تَفْسِيرُ ٱلْمُيَسَّر
Tafsir Al-Muyassar —
کنگ فہد قرآن کمپلیکس
حرَّم الله عليكم الميتة، وهي الحيوان الذي تفارقه الحياة بدون ذكاة، وحرَّم عليكم الدم السائل المُراق، ولحم الخنزير، وما ذُكِر عليه غير اسم الله عند الذبح، والمنخنقة التي حُبِس نَفَسُها حتى ماتت، والموقوذة وهي التي ضُربت بعصا أو حجر حتى ماتت، والمُتَرَدِّية وهي التي سقطت من مكان عال أو هَوَت في بئر فماتت، والنطيحة وهي التي ضَرَبَتْها أخرى بقرنها فماتت، وحرَّم الله عليكم البهيمة التي أكلها السبُع، كالأسد والنمر والذئب، ونحو ذلك. واستثنى -سبحانه- مما حرَّمه من المنخنقة وما بعدها ما أدركتم ذكاته قبل أن يموت فهو حلال لكم، وحرَّم الله عليكم ما ذُبِح لغير الله على ما يُنصب للعبادة من حجر أو غيره، وحرَّم الله عليكم أن تطلبوا عِلْم ما قُسِم لكم أو لم يقسم بالأزلام، وهي القداح التي كانوا يستقسمون بها إذا أرادوا أمرًا قبل أن يقدموا عليه. ذلكم المذكور في الآية من المحرمات -إذا ارتُكبت- خروج عن أمر الله وطاعته إلى معصيته. الآن انقطع طمع الكفار من دينكم أن ترتدوا عنه إلى الشرك بعد أن نصَرْتُكم عليهم، فلا تخافوهم وخافوني. اليوم أكملت لكم دينكم دين الإسلام بتحقيق النصر وإتمام الشريعة، وأتممت عليكم نعمتي بإخراجكم من ظلمات الجاهلية إلى نور الإيمان، ورضيت لكم الإسلام دينًا فالزموه، ولا تفارقوه. فمن اضطرَّ في مجاعة إلى أكل الميتة، وكان غير مائل عمدًا لإثم، فله تناوله، فإن الله غفور له، رحيم به.
تَفْسِيرُ ٱلْجَلَالَيْنِ
Tafsir al-Jalalayn —
جلال الدین محلی اور جلال الدین سیوطی
«حرِّمت عليكم الميتة» أي أكلها «والدم» أي المسفوح كما في الأنعام «ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به» بأن ذُبح على اسم غيره «والمنخنقة» الميتة خنقا «والموقوذة» المقتولة ضربا «والمتردية» الساقطة من علو إلى أسفل فماتت «والنطيحة» المقتولة بنطح أخرى لها «وما أكل السبع» منه «إلا ما ذكيتم» أي أدركتم فيه الروح من هذه الأشياء فذبحتموه «وما ذُبح على» اسم «النصب» جمع نصاب وهي الأصنام «وأن تستقسموا» تطلبوا القسم والحكم «بالأزلام» جمع زلم بفتح الزاي وضمها مع فتح اللام قدح _بكسر القاف_ صغير لا ريش له ولا نصل وكانت سبعة عند سادن الكعبة عليها أعلام وكانوا يحكمونها فإن أمرتهم ائتمروا وإن نهتهم انتهوا «ذلكم فسق» خروج عن الطاعة. ونزل يوم عرفة عام حجة الوداع «اليوم يئس الذين كفروا من دينكم» أن ترتدوا عنه بعد طمعهم في ذلك لما رأوا من قوته «فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملتُ لكم دينكم» أحكامه وفرائضه فلم ينزل بعدها حلال ولا حرام «وأتممت عليكم نعمتي» بإكماله وقيل بدخول مكة آمنين «ورضيت» أي اخترت «لكم الإسلام دينا فمن اضطر في مخمصة» مجاعة إلى أكل شيء مما حرم عليه فأكله «غير متجانف» مائل «لإثم» معصية «فإن الله غفور» له ما أكل «رحيم» به في إباحته له بخلاف المائل لإثم أي المتلبس به كقاطع الطريق والباغي مثلا فلا يحل له الأكل.
تَفْسِيرُ ٱلْقُرْطُبِيِّ
Tafsir al-Qurtubi —
علامہ قرطبی
قوله : حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم[ ص: 19 ] فيه ست وعشرون مسألة :الأولى : قوله تعالى : حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به تقدم القول فيه كاملا في البقرة .الثانية : قوله تعالى : والمنخنقة هي التي تموت خنقا ، وهو حبس النفس سواء فعل بها ذلك آدمي أو اتفق لها ذلك في حبل أو بين عودين أو نحوه ، وذكر قتادة : أن أهل الجاهلية كانوا يخنقون الشاة وغيرها فإذا ماتت أكلوها ; وذكر نحوه ابن عباس .الثالثة : قوله تعالى : والموقوذة الموقوذة هي التي ترمى أو تضرب بحجر أو عصا حتى تموت من غير تذكية ; عن ابن عباس والحسن وقتادة والضحاك والسدي ; يقال منه : وقذه يقذه وقذا وهو وقيذ ، والوقذ شدة الضرب ، وفلان وقيذ أي : مثخن ضربا . قال قتادة : كان أهل الجاهلية يفعلون ذلك ويأكلونه ، وقال الضحاك : كانوا يضربون الأنعام بالخشب لآلهتهم حتى يقتلوها فيأكلوها ، ومنه المقتولة بقوس البندق ، وقال الفرزدق :شغارة تقذ الفصيل برجلها فطارة لقوادم الأبكاروفي صحيح مسلم عن عدي بن حاتم قال : قلت يا رسول الله فإني أرمي بالمعراض الصيد فأصيب ; فقال : إذا رميت بالمعراض فخزق فكله وإن أصابه بعرضه فلا تأكله وفي رواية فإنه وقيذ . قال أبو عمر : اختلف العلماء قديما وحديثا في الصيد بالبندق والحجر والمعراض ; فمن ذهب إلى أنه وقيذ لم يجزه إلا ما أدرك ذكاته ; على ما روي عن ابن عمر ، وهو قول مالك وأبي حنيفة وأصحابه والثوري والشافعي ، وخالفهم الشاميون في ذلك ; قال الأوزاعي في المعراض : كله خزق أو لم يخزق ; فقد كان أبو الدرداء وفضالة بن عبيد وعبد الله بن عمر ومكحول لا يرون به بأسا ; قال أبو عمر : هكذا ذكر الأوزاعي عن عبد الله بن [ ص: 20 ] عمر ، والمعروف عن ابن عمر ما ذكره مالك عن نافع عنه ، والأصل في هذا الباب والذي عليه العمل وفيه الحجة لمن لجأ إليه حديث عدي بن حاتم وفيه ( وما أصاب بعرضه فلا تأكله فإنما هو وقيذ ) .الرابعة : قوله تعالى : والمتردية المتردية هي التي تتردى من العلو إلى السفل فتموت ; كان ذلك من جبل أو في بئر ونحوه ; وهي متفعلة من الردى وهو الهلاك ; وسواء تردت بنفسها أو رداها غيرها ، وإذا أصاب السهم الصيد فتردى من جبل إلى الأرض حرم أيضا ; لأنه ربما مات بالصدمة والتردي لا بالسهم ; ومنه الحديث وإن وجدته غريقا في الماء فلا تأكله فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك أخرجه مسلم ، وكانت الجاهلية تأكل المتردي ولم تكن تعتقد ميتة إلا ما مات بالوجع ونحوه دون سبب يعرف ; فأما هذه الأسباب فكانت عندها كالذكاة ; فحصر الشرع الذكاة في صفة مخصوصة على ما يأتي بيانها ، وبقيت هذه كلها ميتة ، وهذا كله من المحكم المتفق عليه . وكذلك النطيحة وأكيلة السبع التي فات نفسها بالنطح والأكل .الخامسة : قوله تعالى : والنطيحة النطيحة فعيلة بمعنى مفعولة ، وهي الشاة تنطحها أخرى أو غير ذلك فتموت قبل أن تذكى ، وتأول قوم النطيحة بمعنى الناطحة ; لأن الشاتين قد تتناطحان فتموتان ، وقيل : نطيحة ولم يقل نطيح ، وحق فعيل لا يذكر فيه الهاء كما يقال : كف خضيب ولحية دهين ; لكن ذكر الهاء هاهنا لأن الهاء إنما تحذف من الفعيلة إذا كانت صفة لموصوف منطوق به ; يقال : شاة نطيح وامرأة قتيل ، فإن لم تذكر الموصوف أثبت الهاء فتقول : رأيت قتيلة بني فلان وهذه نطيحة الغنم ; لأنك لو لم تذكر الهاء فقلت : رأيت قتيل بني فلان لم يعرف أرجل هو أم امرأة . وقرأ أبو ميسرة " والمنطوحة " .السادسة : قوله تعالى : وما أكل السبع يريد كل ما افترسه ذو ناب وأظفار من الحيوان ، كالأسد والنمر والثعلب والذئب والضبع ونحوها ، هذه كلها سباع . يقال : سبع فلان فلانا أي : عضه بسنه ، وسبعه أي : عابه ووقع فيه ، وفي الكلام إضمار ، أي : وما أكل منه السبع ; لأن ما أكله السبع فقد فني ، ومن العرب من يوقف اسم السبع على الأسد ، وكانت العرب إذا أخذ السبع شاة ثم خلصت منه أكلوها ، وكذلك إن أكل بعضها ; قاله قتادة وغيره ، وقرأ الحسن وأبو حيوة " السبع " بسكون الباء ، وهي لغة لأهل نجد ، وقال حسان في عتبة بن أبي لهب :من يرجع العام إلى أهله فما أكيل السبع بالراجع[ ص: 21 ] وقرأ ابن مسعود : " وأكيلة السبع " وقرأ عبد الله بن عباس : " وأكيل السبع " .السابعة : قوله تعالى : إلا ما ذكيتم نصب على الاستثناء المتصل ، عند الجمهور من العلماء والفقهاء ، وهو راجع على كل ما أدرك ذكاته من المذكورات وفيه حياة ; فإن الذكاة عاملة فيه ; لأن حق الاستثناء أن يكون مصروفا إلى ما تقدم من الكلام ، ولا يجعل منقطعا إلا بدليل يجب التسليم له . روى ابن عيينة وشريك وجرير عن الركين بن الربيع عن أبي طلحة الأسدي قال : سألت ابن عباس عن ذئب عدا على شاة فشق بطنها حتى انتثر قصبها فأدركت ذكاتها فذكيتها فقال : كل وما انتثر من قصبها فلا تأكل . قال إسحاق بن راهويه : السنة في الشاة على ما وصف ابن عباس ، فإنها وإن خرجت مصارينها فإنها حية بعد ، وموضع الذكاة منها سالم ; وإنما ينظر عند الذبح أحية هي أم ميتة ، ولا ينظر إلى فعل هل يعيش مثلها ؟ فكذلك المريضة ; قال إسحاق : ومن خالف هذا فقد خالف السنة من جمهور الصحابة وعامة العلماء .قلت : وإليه ذهب ابن حبيب وذكر عن أصحاب مالك ; وهو قول ابن وهب والأشهر من مذهب الشافعي . قال المزني : وأحفظ للشافعي قولا آخر أنها لا تؤكل إذا بلغ منها السبع أو التردي إلى ما لا حياة معه ; وهو قول المدنيين ، والمشهور من قول مالك ، وهو الذي ذكره عبد الوهاب في تلقينه ، وروي عن زيد بن ثابت ، ذكره مالك في موطئه ، وإليه ذهب إسماعيل القاضي وجماعة المالكيين البغداديين ، والاستثناء على هذا القول منقطع ; أي : حرمت عليكم هذه الأشياء لكن ما ذكيتم فهو الذي لم يحرم . قال ابن العربي : اختلف قول مالك في هذه الأشياء ; فروي عنه أنه لا يؤكل إلا ما ذكي بذكاة صحيحة ; والذي في الموطأ أنه إن كان ذبحها ونفسها يجري ، وهي تضطرب فليأكل ; وهو الصحيح من قوله الذي كتبه بيده وقرأه على الناس من كل بلد طول عمره فهو أولى من الروايات النادرة ، وقد أطلق علماؤنا على المريضة أن المذهب جواز تذكيتها ولو أشرفت على الموت إذا كانت فيها بقية حياة ; وليت شعري أي فرق بين بقية حياة من مرض ، وبقية حياة من سبع لو اتسق النظر ، وسلمت من الشبهة الفكر ، وقال أبو عمرو : قد أجمعوا في المريضة التي لا ترجى حياتها أن ذبحها ذكاة لها إذا كانت فيها الحياة في حين ذبحها ، وعلم ذلك منها بما ذكروا من حركة يدها أو رجلها أو ذنبها أو نحو ذلك ; وأجمعوا أنها إذا صارت في حال النزع ولم تحرك يدا ولا رجلا أنه لا ذكاة فيها ; وكذلك ينبغي في القياس أن يكون حكم المتردية وما ذكر معها في الآية ، والله أعلم .الثامنة : قوله تعالى : ذكيتم الذكاة في كلام العرب الذبح ; قاله قطرب ، وقال ابن سيده في ( المحكم ) والعرب تقول ( ذكاة الجنين ذكاة أمه ) ; قال ابن عطية : وهذا إنما هو [ ص: 22 ] حديث ، وذكى الحيوان ذبحه ; ومنه قول الشاعر :يذكيها الأسلقلت : الحديث الذي أشار إليه أخرجه الدارقطني من حديث أبي سعيد وأبي هريرة وعلي وعبد الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ذكاة الجنين ذكاة أمه ، وبه يقول جماعة أهل العلم ، إلا ما روي عن أبي حنيفة أنه قال : إذا خرج الجنين من بطن أمه ميتا لم يحل أكله ; لأن ذكاة نفس لا تكون ذكاة نفسين . قال ابن المنذر : وفي قول النبي ، صلى الله عليه وسلم : ذكاة الجنين ذكاة أمه دليل على أن الجنين غير الأم ، وهو يقول : لو أعتقت أمة حامل إن عتقه عتق أمه ; وهذا يلزمه أن ذكاته ذكاة أمه ; لأنه إذا أجاز أن يكون عتق واحد عتق اثنين جاز أن يكون ذكاة واحد ذكاة اثنين ; على أن الخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وما جاء عن أصحابه ، وما عليه جل الناس مستغنى به عن قول كل قائل ، وأجمع أهل العلم على أن الجنين إذا خرج حيا أن ذكاة أمه ليست بذكاة له ، واختلفوا إذا ذكيت الأم وفي بطنها جنين ; فقال مالك وجميع أصحابه : ذكاته ذكاة أمه إذا كان قد تم خلقه ونبت شعره ، وذلك إذا خرج ميتا أو خرج به رمق من الحياة ، غير أنه يستحب أن يذبح إن خرج يتحرك ، فإن سبقهم بنفسه أكل ، وقال ابن القاسم : ضحيت بنعجة فلما ذبحتها جعل يركض ولدها في بطنها فأمرتهم أن يتركوها حتى يموت في بطنها ، ثم أمرتهم فشقوا جوفها فأخرج منه فذبحته فسال منه دم ; فأمرت أهلي أن يشووه ، وقال عبد الله بن كعب بن مالك . كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقولون : إذا أشعر الجنين فذكاته ذكاة أمه . قال ابن المنذر : وممن قال ذكاته ذكاة أمه ولم يذكر أشعر أو لم يشعر علي بن أبي طالب رضي الله عنه وسعيد بن المسيب والشافعي وأحمد وإسحاق . قال القاضي أبو الوليد الباجي : وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ذكاة الجنين ذكاة أمه أشعر أو لم يشعر إلا أنه حديث ضعيف ; فمذهب مالك هو الصحيح من الأقوال الذي عليه عامة فقهاء الأمصار . وبالله التوفيق .التاسعة : قوله تعالى : ذكيتم الذكاة في اللغة أصلها التمام ، ومنه تمام السن ، والفرس المذكى الذي يأتي بعد تمام القروح بسنة ، وذلك تمام استكمال القوة ، ويقال : ذكى يذكي ، والعرب تقول : جري المذكيات غلاب . والذكاء حدة القلب ; وقال الشاعر هو زهير :يفضله إذا اجتهدوا عليه تمام السن منه والذكاء[ ص: 23 ] والذكاء سرعة الفطنة ، والفعل منه ذكي يذكى ذكا ، والذكوة ما تذكو به النار ، وأذكيت الحرب والنار أوقدتهما ، وذكاء اسم الشمس ; وذلك أنها تذكو كالنار ، والصبح ابن ذكاء لأنه من ضوئها . فمعنى ذكيتم أدركتم ذكاته على التمام . ذكيت الذبيحة أذكيها مشتقة من التطيب ; يقال : رائحة ذكية ; فالحيوان إذا أسيل دمه فقد طيب ، لأنه يتسارع إليه التجفيف ; وفي حديث محمد بن علي رضي الله عنهما " ذكاة الأرض يبسها " يريد طهارتها من النجاسة ; فالذكاة في الذبيحة تطهير لها ، وإباحة لأكلها فجعل يبس الأرض بعد النجاسة تطهيرا لها وإباحة الصلاة فيها بمنزلة الذكاة للذبيحة ; وهو قول أهل العراق ، وإذا تقرر هذا فاعلم أنها في الشرع عبارة عن إنهار الدم وفري الأوداج في المذبوح ، والنحر في المنحور والعقر في غير المقدور ، مقرونا بنية القصد لله وذكره عليه ; على ما يأتي بيانه .العاشرة : واختلف العلماء فيما يقع به الذكاة ; فالذي عليه الجمهور من العلماء أن كل ما أفرى الأوداج وأنهر الدم فهو من آلات الذكاة ما خلا السن والعظم ; على هذا تواترت الآثار ، وقال به فقهاء الأمصار ، والسن والظفر المنهي عنهما في التذكية هما غير المنزوعين ; لأن ذلك يصير خنقا ; وكذلك قال ابن عباس : ذلك الخنق ; فأما المنزوعان فإذا فريا الأوداج فجائز الذكاة بهما عندهم ، وقد كره قوم السن والظفر والعظم على كل حال ; منزوعة أو غير منزوعة ; منهم إبراهيم والحسن والليث بن سعد ، وروي عن الشافعي ; وحجتهم ظاهر حديث رافع بن خديج قال : قلت يا رسول الله إنا لاقو العدو غدا وليست معنا مدى - في رواية - فنذكي بالليط ؟ . وفي موطأ مالك عن نافع عن رجل من الأنصار عن معاذ بن سعد أو سعد بن معاذ : أن جارية لكعب بن مالك كانت ترعى غنما له بسلع فأصيبت شاة منها فأدركتها فذكتها بحجر ، فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال : لا بأس بها وكلوها ، وفي مصنف أبي داود : أنذبح بالمروة وشقة العصا ؟ قال : أعجل وأرن ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل ليس السن والظفر وسأحدثك أما السن فعظم وأما الظفر فمدى الحبشة الحديث أخرجه مسلم ، وروي عن سعيد بن المسيب أنه قال : ما ذبح بالليطة والشطير والظرر فحل ذكي . الليطة فلقة القصبة ويمكن بها الذبح والنحر . والشطير فلقة العود ، وقد يمكن بها الذبح لأن لها جانبا [ ص: 24 ] دقيقا ، والظرر فلقة الحجر يمكن الذكاة بها ولا يمكن النحر ; وعكسه الشظاظ ينحر به ، لأنه كطرف السنان ولا يمكن به الذبح .الحادية عشرة : قال مالك وجماعة : لا تصح الذكاة إلا بقطع الحلقوم والودجين ، وقال الشافعي : يصح بقطع الحلقوم والمريء ولا يحتاج إلى الودجين ; لأنهما مجرى الطعام والشراب الذي لا يكون معهما حياة ، وهو الغرض من الموت . ومالك وغيره اعتبروا الموت على وجه يطيب معه اللحم ، ويفترق فيه الحلال - وهو اللحم - من الحرام الذي يخرج بقطع الأوداج وهو مذهب أبي حنيفة ; وعليه يدل حديث رافع بن خديج في قوله : ما أنهر الدم ، وحكى البغداديون عن مالك أنه يشترط قطع أربع : الحلقوم والودجين والمريء ; وهو قول أبي ثور ، والمشهور ما تقدم وهو قول الليث . ثم اختلف أصحابنا في قطع أحد الودجين والحلقوم هل هو ذكاة أم لا ؟ على قولين .الثانية عشرة : وأجمع العلماء على أن الذبح مهما كان في الحلق تحت الغلصمة فقد تمت الذكاة ; واختلف فيما إذا ذبح فوقها وجازها إلى البدن هل ذلك ذكاة أم لا ، على قولين : وقد روي عن مالك أنها لا تؤكل ; وكذلك لو ذبحها من القفا واستوفى القطع وأنهر الدم وقطع الحلقوم والودجين لم تؤكل ، وقال الشافعي : تؤكل ; لأن المقصود قد حصل ، وهذا ينبني على أصل ، وهو أن الذكاة وإن كان المقصود منها إنهار الدم ففيها ضرب من التعبد ; وقد ذبح صلى الله عليه وسلم في الحلق ونحر في اللبة وقال : إنما الذكاة في الحلق واللبة فبين محلها وعين موضعها ، وقال مبينا لفائدتها : ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل . فإذا أهمل ذلك ولم تقع بنية ولا بشرط ولا بصفة مخصوصة زال منها حظ التعبد ، فلم تؤكل لذلك ، والله أعلم .الثالثة عشرة : واختلفوا فيمن رفع يده قبل تمام الذكاة ثم رجع في الفور وأكمل الذكاة ; فقيل : يجزئه ، وقيل : لا يجزئه ; والأول أصح لأنه جرحها ثم ذكاها بعد وحياتها مستجمعة فيها .الرابعة عشرة : ويستحب ألا يذبح إلا من ترضى حاله ، وكل من أطاقه وجاء به على سنته من ذكر أو أنثى ، بالغ أو غير بالغ جاز ذبحه إذا كان مسلما أو كتابيا ، وذبح المسلم أفضل من ذبح الكتابي ، ولا يذبح نسكا إلا مسلم ; فإن ذبح النسك كتابي فقد اختلف فيه ; ولا يجوز في تحصيل المذهب ، وقد أجازه أشهب .[ ص: 25 ] الخامسة عشرة : وما استوحش من الإنسي لم يجز في ذكاته إلا ما يجوز في ذكاة الإنسي ، في قول مالك وأصحابه وربيعة والليث بن سعد ; وكذلك المتردي في البئر لا تكون الذكاة فيه إلا فيما بين الحلق واللبة على سنة الذكاة ، وقد خالف في هاتين المسألتين بعض أهل المدينة وغيرهم ; وفي الباب حديث رافع بن خديج وقد تقدم ، وتمامه بعد قوله : ( فمدى الحبشة ) قال : وأصبنا نهب إبل وغنم فند منها بعير فرماه رجل بسهم فحبسه ; فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن لهذه الإبل أوابد كأوابد الوحش فإذا غلبكم منها شيء فافعلوا به هكذا - وفي رواية - فكلوه ، وبه قال أبو حنيفة والشافعي ; قال الشافعي : تسليط النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الفعل دليل على أنه ذكاة ; واحتج بما رواه أبو داود والترمذي عن أبي العشراء عن أبيه قال : قلت يا رسول الله أما تكون الذكاة إلا في الحلق واللبة ؟ قال : لو طعنت في فخذها لأجزأ عنك . قال يزيد بن هارون : وهو حديث صحيح أعجب أحمد بن حنبل ورواه عن أبي داود ، وأشار على من دخل عليه من الحفاظ أن يكتبه . قال أبو داود : لا يصلح هذا إلا في المتردية والمستوحش ، وقد حمل ابن حبيب هذا الحديث على ما سقط في مهواة فلا يوصل إلى ذكاته إلا بالطعن في غير موضع الذكاة ; وهو قول انفرد به عن مالك وأصحابه . قال أبو عمر : قول الشافعي أظهر في أهل العلم ، وأنه يؤكل بما يؤكل به الوحشي ; لحديث رافع بن خديج ; وهو قول ابن عباس وابن مسعود ; ومن جهة القياس لما كان الوحشي إذا قدر عليه لم يحل إلا بما يحل به الإنسي ; لأنه صار مقدورا عليه ; فكذلك ينبغي في القياس إذا توحش أو صار في معنى الوحشي من الامتناع أن يحل بما يحل به الوحشي .قلت : أجاب علماؤنا عن حديث رافع بن خديج بأن قالوا : تسليط النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو على حبسه لا على ذكاته ، وهو مقتضى الحديث وظاهره ; لقوله : ( فحبسه ) ولم يقل إن السهم قتله ; وأيضا فإنه مقدور عليه في غالب الأحوال فلا يراعى النادر منه ، وإنما يكون ذلك في الصيد ، وقد صرح الحديث بأن السهم حبسه وبعد أن صار محبوسا صار مقدورا عليه ; فلا يؤكل إلا بالذبح والنحر ، والله أعلم ، وأما حديث أبي العشراء فقد قال فيه الترمذي : " حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث حماد بن سلمة ، ولا نعرف لأبي العشراء عن أبيه غير هذا الحديث ، واختلفوا في اسم أبي العشراء ; فقال بعضهم : اسمه أسامة بن قهطم ، ويقال : اسمه يسار بن برز - ويقال : بلز - ويقال : اسمه عطارد نسب إلى جده " . فهذا سند مجهول لا [ ص: 26 ] حجة فيه ; ولو سلمت صحته كما قال يزيد بن هارون لما كان فيه حجة ; إذ مقتضاه جواز الذكاة في أي عضو كان مطلقا في المقدور وغيره ، ولا قائل به في المقدور ; فظاهره ليس بمراد قطعا . وتأويل أبي داود وابن حبيب له غير متفق عليه ; فلا يكون فيه حجة ، والله أعلم . قال أبو عمر : وحجة مالك أنهم قد أجمعوا أنه لو لم يند الإنسي أنه لا يذكى إلا بما يذكى به المقدور عليه ، ثم اختلفوا فهو على أصله حتى يتفقوا . وهذا لا حجة فيه ; لأن إجماعهم إنما انعقد على مقدور عليه ، وهذا غير مقدور عليه .السادسة عشرة : ومن تمام هذا الباب قوله عليه السلام : إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته رواه مسلم عن شداد بن أوس قال : ثنتان حفظتهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الله كتب فذكره . قال علماؤنا : إحسان الذبح في البهائم الرفق بها ; فلا يصرعها بعنف ولا يجرها من موضع إلى آخر ، وإحداد الآلة ، وإحضار نية الإباحة والقربة وتوجيهها إلى القبلة ، والإجهاز ، وقطع الودجين والحلقوم ، وإراحتها وتركها إلى أن تبرد ، والاعتراف لله بالمنة ، والشكر له بالنعمة ; بأنه سخر لنا ما لو شاء لسلطه علينا ، وأباح لنا ما لو شاء لحرمه علينا . وقال ربيعة : من إحسان الذبح ألا يذبح بهيمة وأخرى تنظر إليها ; وحكي جوازه عن مالك ; والأول أحسن ، وأما حسن القتلة فعام في كل شيء من التذكية والقصاص والحدود وغيرها ، وقد روى أبو داود عن ابن عباس وأبي هريرة قالا : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شريطة الشيطان ، زاد ابن عيسى في حديثه ( وهي التي تذبح فتقطع ولا تفرى الأوداج ثم تترك فتموت ) .السابعة عشرة : قوله تعالى : وما ذبح على النصب قال ابن فارس : النصب حجر كان ينصب فيعبد وتصب عليه دماء الذبائح ، وهو النصب أيضا ، والنصائب حجارة تنصب حوالي شفير البئر فتجعل عضائد ، وغبار منتصب مرتفع ، وقيل : النصب جمع ، واحده نصاب كحمار وحمر ، وقيل : هو اسم مفرد والجمع أنصاب ; وكانت ثلاثمائة وستين حجرا ، وقرأ طلحة " النصب " بجزم الصاد . وروي عن ابن عمر " النصب " بفتح النون وجزم الصاد . الجحدري : بفتح النون والصاد جعله اسما موحدا كالجبل والجمل ، والجمع أنصاب ; كالأجمال والأجبال . قال مجاهد : هي حجارة كانت حوالي مكة يذبحون عليها . قال ابن جريج : كانت العرب تذبح بمكة وتنضح بالدم ما أقبل من البيت ، ويشرحون اللحم ويضعونه على الحجارة ; فلما جاء الإسلام قال المسلمون للنبي صلى الله عليه وسلم : نحن أحق أن نعظم هذا [ ص: 27 ] البيت بهذه الأفعال ، فكأنه عليه الصلاة والسلام لم يكره ذلك ; فأنزل الله تعالى : لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ونزلت وما ذبح على النصب المعنى : والنية فيها تعظيم النصب لا أن الذبح عليها غير جائز ، وقال الأعشى :وذا النصب المنصوب لا تنسكنه لعافية والله ربك فاعبداوقيل : على بمعنى اللام ; أي : لأجلها ; قال قطرب قال ابن زيد : ما ذبح على النصب وما أهل به لغير الله شيء واحد . قال ابن عطية : ما ذبح على النصب جزء مما أهل به لغير الله ، ولكن خص بالذكر بعد جنسه لشهرة الأمر وشرف الموضع وتعظيم النفوس له .الثامنة عشرة : قوله تعالى : وأن تستقسموا بالأزلام معطوف على ما قبله ، وأن في محل رفع ، أي : وحرم عليكم الاستقسام . والأزلام قداح الميسر ، واحدها زلم وزلم ; قال :بات يقاسيها غلام كالزلموقال آخر فجمع :فلئن جذيمة قتلت سرواتها فنساؤها يضربن بالأزلاموذكر محمد بن جرير : أن ابن وكيع حدثهم عن أبيه عن شريك عن أبي حصين عن سعيد بن جبير أن الأزلام حصى بيض كانوا يضربون بها . قال محمد بن جرير : قال لنا سفيان بن وكيع : هي الشطرنج . فأما قول لبيد :تزل عن الثرى أزلامهافقالوا : أراد أظلاف البقرة الوحشية ، والأزلام للعرب ثلاثة أنواع :منها الثلاثة التي كان يتخذها كل إنسان لنفسه ، على أحدها افعل ، وعلى الثاني لا تفعل ، والثالث مهمل لا شيء عليه ، فيجعلها في خريطة معه ، فإذا أراد فعل شيء أدخل يده - وهي متشابهة - فإذا خرج أحدها ائتمر وانتهى بحسب ما يخرج له ، وإن خرج القدح الذي لا شيء عليه أعاد الضرب ; وهذه هي التي ضرب بها سراقة بن مالك بن جعشم حين اتبع النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وقت الهجرة ; وإنما قيل لهذا الفعل : استقسام لأنهم كانوا يستقسمون به الرزق وما يريدون ; كما يقال : الاستسقاء في الاستدعاء للسقي . ونظير هذا الذي حرمه الله تعالى قول المنجم : لا تخرج من أجل نجم كذا ، واخرج من أجل نجم كذا ، وقال جل وعز : وما تدري نفس ماذا تكسب غدا ، وسيأتي بيان هذا مستوفى إن شاء الله .[ ص: 28 ] والنوع الثاني : سبعة قداح كانت عند هبل في جوف الكعبة مكتوب عليها ما يدور بين الناس من النوازل ، كل قدح منها فيه كتاب ; قدح فيه العقل من أمر الديات ، وفي آخر " منكم " وفي آخر " من غيركم " ، وفي آخر " ملصق " ، وفي سائرها أحكام المياه وغير ذلك ، وهي التي ضرب بها عبد المطلب على بنيه إذ كان نذر نحر أحدهم إذا كملوا عشرة ; الخبر المشهور ذكره ابن إسحاق . وهذه السبعة أيضا كانت عند كل كاهن من كهان العرب وحكامهم ; على نحو ما كانت في الكعبة عند هبل .والنوع الثالث : هو قداح الميسر وهي عشرة ; سبعة منها فيها حظوظ ، وثلاثة أغفال ، وكانوا يضربون بها مقامرة لهوا ولعبا ، وكان عقلاؤهم يقصدون بها إطعام المساكين والمعدم في زمن الشتاء وكلب البرد وتعذر التحرف ، وقال مجاهد : الأزلام هي كعاب فارس والروم التي يتقامرون بها ، وقال سفيان ووكيع : هي الشطرنج ; فالاستقسام بهذا كله هو طلب القسم والنصيب كما بينا ; وهو من أكل المال بالباطل ، وهو حرام ، وكل مقامرة بحمام أو بنرد أو شطرنج أو بغير ذلك من هذه الألعاب فهو استقسام بما هو في معنى الأزلام حرام كله ; وهو ضرب من التكهن والتعرض لدعوى علم الغيب . قال ابن خويز منداد : ولهذا نهى أصحابنا عن الأمور التي يفعلها المنجمون على الطرقات من السهام التي معهم ، ورقاع الفأل في أشباه ذلك ، وقال إلكيا الطبري : وإنما نهى الله عنها فيما يتعلق بأمور الغيب ; فإنه لا تدري نفس ماذا يصيبها غدا ، فليس للأزلام في تعريف المغيبات أثر ; فاستنبط بعض الجاهلين من هذا الرد على الشافعي في الإقراع بين المماليك في العتق ، ولم يعلم هذا الجاهل أن الذي قاله الشافعي بني على الأخبار الصحيحة ، وليس مما يعترض عليه بالنهي عن الاستقسام بالأزلام ; فإن العتق حكم شرعي ، يجوز أن يجعل الشرع خروج القرعة علما على إثبات حكم العتق قطعا للخصومة ، أو لمصلحة يراها ، ولا يساوي ذلك قول القائل : إذا فعلت كذا أو قلت كذا فذلك يدلك في المستقبل على أمر من الأمور ، فلا يجوز أن يجعل خروج القداح علما على شيء يتجدد في المستقبل ، ويجوز أن يجعل خروج القرعة علما على العتق قطعا ; فظهر افتراق البابين .[ ص: 29 ] التاسعة عشرة : وليس من هذا الباب طلب الفأل ، وكان عليه الصلاة والسلام يعجبه أن يسمع يا راشد يا نجيح ; أخرجه الترمذي وقال : حديث صحيح غريب ; وإنما كان يعجبه الفأل لأنه تنشرح له النفس وتستبشر بقضاء الحاجة وبلوغ الأمل ; فيحسن الظن بالله عز وجل ، وقد قال : ( أنا عند ظن عبدي بي ) ، وكان عليه السلام يكره الطيرة ; لأنها من أعمال أهل الشرك ; ولأنها تجلب ظن السوء بالله عز وجل . قال الخطابي : الفرق بين الفأل والطيرة أن الفأل إنما هو من طريق حسن الظن بالله ، والطيرة إنما هي من طريق الاتكال على شيء سواه ، وقال الأصمعي : سألت ابن عون عن الفأل فقال : هو أن يكون مريضا فيسمع يا سالم ، أو يكون باغيا فيسمع يا واجد ; وهذا معنى حديث الترمذي ، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : لا طيرة وخيرها الفأل ، قيل : يا رسول الله وما الفأل ؟ قال : الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم ، وسيأتي لمعنى الطيرة مزيد بيان إن شاء الله تعالى . روي عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال : إنما العلم بالتعلم والحلم بالتحلم ، ومن يتحر الخير يعطه ، ومن يتوق الشر يوقه ، وثلاثة لا ينالون الدرجات العلا ; من تكهن أو استقسم أو رجع من سفر من طيرة .الموفية عشرين : قوله تعالى : ذلكم فسق إشارة إلى الاستقسام بالأزلام ، والفسق الخروج ، وقد تقدم ، وقيل يرجع إلى جميع ما ذكر من الاستحلال لجميع هذه المحرمات ، وكل شيء منها فسق وخروج من الحلال إلى الحرام ، والانكفاف عن هذه المحرمات من الوفاء بالعقود ، إذ قال : أوفوا بالعقود .الحادية والعشرون : قوله تعالى : اليوم يئس الذين كفروا من دينكم يعني أن ترجعوا إلى دينهم كفارا . قال الضحاك : نزلت هذه الآية حين فتح مكة ; وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة لثمان بقين من رمضان سنة تسع ، ويقال : سنة ثمان ، ودخلها ونادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألا من قال لا إله إلا الله فهو آمن ، ومن وضع السلاح فهو آمن ، ومن أغلق بابه فهو آمن " ، وفي يئس لغتان ، يئس ييأس يأسا ، وأيس يأيس إياسا وإياسة ; قاله النضر بن شميل . فلا تخشوهم واخشوني أي : لا تخافوهم وخافوني فإني أنا القادر على نصركم .