تَفْسِيرُ ٱلْمُيَسَّر
Tafsir Al-Muyassar —
کنگ فہد قرآن کمپلیکس
إن الذين كفروا بالله، وكذبوا بما جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم، ويمنعون غيرهم من الدخول في دين الله، ويصدون رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في عام "الحديبية" عن المسجد الحرام، الذي جعلناه لجميع المؤمنين، سواء المقيم فيه والقادم إليه، لهم عذاب أليم موجع، ومن يرد في المسجد الحرام الميْلَ عن الحق ظلمًا فيَعْصِ الله فيه، نُذِقْه مِن عذاب أليم موجع.
تَفْسِيرُ ٱلْجَلَالَيْنِ
Tafsir al-Jalalayn —
جلال الدین محلی اور جلال الدین سیوطی
«إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله» طاعته «و» عن «المسجد الحرام الذي جعلناه» منسكا ومتعبدا «للناس سواءً العاكف» المقيم «فيه والباد» الطارئ «ومن يرد فيه بإلحاد» الباء زائدة «بظلم» أي بسببه بأن ارتكب منهيا، ولو شتم الخادم «نذقه من عذاب أليم» مؤلم: أي بعضه، ومن هذا يؤخذ خبر إن: أي نذيقهم من عذاب أليم.
تَفْسِيرُ ٱلْقُرْطُبِيِّ
Tafsir al-Qurtubi —
علامہ قرطبی
قوله تعالى : إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والبادي ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليمفيه سبع مسائل :الأولى : قوله تعالى : إن الذين كفروا ويصدون أعاد الكلام إلى مشركي العرب حين صدوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المسجد الحرام عام الحديبية ، وذلك أنه لم يعلم لهم صد قبل ذلك الجمع ؛ إلا أن يريد صدهم لأفراد من الناس ، فقد وقع ذلك في صدر المبعث . والصد : المنع ؛ أي وهم يصدون . وبهذا حسن عطف المستقبل على الماضي . وقيل : الواو زائدة ( ويصدون ) خبر ( إن ) . وهذا مفسد للمعنى المقصود ، وإنما الخبر محذوف مقدر عند قوله ( والباد ) تقديره : خسروا إذا هلكوا . وجاء ( ويصدون ) مستقبلا إذ هو فعل يديمونه ؛ كما جاء قوله تعالى : الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ؛ فكأنه قال : إن الذين كفروا من شأنهم الصد . ولو قال إن الذين كفروا وصدوا لجاز . قال النحاس : وفي كتابي عن أبي إسحاق ، قال : وجائز أن يكون - وهو الوجه - الخبر نذقه من عذاب أليم . قال أبو جعفر : وهذا غلط ، ولست أعرف ما الوجه فيه ؛ لأنه جاء بخبر ( إن ) جزما ، وأيضا فإنه جواب الشرط ، ولو كان خبر ( إن ) لبقي الشرط بلا جواب ، ولا سيما والفعل الذي في الشرط مستقبل فلا بد له من جواب .الثانية : والمسجد الحرام قيل : إنه المسجد نفسه ، وهو ظاهر القرآن ؛ لأنه لم يذكر غيره . وقيل : الحرم كله ؛ لأن المشركين صدوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه عنه عام الحديبية ، فنزل خارجا عنه ؛ قال الله تعالى : وصدوكم عن المسجد الحرام ، وقال : سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام . وهذا صحيح ، لكنه قصد هنا بالذكر المهم المقصود من ذلك .الثالثة : قوله تعالى : الذي جعلناه للناس أي للصلاة والطواف والعبادة ؛ وهو كقوله تعالى : إن أول بيت وضع للناس . سواء العاكف فيه والبادي العاكف : [ ص: 31 ] المقيم الملازم . والبادي : أهل البادية ومن يقدم عليهم . يقول : سواء في تعظيم حرمته وقضاء النسك فيه الحاضر والذي يأتيه من البلاد ؛ فليس أهل مكة أحق من النازح إليه . وقيل : إن المساواة إنما هي في دوره ، ومنازله ، ليس المقيم فيها أولى من الطارئ عليها . وهذا على أن المسجد الحرام الحرم كله ؛ وهذا قول مجاهد ، ومالك ؛ رواه عنه ابن القاسم . وروي عن عمر ، وابن عباس ، وجماعة : إلا أن القادم له النزول حيث وجد ، وعلى رب المنزل أن يؤويه شاء أو أبى . وقال ذلك سفيان الثوري ، وغيره ، وكذلك كان الأمر في الصدر الأول ، كانت دورهم بغير أبواب حتى كثرت السرقة ؛ فاتخذ رجل بابا فأنكر عليه عمر وقال : أتغلق بابا في وجه حاج بيت الله ؟ فقال : إنما أردت حفظ متاعهم من السرقة ، فتركه فاتخذ الناس الأبواب . وروي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أيضا أنه كان يأمر في الموسم بقلع أبواب دور مكة ، حتى يدخلها الذي يقدم فينزل حيث شاء ، وكانت الفساطيط تضرب في الدور . وروي عن مالك أن الدور ليست كالمسجد ولأهلها الامتناع منها والاستبداد ؛ وهذا هو العمل اليوم . وقال بهذا جمهور من الأمة .وهذا الخلاف يبنى على أصلين : أحدهما أن دور مكة هل هي ملك لأربابها أم للناس . وللخلاف سببان : أحدهما هل فتح مكة كان عنوة فتكون مغنومة ، لكن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقسمها وأقرها لأهلها ولمن جاء بعدهم ؛ كما فعل عمر - رضي الله عنه - بأرض السواد وعفا لهم عن الخراج كما عفا عن سبيهم واسترقاقهم إحسانا إليهم دون سائر الكفار فتبقى على ذلك لا تباع ولا تكرى ، ومن سبق إلى موضع كان أولى به . وبهذا قال مالك ، وأبو حنيفة ، والأوزاعي . أو كان فتحها صلحا - وإليه ذهب الشافعي - فتبقى ديارهم بأيديهم ، وفي أملاكهم يتصرفون كيف شاءوا . وروي عن عمر أنه اشترى دار صفوان بن أمية بأربعة آلاف وجعلها سجنا ، وهو أول من حبس في السجن في الإسلام ، على ما تقدم بيانه في آية المحاربين من سورة ( المائدة ) . وقد روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حبس في تهمة ، . وكان طاوس يكره السجن بمكة ويقول : لا ينبغي لبيت عذاب أن يكون في بيت رحمة .قلت : الصحيح ما قاله مالك ؛ وعليه تدل ظواهر الأخبار الثابتة بأنها فتحت عنوة . قال أبو عبيد : ولا نعلم مكة يشبهها شيء من البلاد . وروى الدارقطني ، عن علقمة بن نضلة قال : توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر ، وعمر - رضي الله عنهما - وما تدعى رباع مكة إلا السوائب ؛ من [ ص: 32 ] احتاج سكن ومن استغنى أسكن . وزاد في رواية : وعثمان . وروي أيضا عن علقمة بن نضلة الكناني قال : كانت تدعى بيوت مكة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر ، وعمر - رضي الله عنهما - السوائب ، لا تباع ؛ من احتاج سكن ومن استغنى أسكن . وروي أيضا عن عبد الله بن عمرو عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الله تعالى حرم مكة فحرام بيع رباعها وأكل ثمنها - وقال : من أكل من أجر بيوت مكة شيئا فإنما يأكل نارا . قال الدارقطني : كذا رواه أبو حنيفة مرفوعا ، ووهم فيه ، ووهم أيضا في قوله : عبيد الله بن أبي يزيد ، وإنما هو ابن أبي زياد القداح ، والصحيح أنه موقوف ، وأسند الدارقطني أيضا عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : مكة مناخ لا تباع رباعها ولا تؤاجر بيوتها . وروى أبو داود ، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : قلت : يا رسول الله ؛ ألا أبني لك بمنى بيتا أو بناء يظلك من الشمس ؟ فقال : لا ، إنما هو مناخ من سبق إليه . وتمسك الشافعي - رضي الله عنه - بقوله تعالى : الذين أخرجوا من ديارهم فأضافها إليهم . وقال : عليه السلام - يوم الفتح : من أغلق بابه فهو آمن ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن .الرابعة : قرأ جمهور الناس ( سواء ) بالرفع ، وهو على الابتداء ، و ( العاكف ) خبره . وقيل : الخبر ( سواء ) وهو مقدم ؛ أي العاكف فيه والبادي سواء ؛ وهو قول أبي علي ، والمعنى : الذي جعلناه للناس قبلة أو متعبدا العاكف فيه والبادي سواء . وقرأ حفص ، عن عاصم سواء بالنصب ، وهي قراءة الأعمش . وذلك يحتمل أيضا وجهين : أحدهما : أن يكون مفعولا ثانيا لجعل ، ويرتفع ( العاكف ) به لأنه مصدر ، فأعمل عمل اسم الفاعل لأنه في معنى مستو . والوجه الثاني : أن يكون حالا من الضمير في جعلناه . وقرأت فرقة ( سواء ) بالنصب ( العاكف ) بالخفض ، و ( البادي ) عطفا على الناس ، التقدير : الذي [ ص: 33 ] جعلناه للناس العاكف والبادي . وقراءة ابن كثير في الوقف والوصل بالياء ، ووقف أبو عمرو بغير ياء ووصل بالياء . وقرأ نافع بغير ياء في الوصل والوقف . وأجمع الناس على الاستواء في نفس المسجد الحرام ، واختلفوا في مكة ؛ وقد ذكرناه .الخامسة : ومن يرد فيه بإلحاد بظلم شرط ، وجوابه نذقه من عذاب أليم . والإلحاد في اللغة : الميل ؛ إلا أن الله تعالى بين أن الميل بالظلم هو المراد . واختلف في الظلم ؛ فروىعلي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ومن يرد فيه بإلحاد بظلم قال : الشرك . وقال عطاء : الشرك والقتل . وقيل : معناه صيد حمامه ، وقطع شجره ؛ ودخول غير محرم . وقال ابن عمر : كنا نتحدث أن الإلحاد فيه أن يقول الإنسان : لا والله ! وبلى والله ! وكلا والله ! ولذلك كان له فسطاطان ، أحدهما في الحل والآخر في الحرم ؛ فكان إذا أراد الصلاة دخل فسطاط الحرم ، وإذا أراد بعض شأنه دخل فسطاط الحل صيانة للحرم عن قولهم : كلا والله ، وبلى والله ، حين عظم الله الذنب فيه . وكذلك كان لعبد الله بن عمرو بن العاص فسطاطان أحدهما في الحل والآخر في الحرم ، فإذا أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الحل ، وإذا أراد أن يصلي صلى في الحرم ، فقيل له في ذلك فقال : إن كنا لنتحدث أن من الإلحاد في الحرم أن نقول : كلا والله ، وبلى والله ، والمعاصي تضاعف بمكة كما تضاعف الحسنات ، فتكون المعصية معصيتين ، إحداهما بنفس المخالفة والثانية بإسقاط حرمة البلد الحرام ؛ وهكذا الأشهر الحرم سواء . وقد تقدم . وروى أبو داود ، عن يعلى بن أمية أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : احتكار الطعام في الحرم إلحاد فيه . وهو قول عمر بن الخطاب . والعموم يأتي على هذا كله .السادسة : ذهب قوم من أهل التأويل منهم الضحاك ، وابن زيد إلى أن هذه الآية تدل على أن الإنسان يعاقب على ما ينويه من المعاصي بمكة وإن لم يعمله . وقد روي نحو ذلك عن ابن مسعود ، وابن عمر قالوا : لو هم رجل بقتل رجل بهذا البيت وهو ( بعدن أبين ) لعذبه الله .قلت : هذا صحيح ، وقد جاء هذا المعنى في سورة ن والقلم مبينا ، على ما يأتي بيانه هناك إن شاء الله تعالى .[ ص: 34 ] السابعة : الباء في ( بإلحاد ) زائدة كزيادتها في قوله تعالى : تنبت بالدهن ؛ وعليه حملوا قول الشاعر :نحن بنو جعدة أصحاب الفلج نضرب بالسيف ونرجو بالفرجأراد : نرجو الفرج . وقال الأعشى :ضمنت برزق عيالنا أرماحناأي رزق : وقال آخر [ قيس بن زهير العبسي ] :ألم يأتيك والأنباء تنمي بما لاقت لبون بني زيادأي ما لاقت ؛ والباء زائدة ، وهو كثير . وقال الفراء : سمعت أعرابيا وسألته عن شيء فقال : أرجو بذاك ، أي أرجو ذاك . وقال الشاعر :بواد يمان ينبت الشث صدره وأسفله بالمرخ والشبهانأي المرخ . وهو قول الأخفش ، والمعنى عنده : ومن يرد فيه إلحادا بظلم . وقال الكوفيون : دخلت الباء لأن المعنى بأن يلحد ، والباء مع أن تدخل وتحذف . ويجوز أن يكون التقدير : ومن يرد الناس فيه بإلحاد . وهذا الإلحاد والظلم يجمع المعاصي من الكفر إلى الصغائر ؛ فلعظم حرمة المكان توعد الله تعالى على نية السيئة فيه . ومن نوى سيئة ولم يعملها لم يحاسب عليها إلا في مكة . هذا قول ابن مسعود وجماعة من الصحابة وغيرهم . وقد ذكرناه آنفا .
