تَفْسِيرُ ٱلْمُيَسَّر
Tafsir Al-Muyassar —
کنگ فہد قرآن کمپلیکس
وفَرَضنا عليهم في التوراة أن النفس تُقْتَل بالنفس، والعين تُفْقَأ بالعين، والأنف يُجْدَع بالأنف، والأذُن تُقْطع بالأذُن، والسنَّ تُقْلَعُ بالسنِّ، وأنَّه يُقْتَصُّ في الجروح، فمن تجاوز عن حقه في الاقتصاص من المُعتدي فذلك تكفير لبعض ذنوب المعتدى عليه وإزالةٌ لها. ومن لم يحكم بما أنزل الله في القصاص وغيره، فأولئك هم المتجاوزون حدود الله.
تَفْسِيرُ ٱلْجَلَالَيْنِ
Tafsir al-Jalalayn —
جلال الدین محلی اور جلال الدین سیوطی
«وكتبنا» فرضنا «عليهم فيها» أي التوراة «أن النفس» تقتل «بالنفس» إذا قتلتها «والعين» تُفقأ «بالعين والأنف» يجُدع «بالأنف والأذن» تُقطع «بالأذن والسنَّ» تقلع «بالسنِّ» وفي قراءة بالرفع في الأربعة «والجروح» بالوجهين «قصاص» أي فيها إذا كاليد والرجل ونحو ذلك وما لا يمكن فيه الحكومة وهذا الحكم وإن كتب عليهم فهو مقرر في شرعنا «فمن تصدق به» أي القصاص بأن مكن عن نفسه «فهو كفارة له» لما أتاه «ومن لم يحكم بما أنزل الله» في القصاص وغيره «فأولئك هم الظالمون».
تَفْسِيرُ ٱلْقُرْطُبِيِّ
Tafsir al-Qurtubi —
علامہ قرطبی
قوله تعالى : وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمونفيه ثلاثون مسألة :الأولى : قوله تعالى : وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس بين تعالى أنه سوى بين النفس والنفس في التوراة فخالفوا ذلك ، فضلوا ; فكانت دية النضيري أكثر ، وكان النضيري لا يقتل بالقرظي ، ويقتل به القرظي فلما جاء الإسلام راجع بنو قريظة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه ، فحكم بالاستواء ; فقالت بنو النضير : قد حططت منا ; فنزلت هذه الآية . وكتبنا بمعنى فرضنا ، وقد تقدم ، وكان شرعهم القصاص أو العفو ، وما كان فيهم الدية ; كما تقدم في " البقرة " بيانه .وتعلق أبو حنيفة وغيره بهذه الآية فقال : يقتل المسلم بالذمي ; لأنه نفس بنفس ، وقد تقدم في " البقرة " بيان هذا ، وقد روى أبو داود والترمذي والنسائي عن علي رضي الله عنه أنه سئل هل خصك رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء ؟ فقال : لا ، إلا ما في هذا ، وأخرج كتابا من قراب سيفه وإذا فيه ( المؤمنون تتكافأ دماؤهم وهم يد على من سواهم ولا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده ) وأيضا فإن الآية إنما جاءت للرد على اليهود في المفاضلة بين القبائل ، وأخذهم من قبيلة رجلا برجل ، ومن قبيلة أخرى رجلا برجلين ، وقالت الشافعية : هذا خبر عن شرع من قبلنا ، وشرع من قبلنا ليس شرعا لنا ; وقد مضى في " البقرة " في الرد عليهم ما يكفي فتأمله هناك .ووجه رابع : وهو أنه تعالى قال : وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس وكان ذلك [ ص: 138 ] مكتوبا على أهل التوراة وهم ملة واحدة ، ولم يكن لهم أهل ذمة كما للمسلمين أهل ذمة ; لأن الجزية فيء وغنيمة أفاءها الله على المؤمنين ، ولم يجعل الفيء لأحد قبل هذه الأمة ، ولم يكن نبي فيما مضى مبعوثا إلا إلى قومه ; فأوجبت الآية الحكم على بني إسرائيل إذ كانت دماؤهم تتكافأ ; فهو مثل قول الواحد منا في دماء سوى المسلمين النفس بالنفس ، إذ يشير إلى قوم معينين ، ويقول : إن الحكم في هؤلاء أن النفس منهم بالنفس ; فالذي يجب بحكم هذه الآية على أهل القرآن أن يقال لهم فيما بينهم - على هذا الوجه - : النفس بالنفس ، وليس في كتاب الله ما يدل على أن النفس بالنفس مع اختلاف الملة .الثانية : قال أصحاب الشافعي وأبو حنيفة : إذا جرح أو قطع الأذن أو اليد ثم قتل فعل ذلك به ; لأن الله تعالى قال : وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين فيؤخذ منه ما أخذ ، ويفعل به كما فعل ، وقال علماؤنا : إن قصد به المثلة فعل به مثله ، وإن كان ذلك في أثناء مضاربته ومدافعته قتل بالسيف ; وإنما قالوا ذلك في المثلة يجب ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم سمل أعين العرنيين ; حسبما تقدم بيانه في هذه السورة .الثالثة : قوله تعالى : والعين بالعين قرأ نافع وعاصم والأعمش وحمزة بالنصب في جميعها على العطف ، ويجوز تخفيف " أن " ورفع الكل بالابتداء والعطف ، وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وأبو جعفر بنصب الكل إلا الجروح ، وكان الكسائي وأبو عبيد يقرآن " والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح " بالرفع فيها كلها . قال أبو عبيد : حدثنا حجاج عن هارون عن عباد بن كثير عن عقيل عن الزهري عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ " وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص " ، والرفع من ثلاث جهات ; بالابتداء والخبر ، وعلى المعنى على موضع ( أن النفس ) ; لأن المعنى قلنا لهم : النفس بالنفس .