أى : أنهم مع إخوانهم المؤمنين يتوادون ويتعاطفون ويتعاونون على البر والتقوى . .وقوله - تعالى - ( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله ) فيه أسمى التكريم للرسول - صلى الله عليه وسلم - حيث شهد له - سبحانه - بهذه الصفة ، وكفى بشهادته - عز وجل - شهادة ، وحيث قدم الحديث عنه بأنه أرسله بالهدى ودين الحق ، ثم أخر اسمه الشريف على سبيل التنويه بفضله ، والتشويق إلى اسمه .وفى وصف أصحابه بأنهم أشداء على الكفار رحماء بينهم ، مدح عظيم لهم ، وجمع بين الوصفين على سبيل الاحتراس ، فهم ليسوا أشداء مطلقا ، ولا رحماء مطلقا ، وإنما شدتهم على أعدائهم ، ورحمتهم لإِخوانكم فى العقيدة ، وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - ( ياأيها الذين آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائم . . . ) قال صاحب الكشاف : " وعن الحسن أنه قال : " بلغ من تشددهم على الكفار أنهم كانوا يتحرزون من ثيابهم أن تلزق بثيابهم ، ومن أبدانهم أن تمس أبدانهم ، وبلغ من تراحمهم فيما بينهم ، أنه كان لا يرى مؤمن مؤمنا إلا صافحه . .وأسمى من هذا كله فى بيان تراحمهم قوله - تعالى - : ( وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ . . ) ثم وصفهم بوصف آخر فقال : ( تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ الله وَرِضْوَاناً ) .أى : تراهم وتشاهدهم - أيها العاقل - راكعين ساجدين محافظين على الصلاة ولا يريدون من وراء ذلك إلا التقرب إلى الله - تعالى - والظفر برضاه وثوابه . .ثم وصفهم بوصف ثالث فقال : ( سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ السجود . . ) أى : علامتهم وهو نور يجعله الله - تعالى - فى وجوههم يوم القيامة ، وحسن سمت يعلو وجوههم وجباهم فى الدنيا ، من أثر كثرة سجودهم وطاعتهم لله رب العالمين .فالمقصود بهذه الجملة بيان أن الوضاءة والإِشراق والصفاء . . يعلو وجوههم من كثرة الصلاة والعبادة لله ، وليس المقصود أن هناك علامة معينة - كالنكتة التى تكون فى الوجه - كما قد يتبادر إلى بعض الأذهان .واختار - سبحانه - لفظ السجود ، لأنه يمثل أعلى درجات العبودية والإِخلاص لله - تعالى - .قال الآلوسى : " أخرج من مردويه بسند حسن عن أَبَىِّ بن كعب قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " فى قوله - تعالى - : ( سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ السجود ) النور يوم القيامة " .ثم قال الآلوسى : ولا يبعد أن يكون النور علامة على وجوههم فى الدنيا والآخرة - للآثار السابقة - لكنه لما كان فى الآخرة أظهر وأتم خصه النبى - صلى الله عليه وسلم - بالذكر . .واسم الإِشارة فى قوله - تعالى - : ( ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التوراة ) يعود إلى جميع أوصافهم الجليلة السابقة ، والمثل هو الصفة العجيبة والقصة ذات الشأن . أى : ذلك الذى ذكرناه عن هؤلاء المؤمنين الصادقين من صفات كريمة تجرى مجرى الأمثال ، صفتهم فى التوراة التى أنزلها الله - تعالى - على نبيه موسى - عليه السلام - .ثم بين - سبحانه - صفتهم فى الإِنجيل فقال : ( وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجيل كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فاستغلظ فاستوى على سُوقِهِ يُعْجِبُ الزراع . . ) .وقوله : ( وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجيل ) معطوف على ما قبله وهو مثلهم فى التوراة ، والإِنجيل : هو الكتاب الذى أنزله الله - تعالى - على نبيه عيسى - عليه السلام - .والشط : فروع الزرع ، وهو ما خرج منه وتفرغ على شاطئيه . أى : جانبيه . وجمعه : أشطاء ، وشطوء ، يقال : شطأ الزرع وأشطأ ، إذا أخرج فروعه التى تتولد عن الأصل .وقوله ( فَآزَرَهُ ) أى : فقوت تلك الفروع أصولها ، وآزرتها ، وجعلتها مكينة ثابتة فى الأرض . وأصله من شد الإِزار . تقول أزَّرْت فلانا ، إذا شددت إزاره عليه . وتقول آزرت البناء - بالمد والقصر - إذا قويت أساسه وقواعده .