تَنْوِيرُ ٱلْمِقْبَاسِ مِن تَفْسِيرِ ٱبْنِ عَبَّاس
Tafsir Tanwir al-Miqbas —
حضرت ابن عباسؓ
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25)هذا مقابل قوله { وهدوا إلى صراط الحميد } [ الحج : 24 ] بالنسبة إلى أحوال المشركين إذ لم يسبق لقوله ذلك مقابِل في الأحوال المذكورة في آية { فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار } [ الحج : 19 ] كما تقدم . فموقع هذه الجملة الاستئناف البياني . والمعنى : كما كان سبب استحقاق المؤمنين ذلك النعيم اتّباعهم صراط الله كذلك كان سبَبُ استحقاق المشركين ذلك العذَاب كفرَهم وصدّهم عن سبيل الله .وفيه مع هذه المناسبة لما قبله تخلّص بديع إلى ما بعده من بيان حقّ المسلمين في المسجد الحرام ، وتهويل أمر الإلحاد فيه ، والتنويهُ به وتنزيههُ عن أن يكون مأوى للشرك ورجس الظلم والعُدوان .وتأكيد الخبر بحرف التأكيد للاهتمام به .وجاء { يصدّون } بصيغة المضارع للدلالة على تكرر ذلك منهم وأنه دأبهم سواء فيه أهل مكة وغيرهم لأن البقية ظاهَرُوهم على ذلك الصد ووافقوهم .أما صيغة الماضي في قوله : { إن الذين كفروا } فلأنّ ذلك الفعل صار كاللقب لهم مثل قوله : { إن الله يدخل الذين آمنوا } [ الحج : 24 ].وسبيل الله : الإسلام ، فصدهم عنه هو الذي حقق لهم عذاب النار ، كما حقق اهتداءُ المؤمنين إليه لهم نعيمَ الجنّة .والصدّ عن المسجد الحرام مما شمله الصدّ عن سبيل الله فخصّ بالذكر للاهتمام به ، ولينتقل منه إلى التنويه بالمسجد الحرام ، وذكر بنائه ، وشرع الحجّ له من عهد إبراهيم . والمراد بصدّهم عن المسجد الحرام صدّ عرفه المسلمون يومئذ . ولعله صدّهم المسلمين عن دخول المسجد الحرام والطواف بالبيت . والمعروف من ذلك أنهم مَنَعُوا المسلمين بعد الهجرة من زيارة البيت فقد قال أبو جهل لسَعْد بن معاذ لما جاء إلى مكّة معتمراً وقال لصاحبه أميّة بن خلف : انتظر لي ساعة من النهار لعلّي أطوف بالبيت ، فبينما سعد يطوف إذ أتاه أبو جهل وعَرَفَهُ . فقال له أبو جهل : أتطوف بالكعبة آمناً وقد أوتيتم الصْباة؟ ( يعني المسلمين ). ومن ذلك مَا صنعوه يوم الحديبية . وقد قيل : إنّ الآية نزلت في ذلك . وأحسب أنّ الآية نزلت قبل ذلك سواء نزلت بمكة أم بالمدينة .ووصف المسجد بقوله : { الذي جعلناه للناس } الآية للإيماء إلى علّة مؤاخذة المشركين بصدّهم عنه لأجل أنهم خالفوا ما أراد الله منه فإنه جعله للناس كلهم يستوي في أحقية التعبّد به العاكفُ فيه ، أي المستقرّ في المسجد ، والبادي ، أي البعيد عنه إذا دخله .والمراد بالعاكف : الملازم له في أحوال كثيرة ، وهو كناية عن الساكن بمكة لأنّ الساكن بمكة يعكف كثيراً في المسجد الحرام ، بدليل مقابلته بالبادِي ، فأطلق العكوف في المسجد على سكنى مكة مجازاً بعلاقة اللزوم العرفي . وفي ذكر العكوف تعريض بأنهم لا يستحقون بسكنى مكة مزية على غيرهم ، وبأنهم حين يمنعون الخارجين عن مكة من الدخول للكعبة قد ظلموهم باستئثارهم بمكة .