والوجه الثالث : قاله الزجاج يكون عطفا على المضمر في النفس ; لأن الضمير في النفس في موضع رفع ; لأن التقدير أن النفس هي مأخوذة بالنفس ; فالأسماء معطوفة على هي .قال ابن المنذر : ومن قرأ بالرفع جعل ذلك ابتداء كلام ، حكم في المسلمين ; وهذا أصح القولين ، وذلك أنها قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم " والعين بالعين " وكذا ما بعده ، والخطاب للمسلمين أمروا بهذا . ومن خص الجروح بالرفع فعلى القطع مما قبلها والاستئناف بها ; كأن المسلمين أمروا بهذا خاصة ، وما قبله لم يواجهوا به .الرابعة : هذه الآية تدل على جريان القصاص فيما ذكر وقد تعلق ابن شبرمة بعموم قوله : [ ص: 139 ] والعين بالعين على أن اليمنى تفقأ باليسرى وكذلك على العكس ، وأجرى ذلك في اليد اليمنى واليسرى ، وقال : تؤخذ الثنية بالضرس والضرس بالثنية ; لعموم قوله تعالى : والسن بالسن . والذين خالفوه وهم علماء الأمة قالوا : العين اليمنى هي المأخوذة باليمنى عند وجودها ، ولا يتجاوز ذلك إلى اليسرى مع الرضا ; وذلك يبين لنا أن المراد بقوله : والعين بالعين استيفاء ما يماثله من الجاني ; فلا يجوز له أن يتعدى إلى غيره كما لا يتعدى من الرجل إلى اليد في الأحوال كلها ، وهذا لا ريب فيه .الخامسة : وأجمع العلماء على أن العينين إذا أصيبتا خطأ ففيهما الدية ، وفي العين الواحدة نصف الدية ، وفي عين الأعور إذا فقئت الدية كاملة ; روي ذلك عن عمر وعثمان ، وبه قال عبد الملك بن مروان والزهري وقتادة ومالك والليث بن سعد وأحمد وإسحاق ، وقيل : نصف الدية ; روي ذلك عن عبد الله بن المغفل ومسروق والنخعي ; وبه قال الثوري والشافعي والنعمان . قال ابن المنذر : وبه نقول ; لأن في الحديث في العينين الدية ومعقول إذ كان كذلك أن في إحداهما نصف الدية . قال ابن العربي : وهو القياس الظاهر ، ولكن علماؤنا قالوا : إن منفعة الأعور ببصره كمنفعة السالم أو قريب من ذلك ، فوجب عليه مثل ديته .السادسة : واختلفوا في الأعور يفقأ عين صحيح ; فروي عن عمر وعثمان وعلي أنه لا قود عليه ، وعليه الدية كاملة ; وبه قال عطاء وسعيد بن المسيب وأحمد بن حنبل ، وقال مالك : إن شاء اقتص فتركه أعمى ، وإن شاء أخذ الدية كاملة ( دية عين الأعور ) ، وقال النخعي : إن شاء اقتص وإن شاء أخذ نصف الدية . وقال الشافعي وأبو حنيفة والثوري : عليه القصاص ، وروي ذلك عن علي أيضا ، وهو قول مسروق وابن سيرين وابن معقل ، واختاره ابن المنذر وابن العربي ; لأن الله تعالى قال : والعين بالعين وجعل النبي صلى الله عليه وسلم في العينين الدية ; ففي العين نصف الدية ، والقصاص بين صحيح العين والأعور كهيئته بين سائر الناس ، ومتعلق أحمد بن حنبل أن في القصاص منه أخذ جميع البصر ببعضه وذلك ليس بمساواة ، وبما روي عن عمر وعثمان وعلي في ذلك ، ومتمسك مالك أن الأدلة لما تعارضت خير المجني عليه . قال ابن العربي : والأخذ بعموم القرآن أولى ; فإنه أسلم عند الله تعالى .السابعة : واختلفوا في عين الأعور التي لا يبصر بها ; فروي عن زيد بن ثابت أنه قال : فيها مائة دينار ، وعن عمر بن الخطاب أنه قال : فيها ثلث ديتها ; وبه قال إسحاق ، وقال مجاهد : فيها نصف ديتها ، وقال مسروق والزهري ومالك والشافعي وأبو ثور والنعمان : فيها حكومة ; قال ابن المنذر : وبه نقول لأنه الأقل مما قيل .[ ص: 140 ] الثامنة : وفي إبطال البصر من العينين مع بقاء الحدقتين كمال الدية ، ويستوي فيه الأعمش والأخفش ، وفي إبطاله من إحداهما مع بقائها النصف . قال ابن المنذر وأحسن ما قيل في ذلك ما قاله علي بن أبي طالب : أنه أمر بعينه الصحيحة فغطيت وأعطي رجل بيضة فانطلق بها وهو ينظر حتى انتهى نظره ، ثم أمر بخط عند ذلك ، ثم أمر بعينه الأخرى فغطيت وفتحت الصحيحة ، وأعطي رجل بيضة فانطلق بها وهو ينظر حتى انتهى نظره ثم خط عند ذلك ، ثم أمر به فحول إلى مكان آخر ففعل به مثل ذلك فوجده سواء ; فأعطى ما نقص من بصره من مال الآخر ، وهذا على مذهب الشافعي ; وهو قول علمائنا ، وهي :التاسعة : ولا خلاف بين أهل العلم على أن لا قود في بعض البصر ، إذ غير ممكن الوصول إليه ، وكيفية القود في العين أن تحمى مرآة ثم توضع على العين الأخرى قطنة ، ثم تقرب المرآة من عينه حتى يسيل إنسانها ; روي عن علي رضي الله عنه ; ذكره المهدوي وابن العربي . واختلف في جفن العين ; فقال زيد بن ثابت : فيه ربع الدية ، وهو قول الشعبي والحسن وقتادة وأبي هاشم والثوري والشافعي وأصحاب الرأي ، وروي عن الشعبي أنه قال : في الجفن الأعلى ثلث الدية وفي الجفن الأسفل ثلثا الدية ، وبه قال مالك .