تَفْسِيرُ ٱلْمُيَسَّر
Tafsir Al-Muyassar —
کنگ فہد قرآن کمپلیکس
هؤلاء اليهود يجمعون بين استماع الكذب وأكل الحرام، فإن جاؤوك يتحاكمون إليك فاقض بينهم، أو اتركهم، فإن لم تحكم بينهم فلن يقدروا على أن يضروك بشيء، وإن حكمت فاحكم بينهم بالعدل. إن الله يحب العادلين.
تَفْسِيرُ ٱلْجَلَالَيْنِ
Tafsir al-Jalalayn —
جلال الدین محلی اور جلال الدین سیوطی
هم «سماعون للكذب أكالون للسُّحُت» بضم الحاء وسكونها أي الحرام كالرشا «فإن جاؤك» لتحكم بينهم «فاحكم بينهم أو أعرض عنهم» هذا التخيير منسوخ بقوله تعالى (وأن احكم بينهم) الآية فيجب الحكم بينهم إذا ترافعوا إلينا وهو أصح قولي الشافعي فلو ترافعوا إلينا مع مسلم وجب إجماعا «وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت» بينهم «فاحكم بينهم بالقسط» بالعدل «إن الله يحب المقسطين» العادلين في الحكم أي يثيبهم.
تَفْسِيرُ ٱلْقُرْطُبِيِّ
Tafsir al-Qurtubi —
علامہ قرطبی
قوله تعالى : سماعون للكذب أكالون للسحت فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطينفيه مسألتان :الأولى : قوله تعالى : سماعون للكذب كرره تأكيدا وتفخيما ، وقد تقدمالثانية : قوله تعالى : أكالون للسحت على التكثير ، والسحت في اللغة أصله الهلاك والشدة ; قال الله تعالى : فيسحتكم بعذاب ، وقال الفرزدق :[ ص: 130 ]وعض زمان يا ابن مروان لم يدع من المال إلا مسحتا أو مجلفاكذا الرواية . أو مجلف بالرفع عطفا على المعنى ; لأن معنى لم يدع لم يبق . ويقال للحالق : أسحت أي استأصل ، وسمي المال الحرام سحتا لأنه يسحت الطاعات أي : يذهبها ويستأصلها ، وقال الفراء : أصله كلب الجوع ، يقال رجل مسحوت المعدة أي : أكول ; فكأن بالمسترشي وآكل الحرام من الشره إلى ما يعطى مثل الذي بالمسحوت المعدة من النهم ، وقيل : سمي الحرام سحتا لأنه يسحت مروءة الإنسان .قلت : والقول الأول أولى ; لأن بذهاب الدين تذهب المروءة ، ولا مروءة لمن لا دين له .قال ابن مسعود وغيره : السحت الرشا ، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : رشوة الحاكم من السحت ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : كل لحم نبت بالسحت فالنار أولى به قالوا : يا رسول الله ; وما السحت ؟ قال : الرشوة في الحكم ، وعن ابن مسعود أيضا أنه قال : السحت أن يقضي الرجل لأخيه حاجة فيهدي إليه هدية فيقبلها ، وقال ابن خويز منداد : من السحت أن يأكل الرجل بجاهه ، وذلك أن يكون له جاه عند السلطان فيسأله إنسان حاجة فلا يقضيها إلا برشوة يأخذها ، ولا خلاف بين السلف أن أخذ الرشوة على إبطال حق أو ما لا يجوز سحت حرام ، وقال أبو حنيفة : إذا ارتشى الحاكم انعزل في الوقت وإن لم يعزل ، وبطل كل حكم حكم به بعد ذلك .قلت : وهذا لا يجوز أن يختلف فيه إن شاء الله ; لأن أخذ الرشوة منه فسق ، والفاسق لا يجوز حكمه . والله أعلم ، وقال عليه الصلاة والسلام : لعن الله الراشي والمرتشي ، وعن علي رضي الله عنه أنه قال : السحت الرشوة وحلوان الكاهن والاستجعال في القضية ، وروي عن وهب بن منبه أنه قيل له : الرشوة حرام في كل شيء ؟ فقال : لا ; إنما يكره من الرشوة أن ترشي لتعطى ما ليس لك ، أو تدفع حقا قد لزمك ; فأما أن ترشي لتدفع عن دينك ودمك ومالك فليس بحرام . قال أبو الليث السمرقندي الفقيه : وبهذا نأخذ ; لا بأس بأن يدفع الرجل عن نفسه وماله بالرشوة . وهذا كما روي عن عبد الله بن مسعود أنه كان بالحبشة فرشا دينارين وقال : إنما الإثم على القابض دون الدافع ; قال المهدوي : ومن جعل كسب الحجام ومن ذكر معه سحتا فمعناه أنه يسحت مروءة آخذه .[ ص: 131 ] قلت : الصحيح في كسب الحجام أنه طيب ، ومن أخذ طيبا لا تسقط مروءته ولا تنحط مرتبته ، وقد روى مالك عن حميد الطويل عن أنس أنه قال : احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حجمه أبو طيبة فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بصاع من تمر وأمر أهله أن يخففوا عنه من خراجه ; قال ابن عبد البر : هذا يدل على أن كسب الحجام طيب ; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجعل ثمنا ولا جعلا ولا عوضا لشيء من الباطل ، وحديث أنس هذا ناسخ لما حرمه النبي صلى الله عليه وسلم من ثمن الدم ، وناسخ لما كرهه من إجارة الحجام . وروى البخاري وأبو داود عن ابن عباس قال : احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطى الحجام أجره ، ولو كان سحتا لم يعطه ، والسحت والسحت لغتان قرئ بهما ; قرأ أبو عمرو وابن كثير والكسائي بضمتين ، والباقون بضم السين وحدها ، وروى العباس بن الفضل عن خارجة بن مصعب عن نافع " أكالون للسحت " بفتح السين وإسكان الحاء وهذا مصدر من سحته ; يقال : أسحت وسحت بمعنى واحد . وقال الزجاج : سحته ذهب به قليلا قليلا .