وقرأ الجمهور { سواءٌ } بالرفع على أنه مبتدأ { والعاكف فيه } فاعل سدّ مسدّ الخبر ، والجملة مفعول ثان ل { جعلناه .} وقرأه حفص بالنصب على أنه المفعول الثاني ل { جعلناه .والعكوف : الملازمة . والبادي : ساكن البادية .وقوله سواء } لم يبيّن الاستواء فيما ذا لظهور أنّ الاستواء فيه بصفة كونه مسجداً إنما هي في العبادة المقصودة منه ومن ملحقاته وهي : الطواف ، والسّعي ، ووقوف عرفة .وكتب { والباد } في المصحف بدون ياء في آخره ، وقرأ ابن كثير { والبادِي } بإثبات الياء على القياس لأنه معرف ، والقياس إثبات ياء الاسم المنقوص إذا كان معرّفاً باللام ، ومحمل كتابته في المصحف بدون ياء عند أهل هذه القراءة أنّ الياء عوملت معاملة الحركات وألِفات أواسط الأسماء فلم يكتبوها . وقرأه نافع بغير ياء في الوقف وأثبتها في الوصل . ومحمل كتابته على هذه القراءة بدون ياء أنه روعي فيه التخفيف في حالة الوقف لأن شأن الرسم أن يراعى فيه حالة الوقف .وقرأه الباقون بدون ياء في الحالين الوصل والوقف . والوجه فيه قصد التخفيف ومثله كثير .وليس في هذه الآية حجة لحكم امتلاك دُور مكة إثباتاً ولا نفياً لأنّ سياقها خاص بالمسجد الحرام دون غيره . ويلحق به ما هو من تمام مناسكه : كالمسعَى ، والموقف ، والمشعر الحرام ، والجمار . وقد جرت عادة الفقهاء أن يذكروا مسألة امتلاك دور مكة عند ذكر هذه الآية على وجه الاستطراد . ولا خلاف بين المسلمين في أنّ الناس سواء في أداء المناسك بالمسجد الحرام وما يتبعه إلاّ ما منعته الشريعة كطواف الحائض بالكعبة .وأما مسألة امتلاك دور مكة فللفقهاء فيها ثلاثة أقوال : فكان عُمر بن الخطاب وابن عباس وغيرهما يقولون : إن القادم إلى مكة للحج له أن ينزل حيث شاء من ديارها وعلى رب المنزل أن يؤويه . وكانت دور مكة تُدعى السوائب في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما .وقال مالك والشافعي : دور مكة مِلك لأهلها ، ولهم الامتناع عن إسكان غيرهم ، ولهم إكراؤها للناس ، وإنما تجب المواساة عند الضرورة ، وعلى ذلك حملوا ما كان يفعله عمر فهو من المواساة . وقد اشترى عمر دار صفوان بن أمية وجعلها سجناً . وقال أبو حنيفة : دور مكة لا تُملك وليس لأهلها أن يكروها . وقد ظُنّ أن الخلاف في ذلك مبني على الاختلاف في أنّ مكة فتحت عنوة أو صلحاً . والحق أنه لا بناء على ذلك لأنّ من القائلين بأنها فتحت عنوة قائلين بتملك دور مكة فهذا مالك بن أنس يراها فتحت عنوة ويرى صحة تملك دورها . ووجه ذلك : أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرّ أهلها في منازلهم فيكون قد أقطعهم إياها كما مَنّ على أهلها بالإطلاق من الأسر ومن السبي . ولم يزل أهل مكة يتبايعون دورهم ولا ينكر عليهم أحد من أهل العلم .وخبر { إن الذين كفروا } محذوف تقديره : نذقهم من عذاب أليم ، دلّ عليه قوله في الجملة الآتية : { ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم }.وإذ كان الصد عن المسجد الحرام إلحاداً بظلم فإن جملة { ومن يرد فيه بإلحاد بظلم } تذييل للجملة السابقة لما في ( مَن ) الشرطية من العموم .والإلحاد : الانحراف عن الاستقامة وسواء الأمور . والظلم يطلق على الإشراك وعلى المعاصي لأنها ظلم النفس .والباء في { بإلحاد } زائدة للتوكيد مثلها في { وامسحوا برؤوسكم } [ المائدة : 6 ]. أي من يُرد إلحاداً وبعداً عن الحق والاستقامة وذلك صدهم عن زيارته .والباء في { بظلم } للملابسة . فالظلم : الإشراك ، لأنّ المقصود تهديد المشركين الذين حملهم الإشراك على مناوأة المسلمين ومنعهم من زيارة المسجد الحرام .و ( من ) في قوله : { من عذاب أليم } مزيدة للتوكيد على رأي من لا يشترطون لزيادة ( مِن ) وقوعها بعد نفي أو نهي . ولك أن تجعلها للتبعيض ، أي نذقه عذاباً من عذاب أليم .
ٱلتَّفْسِيرُ ٱلْوَسِيط
Tafsir Al-Waseet —
علمائے جامعہ ازہر
وبعد هذا الحديث المؤثر عن الخصمين وعن عاقبة كل منهما . . . جاء الحديث عن المسجد الحرام ، وعن مكانته ، وعن الأمر ببنائه ، وعن وجوب الحج إليه ، وعن المنافع التى تعود على الحجاج ، وعن سوء مصير من يصد الناس عن هذا المسجد ، جاء قوله - تعالى - : ( إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ . . . ) .قال الإمام الرازى : اعلم أنه - تعالى - بعد أن فصل بين الكفار والمؤمنين ذكر عظم حرمة البيت ، وعظم كفر هؤلاء الكافرين فقال : ( إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله والمسجد الحرام ) .قال ابن عباس : الآية نزلت فى أبى سفيان بن حرب وأصحابه حين صدوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية عن المسجد الحرام ، عن أن يحجوا ويعتمروا ، وينحروا الهدى . فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قتالهم ، وكان محرما بعمرة ، ثم صالحوه على أن يعود فى العام القادم . . .وصح عطف المضارع وهو " يصدون " على الماضى وهو " كفروا " لأن المضارع هنا لم يقصد به زمن معين من حال أو استقبال ، وإنما المراد به مجرد الاستمرار ، كما فى قولهم : فلان يحسن إلى الفقراء ، فإن المراد به استمرار وجود إحسانه .ويجوز أن يكون قوله ( وَيَصُدُّونَ ) خبرا لمبتدأ محذوف ، أى : وهم يصدون عن المسجد الحرام . وخبر إن فى قوله - سبحانه - : ( إِنَّ الذين كَفَرُواْ . . ) محذوف لدلالة آخر الآية عليه .والمعنى : إن الذين أصروا على كفرهم بما أنزله الله - تعالى - على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - ، واستمروا على منع أهل الحق من أداء شعائر دين الله - تعالى - ، ومن زيارة المسجد الحرام . . . هؤلاء الكافرون سوف نذيقهم عذابا أليما .ويصح أن يكون الخبر محذوفا للتهويل والإرهاب . وكأن وصفهم بالكفر والصد كاف فى معرفة مصيرهم المهين .قال القرطبى : قوله - تعالى - : ( والمسجد الحرام ) قيل إنه المسجد نفسه وهو ظاهر القرآن ، لأنه لم يذكر غيره ، وقيل الحرم كله ، لأن المشركين صدوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه عنه عام الحديبية ، فنزل خارجا عنه . . . وهذا صحيح لكنه قصد هنا بالذكر المهم المقصود من ذلك .