العاشرة : قوله تعالى : والأنف بالأنف جاء الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : وفي الأنف إذا أوعب جدعا الدية . قال ابن المنذر : وأجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على القول به ; والقصاص من الأنف إذا كانت الجناية عمدا كالقصاص من سائر الأعضاء على كتاب الله تعالى ، واختلفوا في كسر الأنف . فكان مالك يرى في العمد منه القود ، وفي الخطأ الاجتهاد ، وروى ابن نافع أنه لا دية للأنف حتى يستأصله من أصله . قال أبو إسحاق التونسي : وهذا شاذ ، والمعروف الأول ، وإذا فرعنا على المعروف ففي بعض المارن من الدية بحسابه من المارن . قال ابن المنذر : وما قطع من الأنف فبحسابه ; روي ذلك عن عمر بن عبد العزيز والشعبي ، وبه قال الشافعي . قال أبو عمر : واختلفوا في المارن إذا قطع ولم يستأصل الأنف ; فذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم إلى أن في ذلك الدية كاملة ، ثم إن قطع منه شيء بعد ذلك ففيه حكومة . قال مالك : الذي فيه الدية من الأنف أن يقطع المارن ; وهو دون العظم . قال ابن القاسم : وسواء قطع المارن من العظم أو استؤصل الأنف من العظم من تحت العينين إنما فيه الدية ; كالحشفة فيها الدية : وفي استئصال الذكر الدية .الحادية عشرة : قال ابن القاسم : وإذا خرم الأنف أو كسر فبرئ على عثم ففيه الاجتهاد ، وليس فيه دية معلومة . وإن برئ على غير عثم فلا شيء فيه . قال : وليس الأنف إذا [ ص: 141 ] خرم فبرئ على غير عثم كالموضحة تبرأ على غير عثم فيكون فيها ديتها ; لأن تلك جاءت بها السنة ، وليس في خرم الأنف أثر . قال : والأنف عظم منفرد ليس فيه موضحة ، واتفق مالك والشافعي وأصحابهما على أن لا جائفة فيه ، ولا جائفة عندهم إلا فيما كان في الجوف ، والمارن ما لان من الأنف ; وكذلك قال الخليل وغيره . قال أبو عمر : وأظن روثته مارنه ، وأرنبته طرفه ، وقد قيل : الأرنبة والروثة والعرتمة طرف الأنف . والذي عليه الفقهاء مالك والشافعي والكوفيون ومن تبعهم ، في الشم إذا نقص أو فقد حكومة .الثانية عشرة : قوله تعالى : والأذن بالأذن قال علماؤنا رحمة الله عليهم في الذي يقطع أذني رجل : عليه حكومة ، وإنما تكون عليه الدية في السمع ، ويقاس في نقصانه كما يقاس في البصر ، وفي إبطاله من إحداهما نصف الدية ولو لم يكن يسمع إلا بها ، بخلاف العين العوراء فيها الدية كاملة ; على ما تقدم ، وقال أشهب : إن كان السمع إذا سئل عنه قيل إن أحد السمعين يسمع ما يسمع السمعان فهو عندي كالبصر ، وإذا شك في السمع جرب بأن يصاح به من مواضع عدة ، يقاس ذلك ; فإن تساوت أو تقاربت أعطي بقدر ما ذهب من سمعه ويحلف على ذلك . قال أشهب : ويحسب له ذلك على سمع وسط من الرجال مثله ; فإن اختبر فاختلف قوله لم يكن له شيء ، وقال عيسى بن دينار : إذا اختلف قوله عقل له الأقل مع يمينه .الثالثة عشرة : قوله تعالى : والسن بالسن قال ابن المنذر : وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أقاد من سن وقال : كتاب الله القصاص . وجاء الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : في السن خمس من الإبل . قال ابن المنذر : فبظاهر هذا الحديث نقول ; لا فضل للثنايا منها على الأنياب والأضراس والرباعيات ; لدخولها كلها في ظاهر الحديث ; وبه يقول الأكثر من أهل العلم ، وممن قال بظاهر الحديث ولم يفضل شيئا منها على شيء عروة بن الزبير وطاوس والزهري وقتادة ومالك والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق والنعمان وابن الحسن ، وروي ذلك عن علي بن أبي طالب وابن عباس ومعاوية ، وفيه قول ثان - رويناه عن عمر بن الخطاب أنه قضى فيما أقبل من الفم بخمس فرائض خمس فرائض ، وذلك خمسون دينارا ، قيمة كل فريضة عشرة دنانير ، وفي الأضراس ببعير بعير ، وكان عطاء يقول : في السن والرباعيتين والنابين خمس خمس ، وفيما بقي بعيران بعيران ، أعلى الفم وأسفله سواء ، والأضراس سواء ; قال أبو عمر : أما ما رواه مالك في موطئه عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أن عمر قضى في الأضراس ببعير بعير فإن المعنى في ذلك أن الأضراس عشرون ضرسا ، والأسنان اثنا [ ص: 142 ] عشر سنا : أربع ثنايا وأربع رباعيات وأربع أنياب ; فعلى قول عمر تصير الدية ثمانين بعيرا ; في الأسنان خمسة خمسة ، وفي الأضراس بعير بعير ، وعلى قول معاوية في الأضراس والأسنان خمسة أبعرة خمسة أبعرة ; تصير الدية ستين ومائة بعير . وعلى قول سعيد بن المسيب ، بعيرين بعيرين في الأضراس وهي عشرون ضرسا . يجب لها أربعون ، وفي الأسنان خمسة أبعرة فذلك ستون ، وهي تتمة المائة بعير ، وهي الدية كاملة من الإبل ، والاختلاف بينهم إنما هو في الأضراس لا في الأسنان . قال أبو عمر : واختلاف العلماء من الصحابة والتابعين في ديات الأسنان وتفضيل بعضها على بعض كثير جدا ، والحجة قائمة لما ذهب إليه الفقهاء مالك وأبو حنيفة والثوري ; بظاهر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : وفي السن خمس من الإبل والضرس سن من الأسنان . روى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : الأصابع سواء والأسنان سواء الثنية والضرس سواء هذه وهذه سواء وهذا نص أخرجه أبو داود ، وروى أبو داود أيضا عن ابن عباس قال : جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابع اليدين والرجلين سواء . قال أبو عمر : على هذه الآثار جماعة فقهاء الأمصار وجمهور أهل العلم أن الأصابع في الدية كلها سواء ، وأن الأسنان في الدية كلها سواء ، الثنايا والأضراس والأنياب لا يفضل شيء منها على شيء ; على ما في كتاب عمرو بن حزم . ذكر الثوري عن أزهر بن محارب قال : اختصم إلى شريح رجلان ضرب أحدهما ثنية الآخر وأصاب الآخر ضرسه فقال شريح : الثنية وجمالها والضرس ومنفعته سن بسن قوما . قال أبو عمر : على هذا العمل اليوم في جميع الأمصار ، والله أعلم .الرابعة عشرة : فإن ضرب سنه فاسودت ففيها ديتها كاملة عند مالك والليث بن سعد ، وبه قال أبو حنيفة ، وروي عن زيد بن ثابت ; وهو قول سعيد بن المسيب والزهري والحسن وابن سيرين وشريح . وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أن فيها ثلث ديتها ; وبه قال أحمد وإسحاق ، وقال الشافعي وأبو ثور : فيها حكومة . قال ابن العربي : وهذا عندي خلاف يئول إلى وفاق ; فإنه إن كان سوادها أذهب منفعتها وإنما بقيت صورتها كاليد الشلاء والعين العمياء ، فلا خلاف في وجوب الدية ; ثم إن كان بقي من منفعتها شيء أو جميعها لم يجب إلا بمقدار ما نقص من المنفعة حكومة ; وما روي عن عمر رضي الله عنه فيها ثلث ديتها لم يصح عنه سندا ولا فقها .الخامسة عشرة : واختلفوا في سن الصبي يقلع قبل أن يثغر ; فكان مالك والشافعي [ ص: 143 ] وأصحاب الرأي يقولون : إذا قلعت سن الصبي فنبتت فلا شيء على القالع ، إلا أن مالكا والشافعي قالا : إذا نبتت ناقصة الطول عن التي تقاربها أخذ له من أرشها بقدر نقصها ، وقالت طائفة : فيها حكومة ، وروي ذلك عن الشعبي ; وبه قال النعمان . قال ابن المنذر : يستأنى بها إلى الوقت الذي يقول أهل المعرفة إنها لا تنبت ، فإذا كان ذلك كان فيها قدرها تاما ; على ظاهر الحديث ، وإن نبتت رد الأرش ، وأكثر من يحفظ عنه من أهل العلم يقولون : يستأنى بها سنة ; روي ذلك عن علي وزيد وعمر بن عبد العزيز وشريح والنخعي وقتادة ومالك وأصحاب الرأي ، ولم يجعل الشافعي لهذا مدة معلومة .السادسة عشرة : إذا قلع سن الكبير فأخذ ديتها ثم نبتت ; فقال مالك لا يرد ما أخذ ، وقال الكوفيون : يرد إذا نبتت ، وللشافعي قولان : يرد ولا يرد ; لأن هذا نبات لم تجر به عادة ، ولا يثبت الحكم بالنادر ; هذا قول علمائنا . تمسك الكوفيون بأن عوضها قد نبت فيرد ; أصله سن الصغير . قال الشافعي : ولو جنى عليها جان آخر وقد نبتت صحيحة كان فيها أرشها تاما . قال ابن المنذر : هذا أصح القولين ; لأن كل واحد منهما قالع سن ، وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم في السن خمسا من الإبل .السابعة عشرة : فلو قلع رجل سن رجل فردها صاحبها فالتحمت فلا شيء فيها عندنا ، وقال الشافعي : ليس له أن يردها من قبل أنها نجسة ; وقاله ابن المسيب وعطاء ، ولو ردها أعاد كل صلاة صلاها لأنها ميتة ; وكذلك لو قطعت أذنه فردها بحرارة الدم فالتزقت مثله ، وقال عطاء : يجبره السلطان على قلعها لأنها ميتة ألصقها . قال ابن العربي : وهذا غلط ، وقد جهل من خفي عليه أن ردها وعودها بصورتها لا يوجب عودها بحكمها ; لأن النجاسة كانت فيها للانفصال ، وقد عادت متصلة ، وأحكام الشريعة ليست صفات للأعيان ، وإنما هي أحكام تعود إلى قول الله سبحانه فيها وإخباره عنها .قلت : ما حكاه ابن العربي عن عطاء خلاف ما حكاه ابن المنذر عنه ; قال ابن المنذر : واختلفوا في السن تقلع قودا ثم ترد مكانها فتنبت ; فقال عطاء الخراساني وعطاء بن أبي رباح : لا بأس بذلك . وقال الثوري وأحمد وإسحاق : تقلع ; لأن القصاص للشين ، وقال الشافعي : ليس له أن يردها من قبل أنها نجسة ، ويجبره السلطان على القلع .