قوله تعالى : فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم هذا تخيير من الله تعالى ; ذكره القشيري ; وتقدم معناه أنهم كانوا أهل موادعة لا أهل ذمة ; فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة وادع اليهود ، ولا يجب علينا الحكم بين الكفار إذا لم يكونوا أهل ذمة ، بل يجوز الحكم إن أردنا . فأما أهل الذمة فهل يجب علينا الحكم بينهم إذا ترافعوا إلينا ؟ قولان للشافعي ; وإن ارتبطت الخصومة بمسلم يجب الحكم . قال المهدوي : أجمع العلماء على أن على الحاكم أن يحكم بين المسلم والذمي ، واختلفوا في الذميين ; فذهب بعضهم إلى أن الآية محكمة وأن الحاكم مخير ; روي ذلك عن النخعي والشعبي وغيرهما ، وهو مذهب مالك والشافعي وغيرهما ، سوى ما روي عن مالك في ترك إقامة الحد على أهل الكتاب في الزنى ; فإنه إن زنى المسلم بالكتابية حد ولا حد عليها ، فإن كان الزانيان ذميين فلا حد عليهما ; وهو مذهب أبي حنيفة ومحمد بن الحسن وغيرهما ، وقد روي عن أبي حنيفة أيضا أنه قال : يجلدان ولا يرجمان ، وقال الشافعي وأبو يوسف وأبو ثور وغيرهم : عليهما الحد إن أتيا راضيين بحكمنا . قال ابن خويز منداد : ولا يرسل الإمام إليهم إذا استعدى بعضهم على بعض ، ولا يحضر الخصم مجلسه إلا أن يكون فيما يتعلق بالمظالم التي ينتشر منها الفساد كالقتل ونهب المنازل [ ص: 132 ] وأشباه ذلك ، فأما الديون والطلاق وسائر المعاملات فلا يحكم بينهم إلا بعد التراضي ، والاختيار له ألا يحكم ويردهم إلى حكامهم . فإن حكم بينهم حكم بحكم الإسلام ، وأما إجبارهم على حكم المسلمين فيما ينتشر منه الفساد فليس على الفساد عاهدناهم ، وواجب قطع الفساد عنهم ، منهم ومن غيرهم ; لأن في ذلك حفظ أموالهم ودمائهم ; ولعل في دينهم استباحة ذلك فينتشر منه الفساد بيننا ; ولذلك منعناهم أن يبيعوا الخمر جهارا وأن يظهروا الزنى وغير ذلك من القاذورات ; لئلا يفسد بهم سفهاء المسلمين ، وأما الحكم فيما يختص به دينهم من الطلاق والزنى وغيره فليس يلزمهم أن يتدينوا بديننا ، وفي الحكم بينهم بذلك إضرار بحكامهم وتغيير ملتهم ، وليس كذلك الديون والمعاملات ; لأن فيها وجها من المظالم وقطع الفساد . والله أعلم .وفي الآية قول ثان : وهو ما روي عن عمر بن عبد العزيز والنخعي أيضا أن التخيير المذكور في الآية منسوخ بقوله تعالى : وأن احكم بينهم بما أنزل الله وأن على الحاكم أن يحكم بينهم ; وهو مذهب عطاء الخراساني وأبي حنيفة وأصحابه وغيرهم ، وروي عن عكرمة أنه قال : فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم نسختها آية أخرى وأن احكم بينهم بما أنزل الله ، وقال مجاهد : لم ينسخ من " المائدة " إلا آيتان ; قوله : فاحكم بينهم أو أعرض عنهم نسختها وأن احكم بينهم بما أنزل الله ; وقوله : لا تحلوا شعائر الله نسختها فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ، وقال الزهري : مضت السنة أن يرد أهل الكتاب في حقوقهم ومواريثهم إلى أهل دينهم ، إلا أن يأتوا راغبين في حكم الله فيحكم بينهم بكتاب الله . قال السمرقندي : وهذا القول يوافق قول أبي حنيفة إنه لا يحكم بينهم ما لم يتراضوا بحكمنا ، وقال النحاس في " الناسخ والمنسوخ " له : قوله تعالى : فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم منسوخ ; لأنه إنما نزل أول ما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة واليهود فيها يومئذ كثير ، وكان الأدعى لهم والأصلح أن يردوا إلى أحكامهم ، فلما قوي الإسلام أنزل الله عز وجل وأن احكم بينهم بما أنزل الله . وقاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة والزهري وعمر بن عبد العزيز والسدي ; وهو الصحيح من قول الشافعي ; قال في كتاب الجزية : ولا خيار له إذا تحاكموا إليه ; لقوله عز وجل : حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون . قال النحاس : وهذا من أصح الاحتجاجات ; لأنه إذا كان معنى قوله : وهم صاغرون [ ص: 133 ] أن تجري عليهم أحكام المسلمين وجب ألا يردوا إلى أحكامهم ; فإذا وجب هذا فالآية منسوخة ، وهو أيضا قول الكوفيين أبي حنيفة وزفر وأبي يوسف ومحمد ، لا اختلاف بينهم إذا تحاكم أهل الكتاب إلى الإمام أنه ليس له أن يعرض عنهم ، غير أن أبا حنيفة قال : إذا جاءت المرأة والزوج فعليه أن يحكم بينهما بالعدل ، وإن جاءت المرأة وحدها ولم يرض الزوج لم يحكم .