[ ص: 30 ] الثانية والعشرون : قوله تعالى : اليوم أكملت لكم دينكم وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حين كان بمكة لم تكن إلا فريضة الصلاة وحدها ، فلما قدم المدينة أنزل الله الحلال والحرام إلى أن حج ; فلما حج وكمل الدين نزلت هذه الآية : اليوم أكملت لكم دينكم الآية ; على ما نبينه . روى الأئمة عن طارق بن شهاب قال : جاء رجل من اليهود إلى عمر فقال : يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرءونها لو علينا أنزلت معشر اليهود لاتخذنا ذلك اليوم عيدا ; قال : وأي آية ؟ قال : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا فقال عمر : إني لأعلم اليوم الذي أنزلت فيه والمكان الذي أنزلت فيه ; نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة في يوم جمعة . لفظ مسلم ، وعند النسائي ليلة جمعة . وروي أنها لما نزلت في يوم الحج الأكبر وقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم بكى عمر ; فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما يبكيك ؟ فقال : أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا فأما إذ كمل فإنه لم يكمل شيء إلا نقص . فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : صدقت ، وروى مجاهد أن هذه الآية نزلت يوم فتح مكة .قلت : القول الأول أصح ، أنها نزلت في يوم جمعة وكان يوم عرفة بعد العصر في حجة الوداع سنة عشر ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة على ناقته العضباء ، فكاد عضد الناقة ينقد من ثقلها فبركت . واليوم قد يعبر بجزء منه عن جميعه ، وكذلك عن الشهر ببعضه ; تقول : فعلنا في شهر كذا وكذا وفي سنة كذا كذا ، ومعلوم أنك لم تستوعب الشهر ولا السنة ; وذلك مستعمل في لسان العرب والعجم ، والدين عبارة عن الشرائع التي شرع وفتح لنا ; فإنها نزلت نجوما وآخر ما نزل منها هذه الآية ، ولم ينزل بعدها حكم ، قاله ابن عباس والسدي ، وقال الجمهور : المراد معظم الفرائض والتحليل والتحريم ، قالوا : وقد نزل بعد ذلك قرآن كثير ، ونزلت آية الربا ، ونزلت آية الكلالة إلى غير ذلك ، وإنما كمل معظم الدين وأمر الحج ، إذ لم يطف معهم في هذه السنة مشرك ، ولا طاف بالبيت عريان ، ووقف الناس كلهم بعرفة ، وقيل : أكملت لكم دينكم بأن أهلكت لكم عدوكم وأظهرت دينكم على الدين كله كما تقول : قد تم لنا ما نريد إذا كفيت عدوك .الثالثة والعشرون : قوله تعالى : وأتممت عليكم نعمتي أي : بإكمال الشرائع والأحكام وإظهار دين الإسلام كما وعدتكم ، إذ قلت : ولأتم نعمتي عليكم وهي دخول مكة . آمنين مطمئنين وغير ذلك مما انتظمته هذه الملة الحنيفية إلى دخول الجنة في رحمة الله تعالى .[ ص: 31 ] الرابعة والعشرون : لعل قائلا يقول : قوله تعالى : اليوم أكملت لكم دينكم يدل على أن الدين كان غير كامل في وقت من الأوقات ، وذلك يوجب أن يكون جميع من مات من المهاجرين والأنصار والذين شهدوا بدرا والحديبية وبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم البيعتين جميعا ، وبذلوا أنفسهم لله مع عظيم ما حل بهم من أنواع المحن ماتوا على دين ناقص ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك كان يدعو الناس إلى دين ناقص ، ومعلوم أن النقص عيب ، ودين الله تعالى قيم ، كما قال تعالى : دينا قيما فالجواب أن يقال له : لم قلت إن كل نقص فهو عيب وما دليلك عليه ؟ ثم يقال له : أرأيت نقصان الشهر هل يكون عيبا ، ونقصان صلاة المسافر أهو عيب لها ، ونقصان العمر الذي أراده الله بقوله : وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره أهو عيب له ، ونقصان أيام الحيض عن المعهود ، ونقصان أيام الحمل ، ونقصان المال بسرقة أو حريق أو غرق إذا لم يفتقر صاحبه ، فما أنكرت أن نقصان أجزاء الدين في الشرع قبل أن تلحق به الأجزاء الباقية في علم الله تعالى هذه ليست بشين ولا عيب ، وما أنكرت أن معنى قول الله تعالى : اليوم أكملت لكم دينكم يخرج على وجهين :أحدهما : أن يكون المراد بلغته أقصى الحد الذي كان له عندي فيما قضيته وقدرته ، وذلك لا يوجب أن يكون ما قبل ذلك ناقصا نقصان عيب ، لكنه يوصف بنقصان مقيد فيقال له : إنه كان ناقصا عما كان عند الله تعالى أنه ملحقه به وضامه إليه ; كالرجل يبلغه الله مائة سنة فيقال : أكمل الله عمره ; ولا يجب عن ذلك أن يكون عمره حين كان ابن ستين كان ناقصا نقص قصور وخلل ; فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول : من عمره الله ستين سنة فقد أعذر إليه في العمر . ولكنه يجوز أن يوصف بنقصان مقيد فيقال : كان ناقصا عما كان عند الله تعالى أنه مبلغه إياه ومعمره إليه . وقد بلغ الله بالظهر والعصر والعشاء أربع ركعات ; فلو قيل عند ذلك أكملها لكان الكلام صحيحا ، ولا يجب عن ذلك أنها كانت حين كانت ركعتين ناقصة نقص قصور وخلل ; ولو قيل : كانت ناقصة عما عند الله أنه ضامه إليها وزائده عليها لكان ذلك صحيحا فهكذا ، هذا في شرائع الإسلام وما كان شرع منها شيئا فشيئا إلى أن أنهى الله الدين منتهاه الذي كان له عنده ، والله أعلم .والوجه الآخر : أنه أراد بقوله : اليوم أكملت لكم دينكم أنه وفقهم للحج الذي لم [ ص: 32 ] يكن بقي عليهم من أركان الدين غيره ، فحجوا ; فاستجمع لهم الدين أداء لأركانه وقياما بفرائضه ; فإنه يقول عليه السلام : بني الإسلام على خمس . الحديث ، وقد كانوا تشهدوا وصلوا وزكوا وصاموا وجاهدوا واعتمروا ولم يكونوا حجوا ; فلما حجوا ذلك اليوم مع النبي صلى الله عليه وسلم أنزل الله تعالى وهم بالموقف عشية عرفة اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي فإنما أراد أكمل وضعه لهم ; وفي ذلك دلالة على أن الطاعات كلها دين وإيمان وإسلام .الخامسة والعشرون : قوله تعالى : ورضيت لكم الإسلام دينا أي : أعلمتكم برضاي به لكم دينا ; فإنه تعالى لم يزل راضيا بالإسلام لنا دينا ; فلا يكون لاختصاص الرضا بذلك اليوم فائدة إن حملناه على ظاهره . و ( دينا ) نصب على التمييز ، وإن شئت على مفعول ثان ، وقيل : المعنى ورضيت عنكم إذا انقدتم لي بالدين الذي شرعته لكم ، ويحتمل أن يريد ورضيت لكم الإسلام دينا أي : ورضيت إسلامكم الذي أنتم عليه اليوم دينا باقيا بكماله إلى آخر الآية لا أنسخ منه شيئا ، والله أعلم . والإسلام في هذه الآية هو الذي في قوله تعالى : إن الدين عند الله الإسلام وهو الذي يفسر في سؤال جبريل للنبي عليهما الصلاة والسلام ، وهو الإيمان والأعمال والشعب .السادسة والعشرون : قوله تعالى : فمن اضطر في مخمصة يعني من دعته ضرورة إلى أكل الميتة وسائر المحرمات في هذه الآية . والمخمصة الجوع وخلاء البطن من الطعام . والخمص ضمور البطن ، ورجل خميص وخمصان وامرأة خميصة وخمصانة ; ومنه أخمص القدم ، ويستعمل كثيرا في الجوع والغرث ; قال الأعشى :تبيتون في المشتى ملاء بطونكم وجاراتكم غرثى يبتن خمائصاأي : منطويات على الجوع قد أضمر بطونهن . وقال النابغة في خمص البطن من جهة ضمره :والبطن ذو عكن خميص لين والنحر تنفجه بثدي مقعدوفي الحديث : خماص البطون خفاف الظهور . الخماص جمع الخميص البطن ، [ ص: 33 ] وهو الضامر . أخبر أنهم أعفاء عن أموال الناس ; ومنه الحديث : إن الطير تغدو خماصا وتروح بطانا ، والخميصة أيضا ثوب ; قال الأصمعي : الخمائص ثياب خز أو صوف معلمة ، وهي سوداء ، كانت من لباس الناس ، وقد تقدم معنى الاضطرار وحكمه في البقرة .السابعة والعشرون : قوله تعالى : غير متجانف لإثم أي : غير مائل لحرام ، وهو بمعنى غير باغ ولا عاد وقد تقدم . والجنف الميل ، والإثم الحرام ; ومنه قول عمر رضي الله عنه : ما تجانفنا فيه لإثم ; أي : ما ملنا ولا تعمدنا ونحن نعلمه : وكل مائل فهو متجانف وجنف . وقرأ النخعي ويحيى بن وثاب والسلمي " متجنف " دون ألف ، وهو أبلغ في المعنى ، لأن شد العين يقتضي مبالغة وتوغلا في المعنى وثبوتا لحكمه ; وتفاعل إنما هو محاكاة الشيء والتقرب منه ; ألا تراك أنك إذا قلت : تمايل الغصن فإن ذلك يقتضي تأودا ومقاربة ميل ، وإذا قلت : تميل فقد ثبت حكم الميل ، وكذلك تصاون الرجل وتصون ، وتعاقل وتعقل ; فالمعنى غير متعمد لمعصية في مقصده ; قاله قتادة والشافعي . فإن الله غفور رحيم أي : فإن الله له غفور رحيم فحذف ، وأنشد سيبويه [ الرجز لأبي النجم العجلي ] :قد أصبحت أم الخيار تدعي علي ذنبا كله لم أصنعأراد لم أصنعه فحذف ، والله أعلم .
تَنْوِيرُ ٱلْمِقْبَاسِ مِن تَفْسِيرِ ٱبْنِ عَبَّاس
Tafsir Tanwir al-Miqbas —
حضرت ابن عباسؓ
استئناف بيانيّ ناشىء عن قوله : { أحلّت لكم بهيمة الأنعام إلاّ ما يتلى عليكم } [ المائدة : 1 ] ، فهو بيان لما ليس بحلال من الأنعام .ومعنى تحريم هذه المذكورات تحريم أكلها ، لأنَّه المقصود من مجموع هذه المذكورات هنا . وهي أحوال من أحوال الأنعام تقتضي تحريم أكلها . وأدمج فيها نوع من الحيوان ليس من أنواع الأنعام وهو الخنزير ، لاستيعاب محرّمات الحيوان . وهذا الاستيعاب دليل لإباحة ما سوى ذلك ، إلاّ ما ورد في السنّة من تحريم الحُمُر الأهلية ، على اختلاف بين العلماء في معنى تحريمها ، والظاهر أنَّه تحريم منظور فيه إلى حالة لا إلى الصنف . وألحَق مالك بها الخيلَ والبغال قياساً ، وهو من قياس الأدْون ، ولقول الله تعالى إذ ذكرها في معرض الامتنان { الخيلَ والبغالَ والحمير لتركبوها وزينة } [ النحل : 8 ] . وهو قول أبي حنيفة خلافاً لصاحبيه ، وهو استدلال لا يعرف له نظير في الأدلّة الفقهية . وقال الشافعي وأبو يوسف ومحمد : يَجوز أكل الخيل . وثبت في الصحيح ، عن أسماء بنت أبي بكر قالت : ذبحنا فرساً على عهد رسول الله فأكلناه . ولم يُذكر أنّ ذلك منسوخ . وعن جابر بن عبد الله أنّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن لحوم الحُمُر ورخَّص في لحوم الخيل .وأمّا الحُمُر الأهلية فقد ورد في الصحيح أنّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن أكلها في غزوة خيبر . فقيل : لأنّ الحُمر كانت حَمولتهم في تلك الغَزاة . وقيل : نهى عنها أبداً . وقال ابن عباس بإباحتها . فليس لتحريم هذه الثلاثة على الإطلاق وجه بيّن من الفقه ولا من السنّة .والميْتة الحيوان الذي زالت منه الحياة ، والموتُ حالة معروفة تنشأ عن وقوف حركة الدم باختلال عمل أحد الأعضاء الرئيسية أو كلّها . وعلَّة تحريمها أنّ الموت ينشأ عن علل يكون معظمها مضرّاً بسبب العدوى ، وتمييز ما يُعدي عن غيره عسير ، ولأنّ الحيوان الميّت لا يُدرى غالباً مقدار ما مضى عليه في حالة الموت ، فربَّما مضت مدّة تستحيل معها منافع لحمه ودمه مضارّ ، فنيط الحكم بغالب الأحوال وأضبطها .والدم هنا هو الدم المُهراق ، أي المسفوح ، وهو الذي يمكن سيلانه كما صرّح به في آية الأنعام ( 145 ) ، حَملاً لمطلققِ هذه الآية على مقيّد آية الأنعام ، وهو الذي يخرج من عروق جسد الحيوان بسبب قطع العِرق وما عليه من الجِلد ، وهو سائل لزج أحمر اللون متفاوت الحمرة باختلاف السنّ واختلاف أصناف العروق .والظاهر أنّ علّة تحريمه القذارة : لأنّه يكتسب رائحة كريهة عند لقائه الهواءَ ، ولذلك قال كثير من الفقهاء بنجاسة عينه ، ولا تعرّض في الآية لذلك ، أو لأنَّه يحمل ما في جسد الحيوان من الأجزاء المضرّة التي لا يحاط بمعرفتها ، أو لما يحدثه تعوّد شرب الدم من الضراوة التي تعود على الخُلق الإنساني بالفساد .وقد كانت العرب تأكل الدم ، فكانوا في المجاعات يفصدون من إبلهم ويخلطون الدم بالوَبَر ويأكلونه ، ويسمّونه العِلْهِز بكسر العين والهاء . وكانوا يملأون المَصير بالدم ويشوونها ويأكلونها ، وقد تقدّم ذلك عند قوله تعالى : { إنَّما حرّم عليكم الميتة والدم } في سورة البقرة ( 173 ) .وإنَّما قال : ولحمَ الخنزير } ولم يقل والخنزير كما قال : { وما أهلّ لغير الله به } إلى آخر المعطوفات . ولم يذكر تحريم الخنزير في جميع آيات القرآن إلاّ بإضافة لفظ لحم إلى الخنزير . ولم يأت المفسّرون في توجيه ذلك بوجه ينثلج له الصدر . وقد بيّنا ذلك في نظير هذه الجملة من سورة البقرة ( 173 ) . ويبدو لي أنّ إضافة لفظ لحم إلى الخنزير للإيماء إلى أنّ المحرّم أكل لحمه لأنّ اللحم إذا ذكر له حكم فإنَّما يراد به أكله . وهذا إيماء إلى أنّ ما عدا أكل لحمه من أحوال استعمال أجزائه هو فيها كسائر الحيوان في طهارة شعره ، إذا انتزع منه في حياته بالجزّ ، وطهارة عرقه وطهارة جلده بالدبغ ، إذا اعتبرنا الدبغ مطهّراً جلد الميتة ، اعتباراً بأنّ الدبغ كالذكاة . وقد روي القول بطهارة جلد الخنزير بالدبغ عن داود الظاهري وأبي يوسف أخذاً بعموم قوله صلى الله عليه وسلم « أيما إهاب دبغ فقد طهر » رواه مسلم والترمذي عن ابن عباس . وعلّة تحريم الخنزير أنّ لحمه يشتمل على جراثيم مضرّة لا تقتلها حرارة النار عند الطبخ ، فإذا وصلت إلى دم آكله عاشت في الدم فأحدثت أضراراً عظيمة ، منها مرض الديدان التي في المعدة .{ وما أهلّ لغير الله به } هو ما سُمّي عليه عند الذبح اسمُ غير الله . والإهلالُ : الجهر بالصوتتِ ومنه الإهلال بالحجّ ، وهو التلبية الدالّة على الدخول في الحجّ ، ومنه استهلّ الصبي صارخاً . قيل : ذلك مشتقّ من اسم الهلال ، لأنّ العرب كانوا إذا رأوا هلال أوّل ليلة من الشهر رفعوا أصواتهم بذلك ليَعلم الناس ابتداءَ الشهر ، ويحتمل عندي أن يكون اسم الهلال قد اشتقّ من جَهر الناس بالصوت عند رؤيته . وكانوا إذا ذبحوا القرابين للأصنام نادَوا عليها باسم الصنم ، فقالوا : باسم اللاّت ، باسم العُزّى .{ والمنخنقة } هي التي عرض لها ما يخنقها . والخَنْق : سَدّ مجاري النفَس بالضغط على الحلق ، أو بسدّه ، وقد كانوا يربطون الدابّة عند خشبة فربما تخبّطت فانخنقت ولم يشعروا بها ، ولم يكونوا يخنقونها عند إرادة قتلها . ولذلك قيل هنا : المنخنقة ، ولم يقل المخنوقة بخلاف قوله { والموقوذة } ، فهذا مراد ابن عباس بقوله : كان أهل الجاهلية يخنقون الشاة وغيرها فإذا ماتت أكلوها .وحكمة تحريم المنخنقة أنّ الموت بانحباس النفس يفسد الدم باحتباس الحوامض الفحمية الكائنة فيه فتصير أجزاء اللحم المشتمل على الدم مضرّة لآكله .