الثامنة عشرة : فلو كانت له سن زائدة فقلعت ففيها حكومة ; وبه قال فقهاء الأمصار ، وقال زيد بن ثابت : فيها ثلث الدية . قال ابن العربي : وليس في التقدير دليل ، فالحكومة [ ص: 144 ] أعدل . قال ابن المنذر : ولا يصح ما روي عن زيد ; وقد روي عن علي أنه قال : في السن إذا كسر بعضها أعطي صاحبها بحساب ما نقص منه ; وهذا قول مالك والشافعي وغيرهما .قلت : وهنا انتهى ما نص الله عز وجل عليه من الأعضاء ، ولم يذكر الشفتين واللسان وهي :التاسعة عشرة : فقال الجمهور : وفي الشفتين الدية ، وفي كل واحدة منهما نصف الدية لا فضل للعليا منهما على السفلى ، وروي عن زيد بن ثابت وسعيد بن المسيب والزهري : في الشفة العليا ثلث الدية ، وفي الشفة السفلى ثلثا الدية . وقال ابن المنذر : وبالقول الأول أقول ; للحديث المرفوع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : وفي الشفتين الدية ولأن في اليدين الدية ومنافعهما مختلفة ، وما قطع من الشفتين فبحساب ذلك ، وأما اللسان فجاء الحديثعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : في اللسان الدية . وأجمع أهل العلم من أهل المدينة وأهل الكوفة وأصحاب الحديث وأهل الرأي على القول به ; قاله ابن المنذر .الموفية عشرين : واختلفوا في الرجل يجني على لسان الرجل فيقطع من اللسان شيئا ، ويذهب من الكلام بعضه ; فقال أكثر أهل العلم : ينظر إلى مقدار ما ذهب من الكلام من ثمانية وعشرين حرفا فيكون عليه من الدية بقدر ما ذهب من كلامه ، وإن ذهب الكلام كله ففيه الدية ; هذا قول مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي ، وقال مالك : ليس في اللسان قود لعدم الإحاطة باستيفاء القود . فإن أمكن فالقود هو الأصل .الحادية والثلاثون : واختلفوا في لسان الأخرس يقطع ; فقال الشعبي ومالك وأهل المدينة والثوري وأهل العراق والشافعي وأبو ثور والنعمان وصاحباه : فيه حكومة . قال ابن المنذر : وفيه قولان شاذان : أحدهما : قول النخعي إن فيه الدية ، والآخر : قول قتادة إن فيه ثلث الدية . قال ابن المنذر : والقول الأول أصح ; لأنه الأقل مما قيل . قال ابن العربي : نص الله سبحانه على أمهات الأعضاء وترك باقيها للقياس عليها ; فكل عضو فيه القصاص إذا أمكن ولم يخش عليه الموت ، وكذلك كل عضو بطلت منفعته وبقيت صورته فلا قود فيه ، وفيه الدية لعدم إمكان القود فيه .الثانية والعشرون : قوله تعالى : والجروح قصاص أي : مقاصة ، وقد تقدم في " البقرة " ، ولا قصاص في كل مخوف ولا فيما لا يوصل إلى القصاص فيه إلا بأن يخطئ الضارب أو يزيد أو ينقص ، ويقاد من جراح العمد إذا كان مما يمكن القود منه ، وهذا كله في [ ص: 145 ] العمد ; فأما الخطأ فالدية ، وإذا كانت الدية في قتل الخطأ فكذلك في الجراح ، وفي صحيح مسلم عن أنس أن أخت الربيع - أم حارثة - جرحت إنسانا فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : القصاص القصاص ، فقالت أم الربيع : يا رسول الله أيقتص من فلانة ؟ ! والله لا يقتص منها . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : سبحان الله يا أم الربيع القصاص كتاب الله قالت : لا والله لا يقتص منها أبدا ; قال فما زالت حتى قبلوا الدية ; فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره .قلت : المجروح في هذا الحديث جارية ، والجرح كسر ثنيتها ; أخرجه النسائي عن أنس أيضا أن عمته كسرت ثنية جارية فقضى نبي الله صلى الله عليه وسلم بالقصاص ; فقال أخوها أنس بن النضر : أتكسر ثنية فلانة ؟ لا والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها . قال : وكانوا قبل ذلك سألوا أهلها العفو والأرش ، فلما حلف أخوها وهو عم أنس - وهو الشهيد يوم أحد - رضي القوم بالعفو ; فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره . وخرجه أبو داود أيضا ، وقال : سمعت أحمد بن حنبل قيل له : كيف يقتص من السن ؟ قال : تبرد .قلت : ولا تعارض بين الحديثين ; فإنه يحتمل أن يكون كل واحد منهما حلف فبر الله قسمهما ، وفي هذا ما يدل على كرامات الأولياء على ما يأتي بيانه في قصة الخضر إن شاء الله تعالى . فنسأل الله التثبت على الإيمان بكراماتهم وأن ينظمنا في سلكهم من غير محنة ولا فتنة .