وقال الباقون : يحكم فثبت أن قول أكثر العلماء إن الآية منسوخة مع ما ثبت فيها من توقيف ابن عباس ; ولو لم يأت الحديث عن ابن عباس لكان النظر يوجب أنها منسوخة ; لأنهم قد أجمعوا أن أهل الكتاب إذا تحاكموا إلى الإمام فله أن ينظر بينهم ، وأنه إذا نظر بينهم مصيب عند الجماعة ، وألا يعرض عنهم فيكون عند بعض العلماء تاركا فرضا ، فاعلا ما لا يحل ولا يسعه . قال النحاس : ولمن قال بأنها منسوخة من الكوفيين قول آخر ; منهم من يقول : على الإمام إذا علم من أهل الكتاب حدا من حدود الله عز وجل أن يقيمه وإن لم يتحاكموا إليه ويحتج بأن قول الله عز وجل : وأن احكم بينهم يحتمل أمرين :أحدهما : وأن احكم بينهم إذا تحاكموا إليك .والآخر : وأن احكم بينهم وإن لم يتحاكموا إليك - إذا علمت ذلك منهم - قالوا : فوجدنا في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ما يوجب إقامة الحق عليهم وإن لم يتحاكموا إلينا ; فأما ما في كتاب الله فقوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ، وأما ما في السنة فحديث البراء بن عازب قال : مر على رسول الله صلى الله عليه وسلم بيهودي قد جلد وحمم فقال : أهكذا حد الزاني عندكم فقالوا : نعم . فدعا رجلا من علمائهم فقال : سألتك بالله أهكذا حد الزاني فيكم فقال : لا . الحديث ، وقد تقدم . قال النحاس : فاحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بينهم ولم يتحاكموا إليه في هذا الحديث . فإن قال قائل : ففي حديث مالك عن نافع عن ابن عمر أن اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم ; قيل له : ليس في حديث مالك أيضا أن اللذين زنيا رضيا بالحكم وقد رجمهما النبي صلى الله عليه وسلم . قال أبو عمر بن عبد البر : لو تدبر من احتج بحديث البراء لم يحتج ; لأن في درج الحديث تفسير قوله عز وجل : إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا يقول : إن أفتاكم بالجلد والتحميم فخذوه ، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا ، دليل على أنهم حكموه ، وذلك بين في حديث ابن عمر وغيره . فإن قال قائل : ليس في حديث ابن عمر أن الزانيين حكما رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا رضيا بحكمه . قيل له : [ ص: 134 ] حد الزاني حق من حقوق الله تعالى على الحاكم إقامته . ومعلوم أن اليهود كان لهم حاكم يحكم بينهم ، ويقيم حدودهم عليهم ، وهو الذي حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم . والله أعلم .قوله تعالى : وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط روى النسائي عن ابن عباس قال كان قريظة والنضير ، وكان النضير أشرف من قريظة ، وكان إذا قتل رجل من قريظة رجلا من النضير قتل به ، وإذا قتل رجل من النضير رجلا من قريظة ودى مائة وسق من تمر ; فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل رجل من النضير رجلا من قريظة فقالوا : ادفعوه إلينا لنقتله ; فقالوا : بيننا وبينكم النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت : وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط النفس بالنفس ، ونزلت:أفحكم الجاهلية يبغون
تَنْوِيرُ ٱلْمِقْبَاسِ مِن تَفْسِيرِ ٱبْنِ عَبَّاس
Tafsir Tanwir al-Miqbas —
حضرت ابن عباسؓ