{ والموقوذة } : المضروبة بحجر أو عصا ضرباً تموت به دون إهراق الدم ، وهو اسم مفعول من وقَذ إذا ضرب ضرباً مثخِناً . وتأنيث هذا الوصف لتأويله بأنَّه وصف بهيمة . وحكمة تحريمها تُماثل حكمة تحريم المنخنقة .{ والمتردّية } : هي التي سقطت من جَبَل أو سقطت في بئر تردّياً تموت به ، والحكمة واحدة .{ والنطيحة } فعيلة بمعنى مَفعولة . والنطح ضربُ الحيوان ذي القرنين بقَرنيه حيواناً آخر . والمراد التي نطحتها بهيمة أخرى فماتت . وتأنيث النطيحة مثل تأنيث المنخنقة ، وظهرت علامة التأنيث في هذه الأوصاف وهي من باب فَعيل بمعنى مفعول لأنَّها لم تجر على موصوف مذكور فصارت بمنزلة الأسماء .{ وما أكل السبع } : أي بهيمة أكَلَها السبع ، والسبع كلّ حيوان يفترس الحيوان كالأسد والنمر والضبع والذئب والثعلب ، فحرّم على الناس كلّ ما قتله السبع ، لأنّ أكيلة السبع تموت بغير سفح الدم غالباً بل بالضرب على المقاتل .وقوله : { إلاّ ما ذكّيتم } استثناء من جميع المذكور قبله من قوله : { حرّمت عليكم الميتة } ؛ لأنّ الاستثناء الواقع بعد أشياء يصلح لأن يكون هو بعضها ، يرجع إلى جميعها عند الجمهور ، ولا يرجع إلى الأخيرة إلاّ عند أبي حنيفة والإمام الرازي ، والمذكورات قبلُ بعضها محرّمات لذاتها وبعضها محرّمات لصفاتها . وحيث كان المستثنى حالاً لا ذاتاً ، لأنّ الذكاة حالة ، تعيَّن رجوع الاستثناء لِما عدا لحمَ الخنزير ، إذ لا معنى لتحريم لحمه إذا لم يُذكّ وتحليلِه إذا ذكِّي ، لأنّ هذا حكم جميع الحيوان عند قصد أكله . ثم إنّ الذكاة حالة تقصد لقتل الحيوان فلا تتعلّق بالحيوان الميّت ، فعُلِم عدم رجوع الاستثناء إلى الميْتة لأنَّه عبث ، وكذلك إنَّما تتعلّق الذكاة بما فيه حياة فلا معنى لتعلّقها بالدم ، وكذا ما أهِلّ لغير الله به ، لأنهم يهلّون به عند الذكاة ، فلا معنى لتعلّق الذكاة بتحليله ، فتعيّن أنّ المقصود بالاستثناء : المنخنقة ، والموقوذة ، والتمردّية ، والنطيحة ، وما أكل السبع ، فإنّ هذه المذكورات تعلّقت بها أحوال تفضي بها إلى الهلاك ، فإذا هلكت بتلك الأحوال لم يُبح أكلها لأنّها حينئذٍ ميْتة ، وإذا تداركوها بالذكاة قبل الفوات أبيح أكلها . والمقصود أنّها إذا ألحقت الذكاة بها في حالة هي فيها حيّة . وهذا البيان ينبّه إلى وجه الحصر في قوله تعالى : { قل لا أجدُ فيما أوحي إليّ محرّماً على طاعم يطعمه إلاّ أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنَّه رجْس أو فسقاً أهلّ لغير الله به } [ الأنعام : 145 ] . فذكر أربعة لا تعمل الذكاة فيها شيئاً ولم يذكرالمنخنقة والموقوذة وما عطف عليها هنا ، لأنّها تحرُم في حال اتّصال الموت بالسبب لا مطلقاً . فعَضّوا على هذا بالنواجذ .وللفقهاء في ضبط الحالة التي تعمل فيها الذكاة في هاته الخمس عبارات مختلفة : فالجمهور ذهبوا إلى تحديدها بأن يبقى في الحيوان رمق وعلامةُ حياة ، قبل الذبح أو النحر ، من تحريك عضو أو عين أو فم تحريكاً يدلّ على الحياة عرفاً ، وليس هو تحريك انطلاق الموت .وهذا قول مالك في «الموطّأ» ، ورواية جمهور أصحابه عنه . وعن مالك : أنّ المذكورات إذا بلغت مبلغاً أنْفِذَتْ معه مقاتلها ، بحيث لا ترجى حياتها لو تركت بلا ذكاة ، لا تصحّ ذكاتها ، فإن لم تنفذ مقاتلها عملت فيها الذكاة . وهذه رواية ابن القاسم عن مالك ، وهو أحد قولي الشافعي . ومن الفقهاء من قالوا : إنَّما ينظر عند الذبح أحيَّة هي أم ميّتة ، ولا ينظر إلى حالة هل يعيش مثلها لو تركت دون ذبح . وهو قول ابن وهب من أصحاب مالك ، واختاره ابن حبيب ، وأحد قولين للشافعي . ونفس الاستثناء الواقع في الآية يدلّ على أنّ الله رخّص في حالة هي محلّ توقّف في إعمال الذكاة ، أمَّا إذا لم تُنْفَذ المقاتل فلا يخفى على أحد أنّه يباح الأكل ، إذ هو حينئذٍ حيوان مرضوض أو مجروح ، فلا يحتاج إلى الإعلام بإباحة أكله بذكاة ، إلاّ أنّ يقال : إنّ الاستثناء هنا منقطع بمعنى لكن ، أي لكن كلوا ما ذكّيتم دون المذكورات ، وهو بعيد . ومن العلماء من جعل الاستثناء من قوله : { وما أكل السبع } على رأي من يجعل الاستثناء للأخيرة ، ولا وجه له إلاّ أن يكون ناظراً إلى غلبة هذا الصنف بين العرب ، فقد كانت السباع والذئاب تنتابهم كثيراً ، ويكثر أن يلحقوها فتترك أكيلتها فيدْركوها بالذكاة .{ وما ذُبح على النُصب } هو ما كانوا يذبحونه من القرابين والنُشُرات فوق الأنصاب . والنُصُب بضمّتين الحجر المنصوب ، فهو مفرد مراد به الجنس ، وقيل : هو جمع وواحده نِصاب ، ويقال : نَصْب بفتح فسكون { كأنّهم إلى نَصْب يوفضون } [ المعارج : 43 ] . وهو قد يطلق بما يرادف الصنم ، وقد يخصّ الصنم بما كانت له صورة ، والنصُب بما كان صخرة غير مصوّرة ، مثل ذي الخَلصة ومثل سَعْد . والأصحّ أنّ النصب هو حجارة غير مقصود منها أنَّها تمثال للآلهة ، بل هي موضوعة لأنّ تذبح عليها القرابين والنسائك التي يتقرّب بها للآلهة وللجنّ ، فإنّ الأصنام كانت معدودة ولها أسماء وكانت في مواضع معيّنة تقصد للتقرّب . وأمّا الأنصاب فلم تكن معدودة ولا كانت لها أسماء وإنَّما كانوا يتّخذها كلّ حَيّ يتقرّبون عندها ، فقد روى أيمَّة أخبار العرب : أنّ العرب كانوا يعظّمون الكعبة ، وهم ولد إسماعيل ، فلمّا تفرّق بعضهم وخرجوا من مكة عظم عليهم فراق الكعبة فقالوا : الكعبةُ حجر ، فنحن ننصب في أحيائنا حجارة تكون لنا بمنزلة الكعبة ، فنصبوا هذه الأنصاب ، وربما طافوا حولها ، ولذلك يسمّونها الدّوار بضمّ الدال المشدّدة وبتشديد الواو ويذبحون عليها الدماء المتقرّب بها في دينهم . وكانوا يطلبون لذلك أحسن الحجارة .وعن أبي رجاء العطاردي في «صحيح البخاري» : كنّا نعبد الحجر فإذا وجدنا حجراً خيراً منه ألقينا الأوّل وأخذنا الآخر فإذا لم نجد حجراً ( أي في بلاد الرمل ) جمعنا جُثوة من تراب ثم جئنا بالشاة فحلبناها عليه ليصير نظير الحجر ثمّ طفنا به .فالنصب : حجارة أعدّت للذبح وللطواف على اختلاف عقائد القبائل : مِثل حجر الغَبْغَببِ الذي كان حول العُزّى . وكانوا يذبحون على الأنصاب ويشرّحون اللحم ويشوونه ، فيأكلون بعضه ويتركون بعضاً للسدنة ، قال الأعشى ، يذكر وصايا النبي صلى الله عليه وسلم في قصيدته التي صنعها في مدحه :وذا النُصُبَ المَنْصُوب لا تَنْسُكَنَّه ... وقال زيد بن عَمْرو بن نفيل للنبيء صلى الله عليه وسلم قبلَ البعثة ، وقد عرض عليه الرسولُ سُفرة ليَأكل معه في عكاظ : { إنّي لا آكل ممّا تذبَحُون على أنصابكم } . وفي حديث فتح مكَّة : كان حول البيت ثلاثمائة ونيّف وستّون نصباً ، وكانوا إذا ذبحوا عليها رشّوها بالدم ورشّوا الكعبة بدمائهم . وقد كان في الشرائع القديمة تخصيص صخور لذبح القرابين عليها ، تمييزاً بين ما ذُبِح تديّناً وبين ما ذبح للأكل ، فمن ذلك صخرة بيت المقدس ، قيل : إنَّها من عهد إبراهيم وتحتها جبّ يعبّر عنها ببئر الأرواح ، لأنَّها تسقط فيها الدماء ، والدمُ يسمّى رُوحاً . ومن ذلك فيما قيل : الحجر الأسود كان على الأرض ثم بناه إبراهيم في جدر الكعبة . ومنها حجر المقام ، في قول بعضهم . فلما اختلطت العقائد في الجاهلية جعلوا هذه المذابح لذبح القرابين المتقرّب بها للآلهة وللجنّ . وفي «البخاري» عن ابن عباس : النصُب : أنصاب يذبحون عليها . قلت : ولهذا قال الله تعالى : { وما ذبح على النصب } بحرف ( على ) ، ولم يقل وما ذبح للنُصب لأنّ الذبيحة تقصد للأصنام والجنّ ، وتذبح على الأنصاب ، فصارت الأنصاب من شعائر الشرك .ووجه عطف { وما ذُبح على النصب } على المحرّمات المذكورة هنا ، مع أنّ هذه السورة نزلت بعد أن مضت سنين كثيرة على الإسلام وقد هجر المسلمون عبادة الأصنام ، أنّ في المسلمين كثيرين كانوا قريبي عهد بالدخول في الإسلام ، وهم وإن كانوا يعلمون بطلان عبادة الأصنام ، أوّل ما يعلمونه من عقيدة الإسلام ، فقد كانوا مع ذلك مدّةَ الجاهلية لا يختصّ الذبحُ على النصُب عندهم بذبائح الأصنام خاصّة ، بل يكون في ذبائح الجنّ ونحوها من النُشُرات وذبائح دفع الأمراض ودفع التابعة عن ولدانهم ، فقالوا : كانوا يستدفعون بذلك عن أنفسهم البرص والجذام ومسّ الجن ، وبخاصّة الصبيان ، ألا ترى إلى ما ورد في كتب السيرة : أنّ الطفيل بن عَمرو الدوْسي لمّا أسلم قبل الهجرة ورجع إلى قومه ودعَا امرأته إلى الإسلام قالت له : أتخشى على الصبية من ذي الشَّرَى ( صَنَممِ دوس ) . فقال : لا ، أنا ضامن ، فأسلمتْ ، ونحو ذلك ، فقد يكون منهم من استمرّ على ذبح بعض الذبائح على الأنصاب التي في قبائلهم على نيّة التداوي والانتشار ، فأراد الله تنبيههم وتأكيد تحريم ذلك وإشاعته .ولذلك ذِكر في صدر هذه السورة وفي آخرها عند قوله : { يأيها الذين آمنوا إنّما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجس من عمل الشيطان } [ المائدة : 90 ] الآيات .{ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بالازلام ذلكم فِسْقٌ } .الشأن في العطف التناسب بين المتعاطفات ، فلا جرم أنّ هذا المعطوف من نوع المتعاطفات التي قبله ، وهي المحرّم أكلها . فالمراد هنا النهي عن أكل اللحم الذي يستقسمون عليه بالأزلام ، وهو لحم جزور الميسر لأنّه حاصل بالمقامرة ، فتكون السين والتاء في { تستقسموا } مزيدتين كما هما في قولهم : استجاب واستراب . والمعنى : وأن تقسموا اللحم بالأزلام .ومن الاستقسام بالأزلام ضرب آخر كانوا يفعلونه في الجاهلية يتطلّبون به معرفة عاقبة فعل يريدون فعله : هل هي النجاح والنفع أو هي خيبة وضرّ؟ . وإذ قد كان لفظ الاستقسام يشمله فالوجه أن يكون مراداً من النهي أيضاً ، على قاعدة استعمال المشترك في معنييه ، فتكون إرادته إدماجاً وتكون السين والتاء للطلب ، أي طلب القِسم . وطلب القِسم بالكسر أي الحظّ من خير أو ضدّه ، أي طلب معرفته . كان العرب ، كغيرهم من المعاصرين ، مولَعين بمعرفة الاطِّلاع على ما سيقع من أحوالهم أو على ما خفي من الأمور المكتومة ، وكانوا يتوهّمون بأنّ الأصنام والجنّ يعلمون تلك المغيّبات فسوّلت سدنة الأصنام لهم طريقة يُموّهون عليهم بها فجعلوا أزلاماً . والأزلام جمع زَلَم بفتحتين ويقال له : قدح بكسر القاف وسكون الدال وهو عود سهم لا حديدة فيه .وكيفية استقسام الميسر : المقامرة على أجزاء جزور ينحرونه ويتقامرون على أجزائه ، وتلك عشرة سهام تقدّم الكلام عليها عند قوله تعالى : { يسألونك عن الخمر والميسر } الآية في سورة البقرة ( 219 ) . وكان مقتضى الظاهر أن يقال : وما استقسمتم عليه بالأزلام ، فغيّر الأسلوب وعُدل إلى وأن تستقسموا بالأزلام } ، ليكون أشمل للنهي عن طريقتي الاستقسام كلتيهما ، وذلك إدماج بديع .وأشهر صور الاستقسام ثلاثة قداح : أحدها مكتوب عليه «أمرني ربّي» ، وربما كتبوا عليه «افْعَلْ» ويسمّونه الآمر . والآخرُ : مكتوب عليه «نَهاني ربّي» ، أو «لا تَفْعَلْ» ويسمّونه الناهي . والثالث : غُفْل بضم الغين المعجمة وسكون الفاء أخت القاف أي متروك بدون كتابة . فإذا أراد أحدهم سَفراً أو عملاً لا يدري أيكون نافعاً أم ضارّاً ، ذهب إلى سادن صنمهم فأجال الأزلامَ ، فإذا خرج الذي عليه كتابة ، فعلوا ما رَسَم لهم ، وإذا خرج الغُفْل أعادوا الإجالة . ولمّا أراد امرؤُ القيس أن يقوم لأخذ ثار أبيه حُجْر ، استقسم بالأزلام عند ذي الخَلَصة ، صنم خَثْعَم ، فخرج له الناهي فكسر القِداح وقال :لو كنتَ ياذا الخَلَص الموتورا ... مِثْلي وكان شيخُك المقبورالم تَنْهَ عن قَتْللِ العُداة زُورا ... وقد ورد ، في حديث فتح مكة : أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد صورة إبراهيم يستقسم بالأزلام فقال : " كذَبوا والله إننِ استقسمَ بها قطّ "وهم قد اختلقوا تلك الصورة ، أو توهّموها لذلك ، تنويهاً بشأن الاستقسام بالأزلام ، وتضليلاً للناس الذين يجهلون . وكانت لهم أزلام أخرى عند كلّ كاهن من كهانهم ، ومن حكّامهم ، وكان مِنها عند ( هُبَل ) في الكعبة سبعة قد كتبوا على كلّ واحد شيئاً من أهمّ ما يَعْرِض لهم في شؤونهم ، كتبوا على أحدها العقل في الديَة ، إذا اختلفوا في تعيين من يحمل الدية منهم؛ وأزلام لإثبات النسب ، مكتوب على واحد «منكم» ، وعلى واحد «من غَيْركم» ، وفي آخر «مُلْصَق» . وكانت لهم أزلام لإعطاء الحقّ في المياه إذا تنازعوا فيها . وبهذه استقسم عبد المطلب حين استشار الآلهة في فداء ابنه عبد الله من النَّذْر الذي نذره أن يَذبحه إلى الكعبة بعشرة من الإبل ، فخرج الزلم على عبد الله فقالوا له : أرض الآلهة فزاد عشرة حتّى بلغ مائة من الإبل فخرج الزّلم على الإبل فنحرها . وكان الرجل قد يتّخذ أزلاماً لنفسه ، كما ورد في حديث الهجرة «أنّ سُراقة ابنَ مالك لمّا لحق النبي صلى الله عليه وسلم ليأتي بخبره إلى أهل مكة استقسم بالأزلام فخرج له ما يكره» .والإشارة في قوله : { ذلكم فسق } راجعة إلى المصدر وهو { أن تستقسموا } . وجيء بالإشارة للتنبيه عليه حتّى يقع الحكم على متميّز معيّن .والفسق : الخروج عن الدين ، وعن الخير ، وقد تقدّم عند قوله تعالى : { وما يضلّ به إلاّ الفاسقين } في سورة البقرة ( 26 ) .وجعل الله الاستقسام فسقاً لأنّ منه ما هو مقامرة ، وفيه ما هو من شرائع الشرك ، لتطلّب المسبّبات من غير أسبابها ، إذ ليس الاستقسام سبباً عاديّاً مضبوطاً ، ولا سبباً شرعيّاً ، فتمحّض لأن يكون افتراء ، مع أنّ ما فيه من توهّم الناس إيّاه كاشفاً عن مراد الله بهم ، من الكذب على الله ، لأنّ الله نصب لمعرفة المسبّبات أسباباً عقليّة : هي العلوم والمعارف المنتزعة من العقل ، أو من أدلّته ، كالتجربة ، وجعل أسباباً لا تعرف سببيتها إلاّ بتوقيف منه على لسان الرّسل : كجعل الزوال سبباً للصّلاة . وما عدا ذلك كذب وبهتان ، فمن أجل ذلك كان فسقاً ، ولذلك قال فقهاؤنا بجرحة من ينتحل ادّعاء معرفة الغيوب .وليس من ذلك تعرّف المسبّبات من أسبابها كتعرّف نزول المطر من السحاب ، وترقّب خروج الفرخ من البيضة بانقضاء مدّة الحضانة ، وفي الحديث إذا نشأت بَحْرِيَّة ثم تشاءَمَتْ فتلكَ عين غُدَيْقَة أي سحابة من جهة بحرهم ، ومعنى عين أنها كثيرة المطر . وأمَّا أزلام الميسر ، فهي فسْق ، لأنَّها من أكل المال بالباطل .اليوم يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ واخشون } .جملة وقعت معترضة بين آية المحرّمات المتقدّمة ، وبين آية الرخصة الآتِيَة : وهي قوله : { فمن اضطرّ في مخمصة } لأنّ اقتران الآية بفاء الفريع يقضي باتّصالها بما تقدّمها . ولا يصلح للاتّصال بها إلاّ قوله : { حرّمت عليكم الميتة } الآية .