الثالثة والعشرون : أجمع العلماء على أن قوله تعالى : والسن بالسن أنه في العمد ; فمن أصاب سن أحد عمدا ففيه القصاص على حديث أنس ، واختلفوا في سائر عظام الجسد إذا كسرت عمدا ; فقال مالك : عظام الجسد كلها فيها القود إلا ما كان مخوفا مثل الفخذ والصلب والمأمومة والمنقلة والهاشمة ، ففي ذلك الدية ، وقال الكوفيون : لا قصاص في عظم يكسر ما خلا السن ; لقوله تعالى : والسن بالسن وهو قول الليث والشافعي . قال الشافعي : لا يكون كسر ككسر أبدا ; فهو ممنوع . قال الطحاوي : اتفقوا على أنه لا قصاص في عظم الرأس ; فكذلك في سائر العظام ، والحجة لمالك حديث أنس في السن وهي عظم ; فكذلك سائر العظام إلا عظما أجمعوا على أنه لا قصاص فيه ; لخوف ذهاب النفس منه . قال ابن [ ص: 146 ] المنذر : ومن قال لا قصاص في عظم فهو مخالف للحديث ; والخروج إلى النظير غير جائز مع وجود الخبر .قلت : ويدل على هذا أيضا قوله تعالى : فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ، وقوله : وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به وما أجمعوا عليه فغير داخل في الآية ، والله أعلم وبالله التوفيق .الرابعة والعشرون : قال أبو عبيد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الموضحة ، وما جاء عن غيره في الشجاج . قال الأصمعي وغيره : دخل كلام بعضهم في بعض ; أول الشجاج - الحارصة وهي : التي تحرص الجلد - يعني التي تشقه قليلا - ومنه قيل : حرص القصار الثوب إذا شقه ; وقد يقال لها : الحرصة أيضا . ثم الباضعة - وهي : التي تشق اللحم تبضعه بعد الجلد . ثم المتلاحمة - وهي : التي أخذت في الجلد ولم تبلغ السمحاق ، والسمحاق : جلدة أو قشرة رقيقة بين اللحم والعظم ، وقال الواقدي : هي عندنا الملطى ، وقال غيره : هي الملطاة ، قال : وهي التي جاء فيها الحديث يقضى في الملطاة بدمها . ثم الموضحة - وهي : التي تكشط عنها ذلك القشر أو تشق حتى يبدو وضح العظم ، فتلك الموضحة . قال أبو عبيد : وليس في شيء من الشجاج قصاص إلا في الموضحة خاصة ; لأنه ليس منها شيء له حد ينتهى إليه سواها ، وأما غيرها من الشجاج ففيها ديتها . ثم الهاشمة - وهي التي تهشم العظم . ثم المنقلة - بكسر القاف حكاه الجوهري - وهي التي تنقل العظم - أي : تكسره - حتى يخرج منها فراش العظام مع الدواء . ثم الآمة - ويقال لها المأمومة - وهي التي تبلغ أم الرأس ، يعني الدماغ . قال أبو عبيد ويقال في قوله : ويقضى في الملطاة بدمها أنه إذا شج الشاج حكم عليه للمشجوج بمبلغ الشجة ساعة شج ولا يستأنى بها . قال : وسائر الشجاج عندنا يستأنى بها حتى ينظر إلى ما يصير أمرها ثم يحكم فيها حينئذ . قال أبو عبيد : والأمر عندنا في الشجاج كلها والجراحات كلها أنه يستأنى بها ; حدثنا هشيم عن حصين قال : قال عمر بن عبد العزيز : ما دون الموضحة خدوش وفيها صلح ، وقال الحسن البصري : ليس فيما دون الموضحة قصاص ، وقال مالك : القصاص فيما دون الموضحة الملطى والدامية والباضعة وما أشبه ذلك ; وكذلك قال الكوفيون وزادوا السمحاق ، حكاه ابن المنذر ، وقال أبو عبيد : الدامية التي تدمى من غير أن يسيل منها دم ، والدامعة : أن يسيل منها دم ، وليس فيما دون الموضحة قصاص ، وقال الجوهري : والدامية الشجة التي تدمى ولا تسيل . وقال علماؤنا : الدامية هي التي تسيل الدم ، [ ص: 147 ] ولا قصاص فيما بعد الموضحة ، من الهاشمة للعظم ، والمنقلة - على خلاف فيها خاصة - والآمة هي البالغة إلى أم الرأس ، والدامغة الخارقة لخريطة الدماغ ، وفي هاشمة الجسد القصاص ، إلا ما هو مخوف كالفخذ وشبهه ، وأما هاشمة الرأس فقال ابن القاسم : لا قود فيها ; لأنها لا بد تعود منقلة ، وقال أشهب : فيها القصاص ، إلا أن تنقل فتصير منقلة لا قود فيها ، وأما الأطراف فيجب القصاص في جميع المفاصل إلا المخوف منها ، وفي معنى المفاصل أبعاض المارن والأذنين والذكر والأجفان والشفتين ; لأنها تقبل التقدير ، وفي اللسان روايتان ، والقصاص في كسر العظام ، إلا ما كان متلفا كعظام الصدر والعنق والصلب والفخذ وشبهه ، وفي كسر عظام العضد القصاص ، وقضى أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم في رجل كسر فخذ رجل أن يكسر فخذه ; وفعل ذلك عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد بمكة ، وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه فعله ; وهذا مذهب مالك على ما ذكرنا ، وقال : إنه الأمر المجمع عليه عندهم ، والمعمول به في بلادنا في الرجل يضرب الرجل فيتقيه بيده فيكسرها يقاد منه .