وقوله - سبحانه - : ( الذي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَآءً العاكف فِيهِ والباد . . . ) تشريف لهذا المكان حيث جعل الله - تعالى - الناس تحت سقفه سواء ، وتشنيع على الكافرين الذين صدوا المؤمنين عنه .ولفظ " سواء " قرأه جمهور القراء بالرفع على أنه خبر مقدم ، والعاكف : مبتدأ ، والباد معطوفة عليه أى : العاكف والباد سواء فيه . أى مستويان فيه .وقرأه حفص عن عاصم بالنصب على أنه المفعول الثانى لقوله " جعلناه " بمعنى صيرناه . أى : جعلناه مستويا فيه العاكف والباد . ويصح أن يكون حالا من الهاء فى ( جَعَلْنَاهُ ) أى : وضعناه للناس حال كونه سواء العاكف فيه والباد .والمراد : بالعاكف فيه : المقيم فيه . يقال : عكف فلان على الشىء ، إذا لازمه ولم يفارقه . والباد : الطارىء عليه من مكان آخر .وأصله من يكون من أهل البوادى الذين يسكنون المضارب والخيام ، ويتنقلون من مكان إلى آخر .أى : جعلناه للناس على العموم ، يصلون فيه ، ويطوفون به ، ويحترمونه ويستوى تحت سقفه من كان مقيما فى جواره ، وملازما للتردد عليه ، ومن كان زائرا له وطارئا عليه من أهل البوادى أو من أهل البلاد الأخرى سوى مكة .فهذا المسجد الحرام يتساوى فيه عباد الله ، فلا يملكه أحد منهم ، ولا يمتاز فيه أحد منهم ، بل الكل فوق أرضه وتحت سقفه سواء .وقوله - تعالى - : ( وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ) تهديد لكل من يحاول ارتكاب شىء نهى الله عنه فى هذا المسجد الحرام .والإلحاد الميل . يقال : ألحد فلان فى دين الله ، أى : مال وحاد عنه .و " من " شرطية وجوابها " نذقه " ومفعول " يرد " محذوف لقصد التعميم . أى : ومن يرد فيه مرادا بإلحاد ، ويصح أن يكون المفعول قوله ( بِإِلْحَادٍ ) على أن الباء زائدة .أى : ومن يرد فى هذا المسجد الحرام إلحادا ، أى : ميلا وحيدة عن أحكام الشريعة وآدابها بسبب طلمه وخروجه عن طاعتنا ، نذقه من عذاب أليم لا يقادر قدره ، ولا يكتنه كنهه .وقد جاء هذا التهديد فى أقصى درجاته لأن القرآن توعد بالعذاب الأليم كل من بنوى ويريد الميل فيه عن دين الله ، وإذا كان الأمر كذلك ، فمن ينوى ويفعل يكون عقابه أشد ، ومصيره أقبح .ويدخل تحت هذا التهديد كل ميل عن الحق إلى الباطل ، أو عن الخير إلى الشر كالاحتقار ، والغش .ولذا قال ابن جرير بعد أن ساق الأقوال فى ذلك : وأولى الأقوال التى ذكرناها فى تأويل ذلك بالصواب : القول الذى ذكرناه من أن المراد بالظلم فى هذا الموضع ، كل معصية لله ، وذلك لأن الله عم بقوله : ( وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ ) ولم يخصص به ظلما دون ظلم فى خبر ولا عقل ، فهو على عمومه ، فإذا كان ذلك كذلك فتأويل الكلام : ومن يرد فى المسجد الحرام بأن يميل بظلم فيعصى الله فيه ، نذقه يوم القيامة من عذاب موجع له .