والمناسبة في هذا الاعتراض : هي أنّ الله لمّا حرّم أموراً كان فعلها من جملة دين الشرك ، وهي ما أهِلّ لغير الله به ، وما ذبح على النصب ، وتحريم الاستقسام بالأزلام ، وكان في كثير منها تضييق عليهم بمفارقة معتادهم ، والتقليل من أقواتهم ، أعقب هذه الشدّة بإيناسهم بتذكير أنّ هذا كلّه إكمال لدينهم ، وإخراج لهم من أحوال ضلال الجاهلية ، وأنَّهم كما أُيِّدوا بدين عظيم سَمْح فيه صلاحهم ، فعليهم أن يقبلوا ما فيه من الشدّة الراجعة إلى إصلاحهم : فالبعض مصلحته راجعة إلى المنافع البدنية ، والبعض مصلحتهُ راجعة إلى الترفّع عن حَضِيض الكفر : وهو ما أهلّ به لِغير الله ، وما ذُبح على النُصُب . والاستقسامُ بالأزلام أذكرهم بفوزهم على من يناويهم ، وبمحاسن دينهم وإكماله ، فإنّ من إكمال الإصلاح إجرَاء الشدّة عند الاقتضاء . وذُكّروا بالنعمة ، على عادة القرآن في تعقيب الشدّة باللين . وكان المشركون ، زماناً ، إذا سمعوا أحكام الإسلام رجَوا أن تثقل على المسلمين فيرتدّوا عن الدّين ، ويرجعوا إلى الشرك ، كما قال المنافقون { لا تُنفقوا على مَن عند رسول الله حتّى يَنْفَضّوا } [ المنافقون : 7 ] . فلمّا نزلت هذه الأحكام أنزل الله هذه الآية : بشارة للمؤمنين ، ونكاية بالمشركين . وقد روي : أنَّها نزلت يوم فتح مكة ، كما رواه الطبري عن مجاهد ، والقرطبي عن الضحّاك . وقيل : نزلت يوم عرفة في حجّة الوداع مع الآية التي ستأتي عقبها . وهْو ما رواه الطبري عن ابن زيد وجمع ، ونسبه ابن عطِيّة إلى عمر بن الخطاب وهو الأصحّ .ف { اليوم } يجوز أن يُراد به اليوم الحاضر ، وهو يوم نزول الآية ، وهو إن أريد به يوم فتح مكة ، فلا جرم أنّ ذلك اليوم كان أبهج أيّام الإسلام ، وظهر فيه من قوّة الدين ، بين ظهراني من بقي على الشرك ، ما أيْأسَهم من تقهقر أمر الإسلام ، ولا شكّ أنّ قلوب جميع العرب كانت متعلّقة بمكة وموسم الحجّ ومناسكه : التي كانت فيها حياتهم الاجتماعية والتجارية والدينية والأدبية ، وقوام شؤونهم ، وتعارفهم ، وفصل نزاعهم ، فلا جرم أن يكون انفراد المسلمين بتلك المواطن قاطعاً لبقية آمالهم : من بقاء دين الشرك ، ومن محاولة الفتّ في عضد الإسلام . فذلك اليوم على الحقيقة : يوم تمام اليأس وانقطاع الرجاء ، وقد كانوا قبل ذلك يعاودهم الرجاء تارة . فقد قال أبو سفيان يوم أحد «أعْلُ هُبَل وقال لنا العُزّى ولا عُزّى لكم» . وقال صفوان بن أمية أو أخوه ، يوم هوازن ، حين انكشف المسلمون وظنّها هزيمة للمسلمين : «ألا بطل السحر اليوم» .وكان نزول هذه الآية يوم حجّة الوداع مع الآية التي بعدها ، كما يؤيّده قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته يومئذٍ في قول كثير من أصحاب السير " أيها الناس إنّ الشيطان قد يَئِس أن يُعبد في بلدكم هذا ولكنه قد رضي منكم بما دون ذلك فيما تَحْقرون من أعمالكم فاحذروه على أنفسكم "و { اليوم } يجوز أن يراد به يوم معين ، جدير بالامتنان بزمانه ، ويجوز أن يجعل ( اليومَ ) بمعنى الآن ، أي زمان الحال ، الصادق بطائفة من الزمان ، رَسخ اليأس ، في خلالها ، في قلوب أهل الشرك بعد أن خامر نفوسهم التردّد في ذلك ، فإنّ العرب يطلقون ( اليوم ) على زمن الحال ، ( والأمس ) على الماضي ، و ( الغَد ) على المستقبل . قال زهير :وأعْلَمُ عِلم اليوممِ والأمسسِ قبلَه ... ولكِنَّنِي عن عِلممِ مَا في غد عَمِييريد باليوم زمان الحال ، وبالأمس ما مضى ، وَبالغد ما يستقبل ، ومنه قول زياد الأعجم :رأيتُك أمسسِ خيرَ بني مَعَدّ ... وأنتَ اليوم خيرُ منكَ أمسِوأنت غَدا تزيد الخير خيراً ... كذاكَ تزيد سادةُ عبدِ شمسوفعل { يئس } يتعدّى ب ( مِن ) إلى الشيء الذي كان مرجوّاً من قبلُ ، وذلك هو القرينة على أنّ دخول ( من ) التي هي لتعدية { يئس } على قوله { دينِكم } ، إنّما هو بتقدير مضاف ، أي يئسوا من أمر دينكم ، يعني الإسلام ، ومعلوم أنّ الأمر الذي كانوا يطمعون في حصوله : هو فتور انتشار الدين وارتداد متّبعيه عنه .وتفريع النهي عن خشية المشركين في قوله : { فلا تَخشَوْهم } على الإخبار عن يأسهم من أذى الدين : لأنّ يأس العدوّ من نوال عدوّه يزيل بأسه ، ويذهب حماسه ، ويقعده عن طلب عدوّه . وفي الحديث : «ونُصِرْتُ بالرّعْب» . فلمَّا أخبر عن يأسهم طمّن المسلمين من بأس عدوّهم ، فقال : { فلا تخشوهم واخشون } أو لأنّ اليأس لمَّا كان حاصلاً من آثار انتصارات المسلمين ، يوماً فيوماً ، وذلك من تأييد الله لهم ، ذكَّر الله المسلمين بذلك بقوله : { اليومَ يئس الذين كفروا من دينكم } ، وإنّ فريقاً لم يغن عنهم بأسهم من الله شيئاً لأحرياء بأن لا يُخشى بأسهم ، وأن يُخشى مَن خَذَلهم ومكّن أولياءه منهم .وقد أفاد قوله : { فلا تخشوهم واخشون } مفاد صيغة الحصر ، ولو قيل : فإيّاي فاخشون لجرى على الأكثر في مقام الحصر ، ولكن عُدل إلى جملتي نفي وإثبات : لأنّ مفاد كلتا الجملتين مقصود ، فلا يحسن طيّ إحداهما . وهذا من الدواعي الصارفة عن صيغة الحصر إلى الإتيان بصيغتي إثبات ونفي ، كقول السموأل أو عبد الملك بن عبد الرحيم الحارثيّ :تَسيل على حدّ الظّبَاتتِ نفوسنا ... ولَيْسَتْ على غير الظُبات تسيلونظيره قوله الآتي { فلا تَخْشُوْا الناسَ واخشَون } [ المائدة : 44 ] .{ اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسلام دِيناً } .إن كانت آية { اليوم أكملت لكم دينكم } نزَلت يوم حجّة الوداع بعد آية { اليوم يئس الذين كفروا من دينكم } بنحو العامين ، كما قال الضحّاك ، كانت جملة مستقلّة ، ابتدائية ، وكان وقوعها في القرآن ، عقب التي قبلها ، بتوقيف النبي صلى الله عليه وسلم بجمعها مع نظيرها في إكمال أمر الدّين ، اعتقاداً وتشريعاً ، وكان اليوم المعهود في هذه غير اليوم المعهود في التي قبلها وإن كانتا نزلتا معاً يومَ الحجّ الأكبر ، عام حجّة الوداع ، وهو ما رواه الطبري عن ابن زيد وآخرين .وفي كلام ابن عطيّة أنَّه منسوب إلى عمر بن الخطّاب ، وذلك هو الراجح الذي عَوّل عليه أهل العلم وهو الأصل في موافقة التلاوة للنزول ، كان اليومُ المذكور في هذه وفي التي قبلها يوماً واحداً ، وكانت هذه الجملة تعداداً لمنّة أخرى ، وكان فصلُها عن التي قبلها جارياً على سنن الجمل التي تساق للتعداد في منَّة أو توبيخ ، ولأجل ذلك : أعيد لفظ { اليوم } ليتعلّق بقوله { أكملت } ، ولم يستغن بالظرف الذي تعلّق بقوله : { يَئِسَ } فلم يقل : وأكملت لكم دينكم .والدّين : ما كلف الله به الأمّة من مجموع العقائد ، والأعمال ، والشرائع ، والنظم . وقد تقدّم بيان ذلك عند قوله تعالى : { إنّ الدين عند الله الإسلام } في سورة آل عمران ( 19 ) . فإكمال الدين هو إكمال البيان المراد لله تعالى الذي اقتضت الحكمة تنجيمه ، فكان بعد نزول أحكام الاعتقاد ، التي لا يسع المسلمين جهلها ، وبعد تفاصيل أحكام قواعد الإسلام التي آخرها الحجّ بالقول والفعل ، وبعد بيان شرائع المعاملات وأصول النظام الإسلامي ، كان بعد ذلك كلّه قد تمّ البيان المراد لله تعالى في قوله : { ونزّلنا عليك الكتاب تبياناً لكلّ شيء } [ النحل : 89 ] وقوله : { لتبيّن للناس ما نزّل إليهم } [ النحل : 44 ] بحيث صار مجموع التشريع الحاصل بالقرآن والسنّة ، كافياً في هدي الأمّة في عبادتها ، ومعاملتها ، وسياستها ، في سائر عصورها ، بحسب ما تدعو إليه حاجاتها ، فقد كان الدين وافياً في كلّ وقت بما يحتاجه المسلمون . ولكن ابتدأتْ أحوال جماعة المسلمين بسيطة ثمّ اتّسعت جامعتهم ، فكان الدين يكفيهم لبيان الحاجات في أحوالهم بمقدار اتّساعها ، إذ كان تعليم الدين بطريق التدريج ليتمكّن رسوخُه ، حتّى استكملت جامعة المسلمين كلّ شؤون الجوامع الكبرى ، وصاروا أمّة كأكمل ما تكون أمّة ، فكمل من بيان الدين ما به الوفاء بحاجاتهم كلّها ، فذلك معنى إكمال الدين لهم يومئذٍ . وليس في ذلك ما يشعر بأنّ الدين كان ناقصاً ، ولكن أحوال الأمّة في الأمَمِيَّة غير مستوفاة ، فلمّا توفّرتْ كمل الدين لهم فلا إشكال على الآية . وما نزل من القرآن بعد هذه الآية لعلّه ليس فيه تشريع شيء جديد ، ولكنَّه تأكيد لما تقرّر تشريعه من قبل بالقرآن أو السنّة .فما نجده في هذه السورة من الآيات ، بعد هذه الآية ، ممّا فيه تشريع أنف مثل جزاء صيد المحرم ، نجزم بأنَّها نزلت قبل هذه الآية وأنّ هذه الآية لمّا نزلت أمر بوضعها في هذا الموضع . وعن ابن عباس : لم ينزل على النبي بعد ذلك اليوم تحليل ولا تحريم ولا فرض . فلو أنّ المسلمين أضاعوا كلّ أثارة من علم والعياذ بالله ولم يبق بينهم إلاّ القرآن لاستطاعوا الوصول به إلى ما يحتاجونه في أمور دينهم . قال الشاطبي : «القرآن ، مع اختصاره ، جامع ولا يكون جامعاً إلاّ والمجموع فيه أمور كلّية ، لأنّ الشريعة تمّت بتمام نزوله لقوله تعالى : { اليوم أكملت لكم دينكم } ، وأنت تعلم : أنّ الصلاة ، والزكاة ، والجهاد ، وأشباه ذلك ، لم تبيّن جميع أحكامها في القرآن ، إنَّما بيّنتها السُنَّة ، وكذلك العاديّات من العقود والحدود وغيرها ، فإذا نظرنا إلى رجوع الشريعة إلى كليّاتها المعنويَّة ، وجدناها قد تضمّنها القرآن على الكمال ، وهي : الضروريّات ، والحاجيات ، والتحسينات وَمُكمل كلّ واحد منها ، فالخارج عن الكتاب من الأدلّة : وهو السنّة ، والإجماع ، والقياس ، إنَّما نشأ عن القرآن وفي الصحيح عن ابن مسعود أنَّه قال : «لَعَن الله والوَاشمَات والمستوشمات والواصلات والمستوصلات والمنتمصات للحسن المغيِّرات خلقَ الله» فبلغ كلامه امرأة من بني أسد يقال لها : أم يعقوب ، وكانت تقرأ القرآن ، فأتته فقالت : «لعنتَ كذا وكذا» فذكرَتْه ، فقال عبد الله : «وما لِي لا ألعن مَن لعنَ رسولُ الله وهو في كتاب الله» ، فقالت المرأة : «لقد قرأت ما بين لَوْحَي المصحف ، فما وجدتُه» ، فقال : «لئن كنتتِ قرأتيه لقد وجدتيه» : قال الله تعالى :{ وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } [ الحشر : 7 ] » اه .فكلام ابن مسعود يشير إلى أنّ القرآن هو جامع أصول الأحكام ، وأنّه الحجّة على جميع المسلمين ، إذ قد بلغ لجميعهم ولا يسعهم جهل ما فيه ، فلو أنّ المسلمين لم تكن عندهم أثارة من علم غير القرآن لكفاهم في إقامة الدين ، لأنّ كلّيّاته وأوامره المفصّلة ظاهرة الدلالة ، ومجملاته تبعث المسلمين على تعرّف بيانها من استقراء أعمال الرسول وسلف الأمّة ، المتلقّين عنه ، ولذلك لمّا اختلف الأصحاب في شأن كتابة النبي لهم كتاباً في مرضه قال عمر : حسبنا كتاب الله ، فلو أنّ أحداً قصر نفسه على علم القرآن فوجد { أقيموا الصلاة } [ البقرة : 43 ] و { آتوا حقّه يوم حصاده } [ الأنعام : 141 ] و { كُتب عليكم الصيام } [ البقرة : 183 ] و { أتِمّوا الحجّ والعمرة لله } [ البقرة : 196 ] ، لتطلّب بيان ذلك ممّا تقرّر من عمل سلف الأمّة ، وأيضاً ففي القرآن تعليم طرق الاستدلال الشرعية كقوله : { لَعَلِمَهُ الذين يستنبطونه منهم } [ النساء : 83 ] .فلا شكّ أنّ أمر الإسلام بدىء ضعيفاً ثم أخذ يظهر ظهورَ سنا الفجر ، وهو في ذلك كلّه دين ، يبيّن لأتباعه الخير والحرام والحلال ، فما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاّ وقد أسلم كثير من أهل مكَّة ، ومعظم أهل المدينة ، فلمّا هاجر رسول الله أخذ الدين يظهر في مظهر شريعة مستوفاة فيها بيان عبادة الأمّة ، وآدابها ، وقوانين تعاملها ، ثم لمّا فتح الله مكة وجاءت الوفود مسلمين ، وغلب الإسلام على بلاد العرب ، تمكّن الدين وخدمتْه القوةُ ، فأصبح مرهوباً بأسُه ، ومَنع المشركين من الحجّ بعد عام ، فحجّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عام عشرة وليس معه غير المسلمين ، فكان ذلك أجلى مظاهر كمال الدين : بمعنى سلطان الدين وتمكينه وحفظه ، وذلك تَبيَّن واضحاً يومَ الحجّ الذي نزلت فيه هذه الآية .لم يكن الدين في يوم من الأيام غير كاف لأتباعه : لأنّ الدين في كلّ يوم ، من وقت البعْثة ، هو عبارة عن المقدار الذي شرعه الله للمسلمين يوماً فيوماً ، فمن كان من المسلمين آخذاً بكلّ ما أنزل إليهم في وقت من الأوقات فهو متمسّك بالإسلام ، فإكمال الدين يوم نزول الآية إكمال له فيما يُراد به ، وهو قبل ذلك كامل فيما يراد من أتباعه الحاضرين .وفي هذه الآية دليل على وقوع تأخير البيان إلى وقت الحاجة . وإذا كانت الآية نازلة يوم فتح مكة ، كما يُروى عن مجاهد ، فإكمال الدين إكمال بقية ما كانوا محرومين منه من قواعد الإسلام ، إذ الإسلام قد فسّر في الحديث بما يشمل الحجّ ، إذ قد مكّنهم يومئذٍ من أداء حجّهم دون معارض ، وقد كمل أيضاً سلطان الدين بدخول الرسول إلى البلد الذي أخرجوه منه ، ومكّنه من قلب بلاد العرب . فالمراد من الدين دين الإسلام وإضافته إلى ضمير المسلمين لتشريفهم بذلك .ولا يصحّ أن يكون المراد من الدين القرآن : لأنّ آيات كثيرة نزلت بعد هذه الآية ، وحسبك من ذلك بقيّة سورة المائدة وآية الكلالة ، التي في آخر النساء ، على القول بأنَّها آخر آية نزلت ، وسورة { إذا جاء نصر الله } [ النصر : 1 ] كذلك ، وقد عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول آية { اليوم أكملت لكم دينكم } نحواً من تسعين يوماً ، يوحى إليه . ومعنى ( اليوم ) في قوله : { اليوم أكملت لكم دينكم } نظير معناه في قوله : { اليوم يئس الذين كفروا من دينكم .وقوله : وأتممت عليكم نعمتي } إتمام النعمة : هو خلوصها ممّا يخالطها : من الحرج ، والتعب . وظاهره أنّ الجملة معطوفة على جملة { أكملت لكم دينكم } فيكون متعلَّقاً للظرف وهو اليوم ، فيكون تمام النعمة حاصلاً يوم نزول هذه الآية . وإتمام هذه النعمة هو زوال ما كانوا يلقونه من الخوف فمكّنهم من الحج آمين ، مؤمنين ، خالصين ، وطوّع إليهم أعداءهم يوم حجّة الوداع ، وقد كانوا من قبل في نعمة فأتمّها عليهم ، فلذلك قيّد إتمام النعمة بذلك اليوم ، لأنّه زمان ظهور هذا الإتمام : إذ الآية نازلة يوم حجّة الوداع على أصحّ الأقوال ، فإن كانت نزلت يوم فتح مكة ، وإن كان القول بذلك ضعيفاً ، فتمام النعمة فيه على المسلمين : أنْ مكّنهم من أشدّ أعدائهم ، وأحرصهم على استئصالهم ، لكن يناكده قوله : { أكملت لكم دينكم } إلاّ على تأويلات بعيدة .