وقوله : { سمّاعون للكذب } خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : هم سمّاعون للكذب . والظاهر أنّ الضّمير المقدّر عائد على الفريقين : المنافقين واليهودِ ، بقرينة الحديث عن الفريقين .وحذفُ المسند إليه في مثل هذا المقام حذف اتّبع فيه الاستعمال ، وذلك بعد أن يذكروا متحدّثاً عنه أو بعدَ أن يصدر عن شيء أمر عجيب يأتون بأخبار عنه بجملة محذوففٍ المبتدأ منها ، كقولهم للّذي يصيب بدون قصد «رَمْيَة من غير رَام» ، وقول أبي الرقَيش :سريع إلى ابن العمّ يلطُمُ وجهه ... وليس إلى داعي الندى بسريعوقول بعض شعراء الحماسة :فتى غير محجوب الغنى عن صديقه ... ولا مظهر الشكوى إذا النّعل زلّتعقب قوله :سأشكر عَمْراً إن تراختْ منيّتي ... أياديَ لم تُمنَنْ وإن هي جَلَّتوالسمَّاع : الكثيرُ السمع ، أي الاستماععِ لما يقال له . والسَّمع مستعمل في حقيقته ، أي أنّهم يُصغون إلى الكلام الكذب وهم يعرفونه كَذِبا ، أي أنّهم يحفلون بذلك ويتطلّبونه فيكثر سماعهم إيّاه . وفي هذا كناية عن تفشّي الكذب في جماعتهم بين سامع ومختلق ، لأنّ كثرة السمع تستلزم كثرة القول . والمراد بالكذب كذب أحبارهم الزاعمين أنّ حكم الزّنى في التّوراة التّحميمُ .وجملة { سمّاعون لقوم آخرين لم يأتوك } خبر ثان عن المبتدأ المحذوف . والمعنى أنّهم يقبلون ما يأمرهم به قوم آخرون من كَتم غرضهم عن النّبيء صلى الله عليه وسلم حتّى إن حكم بما يهوَون اتّبعوه وإن حكم بما يخالف هواهم عصَوه ، أي هم أتباع لقوم متستّرين هم القوم الآخرون ، وهم أهل خيبر وأهل فَدَك الّذين بعثوا بالمسألة ولم يأت أحد منهم النّبيء صلى الله عليه وسلم واللام في { لِقوم } للتقوية لضعف اسم الفاعل عن العمل في المفعول .وجملة { يحرّفون الكلم } صفة ثانية { لقوم آخرين } أو حال ، ولك أن تجعلها حالاً { من الّذين يسارعون في الكفر } . وتقدّم الكلام في تحريف الكلم عند قوله تعالى : { من الّذين هادوا يحرّفون الكلم عن مواضعه } في سورة النّساء ( 46 ) ، وأنّ التّحريف الميل إلى حرف ، أي جانب ، أي نقله من موضعه إلى طرف آخر .وقال هنا مِن بعد مواضعه ، وفي سورة النساء ( 46 ) عَن مواضعه ، لأنّ آية سورة النّساء في وصف اليهود كلّهم وتحريفهم في التّوراة . فهو تغيير كلام التّوراة بكلام آخر عن جهل أو قصد أو خطأ في تأويل معاني التّوراة أو في ألفاظها . فكان إبعاداً للكلام عن مواضعه ، أي إزالة للكلام الأصلي سواء عوّض بغيره أو لم يعوّض . وأمّا هاته الآية ففي ذكر طائفة معيّنة أبطلوا العمل بكلام ثابتتٍ في التّوراة إذْ ألغوا حكم الرّجم الثّابت فيها دون تعويضه بغيره من الكلام ، فهذا أشدّ جرأة من التّحريف الآخر ، فكان قوله : من بعد مواضعه } أبلغَ في تحريف الكلام ، لأنّ لفظ ( بعد ) يقتضي أنّ مواضع الكلم مستقرّة وأنّه أبطل العمل بها مع بقائها قائمة في كتاب التّوراة .والإشارة الّتي في قوله : { إن أوتيتم هذا } إلى الكلم المحرّف . والإيتاء هنا : الإفادة كقوله : { وآتاه الله المُلك والحكمة } [ البقرة : 251 ] .والأخذ : القبول ، أي إن أُجبتم بمثل ما تهوَون فاقبلوه وإن لم تجَابوه فاحذروا قبوله . وإنّما قالوا : فاحذروا ، لأنّه يفتح عليهم الطعن في أحكامهم الّتي مَضَوْا عليها وفي حكّامهم الحاكمين بها .وإرادة الله فتنة المفتون قضاؤها له في الأزل ، وعلامة ذلك التّقدير عدم إجداء الموعظة والإرشاد فيه . فذلك معنى قوله : { فلَن تملك له من الله شيئاً } ، أي لا تبلغ إلى هديه بما أمرك الله به من الدّعوة للنّاس كافّة .وهذا التّركيب يدلّ على كلام العرب على انتفاء الحيلة في تحصيل أمر مّا .ومدلول مفرداته أنّك لا تملك ، أي لا تقدر على أقلّ شيء من الله ، أي لا تستطيع نيل شيء من تيسير الله لإزالة ضلالة هذا المفتون ، لأنّ مادّة المِلك تدلّ على تمام القدرة ، قال قَيْس بن الخطيم :مَلكتُ بها كَفِّي فأنْهَر فَتْقَهَا ... أي شددت بالطعنة كفّي ، أي ملكتها بكفّي ، وقال النّبيء صلى الله عليه وسلم لعُيَينة بن حِصْن " أوَ أمْلِكُ لك أن نزع الله من قلبك الرّحمة " وفي حديث دعوة الرّسول صلى الله عليه وسلم عشيرته " فإنّي لا أغني عنكم من الله شيئاً "و { شيئاً } منصوب على المفعولية . وتنكير { شيئاً } للتقليل والتّحقير ، لأنّ الاستفهام لمّا كان بمعنى النّفي كان انتفاء ملك شيء قليللٍ مقتضياً انتفاءَ ملك الشيء الكثير بطريق الأولى .والقول في قوله : { أولئك الّذين لم يرد الله أن يطهّر قلوبهم } كالقول في قوله : { ومن يرد الله فتنته } . والمراد بالتطهير التهيئة لقبول الإيمان والهدَى أو أراد بالتطهير نفس قبول الإيمان .