الخامسة والعشرون : قال العلماء : الشجاج في الرأس ، والجراح في البدن . وأجمع أهل العلم على أن فيما دون الموضحة أرش فيما ذكر ابن المنذر ; واختلفوا في ذلك الأرش وما دون الموضحة شجاج خمس : الدامية والدامعة والباضعة والمتلاحمة والسمحاق ; فقال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي في الدامية حكومة ، وفي الباضعة حكومة ، وفي المتلاحمة حكومة ، وذكر عبد الرزاق عن زيد بن ثابت قال : في الدامية بعير ، وفي الباضعة بعيران ، وفي المتلاحمة ثلاثة أبعرة من الإبل ، وفي السمحاق أربع ، وفي الموضحة خمس ، وفي الهاشمة عشر ، وفي المنقلة خمس عشرة ، وفي المأمومة ثلث الدية ، وفي الرجل يضرب حتى يذهب عقله الدية كاملة ، أو يضرب حتى يغن ولا يفهم الدية كاملة ، أو حتى يبح ولا يفهم الدية كاملة ، وفي جفن العين ربع الدية ، وفي حلمة الثدي ربع الدية . قال ابن المنذر : وروي عن علي في السمحاق مثل قول زيد ، وروي عن عمر وعثمان أنهما قالا : فيها نصف الموضحة ، وقال الحسن البصري وعمر بن عبد العزيز والنخعي فيها حكومة ; وكذلك قال مالك والشافعي وأحمد ، ولا يختلف العلماء أن الموضحة فيها خمس من الإبل ; على ما في حديث عمرو بن حزم ، وفيه : وفي الموضحة خمس ، وأجمع أهل العلم على أن الموضحة تكون في الرأس والوجه ، واختلفوا في تفضيل موضحة الوجه على موضحة الرأس ; فروي عن أبي بكر وعمر أنهما سواء ، وقال بقولهما جماعة من التابعين ; وبه يقول الشافعي وإسحاق ، وروي عن سعيد بن المسيب تضعيف موضحة الوجه على موضحة الرأس ، وقال أحمد : [ ص: 148 ] موضحة الوجه أحرى أن يزاد فيها ، وقال مالك : المأمومة والمنقلة والموضحة لا تكون إلا في الرأس والوجه ، ولا تكون المأمومة إلا في الرأس خاصة إذا وصل إلى الدماغ ، قال : والموضحة ما تكون في جمجمة الرأس ، وما دونها فهو من العنق ليس فيه موضحة . قال مالك : والأنف ليس من الرأس وليس فيه موضحة ، وكذلك اللحي الأسفل ليس فيه موضحة ، وقد اختلفوا في الموضحة في غير الرأس والوجه ; فقال أشهب وابن القاسم : ليس في موضحة الجسد ومنقلته ومأمومته إلا الاجتهاد ، وليس فيها أرش معلوم . قال ابن المنذر : هذا قول مالك والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق ، وبه نقول . وروي عن عطاء الخراساني أن الموضحة إذا كانت في جسد الإنسان فيها خمس وعشرون دينارا . قال أبو عمر : واتفق مالك والشافعي وأصحابهما أن من شج رجلا مأمومتين أو موضحتين أو ثلاث مأمومات أو موضحات أو أكثر في ضربة واحدة أن فيهن كلهن - وإن انخرقت فصارت واحدة - دية كاملة ، وأما الهاشمة فلا دية فيها عندنا بل حكومة . قال ابن المنذر : ولم أجد في كتب المدنيين ذكر الهاشمة ، بل قد قال مالك فيمن كسر أنف رجل إن كان خطأ ففيه الاجتهاد ، وكان الحسن البصري لا يوقت في الهاشمة شيئا . وقال أبو ثور : إن اختلفوا فيه ففيها حكومة . قال ابن المنذر : النظر يدل على هذا ; إذ لا سنة فيها ولا إجماع ، وقال القاضي أبو الوليد الباجي : فيها ما في الموضحة ; فإن صارت منقلة فخمسة عشر ، وإن صارت مأمومة فثلث الدية . قال ابن المنذر : ووجدنا أكثر من لقيناه وبلغنا عنه من أهل العلم يجعلون في الهاشمة عشرا من الإبل ، وروينا هذا القول عن زيد بن ثابت ; وبه قال قتادة وعبيد الله بن الحسن والشافعي ، وقال الثوري وأصحاب الرأي : فيها ألف درهم ، ومرادهم عشر الدية ، وأما المنقلة فقال ابن المنذر : جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : في المنقلة خمس عشرة من الإبل وأجمع أهل العلم على القول به . قال ابن المنذر : وقال كل من يحفظ عنه من أهل العلم إن المنقلة هي التي تنقل منها العظام ، وقال مالك والشافعي وأحمد وأصحاب الرأي - وهو قول قتادة وابن شبرمة - إن المنقلة لا قود فيها ; وروينا عن ابن الزبير - وليس بثابت عنه - أنه أقاد من المنقلة . قال ابن المنذر : والأول أولى ; لأني لا أعلم أحدا خالف في ذلك وأما المأمومة فقال ابن المنذر : جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : في المأمومة ثلث الدية ، وأجمع عوام أهل العلم على القول به ، ولا نعلم أحدا خالف ذلك إلا مكحولا فإنه قال : إذا كانت المأمومة عمدا ففيها ثلثا الدية ، وإذا كانت خطأ ففيها ثلث الدية ; وهذا قول شاذ ، وبالقول الأول أقول . واختلفوا في القود من المأمومة ; فقال كثير من أهل العلم : لا قود فيها ; وروي عن ابن الزبير أنه أقص من المأمومة ، فأنكر ذلك الناس ، وقال عطاء : ما علمنا أحدا أقاد منا قبل ابن الزبير ، وأما الجائفة ففيها ثلث الدية على [ ص: 149 ] حديث عمرو بن حزم ; ولا خلاف في ذلك إلا ما روي عن مكحول أنه قال : إذا كانت عمدا ففيها ثلثا الدية ، وإن كانت خطأ ففيها ثلث الدية ، والجائفة كل ما خرق إلى الجوف ولو مدخل إبرة ; فإن نفذت من جهتين فهي عندهم جائفتان ، وفيها من الدية الثلثان . قال أشهب : وقد قضى أبو بكر الصديق رضي الله عنه في جائفة نافذة من الجنب الآخر بدية جائفتين . وقال عطاء ومالك والشافعي وأصحاب الرأي كلهم يقولون : لا قصاص في الجائفة . قال ابن المنذر : وبه نقول .