وظاهر العطف يقتضي : أنّ تمام النعمة منَّة أخرى غير إكمال الدين ، وهي نعمة النصر ، والأخوّة ، وما نالوه من المغانم ، ومن جملتها إكمال الدين ، فهو عطف عامّ على خاصّ . وجوّزوا أن يكون المراد من النعمة الدّين ، وإتمامها هو إكمال الدين ، فيكون مفاد الجملتين واحداً ، ويكون العطف لمجرّد المغايرة في صفات الذات ، ليفيد أنّ الدين نعمة وأنّ إكماله إتمام للنعمة؛ فهذا العطف كالذي في قول الشاعر أنشده الفرّاء في «معاني القرآن» :إلى الملك القرم وابننِ الهما ... م وليثثِ الكتيبة في المُزْدَحَمْوقوله : { ورضيت لكم الإسلام ديناً } الرضى بالشيء الرّكون إليه وعدم النفرة منه ، ويقابله السخط : فقد يرضى أحد شيئاً لنفسه فيقول : رضيتُ بكذا ، وقد يرضى شيئاً لغيره ، فهو بمعنى اختياره له ، واعتقاده مناسبته له ، فيعدّى باللام : للدلالة على أنّ رضاه لأجل غيره ، كما تقول : اعتذرت له . وفي الحديث " إنّ الله يرضى لكم ثلاثاً " ، وكذلك هنا ، فلذلك ذكر قوله : { لكم } وعُدّي { رَضيت } إلى الإسلام بدون الباء . وظاهر تناسق المعطوفات : أنّ جملة { رضيت } معطوفة على الجملتين اللتين قبلها ، وأنّ تعلّق الظرف بالمعطوف عليه الأول سار إلى المعطوفين ، فيكون المعنى : ورضيت لكم الإسلام ديناً اليومَ . وإذ قد كان رضي الإسلام ديناً للمسلمين ثابتاً في علممِ الله ذلك اليومَ وقبلَه ، تعيّن التأويل في تعليق ذلك الظرف ب { رضيت } ؛ فتأوّله صاحب «الكشاف» بأنّ المعنى : آذنتكم بذلك في هذا اليوم ، أي أعلمتكم : يعني أي هذا التأويل مستفاد من قوله { اليوم } ، لأنّ الذي حصل في ذلك اليوم هو إعلان ذلك ، والإيذان به ، لا حصول رضى الله به ديناً لهم يومئذٍ ، لأنّ الرضى به حاصل من قبل ، كما دلّت عليه آيات كثيرة سابقة لهذه الآية . فليس المراد أنّ «رضيت» مجاز في معنى «أذنت» لعدم استقامة ذلك : لأنّه يزول منه معنَى اختيار الإسلام لهم ، وهو المقصود ، ولأنَّه لا يصلح للتعدّي إلى قوله : { الإسلام } . وإذا كان كذلك فدلالة الخبر على معنى الإيذان من دلالته على لازم من لوازم معناه بالقرينة المعيّنة ، فيكون من الكناية في التركيب . ولو شاء أحد أن يجعل هذا من استعمال الخبر في لازم الفائدة ، فكما استعمل الخبر كثيراً في الدلالة على كون المخبِر عالماً به ، استعمل هنا في الدلالة على الإعلام وإعلانه .وقد يدلّ قوله : { ورضيت لكم الإسلام ديناً } على أنّ هذا الدين دين أبَدي : لأنّ الشيء المختار المدّخر لا يكون إلاّ أنفس ما أُظهر من الأديان ، والأنفس لا يبطله شيء إذ ليس بعده غاية ، فتكون الآية مشيرة إلى أنّ نسخ الأحكام قد انتهى .{ فَمَنِ اضطر فِى مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .وجود الفاء في صدر هذه الجملة ، مع عدم مناسبة ما بعد الفاء لما وَليتْه ، يعيِّن أن تكون متّصلة ببعض الآي التي سبقت ، وقد جعلها المفسّرون مرتبطة بآية تحريم الميتة وما عطف عليها من المأكولات ، من غير تعرّض في كلامهم إلى انتظام نظم هذه الآية مع التي قبلها . وقد انفرد صاحب «الكشاف» ببيان ذلك فجعل ما بين ذلك اعتراضاً .ولا شكّ أنّه يَعنِي باتّصال هذه الجملة بما قبلها : اتّصال الكلام الناشىء عن كلام قبله ، فتكون الفاء عنده للفصيحة ، لأنَّه لمّا تضمَّنت الآيات تحريم كثير ممَّا كانوا يقتاتونه ، وقد كانت بلاد العرب قليلة الأقوات ، معرّضة للمخمصة : عند انحباس الأمطار ، أو في شدّة كَلَب الشتاء ، فلم يكن عندهم من صنوف الأطعمة ما يعتاضون ببعضه عن بعض ، كما طفحت به أقوال شعرائهم .فلا جرم أن يكون تحريم كثير من معتاد طعامهم مؤذناً بتوقّععٍ منهم أن يفضي ذلك إلى امتداد يد الهلاك إليهم عند المخمصة ، فناسب أن يفصح عن هذا الشرط المعرب عن أحوالهم بتقدير : فإن خشيتم الهلاك في مخمصة فمن اضطرّ في مخمصة الخ . ولا تصلح الفاء على هذا الوجه للعطف : إذ ليس في الجمل السابقة من جمل التحريم ما يصلح لعطف «من اضطرّ في مخمصة» عليه .والأحسن عندي أن يكون موقع { فمن اضطرّ في مخمصة } متّصلاً بقوله : { ورضيت لكم الإسلام ديناً } ، اتّصال المعطوف بالمعطوف عليه ، والفاء للتفريع : تفريع منّة جزئيّة على منّة كلّيّة ، وذلك أنّ الله امتَنّ في هذه الجمل الثلاث بالإسلام ثلاث مرّات : مرّة بوصفه في قوله { دينكم } ، ومرّة بالعموم الشامل له في قوله : { نعمتي } ، ومرّة باسمه في قوله : { الإسلام } ؛ فقد تقرّر بينهم : أنّ الإسلام أفضل صفاته السماحة والرفق ، من آيات كثيرة قبل هذه الآية ، فلمّا علمَهم يوجسون خيفة الحاجة في الأزمات بعد تحريم ما حرّم عليهم من المطعومات ، وأعقب ذلك بالمنّة ثم أزال عقب ذلك ما أوجسوه من نفوسهم بقوله : { فمن اضطر } الخ؛ فناسب أن تعطف هاته التوسعة ، وتفرّع على قوله : { ورضيتُ لكم الإسلام ديناً } وتُعَقَّب المنّة العامّة بالمنّة الخاصّة .والاضطرار : الوقوع في الضرورة ، وفعله غلب عليه البناء للمجهول ، وقد تقدّم بيانه عند قوله تعالى : { ثم اضطرّه إلى عذاب النار } في سورة البقرة ( 126 ) .والمخمصة : المجاعة ، اشتقّت من الخَمَص وهو ضمور البطن ، لأنّ الجوع يضمر البطون ، وفي الحديث تغدو خِماصاً فتروح بِطَاناً .والتجانف : التمايل ، والجَنَف : الميل ، قال تعالى : { فمن خَاف من موص جَنَفَا } [ البقرة : 182 ] الآية . والمعنى أنّه اضطرّ غير مائل إلى الحرام من أخذ أموال الناس ، أو من مخالفة الدين . وهذه حال قصد بها ضبط حالة الاضطرار في الإقدام والإحجام ، فلا يقدم على أكل المحرّمات إذا كان رائماً بذلك تناولها مع ضعف الاحتياج ، ولا يحجم عن تناولها إذا خشي أن يتناول ما في أيدي الناس بالغصْب والسرقة ، وهذا بمنزلة قوله : { فمن اضطرّ غير باغ ولا عاد } [ البقرة : 173 ] ، أي غير باغ ولا عاد على الناس ولا على أحكام الدين .ووقع قوله : «فإنّ الله غفور رحيم» مغنياً عن جواب الشرط لأنّه كالعلّة له ، وهي دليل عليه ، والاستغناء بمثله كثير في كلام العرب وفي القرآن . والتقديرُ : فمن اضطُرّ في مخمصة غير متجَانف لإثم فلهُ تناول ذلك إنّ الله غفور ، كما قال في الآية نظيرتها { فمن اضطرّ غير باغ ولا عاد فَلا إثم عليه إنّ الله غفور رحيم } [ البقرة : 173 ] .
ٱلتَّفْسِيرُ ٱلْوَسِيط
Tafsir Al-Waseet —
علمائے جامعہ ازہر
ثم شرع - سبحانه - في بيان المحرمات التي أشار إليها قبل ذلك بقوله : ( إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ ) فبين ما يحرم أكله من الحيوان لأسباب معينة فقال - تعالى - :( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة والدم . . . )في هذه المحرمات يتلى في قوله - تعالى - : ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة ) . .والميتة كما يقول ابن جرير - كل ما له نفس - أي دم ونحوه - سائلة من دواب البر وطيره ، مما أباح الله أكلها . أهليها ووحشيها فارقتها روحها بغير تذكية .وقال : بعضهم : الميتة : هو كل ما فارقته الحياة من دواب البر وطيره بغير تذكية شرعية ، مما أحل الله أكله " أي : حرم الله عليكم - أيها المؤمنون - أكل الميتة لخبث لحمها ، ببقاء بعض المواد الضارة في جسمها .وقد أجمع العلماء على حرمة أكل الميتة ، أما شعرها وعظمها فقال الأحناف بطارتهما وبجواز الانتفاع بهما . وقال الشافعية بنجاستهما وبعدم جواز استعمالهما .وقد استثنى العلماء من الميتة المحرمة السمك والجراد . فقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث ابن أبي أوفي قال : " غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات نأكل الجراد " .وفيهما - أيضاً - من حديث جابر ، " إن البحر ألقى حوتاً ميتاً فأكل منه الجيش . فلما قدموا قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : فقال : " كلوا رزقاً أخرجه الله لكم : أطعمونا منه إن كان معكم . فأتاه بعضهم بشيء منه " .وعن ابن عمر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " أحل لنا ميتتان ودمان ، فأما الميتتان فالسمك والجراد . وأما الدمان فالكبد والطحال " .وثاني هذه المحرمات ما ذكره - سبحانه - في قوله : ( والدم ) أي : وحرم عليكم أكل الدم .والمراد به : الدم المسفوح . أي السائل من الحيوان عند التذكية . لقوله - تعالى - في آية أخرى ( أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً ) وهي خاصة . والآية التي معنا عامة . والخاص مقدم على العام .وكان أهل الجاهلية يجعلونه في الماعز ويشوونه ويأكلونه ، فحرمه الله - تعالى - لأنه يضر الأجسام . أما الدم الذي يكون جامداً بأصل خلقته كالكبد والطحال فإنه حلال كما جاء في حديث ابن عمر الذي سقناه منذ قليل .وثالث هذه المحرمات ما جاء في قوله - تعالى - ( وَلَحْمُ الخنزير ) أي : وحرم عليكم لحم الخنزير وكذلك شحمه وجلده وجميع أجزائه ، لأنهن مستقذر تعافه الفطرة ، وتتضرر به الأجسام .وخص لحم الخنزير بالذكر مع أن جميع أجزائه محرمة لأنه هو المقصود بالأكل قال ابن كثير ما ملخصه : وقوله - تعالى - : ( وَلَحْمُ الخنزير ) يعني إنسيه ووحشية ، واللحم يعم جميع أجزائه حتى الشحم . كما هو المفهوم من لغة العرب ، ومن العرف المطرد . . وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام . فقيل : يا رسول الله ، أرأيت شحوم الميتة فإنها تطلى بها السفن ، وتدهن بها الجلود . ويستصبح بها الناس؟ فقال : لا . هو حرام : ثم قال : قاتل الله اليهود . إن الله لما حرم شحومها جملوه - أي أذابوه - ثم باعوه فأكلوا ثمنه " .ورابع هذه المحرمات بينه - سبحانه - بقوله : ( وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ ) .الإِهلال : رفع الصوت عند رؤية الهلال ثم استعمل لرفع الصوت مطلقاً . ومنه : إهلال الصبي أي : صراخه بعد ولادته ، والإِهلال بالحج أي رفع الصوت بالتلبية .وكانوا في الجاهلية إذا أرادوا ذبح ما قربوه إلى آلهتهم ، سموا عليها أسماءها - كاللات والعزى - ورفعوا بها أصواتهم ، وسمي ذلك إهلالا . ثم توسع فيه فقيل لكل ذابح : مهل سمي أو لم يسم . جهر بالتسمية أو لم يجهر .والمعنى : وحرم عليكم - سبحانه - أن تأكلوا مما ذبح فذكر عليه عند ذبحه غير اسم الله - تعالى - سواء اقتصر على ذكر غيره كقوله عند الذبح باسم الصنم فلان ، أو باسم المسيح أو عزير أو فلان ، أو جمع بين ذكر الله وذكر غيره بالعطف عليه كقوله : باسم الله واسم فلان .أما إذا جمع الذابح بين اسم الله واسم غيره بدون عطف بأن قال : باسم الله المسيح نبي الله ، أو باسم الله محمد رسول الله ، فالأحناف يجوزون الأكل من الذبيحة ويعتبرون ذكر غير الله كلاماً مبتدأً بخلاف العطف فإنه يكون نصا في ذكر غير الله .وجمهور العلماء يحرمون الأكل من الذبيحة متى ذكر مع اسم الله آخر سواء أكان ذلك بالعطف أو بدونه .وذهب جماعة من التابعين إلى تخصيص الغير بالأصنام ، وإلى حل ذبائح أهل الكتاب مطلقاً والتحريم هنا ليس لذات الحيوان ، بل لما صحبه من عمل فيه شرك بالله - تعالى -ثم ذكر - سبحانه - أربعة أنواع أخرى من المحرمات فقال : ( والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة ) .والمنخنقة : هي التي تموت خنقاً إما قصداً بأن يخنقها آدمي . وإما اتفاقاً بأن يعرض لها من ذاتها ما يخنقها .والموقوذة : هي التي تضرب بمثقل غير محدد كخشب أو حجر حتى تموت وكانوا في الجاهلية يضربون البهيمة بالعصى حتى إذا ماتت أكلوها .والوقذ : شدة الضرب . وفلان وقيذ أي : مثخن ضرباً . ويقال : وقذه يقذه وقذا : ضربه ضرباً حتى استرخى وأشرف على الموت .قال القرطبي : وفي صحيح مسلم عن عدي بن حاتم قال " قلت يا رسول الله فإني أرمي الصيد فأصيب؟ - والمعراض : وهو سهم يرمى به بلا ريش وأكثر ما يصيب بعرض عوده دون حده - فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا رميت بالمعراض فخزق - أي نفذ وأسال الدم - فكله . وإن أصاب بعرضه فلا تأكله " .والمتردية : هي التي تتردى أي : تسقط من أعلى إلى أسفل فتموت من التردي مأخوذ من الردى بمعنى الهلاك سواء تردت بنفسها أم رداها غيرها .والنطيحة : هي التي تنطحها أخرى فتموت من النطاح يقال : نطحه ينطحه وينطحه أي أصابه بقرنه .والمعنى : وحرم الله عليكم كذلك - أيها المؤمنون - الأكل من المنخنقة ، والموقوذة ، والمتردية ، والنطيحة ، إذا ماتت كل واحدة من هذه الأنواع لهذه الأسباب دون أن تذكوها ذكاة شرعية ، لأن الأكل منها في هذه الحالة يعود عليكم بالضرر .وتاسع هذه المحرمات ذكره - سبحانه - في قوله : ( وَمَآ أَكَلَ السبع إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ ) .المراد بالسبع كل ذي ناب وأظفار من الحيوان . كالأسد والنمر والذئب ونحوها من الحيوانات المفترسة .وقوله ( ذَكَّيْتُمْ ) من التذكية وهي الإتمام . يقال : ذكيت النار إذا أتممت اشتعالها .والمراد هنا : إسالة الدم وفرى الأوداج في المذبوح ، والنحر في المنحور .والمعنى : وحرم عليكم - أيضاً - الأكل مما افترسه السبع حتى مات سواء أكل منه أم لم يأكل ، إلا ما أدركتموه من هذه الأنواع وقد بقيت فيه حياة يضرب معها اضطراب المذبوح وذكيتموه أي ذبحتموه ذبحا شرعياً : فإنه في هذه الحالة يحل لكم الأكل منه . فقوله ( إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ ) الاستثناء هنا يرجع إلى هذه الأنواع الخمسة .وقيل : إن الاستثناء هنا مختص بقوله : ( وَمَآ أَكَلَ السبع ) .أي : وحرم عليكم ما أكل السبع بعضه فمات بسبب جرحه ، إلا ما أدركتموه حيا فذكيتموه ذكاة شرعية فإنه في هذه الحالة يحل الأكل منه ، والأول أولى ، لأن هذه الأنواع الخمسة تشترك في أنها تعلقت بها أحوال قد تفضي بها إلى الهلاك ، فإن هلكت بتلك الأحوال لم يبح أكلها لأنها حينئذ ميتة ، وإذا أدركت بالذكاة في وقت تنفع فيه الذكاة لها جاز الأكل منها .أما النوع العاشر في هذه المحرمات فيتجلى في قوله - تعالى - ( وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب ) والنصب : جمع نصاب : ككتب وكتاب . أو جمع نصب كسقف وسقف . ويصح أن يكون لفظ النصب واحداً وجمعه أنصاب مثل : طنب أطناب .وعلى كل فهي حجارة كان الجاهليون ينصبونهها حول الكعبة ، وكان عددها ثلاثمائة وستين حجراً ، وكانوا يذبحون عليها قرابينهم التي يتقربون بها إلى أصنامهم . ويعتبرون الذبح أكثر قربة إلى معبوداتهم متى تم على هذه النصب . وليست هذه النصب هي الأوثان ، فإن النصب حجارة غير منقوشة بخلاف الأوثان فإنها حجارة مصورة منقوشة .