تَفْسِيرُ ٱلْبَغَوِيِّ
Tafsir al-Baghawi —
علامہ بغوی
قوله عز وجل : ( إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله ) عطف المستقبل على الماضي لأن المراد من لفظ المستقبل الماضي كما قال تعالى في موضع آخر ( الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ) ( النساء 167 ) ، معناه إن الذين كفروا فيما تقدم ويصدون عن سبيل الله في الحال أي وهم يصدون . ( والمسجد الحرام ) أي ويصدون عن المسجد الحرام . ( الذي جعلناه للناس ) قبلة لصلاتهم ومنسكا ومتعبدا كما قال ( وضع للناس ) ( آل عمران 96 ) . ( سواء ) قرأ حفص عن عاصم ويعقوب : " سواء " نصبا بإيقاع الجعل عليه لأن الجعل يتعدى إلى مفعولين وقيل معناه مستويا فيه ، ( العاكف فيه والباد ) وقرأ الآخرون بالرفع على الابتداء وما بعده خبر وتمام الكلام عند قوله " للناس " وأراد بالعاكف المقيم فيه ، وبالبادي الطارئ المنتاب إليه من غيرهواختلفوا في معنى الآية فقال قوم " سواء العاكف فيه والباد " أي في تعظيم حرمته وقضاء النسك فيه وإليه ذهب مجاهد والحسن وجماعة ، وقالوا المراد منه نفس المسجد الحرام . ومعنى التسوية هو التسوية في تعظيم الكعبة في فضل الصلاة في المسجد الحرام والطواف بالبيتوقال آخرون المراد منه جميع الحرم ومعنى التسوية أن المقيم والبادي سواء في النزول به ليس أحدهما أحق بالمنزل يكون فيه من الآخر غير أنه لا يزعج فيه أحدا إذا كان قد سبق إلى منزل وهو قول ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة وابن زيد ، قالوا هما سواء في البيوت والمنازل .وقال عبد الرحمن بن سابط : كان الحجاج إذا قدموا مكة لم يكن أحد من أهل مكة بأحق بمنزله منهم وكان عمر بن الخطاب ينهى الناس أن يغلقوا أبوابهم في الموسم وعلى هذا القول لا يجوز بيع دور مكة وإجارتها ، وعلى القول الأول وهو الأقرب إلى الصواب يجوز لأن الله تعالى قال ( الذين أخرجوا من ديارهم ) ( الحج 40 ) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة : " من دخل دار أبي سفيان فهو آمن " فنسب الدار إليه نسب ملك واشترى عمر دارا للسجن بمكة بأربعة آلاف درهم فدل على جواز بيعها وهذا قول طاوس وعمرو بن دينار ، وبه قال الشافعي .قوله عز وجل ( ومن يرد فيه بإلحاد بظلم ) أي في المسجد الحرام بإلحاد بظلم وهو الميل إلى الظلم الباء في قوله " بإلحاد " زائدة كقوله : ( تنبت بالدهن ) ( المؤمنون 20 ) ، ومعناه من يرد فيه إلحادا بظلم قال الأعشى :" ضمنت برزق عيالنا أرماحنا "، أي رزق عيالنا وأنكر المبرد أن تكون الباء زائدة وقال معنى الآية من تكن إرادته فيه بأن يلحد بظلمواختلفوا في هذا الإلحاد فقال مجاهد وقتادة : هو الشرك وعبادة غير اللهوقال قوم : هو كل شيء كان منهيا عنه من قول أو فعل حتى شتم الخادموقال عطاء : هو دخول الحرم غير محرم أو ارتكاب شيء من محظورات الحرم من قتل صيد أو قطع شجروقال ابن عباس : هو أن تقتل فيه من لا يقتلك أو تظلم فيه من لا يظلمك وهذا معنى قول الضحاك .وعن مجاهد أنه قال تضاعف السيئات بمكة كما تضاعف الحسنات .وقال حبيب بن أبي ثابت : وهو احتكار الطعام بمكة .وقال عبد الله بن مسعود في قوله ( ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم ) قال لو أن رجلا هم بخطيئة لم تكتب عليه ما لم يعملها ولو أن رجلا هم بقتل رجل بمكة وهو بعدن أبين أو ببلد آخر أذاقه الله من عذاب أليم . وقال السدي : إلا أن يتوبوروي عن عبد الله بن عمر أنه كان له فسطاطان أحدهما في الحل والآخر في الحرم فإذا أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الآخر فسئل عن ذلك فقال كنا نحدث أن من الإلحاد فيه أن يقول الرجل كلا والله وبلى والله .