والخزي تقدّم عند قوله تعالى : { إلاّ خزي } في سورة البقرة ( 85 ) ، وقوله : { ربنا إنّك من تدخل النار فقد أخزيته } في سورة آل عمران ( 192 ) .وأعاد سَمَّاعون للكذب } للتّأكيد وليرتّب عليه قوله { أكّالون للسحت } .ومعنى { أكَّالون للسحت } أخَّاذون له ، لأنّ الأكل استعارة لتمام الانتفاع . والسحت بضمّ السين وسكون الحاء الشيء المسحوت ، أي المستأصل . يقال : سحته إذا استأصَله وأتلفه . سمّي به الحرام لأنّه لا يُبارك فيه لصاحبه ، فهو مسحوت وممحوق ، أي مقدّر له ذلك ، كقوله { يمحق الله الرّبا } [ البقرة : 276 ] ، قال الفرزدق :وعَضُّ زماننٍ يابنَ مروانَ لم يَدع ... من المال إلاّ مُسْحَت أو مجَنَّفوالسحت يشمل جميع المال الحرام ، كالربا والرّشوة وأكل مال اليتيم والمغصوب .وقرأ نافع ، وابن عامر ، وعاصم ، وحمزة ، وأبو جعفر ، وخلف «سحْت» بسكون الحاء وقرأه الباقون بضمّ الحاء إتْباعاً لضمّ السّين .تفريع على ما تضمّنه قوله تعالى : { سمّاعون لقوم آخرين لم يأتوك } وقوله : { يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه } ، فإنّ ذلك دلّ على حِوار وقع بينهم في إيفاد نفر منهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم للتحكيم في شأن من شئونهم مالت أهواؤهم إلى تغيير حكم التّوراة فيه بالتّأويل أو الكتمان ، وأنكر عليهم منكرون أو طالبوهم بالاستظهار على تأويلهم فطمعوا أن يجدوا في تحكيم النّبيء صلى الله عليه وسلم ما يعتضدون به . وظاهر الشرط يقتضي أنّ الله أعلم رسوله باختلافهم في حكم حدّ الزّنا ، وبعزمهم على تحكيمه قبل أن يصل إليه المستفتون . وقد قال بذلك بعض المفسّرين فتكون هذه الآية من دلائل النّبوءة . ويحتمل أنّ المراد : فإن جاؤوك مرّة أخرى فاحكم بينهم أو أعرض عنهم .وقد خيّر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم في الحكم بينهم والإعراض عنهم . ووجه التخيير تعارض السببين؛ فسبب إقامة العدل يقتضي الحكمَ بينهم ، وسبب معاملتهم بنقيض قصدهم من الاختبار أو محاولة مصادفة الحكم لهواهم يقتضي الإعراض عنهم لئلاّ يعرّض الحكم النبوي للاستخفاف .وكان ابتداء التخيير في لفظ الآية بالشقّ المقتضي أنّه يحكم بينهم إشارة إلى أنّ الحكم بينهم أولى . ويؤيّده قوله بعد { وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إنّ الله يحبّ المقسطين } أي بالحقّ ، وهو حكم الإسلام بالحدّ . وأمّا قوله : { وإن تُعرض عنهم فلن يضرّوك شيئاً } فذلك تطمين للنّبيء صلى الله عليه وسلم لئلاّ يقول في نفسه : كيف أعرض عنهم ، فيتّخذوا ذلك حجّة علينا . يقولون : ركنّا إليكم ورضينا بحكمكم فأعرضتم عنّا فلا نسمع دعوتكم من بعد . وهذا ممّا يهتمّ به النّبيء صلى الله عليه وسلم لأنّه يؤول إلى تنفير رؤسائِهم دهماءَهم من دعوة الإسلام فطمّنه الله تعالى بأنّه إنْ فعل ذلك لا تنشأ عنه مضرّة . ولعلّ في هذا التطمين إشعاراً بأنّهم لا طمع في إيمانهم في كلّ حال . وليس المراد بالضرّ ضرّ العداوة أو الأذى لأنّ ذلك لا يهتمّ به النّبيء صلى الله عليه وسلم ولا يخشاه منهم ، خلافاً لما فسّر به المفسّرون هنا .وتنكير { شيئاً } للتحقير كما هو في أمثاله ، مثل { فلَن تملك له من الله شيئاً } وهو منصوب على المفعوليّة المطلقة لأنّه في نية الإضافة إلى مصدر ، أي شيئاً من الضرّ ، فهو نائب عن المصدر . وقد تقدّم القول في موقع كلمة شيء عند قوله تعالى : { ولنبلونَّكم بشيء من الخوف والجوع } في سورة البقرة ( 155 ) .والآية تقتضي تخيير حكّام المسلمين في الحكم بين أهل الكتاب إذا حكّموهم؛ لأنّ إباحة ذلك التخيير لغير الرسول من الحكّام مساو إباحته للرسول . واختلف العلماء في هذه المسألة وفي مسألة حكم حكّام المسلمين في خصومات غير المسلمين . وقد دلّ الاستقراء على أنّ الأصل في الحكم بين غير المسلمين إذا تنازع بعضهم مع بعض أن يحكم بينهم حكّام ملّتهم ، فإذا تحاكموا إلى حكّام المسلمين فإن كان ما حدث من قبيل الظلم كالقتل والغصب وكلّ ما ينتشر منه فساد فلا خلاف أنّه يجب الحكم بينهم ( وعلى هذا فالتخيير الذي في الآية مخصوص بالإجماع ) . وإن لم يكن كذلك كالنزاع في الطلاق والمعاملات .