والمعنى : وحرم عليكم - سبحانه - أن تأكلوا مما ذبح على النصب لأنه لم يتقرب به إلى الله ، وإنما تقرب به إلى الأصنام وما تقرب به إلى غير الله فهو فسق ورجس يجب البعد عنه .هذه عشرة أنواع من المأكولان حرمت الآية الكريمة الأكل منها ، لما اشتملت عليه من مضرة وأذى ، ولما صاحب بعضها من تقرب لغير الله ، ويكفى لتجنب الأكل من هذه المطعومات أن وأذى ، ولما صاحب بعضها من تقرب لغير الله ، ويكفى لتجنب الأكل من هذه المطعومات أن الله - تعالى - قد حرمها ، لأنه - سبحانه - لا يحرم الخبائث .ومن شأن المؤمن الصادق في إيمانه أن يقف عند ما أحله الله - تعالى - وحرم .ثم ذكر - سبحانه - نوعا من الأفعال المحرمة ، بعد ذكره لعشرة أنواع من المطاعم المحرمة فقال : ( وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بالأزلام ذلكم فِسْقٌ ) .وإنما ذكر - سبحانه - هذا الفعل المحرم مع جملة المطاعم المحرمة ، لأنه مما ابتدعه أهل الجاهلية؛ كما ابتدعوا ما ابتدعوه في شأن المطاعم .والاستقسام : طلب معرفة ام قسم للإِنسان من خير أو شر .والأزلام : قداح الميسر واحدها زلم - بفتح اللام وبفتح الزاي أو ضمها - وسميت قداح الميسر بالأزلام ، لأنها زلمت أي سويت ، ويقال : رجل مزلم وامرأة مزلمة ، إذا كان جيد القد ، جميل القوام .وكان لأهل الجاهلية طرق للاستقسام بالأزلام من أشهرها : أنه كانت لديهم سهام مكتوب على أحدها : أمرني ربي وعلى الآخر : نهاني ربي . والثالث غفل من الكتابة ، فإذا أرادوا سفراص أو حرباً أو زواجاً أو غير ذلك أتوا إلى بيت الأصنام واستقسموها فإن خرج الآمر أقدموا على ما يريدونه وإن خرج الناهي امسكوا عنه ، وإن خرج الغفل أجالوها ثانية حتى يخرج الآمر أو الناهي .والمعنى : وحرم عليكم - سبحانه - أن تطلبوا معرفة ما قسم لكم في سفر أو غزو أو زواج أو ما يشبه ذلك بواسطة الأزلام ، لأن هذا الفعل فسق ، أي : خروج عن أمر الله وطاعته .فاسم الإِشارة " ذلكم " يعود إلى الاستقسام بالأزلام خاصة . ويجوز أن يعود إليه وإلى تناول ما حرم عليهم .قال ابن كثير : وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل الكعبة ، وجد إبراهيم وإسماعيل مصورين فيها . وفي أيديهما الأزلام . فقال صلى الله عليه وسلم : " قاتلهم الله . لقد علموا أنهما لم يستقسما بها أبدا " .وثبت في الصحيحين أيضاً " أن سراقة بن مالك بن جعشم لما خرج في طلب النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ، وهما ذاهبان إلى المدينة مهاجرين : قال فاستقسمت بالأزلام . هل أضرهم أولا؟ فخرج الذي أكره : لا تضرهم . قال : فعصيت الأزلام واتبعتهم . ثم استقسم بها ثانية وثالثة . كل ذلك يخرج الذي يكره : لا تضرهم . وكان كذلك وكان سراقة لم يسلم إذ ذاك ، ثم أسلم بعد ذلك " .فإن قيل إن الاستقسام بالأزلام هو لون من التفاؤل ، وكان صلى الله عليه وسلم يحب الفأل الحسن فلم صار فسقاً؟فالجواب أن هناك فرقا واسعاً بين الاستقسام بالأزلام وبين الفأل؛ فإن الفأل أمر اتفاقي تنفعل به النفس وتنشرح للعمل مع رجاء الخير منه بخلاف الاستقسام بالأزلام فإن القوم كانوا يستقسمون بالأزلام عند الأصنام ويعتقدون أن ما يخرج من الأمر والنهي على تلك الأزلام بإرشاد من الأصنام فلهذا كان الاستقسام بها فسقا وخروجا عن طاعة الله .وفضلا عن هذا فإن الاستقسام بالأزلام طلب لمعرفة علم الغيب الذي استأثر الله به ، وذلك حرام وافتراء على الله - تعالى - .وإلى هنا تكون الآية الكريمة قد ذكرت أحد عشر نوعاً من المحرمات عشرة منها تتعلق بالمأكولات ، وواحدا يتعلق بالأفعال .وهناك مطعومات أخرى جاء تحريمها عن طريق السنة النبوية ، كتحريمه صلى الله عليه وسلم الأكل من لحوم الحمر الأهلية .وبعد أن بين - سبحانه - هذه الأنواع من المحرمات التي حرمها على المؤمنين رحمة بهم ، ورعاية لهم ، أتبع ذلك ببيان مظاهر فضله عليهم ، وأمرهم بأن يجعلوا خشيتهم منه وحده ، فقال - تعالى - : ( اليوم يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ واخشون ) .وقوله ( اليوم ) ظرف منصوب على الظرفية بقوله ( يَئِسَ ) والألف واللام فيه للعهد الحضوري ، فيكون المراد به يوماً معيناً وهو يوم عرفة من عام حجة الوداع .ويصح أن لا يكون المراد به يوما بعينه ، وإنما أراد به الزمان الحاضر وما يتصل به ويدانيه من الأزمنة الماضية والآتية .وقد حكى الإِمام الرازي هذين الوجهين فقال ما ملخصه : وقوله : ( اليوم يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ ) فيه قولان :الأول : أنه ليس المراد به ذلك اليوم بعينه حتى يقال إنهم ما يئسوا قبله بيوم أو يومين ، وإنما هو كلام خارج على عادة أهل اللسان أي لا حاجة بكم الآن إلى مداهنة هؤلاء الكفار ، لأنكم الآن صرتم بحيث لا يطمع أحد من أعدائكم في توهين أمركم ، ونظيره قوله : كنت بالأمس شابا واليوم قد صرت شيخاً . لا يريد بالأمس اليوم الذي قبل يومك ، ولا باليوم يومك الذي أنت فيه .الثاني : أن المراد به يوم نزول هذه الآية . وقد " نزلت يوم الجمعة من يوم عرفة بعد العصر في عام حجة الوداع سنة عشر من الهجرة ، والنبي صلى الله عليه وسلم واقف بعرفات على ناقته العضباء " .وقوله : ( اليوم يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ ) أي انقطع رجاؤهم في التغلب عليكم ، وفي إبطال أمر دينكم . وفي صرف الناس عنه بعد أن دخلوا فيه أفواجاً وبعد أن صار المشركون مهقورين لكم . أذلة أمام قوتكم . وما دام الأمر كذلك ( فَلاَ تَخْشَوْهُمْ واخشون ) أي : فلا تجعلوا مكاناً لخشية المشركين في قلوبكم فقد ضعفوا واستكانوا ، بل اجعلوا خشيتكم وخوفكم وهيبتكم من الله وحده الذي جعل لكم الغلبة والنصر عليهم .ثم عقب ذلك - سبحانه - بيان أكبر نعمه وأعظم مننه على هذه الأمة الإِسلامية فقال : ( اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً ) .أي؛ اليوم أكملت لكم حدودي وفرائضي وحلالي وحرامي ، ونصري لكم على أعدائكم وتمكيني إياكم من أداء فريضة الحج دون أن يشارككم في الطواف بالبيت أحد من المشركين .وأتممت عليكم نعمتي ، بأن أزلت دولة الشرك من مكة ، وجعلت كلمتكم هي العليا وكلمة أعدائكم هي السفلى ، ورضيت لكم الإِسلام دينا ، بأن اخترته لكم من بين الأديان . وجعلته الدين المقبول عندي ، فيجب عليكم الالتزام بأحكامه وآدابه وأوامره ونواهيه قال - تعالى - : ( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين ) وليس المراد بإكمال الدين أنه كان ناقصاً قبل اليوم ثم أكمله ، وإنما المراد أن من أحكامه قبل اليوم ما كان مؤقتاً في علم الله قابلا للنسخ . ولكنها اليوم كملت وصارت مؤبدة وصالحة لكل زمان ومكان ، وغير قابلة للنسخ ، وقد بسط هذا المعنى كثير من المفسرين فقال الإِمام الرازي : قال القفال : إن الدين ما كان ناقصا البتة بل كان أبداً كاملا . يعني : كانت الشرائع النازلة من عند الله في كل وقت كافية في ذلك الوقت إلا أنه - تعالى - كان عالما في أول وقت المبعث بأن ما هو كامل في هذا اليوم بكامل في الغد ولا صلاح فيه . فلا جرم كان ينسخ بعد الثبوت . وكان يزيد بعد العدم . وأما في آخر زمان المبعث فأنزل الله شريعة كاملة وحكم ببقائها إلى يوم القيامة . فالشرع أبداً كان كاملا . إلا أن الأول كمال إلى زمان مخصوص . والثاني كمال إلى يوم القيامة . فلأجل هذا قال : ( اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) .وقال القرطبي ما ملخصه : لعل قائلا يقول : ( اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) يدل على أن الدين كان غير كامل في وقت من الأوقات . وذلك يوجب أن يكون جميع من مات من المهاجرين والأنصار . قبل نزول هذه الآية - ماتوا على دين ناقص . ومعلوم أن النقص عيب؟فالجواب أن يقال له : لم قلت إن كل نقص فهو عيب وما دليلك عليه؟ ثم يقال له : أرأيت نقصان الشهر هل يكون عيبا ، ونقصان صلاة المسافر أهو عيب لها . . ؟ لا شك أن هذا النقصان ليس بعيب .وقوله : ( اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) يخرج على وجهين :أحدهما : أن يكون المراد بلغته أقصى الحد الذي كان له عندي فيما قضيته وقدرته ، وذلك لا يوجب أن يكون ما قبل ذلك ناقصا نقصان عيب ، لكنه يوصف بنقصان مقيد فيقال له : إنه كان ناقصاً عما كان عند الله أنه ملحقه به ، وضامه إليه . . وهكذا شرائع الإِسلام شرعها الله شيئاً فشيئاً إلى أن أنهى - سبحانه - الدين منتهاه الذي كان له عنده .وثانيهما : أنه أراد بقوله ( اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) أنه وفقهم للحج الذي لم يكن بقي عليهم من أركان الدين غيره ، فحجوا فاستجمع لهم الدين أداء أركانه ، وقياما بفرائضه وفي الحديث :" بني الإِسلام على خمس " وقد كانوا تشهدوا ، وصلوا ، وزكوا ، وصاموا ، وجاهدوا ، واعتمروا ، ولم يكونوا حجوا ، فلما حجوا ذلك اليوم مع النبي صلى الله عليه وسلم أنزل الله وهم بالموقف عشية عرفة ( اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) أي : أكمل وضعه لهم .وقد روى الأئمة عن طارق بن شهاب قال : " جاء رجل من اليهود إلى عمر فقال : يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرءونها لو علينا أنزلت معشر اليهود لاتخذنا ذلك اليوم عيدا . قال وأي آية؟ قال : ( اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) فقال عمر : إني لأعلم اليوم الذي أنزلت فيه والمكان الذي أنزلت فيه نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة في يوم جمعة " .وروى أنها " لما نزلت في يوم الحج الأكبر وقرأها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكى عمر ، فقال له ما يبكيك؟ فقال : أبكاني أنا كنا في زيادة في ديننا فأما إذا كمل فإنه لم يكمل شيء إلا نقص فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " صدقت " " .وبعد أن ذكر - سبحانه - في صدر الآية أحد عشر نوعا من المحرمات ، وأتبع ذلك ببيان إكمال الذين وإتمام النعمة على المؤمنين . جاء ختام الآية لبيان حكم المضطر إلى أكل شيء من هذه المحرمات فقال - تعالى - : ( فَمَنِ اضطر فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) .وقوله ( اضطر ) من الاضطرار بمعنى الوقوع في الضرورة .والمخمصة : خلو البطن من الغذاء عند الجوع الشديد . يقال خمصه الجوع خمصا ومخمصة .إذا اشتد به . وفي الحديث : " إن الطير تغدو خماصاً - أي جياعا ضامرات البطون - وتروح بطانا - أي مشبعات " وقال الأعشى :يبيتون في المشتى ملاءً بطونهم ... وجاراتهم غرثى يبتن خمائصاأي : وجاراتهم جوعى وقد ضمرت بطونهن من شدة الجوع .وقوله ( مُتَجَانِفٍ ) من الجنف وهو الميل ، يقال : جنف عن الحق - كفرح - إذا مال عنه وجنف عن طريقه - كفرح وضرب - جنفاً وجنوفاً إذا مال عنه .والمعنى : فمن ألجأته الضرورة إلى كل شيء من هذه المحرمات في مجاعة شديدة حالة كونه غير مائل إلى ارتكاب إثم من الآثام فلا ذنب عليه في ذلك لأن الله - تعالى - واسع المغفرة .فهو بكرمه يغفر لعباده تناول ما كان محرما إذا اضطروا إلى تناوله لدفع الضرورة بدون بغي أو تعد ، وهو واسع الرحمة حيث أباح لهم ما يدفع عنهم الضرر ولو كان محرما .قال الآلوسي : وقوله : ( غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ ) أي غير مائل ومنحرف إليه ومختار له بأن يأكل منها زائداً على ما يمسك رمقه فإن ذلك حرام . وقيل : يجوز أن يشبع عند الضرورة . وقيل : المراد غير عاص بأن يكون باغياً أو عادياً بأن ينزعها من مضطر آخر أو خارجاً في معصية .وبذلك نرى الآية الكريمة قد بينت ما يحرم في حالة الاختيار ، وما يحل في حالة الاضطرار .وجاءت بين ذلك بجمل معترضة - وهي قوله ( اليوم يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ ) إلى قوله : ( وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً ) لتأكيد تحريم هذه الأشياء ، لأن تحريمها من جملة الدين الكامل ، والنعمة التامة ، والإِسلام المرضى عند الله .هذا ، ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآية الكريمة ما يأتي :1 - حرمة هذه الأنواع الأحد عشر التي ذكرها الله - تعالى - في هذه الآية ووجوب الابتعاد عنها لأنها رجس أو فسق ، ولأن استحلال شيء منها يكون خروجا عن تعاليم دين الله ، وانتهاكا لحرماته .2 - حل المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع ، متى ذبحت ذبحاً شرعياً وكانت بها بقية حياة تجعلها تضطرب بعد ذبحها اضطراب المذبوح .وللفقهاء كلام طويل في ذلك يؤخذ منه اتفاقهم على أن الخنق وما معه إذا لم يبلغ بالحيوان إلى درجة اليأس من حياته بأن غلب على الظن أنه يعيش مع هذه الحالة كانت الذكاة محللة له . أما إذا غلب على الظن أنه يهلك بما حصل له بسبب الخنق أو الوقذ أو التردي أو النطح أو أكل السبع منه ، فقد أفتى كثير من العلماء بعمل الذكاة فيه ، وقد أخذ بذلك الأحناف . فقد قالوا : متى كانت عينه أو ذنبه يتحرك أو رجله ترك ثم ذكى فهو حلال .وقال قوم لا تعمل الذكاة فيه ويحرم أكله .ومنشأ اختلافهم في أن الذكاة تعمل أولا تعمل يعود إلى : هل الاستثناء هن متصل أو منقطع؟فمن قال إنه متصل يرى أنه أخرج من الجنس بعض ما تناوله اللفظ ، فما قبل حرف الاستثناء حرام ، وما بعده خرج منه فيكون حلالا .ومن قال إنه منقطع يرى أنه لا تأثير للاستثناء في الجملة المتقدمة . وكأنه قال : ما ذكيتموه من غير الحيوانات المتقدمة فهو حلال أباح الله لكم التمتع به . أما هذه الحيوانات التي حرمها الله في الآية فلا يجوز لكم الأكل منها مطلقا .وقد رجح المحققون من العلماء أن الاستثناء متصل ، وقالوا : يؤيد القول بأن الاستثناء متصل بالإِجماع على أن الذكاة تحلل ما يغلب على الظن أنه يعيش فيكون مخرجاً لبعض ما يتناوله المستثنى منه ، فيكون الاستثناء فيه متصلا .هذا ملخص لما قاله العلماء في هذه المسألة ومن أراد المزيد فليرجع إلى كتب الفروع .3 - إباحة تناول هذه المحرمات عند الضرورة لدفع الضرر ، ومن هذه الإباحة مقيدة بقيود ذكرها الفقهاء من أهمها قيدان .الأول : أن يقصد بالتناول دفع الضرر فقط .الثاني : ألا يتجاوز ما يسد الحاجة ، أما إذا قصد التلذذ أو إرضاء الشهوة ، أو تجلوز المقدار الذي يدفع الضرر فإنه في هذه الأحوال يكون واقعا في المحرم الذي نهى الله عنه .