ومنه قوله - تعالى - حكاية عن موسى - عليه السلام - : ( واجعل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشدد بِهِ أَزْرِي ) .وقوله : ( فاستغلظ ) أى : فصار الزرع غليظا بعد أن كان رقيقا .وقوله : ( فاستوى على سُوقِهِ ) أى : فاستقم وتكامل على سيقانه التى يعلو عليها .وقوله : ( يُعْجِبُ الزراع ) أى : يعجب الخبراء بالزراعة لقوته وحسن هيئته .والمعنى : أن صفة المؤمنين فى الإِنجيل ، أنهم كالزرع ، يظهر فى أول أمره رقيقا ضعيفا متفرقا ، ثم ينبت بعضه حول بعض ، ويغلظ ويتكامل حتى يقوى ويشتد ، وتعجب جودته أصحاب الزراعة ، العارفين بها .فكذلك النبى - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ، كانوا فى أول الأمر فى قلة وضعف ، ثم لم يزالوا يكثرون ويزدادون قوة ، حتى بلغوا فى ذلك .وصدق الله إذا يقول : ( واذكروا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأرض تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ الناس فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِّنَ الطيبات لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) قال صاحب الكشاف : " وهذا مثل ضربه الله - تعالى - لبدء أمر الإِسلام وترقيه فى الزيادة إلى أن قوى واستحكم . لأن النبى - صلى الله عليه وسلم - قام وحده ، ثم قواه الله - تعالى - بمن معه .كما يقوى الطاقة الأولى من الزرع ما يحتف بها ما يتولد منها ، حتى يعجب الزراع .وعلى هذا التفسير الذى سرنا عليه يكون وصفهم فى التوراة ، هو المعبر عنه بقوله - تعالى - : ( أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ ) ويكون وصفهم فى الإِنجيل هو المعبر عنه بقوله - سبحانه - : ( كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ ) .ولا شك أن هذه الأوصاف كانت موجودة فى الكتابين قبل أن يحرفا ويبدلا ، بل بعض هذه الأوصاف موجودة فى الكتابين ، حتى بعد تحريفهما .فقد أخرج ابن جرير وعبد بن حميد عن قتادة قال : " مكتوب فى الإِنجيل سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع ، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر " .ويرى بعض المفسرين أن المذكور فى التوراة والإِنجيل شئ واحد ، وهو الوصف المذكور إلى نهاية قوله : ( وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجيل ) وعلى هذا الرأى يكون الوقف تاما على هذه الجملة ، وما بعدها وهو قوله : ( كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ . . . ) كلام مستأنف .قال القرطبى : " قوله - تعالى - : ( ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التوراة وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجيل . . ) قال الفراء : فيه وجهان : إن شئت قلت : المعنى ذلك مثلهم فى التوراة وفى الإِنجيل أيضا ، كمثلهم فى القرآن ، فيكون الوقف على " الإِنجيل " .وإن شئت قلت : تمام الكلام : ذلك مثلهم فى التوارة . ثم أبتدأ فقال : ومثلهم فى الإِنجيل .وكذا قال ابن عباس وغيره : هما مثلان ، أحدهما فى التوارة ، والآخر فى الإِنجيل . . .والذى نراه أن ما ذهب إليه ابن عباس من كونهما مثلين ، أحدهما مذكور فى التوراة والآخر فى الإِنجيل ، هو الرأى الراجح ، لأن ظاهر الآية يشهد له .وفى هذه الصفات ما فيها من رسم صورة مشرقة مضيئة لهؤلاء المؤمنين الصادقين .وقوله - تعالى - : ( لِيَغِيظَ بِهِمُ الكفار ) تعليل لما يعرب عنه الكلام ، من إيجاده - تعالى - لهم على هذه الصفات الكريمة .أى : جعلهم - سبحانه - كذلك بأن وفقهم لأن يكونوا أشداء على الكفار ، ولأن يكونوا رحماء فيما بينهم ، ولأن يكونوا مواظبين على أداء الطاعات . . لكى يغيظ بهم الكفار ، فيعيشوا وفى قلوبهم حسرة مما يرونه من صفات سامية للمؤمنين .ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بهذا الوعد الجميل ، فقال : ( وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ) .