فمن العلماء من قال : حكم هذا التخيير مُحْكم غير منسوخ ، وقالوا : الآية نزلت في قصّة الرجم ( الّتي رواها مالك في الموطأ } والبخاري ومن بعده ) وذلك أنّ يهودياً زنى بامرأة يهوديّة ، فقال جميعهم : لنسأل محمّداً عن ذلك . فتحاكموا إليه ، فخيّره الله تعالى . واختلف أصحاب هذا القول فقال فريق منهم : كان اليهود بالمدينة يومئذٍ أهل موادعة ولم يكونوا أهل ذمّة ، فالتّخيير باق مع أمثالهم ممّن ليس داخلاً تحت ذمّة الإسلام ، بخلاف الّذين دخلوا في ذمّة الإسلام ، فهؤلاء إذا تحاكموا إلى المسلمين وجب الحكم بينهم . وهو قول ابن القاسم في رواية عيسى بن دينار ، لأنّ اليهوديين كانا من أهل خيبر أو فَدَك وهما يومئذٍ من دار الحرب في موادعة .وقال الجمهور : هذا التخيير عام في أهل الذمّة أيضاً . وهذا قول مالك ورواية عن الشافعي . قال مالك : الأعراض أولى . وقيل : لا يحكم بينهم في الحدود ، وهذا أحد قولي الشافعي . وقيل : التّخيير منسوخ بقوله تعالى بعد { وأن احكم بينهم بما أنزل الله } [ المائدة : 49 ] ، وهو قول أبي حنيفة ، وقاله ابن عبّاس ، ومجاهد ، وعكرمة ، والسديّ ، وعمر بن عبد العزيز ، والنخَعي ، وعطاء ، الخراساني ، ويبعده أنّ سياق الآيات يقتضي أنّها نزلت في نسق واحد فيبعد أن يكون آخرها نسخاً لأوّلها .وقوله : { وإنْ حكمتَ فاحكم بينهم بالقسط } أي بالعدل . والعدل : الحكم الموافق لشريعة الإسلام . وهذا يحتمل أنّ الله نهى رسوله عن أن يحكم بينهم بما في التّوراة لأنّها شريعة منسوخة بالإسلام . وهذا الّذي رواه مالك . وعلى هذا فالقصّة الّتي حكّموا فيها رسول الله لم يحكم فيها الرسول على الزانيين ولكنّه قَصَر حكمه على أن بيّن لليهود حقيقة شرعهم في التّوراة ، فاتّضح بطلان ما كانوا يحكمون به لعدم موافقته شرعهم ولا شرْع الإسلام؛ فهو حُكم على اليهود بأنّهم كتموا . ويكون مَا وقع في حديث «الموطأ» والبخاري : أنّ الرجل والمرأة رُجما ، إنّما هو بحكم أحبارهم . ويحتمل أنّ الله أمره أن يحكُم بينهم بما في التّوراة لأنّه يوافق حكم الإسلام؛ فقد حكم فيه بالرجم قبل حدوث هذه الحادثة أو بعدها . ويحتمل أنّ الله رخّص له أن يحكم بينهم بشرعهم حين حكَّموه . وبهذا قال بعض العلماء فيما حكاه القرطبي . وقائل هذا يقول : هذا نُسخ بقوله تعالى : { وأن احكم بينهم بما أنزل الله } [ المائدة : 49 ] ، وهو قول جماعة من التّابعين . ولا داعي إلى دعوى النسخ ، ولعلّهم أرادوا به ما يشمل البيان ، كما سنذكره عند قوله : { فاحكم بينهم بما أنزل الله } [ المائدة : 48 ] .والّذي يستخلص من الفقه في مسألة الحكم بين غير المسلمين دون تحكيم : أنّ الأمّة أجمعت على أنّ أهل الذمّة داخلون تحت سلطان الإسلام ، وأنّ عهود الذمّة قضت بإبقائهم على ما تقتضيه مللهم في الشؤون الجارية بين بعضهم مع بعض بما حددتْ لهم شرائعهم . ولذلك فالأمور الّتي يأتونها تنقسم إلى أربعة أقسام :القسم الأوّل : ما هو خاصّ بذات الذمّيّ من عبادته كصلاته وذبحه وغيرها ممّا هو من الحلال والحرام . وهذا لا اختلاف بين العلماء في أنّ أيمّة المسلمين لا يتعرّضون لهم بتعطيله إلاّ إذا كان فيه فساد عامّ كقتل النّفس .القسم الثّاني : ما يجري بينهم من المعاملات الراجعة إلى الحلال والحرام في الإسلام ، كأنواع من الأنكحة والطلاق وشرب الخمر والأعمال الّتي يستحلّونها ويحرّمها الإسلام . وهذه أيضاً يقرّون عليها ، قال مالك : لا يقام حَدّ الزنا على الذميّين ، فإن زنى مسلم بكتابية يحدّ المسلم ولا تحدّ الكتابية . قال ابن خُويز منداد : ولا يُرسل الإمام إليهم رسولاً ولا يُحضِر الخصمَ مجلسه .القسم الثّالث : ما يتجاوزهم إلى غيرهم من المفاسد كالسرقة والاعتداء على النفوس والأعراض . وقد أجمع علماء الأمّة على أنّ هذا القسم يجري على أحكام الإسلام ، لأنّا لم نعاهدهم على الفسادِ ، وقد قال تعالى : { والله لا يحبّ الفساد } [ البقرة : 205 ] ، ولذلك نمنعهم من بيع الخمر للمسلمين ومن التظاهر بالمحرّمات .القسم الرّابع : ما يجري بينهم من المعاملات الّتي فيها اعتداء بعضهم على بعض : كالجنايات ، والديون ، وتخاصم الزوجين . فهذا القسم إذا تراضوا فيه بينهم لا نتعرّض لهم ، فإن استعدى أحدهم على الآخر بحاكم المسلمين . فقال مالك : يقضي الحاكم المسلم بينهم فيه وجوباً ، لأنّ في الاعتداء ضرباً من الظلم والفساد ، وكذلك قال الشافعي ، وأبو يوسف ، ومحمّد ، وزفر . وقال أبو حنيفة : لا يَحكم بينهم حتّى يتراضى الخصمان معاً .