وقد تكلم الإمام ابن كثير عن هذه المسألة فقال : قوله - تعالى - ( فَمَنِ اضطر فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيم ) أي : فمن احتاج إلى تناول شيء من هذه المحرمات التي ذكرها الله لضرورة ألجأته إلى ذلك فله تناول والله غفور له رحيم به ، لأنه - تعالى - يعلم حاجة عبده المضطر وافتقاره إلى ذلك فيتجاوز عنه ويغفر له .وفي المسند وصحيح ابن حبان عن ابن عمر - مرفوعاً - قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله يحب أن تؤتي رخصه كما يكره أن تؤتي معصيته " .ولهذا قال الفقهاء : قد يكون تناول الميتة واجباً في بعض الأحيان ، و هو إذا خاف على نفسه ولم يجد غيرها ، وقد يكون مندوبا ، وقد يكون مباحاً بحسب الأحوال . واختلفوا : هل يتناول منها قدر ما يسد به الرمق ، أوله أن يشبع ويتزود على أقوال ، وليس من شرط تناول الميتة أن يمضي عليه ثلاثة أيام لا يجد طعاماً ، كما قد يتوهمه كثير من العوام وغيرهم - بل متى اضطر إلى ذلك جاز له .وقد روى الإمام أحمد عن أبي واقد الليثي أنهم قالوا : يا رسول الله ، إنا بأرض تصيبنا بها المخمصة ، فمتى تحل لنا بها الميتة؟ فقال : " إذا لم تصطحبوا ولم تغتبقوا ولم تحتفثوا بقلا فشأنكم بها " .والاصطباح شرب اللبن بالغداة فما دون القائلة ، وما كان منه بالعشي فهو الاغتباق ومعنى لم تحتفثوا : أي تقتلعوا .وقوله : ( غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ ) أي متعاط لمعصية الله .وقد استدل بهذه الآية من يقول بأن العاصي بسفره لا يترخص بشيء من رخص السفر ، لأن الرخص لا تنال بالمعاصي .4 - أخذ العلماء من قوله - تعالى - ( وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بالأزلام ذلكم فِسْقٌ ) أن الاستقسام بالأزلام محرم ، ومحرم أيضاً كل ما يشبهه من القمار والتنجيم والرمل وما إلى ذلك قال بعض العلماء : من عمل بالأيام في السعد والنحس معتقداً لها تأثيراً كفر وإن لم يعتقد أثم .وقد روى أبو داود والنسائي وابن حبان عن قطن بن قبيصة ، عن أبيه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " العيافة والطرق والطيرة من الجبت " .والعيافة : زجر الطير . والطرق : الخط يخط في الأرض . وقيل : الطرق الضرب بالحصى الذي تفعله النساء .وفي القاموس : عفت الطير عيافة زجرتها . وهو أن تعتبر بأسمائها ومساقطها فتسعد وتتشاءم . وهو من عادة العرب كثيراً . والطيرة : من اطيرت وتطيرت وهو ما يتشاءم من الفأل الرديء ، وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم كان يحب الفأل ويكره الطيرة .والجبت : كل ما عبد من دون الله .وقد روى مسلم في صحيحيه عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من أتى عرافا فسأله عن شيء فصدقه ، لم تقبل له صلاة أربعين يوماً " .وروى الإِمام أحمد وأبو داود والحاكم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من أتى عرافاً أو كاهنا فصدقه بما يقول ، فقد كفر بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - " .وعن عمران بن حصين مرفوعا : " ليس منا من تطير أو تطير له ، أو تكهن أو تكهن له . أو سحر أو سحر له "5 - استدل بعضهم بقوله - تعالى - ( اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) على نفي القياس وبطلان العمل به لأن إكمال الدين يقتضي أنه نص على أحكام جميع الوقائع إذ لو بقى بعض لم يبين حكمه لم يكن الدين كاملا .وأجيب على ذلك بأن غاية ما يقتضيه إكمال الدين أن يكون الله - تعالى - قد أبان الطرق لجميع الأحكام وقد أمر الله بالقياس ، وتعبد المكلفين به بمثل قوله - تعالى - ( فاعتبروا ياأولي الأبصار ) فكان هذا مع النصوص الصريحة بياناً لكل أحكام الوقائع ، غاية الأمر أن الوقائع صارت قسمين : قسما نص الله على حكمه ، وقسما أرشد الله - تعالى - إلى أنه يمكن استنباط الحكم فيه من القسم الأول . فلم تصلح الآية متمسكا لهم .6 - الآية الكريمة قد اشتملت على بشارات لأبناء هذه الأمة الإِسلامية فقد بشرتهم - أولا - بأن أعداءهم قد انقطع رجاؤهم في إبطال أمر الإِسلام أو تحريفه أو تبديل أحكامه التي كتب الله لها البقاء .وها نحن أولا . نراجع التاريخ فنرى المسلمين قد تغلب عليهم أعداؤهم في معارك حربية ولكن هؤلاء الأعداء لم يستطيعوا التغلب على أحكام هذا الدين ومبادئه . بل بقيت محفوظة يتناقلها الخلف عن السلف إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ولقد روى الإِمام مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبه حجة الوداع : " إن الشيطان قد يئس أن يعيده المصلون في جزيرة العرب ولكنه رضي بالتحريش بينهم " .وبشرتهم - ثالثاً - بإتمام نعمة الله عليهم . وأي نعمة أتم على المؤمنين من إخراج الله إياهم من ظلمات الشرك إلى نور الوحدانية ومن تمكينه لهم في الأرض واستخلافهم فيها ، وجعل كلمتهم العليا بعد أن كانوا في ضعف من أمرهم وفساد في أحوالهم .وبشرتهم - رابعا - بأن الله قد اختار لهم الإِسلام دينا ، وجعله هو الدين المرضي عنده وهو الذي يجب على الناس أن يدخلوا فيه ، وأن يعملوا بأوامره ونواهيه ، لأنه من الحمق والغباء أن يبتعد إنسان عن الدين الذي اختاره الله وارتضاه ليختاره لنفسه طريقاً من نزغات نفسه وهواه .وهذه بعض الأحكام والآداب التي استلهمها العلماء من الآية الكريمة . وهناك أحكام أخرى ذكرناها خلال تفسيرنا لألفاظ الآية الكريمة .
تَفْسِيرُ ٱلْبَغَوِيِّ
Tafsir al-Baghawi —
علامہ بغوی
قوله عز وجل ( حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به ) أي : ما ذكر على ذبحه اسم غير الله تعالى ، ( والمنخنقة ) وهي التي تختنق فتموت ، قال ابن عباس : كان أهل الجاهلية يخنقون الشاة حتى إذا ماتت أكلوها ، ( والموقوذة ) هي المقتولة بالخشب ، قال قتادة : كانوا يضربونها بالعصا فإذا ماتت أكلوها ، ( والمتردية ) هي التي تتردى من مكان عال أو في بئر فتموت ، ( والنطيحة ) وهي التي تنطحها أخرى فتموت ، وهاء التأنيث تدخل في الفعيل إذا كان بمعنى الفاعل ، فإذا كان بمعنى المفعول استوى فيه المذكر والمؤنث ، نحو عين كحيل وكف خضيب ، فإذا حذفت الاسم وأفردت الصفة ، أدخلوا الهاء فقالوا : رأينا كحيلة وخضيبة ، وهنا أدخل الهاء لأنه لم يتقدمها الاسم ، فلو أسقط الهاء لم يدر أنها صفة مؤنث أم مذكر ، ومثله الذبيحة والنسيكة ، وأكيلة السبع ( وما أكل السبع ) يريد ما بقي مما أكل السبع ، وكان أهل الجاهلية يأكلونه ، ( إلا ما ذكيتم ) يعني : إلا ما أدركتم ذكاته من هذه الأشياء .وأصل التذكية الإتمام ، يقال : ذكيت النار إذا أتممت إشعالها ، والمراد هنا : إتمام فري الأوداج وإنهار الدم ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل غير السن والظفر " .وأقل الذكاة في الحيوان المقدور عليه قطع المريء والحلقوم وكما له أن يقطع الودجين معهما ، ويجوز بكل محدد يقطع من حديد أو قصب أو زجاج أو حجر إلا السن والظفر ، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الذبح بهما ، وإنما يحل ما ذكيته بعدما جرحه السبع وأكل شيئا منه إذا أدركته والحياة فيه مستقرة فذبحته ، فأما ما صار بجرح السبع إلى حالة المذبوح ، فهو في حكم الميتة ، فلا يكون حلالا وإن ذبحته ، وكذلك المتردية والنطيحة إذا أدركتها حية قبل أن تصير إلى حالة المذبوح فذبحتها تكون حلالا ولو رمى إلى صيد في الهواء فأصابه فسقط على الأرض فمات كان حلالا؛ لأن الوقوع على الأرض من ضرورته ، فإن سقط على جبل أو شجر أو سطح ثم تردى منه فمات فلا يحل ، وهو من المتردية إلا أن يكون السهم أصاب مذبحه في الهواء فيحل كيف ما وقع؛ لأن الذبح قد حصل بإصابة السهم المذبح .( وما ذبح على النصب ) قيل : النصب جمع واحده نصاب ، وقيل : هو واحد وجمعه أنصاب مثل عنق وأعناق ، وهو الشيء المنصوب .واختلفوا فيه ، فقال مجاهد وقتادة : كانت حول البيت ثلاثمائة وستون حجرا منصوبة ، كان أهل الجاهلية يعبدونها ويعظمونها ويذبحون لها ، وليست هي بأصنام ، إنما الأصنام هي المصورة المنقوشة ، وقال الآخرون : هي الأصنام المنصوبة ، ومعناه : وما ذبح على اسم النصب ، قال ابن زيد : وما ذبح على النصب وما أهل لغير الله به : هما واحد ، قال قطرب : على بمعنى اللام أي : وما ذبح لأجل النصب .( وأن تستقسموا بالأزلام ) أي : ويحرم عليكم الاستقسام بالأزلام ، والاستقسام هو طلب القسم والحكم من الأزلام ، والأزلام هي : القداح التي لا ريش لها ولا نصل ، واحدها : زلم ، وزلم بفتح الزاي وضمها ، وكانت أزلامهم سبعة قداح مستوية من شوحط يكون عند سادن الكعبة ، مكتوب على واحد : نعم ، وعلى واحد : لا وعلى واحد : منكم ، وعلى واحد : من غيركم ، وعلى واحد : ملصق ، وعلى واحد : العقل ، وواحد غفل ليس عليه شيء ، فكانوا إذا أرادوا أمرا من سفر أو نكاح أو ختان أو غيره ، أو تدارءوا في نسب أو اختلفوا في تحمل عقل جاءوا إلى هبل ، وكان أعظم أصنام قريش بمكة ، وجاءوا بمائة درهم فأعطوها صاحب القداح حتى يجيل القداح ، ويقولون : يا إلهنا إنا أردنا كذا وكذا ، فإن خرج نعم ، فعلوا ، وإن خرج لا لم يفعلوا ذلك حولا ثم عادوا إلى القداح ثانية ، فإذا أجالوا على نسب ، فإن خرج منكم كان وسطا منهم ، وإن خرج من غيركم كان حليفا ، وإن خرج ملصق كان على منزلته لا نسب له ولا حلف ، وإذا اختلفوا في عقل فمن خرج عليه قدح العقل حمله ، وإن خرج الغفل أجالوا ثانيا حتى يخرج المكتوب ، فنهى الله عز وجل عن ذلك وحرمه ، وقال : ( ذلكم فسق ) قال سعيد بن جبير : الأزلام حصى بيض كانوا يضربون بها ، وقال مجاهد : هي كعاب فارس والروم التي يتقامرون بها ، وقال الشعبي وغيره : الأزلام للعرب ، والكعاب للعجم ، وقال سفيان بن وكيع : هي الشطرنج ، وروينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " العيافة والطرق والطيرة من الجبت " والمراد من الطرق : الضرب بالحصى .أخبرنا أبو سعيد الشريحي أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي أنا ابن فنجويه أنا ابن الفضل الكندي أخبرنا الحسن بن داود الخشاب أنا سويد بن سعيد أنا [ أبو المختار ] عن عبد الملك بن عمير عن رجاء بن حيوة عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من تكهن أو استقسم أو تطير طيرة ترده عن سفره لم ينظر إلى الدرجات العلا من الجنة يوم القيامة " .قوله عز وجل : ( اليوم يئس الذين كفروا من دينكم ) يعني : أن ترجعوا إلى دينهم كفارا ، وذلك أن الكفار كانوا يطمعون في عود المسلمين إلى دينهم فلما قوي الإسلام يئسوا ، ويئس وأيس بمعنى واحد .( فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ) نزلت هذه الآية يوم الجمعة ، يوم عرفة بعد العصر في حجة الوداع ، والنبي صلى الله عليه وسلم واقف بعرفات على ناقته العضباء ، فكادت عضد الناقة تندق من ثقلها فبركت .أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل حدثني الحسن بن الصباح سمع جعفر بن عون أنا أبو العميس أنا قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلا من اليهود قال له : " يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرأونها ، لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا ، قال : أية آية؟ قال : " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا " قال عمر : قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائم بعرفة يوم الجمعة . أشار عمر إلى أن ذلك اليوم كان عيدا لنا " .قال ابن عباس : كان في ذلك اليوم خمسة أعياد : جمعة وعرفة وعيد اليهود والنصارى والمجوس ، ولم تجتمع أعياد أهل الملل في يوم قبله ولا بعده .روى هارون بن عنترة عن أبيه قال : لما نزلت هذه الآية بكى عمر رضي الله عنه ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " ما يبكيك يا عمر " ؟ فقال : أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا ، فأما إذا كمل فإنه لم يكن شيء قط إلا نقص ، قال : صدقت .وكانت هذه الآية نعي النبي صلى الله عليه وسلم وعاش بعدها إحدى وثمانين يوما ، ومات يوم الاثنين بعدما زاغت الشمس لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول [ سنة إحدى عشرة من الهجرة ، وقيل : توفي يوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول ] وكانت هجرته في الثاني عشر .قوله عز وجل : ( اليوم أكملت لكم دينكم ) يعني : يوم نزول هذه الآية أكملت لكم دينكم ، يعني الفرائض والسنن والحدود والجهاد والأحكام والحلال والحرام ، فلم ينزل بعد هذه الآية حلال ولا حرام ، ولا شيء من الفرائض . هذا معنى قول ابن عباس رضي الله عنهما ، وروي عنه أن آية الربا نزلت بعدها .وقال سعيد بن جبير وقتادة : أكملت لكم دينكم فلم يحج معكم مشرك .وقيل : أظهرت دينكم وأمنتكم من العدو .قوله عز وجل : ( وأتممت عليكم نعمتي ) يعني : وأنجزت وعدي في قول " ولأتم نعمتي عليكم " ( سورة البقرة ، 150 ) ، فكان من تمام نعمته أن دخلوا مكة آمنين وعليها ظاهرين ، وحجوا مطمئنين لم يخالطهم أحد من المشركين ، ( ورضيت لكم الإسلام دينا ) سمعت عبد الواحد المليحي قال : سمعت أبا محمد بن أبي حاتم ، قال : سمعت أبا بكر النيسابوري سمعت أبا بكر محمد بن الحسن بن المسيب المروزي ، سمعت أبا حاتم محمد بن إدريس الحنظلي ، سمعت عبد الملك بن مسلمة أنا مروان المصري سمعت إبراهيم بن أبي بكر بن المنكدر رضي الله عنه ، سمعت عمي محمد بن المنكدر سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنه يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " قال جبريل عليه السلام قال الله تعالى : هذا دين ارتضيته لنفسي ولن يصلحه إلا السخاء وحسن الخلق ، فأكرموه بهما ما صحبتموه "قوله عز وجل : ( فمن اضطر في مخمصة ) أي : أجهد في مجاعة ، والمخمصة خلو البطن من الغذاء ، يقال : رجل خميص البطن إذا كان طاويا خاويا ، ( غير متجانف لإثم ) أي : مائل إلى إثم وهو أن يأكل فوق الشبع ، وقال قتادة : غير متعرض لمعصية في مقصده ، ( فإن الله غفور رحيم ) وفيه إضمار ، أي : فأكله فإن الله غفور رحيم .أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الحسن المروزي أنا أبو العباس أحمد بن محمد بن سراج الطحان أنا أبو أحمد محمد بن قريش بن سليمان أنا أبو الحسن علي بن عبد العزيز المكي أنا أبو عبيد القاسم بن سلام أنا محمد بن كثير عن الأوزاعي عن حسان بن عطية عن أبي واقد الليثي قال رجل : يا رسول الله إنا نكون بالأرض فتصيبنا بها المخمصة فمتى تحل لنا الميتة؟ فقال : " ما لم تصطبحوا أو تغتبقوا أو تحتفئوا بها بقلا فشأنكم بها " .