و " من " فى قوله ( مِنْهُم ) الراجح أنها للبيان والتفسير ، كما فى قوله - تعالى - ( فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان . . ) أى : وعد الله - تعالى - بفضله وإحسانه ، الذين آمنوا وعملوا الصالحات . وهم أهل بيعة الرضوان ، ومن كان على شاكلتهم فى قوة الإِيمان . . وعدهم جميعا مغفرة لذنوبهم ، وأجرا عظيما لا يعلم مقداره إلا هو - سبحانه - .ويجوز أن تكون من هنا للتبعيض ، لكى يخرج من هيلاء الموعودين بالمغفرة والأجر العظيم أولئك الذين أظهروا الإِسلام وأخفوا الكفر ، وهم المنافقون الذين أبوا مبايغة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأبوا الخروج معه للجهاد ، والذين من صفاتهم أنهم كانوا إذا لقوا المؤمنين قالوا آمنا ،( وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شَيَاطِينِهِمْ قالوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ) هذا ، وقد أخذ العلماء من هذه الآية وأمثالها : وجوب احترام الصحابة وتوقيرهم ، والثناء عليهم ، لأن الله - تعالى - قد مدحهم ووعدهم بالمغفرة وبالأجر العظيم .قال القرطبى : " روى أبو عروة الزبيرى من ولد الزبير أنه قال : كنا عند مالك بن أنس ، فذكروا رجلا ينتقص أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقرأ مالك هذه الآية : ( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله والذين مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ ) . فقال مالك : من أصبح من الناس فى قلبه غيظ على أحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد أصابته هذه الآية . ثم قال الإِمام القرطبى - رحمه الله - : قلت : لقد أحسن مالك فى مقالته وأصاب فى تأويله ، فمن نقص واحد منهم أو طعن عليه فى روايته ، فقد رد على الله رب العالمين ، وأبطل شرائع المسلمين .وبعد : فهذا تفسير لسورة " الفتح " تلك السورة التى بشرت الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بألوان من البشارات العالية ، وأدبتهم بأنواع من الآداب السامية ، وعرفتهم بأعدائهم من المنافقين والكافرين ، وحكت الكثير من مظاهر فضل الله - تعالى - ورحمته بعباده المؤمنين . .نسأل الله - تعالى - أن يجعله خالصا لوجهه ، ونافعا لعباده .وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم . .
تَفْسِيرُ ٱلْبَغَوِيِّ
Tafsir al-Baghawi —
علامہ بغوی
( محمد رسول الله ) تم الكلام هاهنا ، قاله ابن عباس ، شهد له بالرسالة ، ثم قال مبتدئا : ( والذين معه ) فالواو فيه للاستئناف ، أي : والذين معه من المؤمنين ( أشداء على الكفار ) غلاظ عليهم كالأسد على فريسته لا تأخذهم فيهم رأفة ( رحماء بينهم ) متعاطفون متوادون بعضهم لبعض ، كالولد مع الوالد ، كما قال : " أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين " : ( المائدة - 54 ) : ( تراهم ركعا سجدا ) أخبر عن كثرة صلاتهم ومداومتهم عليها ( يبتغون فضلا من الله ) أن يدخلهم الجنة ( ورضوانا ) أن يرضى عنهم ( سيماهم ) أي علامتهم ( في وجوههم من أثر السجود ) اختلفوا في هذه السيما : فقال قوم : هو نور وبياض في وجوههم يوم القيامة يعرفون به أنهم سجدوا في الدنيا ، وهو رواية عطية العوفي عن ابن عباس ، قال عطاء بن أبي رباح والربيع بن أنس : استنارت وجوههم من كثرة ما صلوا . وقال شهر بن حوشب : تكون مواضع السجود من وجوههم كالقمر ليلة البدر .وقال آخرون : هو السمت الحسن والخشوع والتواضع . وهو رواية الوالبي عن ابن عباس قال : ليس بالذي ترون لكنه سيماء الإسلام وسجيته وسمته وخشوعه . وهو قول مجاهد ، والمعنى : أن السجود أورثهم الخشوع والسمت الحسن الذي يعرفون به .وقال الضحاك : هو صفرة الوجه من السهر .وقال الحسن : إذا رأيتهم حسبتهم مرضى وما هم بمرضى .قال عكرمة وسعيد بن جبير : هو أثر التراب على الجباه .قال أبو العالية : إنهم يسجدون على التراب لا على الأثواب .وقال عطاء الخراساني : دخل في هذه الآية كل من حافظ على الصلوات الخمس .( ذلك ) الذي ذكرت ( مثلهم ) صفتهم ( في التوراة ) هاهنا تم الكلام ، ثم ذكر نعتهم في الإنجيل ، فقال : ( ومثلهم ) صفتهم ( في الإنجيل كزرع أخرج شطأه ) قرأ ابن كثير ، وابن عامر : " شطأه " بفتح الطاء ، وقرأ الآخرون بسكونها ، وهما لغتان كالنهر والنهر ، وأراد أفراخه ، يقال : أشطأ الزرع فهو مشطئ ، إذا أفرخ ، قال مقاتل : هو نبت واحد ، فإذا خرج ما بعده فهو شطؤه .