ٱلتَّفْسِيرُ ٱلْوَسِيط
Tafsir Al-Waseet —
علمائے جامعہ ازہر
ثم كشف - سبحانه - عن رذيلة أخرى من رذائلهم المتعددة فقال - تعالى - : ( سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ ) .والسحت : هو كل ما خبث كسبه وقبح مصدره ، كالتعامل بالربا وأخذ الرشوة وما إلى ذلك من وجوه الكسب الحرام .وقد بسط الإِمام القرطبي هذا المعنى فقال : والسحت في اللغة أصله الهلاك والشدة .قال - تعالى - ( فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ ) أي : - فيهلككم ويستأصلكم بعذاب - ويقال للحالق : أسحت أي استأصل . وقال الفراء : أصل السحت كلب الجوع . يقال رجل مسحوت المعدة أي : أكول ، فكأن بالمسترشي وآكل الحرام من الشره إلى ما يعطي مثل الذي بالمسحوت المعدة من النهم .وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" " كل لحم نبت بالسحت فالنار أولى به " قالوا يا رسول الله وما السحت؟ قال : " الرشوة في الحكم " " .وقال بعضهم : من السحت أن يأكل الرجل بجاهه . وذلك بأن يكون له جاه عند السلطان فيسأله إنسان حاجة فلا يقضيها إلا برشوة يأخذها .والمعنى : أن هؤلاء المنافقين واليهود من صفاتهم - أيضا - أنهم كثيروا السماع للكذب ، وكثيروا الأكل للمال الحرام بجميع صورة وألوانه . ومن كان هذا شأنه فلا تنتظر منه خيرا ، ولا تؤمل فيه رشدا .وقوله : ( سماعون ) خبر لمبتدأ محذوف أي : هم سماعون . وكرر تأكيدا لما قبله ، وتمهيداً لما بعده وهو قوله : ( أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ ) .وجاءت هاتان الصفتان - سماعون وأكالون - بصيغة المبالغة ، للإِيذان بأنهم محبون حبا جما لما يأباه الدين والخلق الكريم . فهم يستمرئون سماع الباطل من القول ، كما يستمرئون أكل أموال الناس بالباطل :إن اليهود بصفة خاصة قد اشتهروا في كل زمان بتقبل السحت ، وقد أرشد الله - تعالى - نبيه إلى ما يجب عليه نحوهم إذا ما تحاكموا إليه فقال : ( فَإِن جَآءُوكَ فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فاحكم بَيْنَهُمْ بالقسط إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين ) .أي : فإن جاءكم هؤلاء اليهود متحاكمين إليك - يا محمد - في قضاياهم ، فأنت مخير بين أن تحكم بما أراك الله ، وبين أن تتركهم وتهملهم وتعرض عنهم ، وإن تعرض عنهم ، فيما احتكموا فيه إليك قاصدين مضرتك وإيذاءك فلا تبال بشيء من كيدهم ، لأن الله حافظك وناصرك عليهم ، وإن اخترت الحكم في قضاياهم ، فليكن حكمك بالعدل الذي أمرت به ، لأن الله - تعالى - يحب العادلين في أحكامهم .والفاء في قوله : ( فَإِن جَآءُوكَ ) للإِفصاح أي : إذا كان هذا حالهم وتلك صفاتهم فإن جاءوك متحاكمين إليك فيما شجر بينهم من خصومات ( فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ) .وجاء التعبير بإن المفيدة للشك - مع أنهم قد جاءوا إليه - للإيذان بأنهم كانوا مترددين في التحاكم إليه صلى الله عليه وسلم وأنهم ما ذهبوا إليه ظنا منهم بأنه سيحكم فيهم بما يتفق مع أهوائهم ، فلما حكم فيهم بما هو الحق كبتوا وندموا على مجيئهم إليه .قال أبو السعود : وقوله : ( وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ ) بيان لحال الأمرين إثر تخييره صلى الله عليه وسلم بينهما . وتقديم حال الإِعراض ، للمسارعة إلى بيان أنه لا ضرر فيه ، حيث كان مظنة الضرر ، لما أنهم كانوا لا يتحاكمون إليه إلا لطلب الأيسر والأهون عليهم ، فإذا أعرض عنهم وأبى الحكومة بينهم شق ذلك عليهم؛ فتشتد عداوتهم ومضارتهم له ، فأمنه الله بقوله : ( فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً ) من الضر .وكان التعبير بإن أيضا في قوله ( وَإِنْ حَكَمْتَ فاحكم بَيْنَهُمْ ) للإشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم ليس حريصاً على الحكم بينهم بل هو زاهد فيه ، لأنهم ليسوا طلاب حق وانصاف بل هم يريدون الحكم كما يهوون ويشتهون ، والدليل على ذلك أن التوراة التي بين أيديهم فيها حكم الله ، إلا أنهم جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤملين أن يقضي بينهم بغير ما أنزل الله ، فيشيعوا ذلك بين الناس ، ويعلنوا عدم صدقه في نبوته ، فلما حكم بما أنزل الله خاب أملهم وانقلبوا صاغرين .وقوله : ( إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين ) تذييل مقرر لما قبله من وجوب الحكم بينهم بالعدل إذا ما اختار أن يقضي بينهم .يقال : أقسط الحاكم في حكمه ، إذا عدل وقضى بالحق فهو مقسط أي عادل ومنه قوله - تعالى - ( إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين ) .روى مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن . وكلتا يديه يمين . الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا " .هذا ، ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآية الكريمة ما يأتي :1 - أن أكل السحت حرام سواء أكان عن طريق الرشوة أم عن طريق محرم سواها .ولقد كان السابقون من السلف الصالح يتحرون الحلال . وينفرون من الحرام ، بل ومن الشبهات ، وكانوا يرون أن تأييد الحق ودفع الباطل واجب عليهم ، وأنه لا يصح أن يأخذوا عليه أجرا .قال ابن جرير : شفع مسروق لرجل في حاجة فأهدى إليه جارية ، فغضب مسروق غضباً شديدا وقال : لو علمت أنك تفعل هذا ما كلمت في حاجتك ، ولا أكلمه فيما بقي من حاجتك . سمعت ابن مسعود يقول : من شفع شفاعة ليرد بها حقا ، أو يرفع بها ظلما ، فأهدى له ، فقيل ، فهو سحت .وعن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " " كل لحم أنبته السحت فالنار أولى به " قيل يا رسول الله وما السحت؟ قال صلى الله عليه وسلم : " الرشوة في الحكم " " .وعن الحكم بن عبد الله قال : قال لي أنس بن مالك : إذا انقلبت إلى أبيك فقل له : إياك والرشوة فإنها سحت . وكان أبوه على شرط المدينة .قال بعض العلماء : والرشوة قد تكون في الحكم وهي محرمة على الراشي والمرتشي . وقد روى أنه صلى الله عليه وسلم قال : " لعن الراشي والمرتشي والذي يمشي بينهما " لأن الحاكم حينئذ إن حكم له بما هو حقه كان فاسقاً من جهة أنه قبل الرشوة على أن يحكم بما يعرض عليه الحكم به . وإن حكم بالباطل كان فاسقا من جهة أنه أخذ الرشوة . ومن جهة أنه حكم بالباطل .وقد تكون الرشوة في غير الحكم مثل أن يرشو الحاكم ليدفع ظلمه عنه فهذه الرشوة محرمة على آخذها غير محرمة على معطيها ، فقد روى عن الحسن أنه قال :" لا بأس أن يدفع الرجل من ماله ما يصون به عرضه " وروى عن جابر بن زيد والشعبي أنهما قالا : " لا بأس بأن يصانع الرجل عن نفسه وماله إذا خاف الظلم " .وقد ورد أنه صلى الله عليه وسلم حين قسم غنائم بعض الغزوات وأعطى العطايا الجزيلة ، أعطى العباس بن مرداس أقل من غيره ، فلم يرق ذلك العباس وقال شعرا يتضمن التعجيب من هذا التصرف . فقال صلى الله عليه وسلم " اقطعوا لسانه " فزادوه حتى رضى . فهذا نوع من الرشوة رخص فيه السلف لدفع الظلم عن نفسه يدفعه إلأى من يريد ظلمه أو انتهاك عرضه .2 - استدل بعض العلماء بقوله - تعالى - : ( فَإِن جَآءُوكَ فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ) على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان مخيرا في الحكم بين أهل الكتاب أو الإِعراض عنهم ، وأن حكم التخيير غير منسوخ ، لأن ظاهر الآية يفيد ذلك .ويرى فريق من العلماء أن هذا التخيير قد نسخ بقوله - تعالى - بعد ذلك ( وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ الله ) قالوا : إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان أولا مخيرا ثم أمر بعد ذلك بإجراء الأحكام عليهم .وقد رد القائلون بثبوت التخيير على القائلين بالنسخ بأن التخيير ثابت بهذه الآية .أما قوله : ( وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ الله ) فهو بيان لكيفية الحكم عند اختياره له .ويرى فريق ثالث من العلماء : أن التخيير ورد في المعاهدين الذين ليسوا من أهل الذمة كبني النضير وبني قريظة ، فهؤلاء كان الرسول صلى الله عليه وسلم مخيرا بين أن يحكم بينهم أو أن يعرض عنهم :
تَفْسِيرُ ٱلْبَغَوِيِّ
Tafsir al-Baghawi —
علامہ بغوی
قوله تعالى : ( سماعون للكذب أكالون للسحت ) قرأ ابن كثير وأبو جعفر وأهل البصرة والكسائي " للسحت " بضم الحاء ، والآخرون بسكونها ، وهو الحرام ، وأصله الهلاك والشدة ، قال الله تعالى : ( فيسحتكم بعذاب ) ( طه ، 61 ) ، نزلت في حكام اليهود كعب بن الأشرف وأمثاله ، كانوا يرتشون ويقضون لمن رشاهم .قال الحسن : كان الحاكم منهم إذا أتاه أحد برشوة جعلها في كمه فيريها إياه ويتكلم بحاجته فيسمع منه ولا ينظر إلى خصمه ، فيسمع الكذب ويأكل الرشوة .وعنه أيضا قال : إنما ذلك في الحكم إذا رشوته ليحق لك باطلا أو يبطل عنك حقا . فأما أن يعطي الرجل الوالي يخاف ظلمه ليدرأ به عن نفسه فلا بأس ، فالسحت هو الرشوة في الحكم على قول الحسن ومقاتل وقتادة والضحاك ، وقال ابن مسعود : هو الرشوة في كل شيء ، وقال ابن مسعود : من يشفع شفاعة ليرد بها حقا أو يدفع بها ظلما فأهدي له فقبل فهو سحت ، فقيل له : يا أبا عبد الرحمن ما كنا نرى ذلك إلا الأخذ على الحكم ، فقال : الأخذ على الحكم كفر قال الله تعالى : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) " سورة المائدة ، 44 " .أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا عبد الرحمن بن أبي شريح أنا أبو القاسم البغوي ثنا علي بن الجعد أنا ابن أبي ذئب عن الحارث بن عبد الرحمن عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لعن الله الراشي والمرتشي " . .والسحت كل كسب لا يحل .قوله عز وجل : ( فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا ) خير الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم في الحكم بينهم إن شاء حكم وإن شاء ترك .واختلفوا في حكم الآية اليوم هل للحاكم الخيار في الحكم بين أهل الذمة إذا تحاكموا إلينا؟ فقال أكثر أهل العلم : هو حكم ثابت ، وليس في سورة المائدة منسوخ ، وحكام المسلمين بالخيار في الحكم بين أهل الكتاب إن شاءوا حكموا وإن شاءوا لم يحكموا ، وإن حكموا حكموا بحكم الإسلام ، وهو قول النخعي والشعبي وعطاء وقتادة .وقال قوم : يجب على حاكم المسلمين أن يحكم بينهم ، والآية منسوخة نسخها قوله تعالى : وأن احكم بينهم بما أنزل الله ( سورة المائدة ، 49 ) ، وهو قول مجاهد وعكرمة ، وروي ذلك عن ابن عباس وقال : لم ينسخ من المائدة إلا آيتان ، قوله تعالى : لا تحلوا شعائر الله نسخها قوله تعالى : فاقتلوا المشركين وقوله : فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم " نسخها قوله تعالى : وأن احكم بينهم بما أنزل الله " فأما إذا تحاكم إلينا مسلم وذمي فيجب علينا الحكم بينهما لا يختلف القول فيه ، لأنه لا يجوز للمسلم الانقياد لحكم أهل الذمة قوله ( وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط ) أي : بالعدل ، ( إن الله يحب المقسطين ) أي : العادلين ، روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " المقسطون عند الله على منابر من نور " .