وقال السدي : هو أن يخرج معه الطاقة الأخرى .قوله : ( فآزره ) قرأ ابن عامر : " فأزره " بالقصر والباقون بالمد ، أي : قواه وأعانه وشد أزره ( فاستغلظ ) غلظ ذلك الزرع ( فاستوى ) أي تم وتلاحق نباته وقام ( على سوقه ) أصوله ( يعجب الزراع ) أعجب ذلك زراعه .هذا مثل ضربه الله - عز وجل - لأصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - في الإنجيل [ أنهم يكونون قليلا ثم يزدادون ويكثرون .قال قتادة : مثل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الإنجيل ] مكتوب أنه سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر .وقيل : " الزرع " محمد - صلى الله عليه وسلم - ، و " الشطء " : أصحابه والمؤمنون .وروي عن مبارك بن فضالة عن الحسن قال : " محمد رسول الله والذين معه " : أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - ، " أشداء على الكفار " عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ، " رحماء بينهم " عثمان بن عفان - رضي الله عنه - ، " تراهم ركعا سجدا " علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ، " يبتغون فضلا من الله " بقية العشرة المبشرين بالجنة .وقيل : " كمثل زرع " محمد ، " أخرج شطأه " أبو بكر " فآزره " عمر " فاستغلظ " عثمان ، للإسلام " فاستوى على سوقه " علي بن أبي طالب استقام الإسلام بسيفه ، " يعجب الزراع " قال : هم المؤمنون .( ليغيظ بهم الكفار ) قول عمر لأهل مكة بعدما أسلم : لا تعبدوا الله سرا بعد اليوم .حدثنا أبو حامد أحمد بن محمد الشجاعي السرخسي إملاء ، أخبرنا أبو بكر عبد الله بن أحمد القفال ، حدثنا أبو أحمد عبد الله بن محمد الفضل السمرقندي ، حدثنا شيخي أبو عبد الله محمد بن الفضل البلخي ، حدثنا أبو رجاء قتيبة بن سعيد ، حدثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي ، عن عبد الرحمن بن حميد ، عن أبيه ، عن عبد الرحمن بن عوف : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : " أبو بكر في الجنة ، وعمر في الجنة ، وعثمان في الجنة ، وعلي في الجنة ، وطلحة في الجنة ، والزبير في الجنة ، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة ، وسعد بن أبي وقاص في الجنة ، وسعيد بن زيد في الجنة وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة " .حدثنا أبو المظفر محمد بن أحمد التميمي ، أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن عثمان بن قاسم حدثنا خيثمة بن سليمان بن حيدرة الأطرابلسي ، حدثنا أحمد بن هاشم الأنطاكي ، حدثنا قطبة بن العلاء ، حدثنا سفيان الثوري ، عن خالد الحذاء ، عن أبي قلابة ، عن أنس بن مالك ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " أرحم أمتي أبو بكر ، وأشدهم في أمر الله عمر ، وأصدقهم حياء عثمان ، وأفرضهم زيد ، وأقرؤهم أبي ، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل ، ولكل أمة أمين ، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح " .ورواه معمر عن قتادة مرسلا وفيه : " وأقضاهم علي " .أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا معلى بن أسد ، حدثنا عبد العزيز المختار قال خالد الحذاء ، حدثنا عن أبي عثمان قال حدثني عمرو بن العاص أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعثه على جيش ذات السلاسل قال : فأتيته فقلت : أي الناس أحب إليك ؟ قال : عائشة ، فقلت : من الرجال ؟ فقال : أبوها ، قلت : ثم من ؟ قال : عمر بن الخطاب فعد رجالا فسكت مخافة أن يجعلني في آخرهم .أخبرنا أبو منصور عبد الملك وأبو الفتح نصر ، ابنا علي بن أحمد بن منصور ومحمد بن الحسين بن شاذويه الطوسي بها قالا حدثنا أبو الحسن محمد بن يعقوب ، أخبرنا الحسن بن محمد بن أحمد بن كيسان النحوي ، حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن شريك الأسدي ، حدثنا إبراهيم بن إسماعيل هو ابن يحيى بن سلمة بن كهيل ، حدثنا أبي عن أبيه عن سلمة عن أبي الزعراء عن ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " اقتدوا باللذين من بعدي من أصحابي : أبي بكر وعمر ، واهتدوا بهدي عمار ، وتمسكوا بعهد عبد الله بن مسعود " .أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أخبرنا أبو الحسين علي بن محمد بن بشران ، أخبرنا إسماعيل بن محمد الصفار ، حدثنا أحمد بن منصور الرمادي ، حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر عن أبي حازم ، عن سهل بن سعد أن أحدا ارتج وعليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعثمان ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " اثبت أحد ما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد " .أخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد الداودي ، أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن موسى بن الصلت ، حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي ، حدثنا أبو سعيد الأشج ، أخبرنا وكيع ، حدثنا الأعمش ، عن عدي بن ثابت ، عن زر بن حبيش ، عن علي قال : عهد إلي النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لا يحبك إلا مؤمن ، ولا يبغضك إلا منافق .حدثنا أبو المظفر التميمي ، أخبرنا عبد الرحمن بن عثمان ، أخبرنا خيثمة بن سليمان ، حدثنا محمد بن عيسى بن حيان المدائني ، حدثنا محمد بن الفضل بن عطية ، عن عبد الله بن مسلم عن ابن بريدة عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " من مات من أصحابي بأرض كان نورهم وقائدهم يوم القيامة " .قوله - عز وجل - : ( ليغيظ بهم الكفار ) أي إنما كثرهم وقواهم ليكونوا غيظا للكافرين .قال مالك بن أنس : من أصبح وفي قلبه غيظ على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد أصابته هذه الآية .أخبرنا أبو الطيب طاهر بن محمد بن العلاء البغوي ، حدثنا أبو معمر الفضل بن إسماعيل بن إبراهيم الإسماعيلي ، أخبرنا جدي أبو بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي ، أخبرني الهيثم بن خلف الدوري ، حدثنا المفضل بن غسان بن المفضل العلائي ، حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد ، حدثنا عبيدة بن أبي رابطة عن عبد الرحمن بن زياد عن عبد الله بن مغفل المزني قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " الله الله في أصحابي ، الله الله في أصحابي ، الله الله في أصحابي ، لا تتخذوهم غرضا بعدي ، فمن أحبهم فبحبي أحبهم ، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ، ومن آذاهم فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله ، ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه " .حدثنا أبو المظفر بن محمد بن أحمد بن حامد التميمي ، أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن عثمان بن القاسم ، أخبرنا أبو الحسن خيثمة بن سليمان ، حدثنا إبراهيم بن عبد الله العبسي القصار بالكوفة ، أخبرنا وكيع بن الجراح ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا تسبوا أصحابي ، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه " .أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الحسين الزعفراني ، حدثنا أبو محمد عبد الله بن عروة ، حدثنا محمد بن الحسين بن محمد بن إشكاب ، حدثنا شبابة بن سوار ، حدثنا فضيل بن مرزوق عن أبي خباب عن أبي سليم الهمداني ، عن أبيه ، عن علي قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن سرك أن تكون من أهل الجنة فإن قوما يتنحلون حبك يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم ، نبزهم الرافضة ، فإن أدركتهم فجاهدهم فإنهم مشركون " ، في إسناد هذا الحديث نظر .قول الله - عز وجل - : ( وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم ) قال ابن جرير : يعني من الشطء الذي أخرجه الزرع ، وهم الداخلون في الإسلام بعد الزرع إلى يوم القيامة ، ورد الهاء والميم على معنى الشطء لا على لفظه ، ولذلك لم يقل : " منه " ( مغفرة وأجرا عظيما ) يعني الجنة .