السادسة والعشرون : واختلفوا في القود من اللطمة وشبهها ; فذكر البخاري عن أبي بكر وعلي وابن الزبير وسويد بن مقرن رضي الله عنهم أنهم أقادوا من اللطمة وشبهها ، وروي عن عثمان وخالد بن الوليد مثل ذلك ; وهو قول الشعبي وجماعة من أهل الحديث ، وقال الليث : إن كانت اللطمة في العين فلا قود فيها ; للخوف على العين ويعاقبه السلطان ، وإن كانت على الخد ففيها القود ، وقالت طائفة : لا قصاص في اللطمة ; روي هذا عن الحسن وقتادة ، وهو قول مالك والكوفيين والشافعي ; واحتج مالك في ذلك فقال : ليس لطمة المريض الضعيف مثل لطمة القوي ، وليس العبد الأسود يلطم مثل الرجل ذي الحالة والهيئة ; وإنما في ذلك كله الاجتهاد لجهلنا بمقدار اللطمة .السابعة والعشرون : واختلفوا في القود من ضرب السوط ; فقال الليث والحسن : يقاد منه ، ويزاد عليه للتعدي . وقال ابن القاسم : يقاد منه . ولا يقاد منه عند الكوفيين والشافعي إلا أن يجرح ; قال الشافعي إن جرح السوط ففيه حكومة ، وقال ابن المنذر : وما أصيب به من سوط أو عصا أو حجر فكان دون النفس فهو عمد ، وفيه القود ; وهذا قول جماعة من أصحاب الحديث ، وفي البخاري وأقاد عمر من ضربة بالدرة ، وأقاد علي بن أبي طالب من ثلاثة أسواط ، واقتص شريح من سوط وخموش ، وقال ابن بطال : وحديث لد النبي صلى الله عليه وسلم لأهل البيت حجة لمن جعل القود في كل ألم وإن لم يكن جرح .الثامنة والعشرون : واختلفوا في عقل جراحات النساء ; ففي " الموطأ " عن مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أنه كان يقول : تعاقل المرأة الرجل إلى ثلث دية الرجل ، إصبعها كإصبعه وسنها كسنه ، وموضحتها كموضحته ، ومنقلتها كمنقلته . قال ابن بكير : [ ص: 150 ] قال مالك : فإذا بلغت ثلث دية الرجل كانت على النصف من دية الرجل . قال ابن المنذر : روينا هذا القول عن عمر وزيد بن ثابت ، وبه قال سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز وعروة بن الزبير والزهري وقتادة وابن هرمز ومالك وأحمد بن حنبل وعبد الملك بن الماجشون ، وقالت طائفة : دية المرأة على النصف من دية الرجل فيما قل أو كثر ; روينا هذا القول عن علي بن أبي طالب ، به قال الثوري والشافعي وأبو ثور والنعمان وصاحباه ; واحتجوا بأنهم لما أجمعوا على الكثير وهو الدية كان القليل مثله ، وبه نقول .التاسعة والعشرون : قال القاضي عبد الوهاب : وكل ما فيه جمال منفرد عن منفعة أصلا ففيه حكومة ; كالحاجبين وذهاب شعر اللحية وشعر الرأس وثديي الرجل وأليته ، وصفة الحكومة أن يقوم المجني عليه لو كان عبدا سليما ، ثم يقوم مع الجناية فما نقص من ثمنه جعل جزءا من ديته بالغا ما بلغ ، وحكاه ابن المنذر عن كل من يحفظ عنه من أهل العلم ; قال : ويقبل فيه قول رجلين ثقتين من أهل المعرفة ، وقيل : بل يقبل قول عدل واحد ، والله سبحانه أعلم . فهذه جمل من أحكام الجراحات والأعضاء تضمنها معنى هذه الآية ، فيها لمن اقتصر عليها كفاية ، والله الموفق للهداية بمنه وكرمه .الموفية ثلاثين : قوله تعالى : فمن تصدق به فهو كفارة له شرط وجوابه ; أي : تصدق بالقصاص فعفا فهو كفارة له ، أي : لذلك المتصدق ، وقيل : هو كفارة للجارح فلا يؤاخذ بجنايته في الآخرة ; لأنه يقوم مقام أخذ الحق منه ، وأجر المتصدق عليه . وقد ذكر ابن عباس القولين ; وعلى الأول أكثر الصحابة ومن بعدهم ، وروي الثاني عن ابن عباس ومجاهد ، وعن إبراهيم النخعي والشعبي بخلاف عنهما ; والأول أظهر لأن العائد فيه يرجع إلى مذكور ، وهو " من " ، وعن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم : ما من مسلم يصاب بشيء من جسده فيهبه إلا رفعه الله به درجة وحط عنه به خطيئة . قال ابن العربي : والذي يقول إنه إذا عفا عنه المجروح عفا الله عنه لم يقم عليه دليل ; فلا معنى له .
تَنْوِيرُ ٱلْمِقْبَاسِ مِن تَفْسِيرِ ٱبْنِ عَبَّاس
Tafsir Tanwir al-Miqbas —
حضرت ابن عباسؓ
عطفت جملة { كتبنا } على جملة { أنزلنا التّوراة } المائدة : ( 44 ) . ومناسبة عطف هذا الحكم على ما تقدّم أنّهم غيّروا أحكام القصاص كما غيّروا أحكام حدّ الزّنى ، ففاضلوا بين القتلى والجرحى ، كما سيأتي ، فلذلك ذيّله بقوله : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظّالمون } ، كما ذيّل الآية الدّالّة على تغيير حكم حد الزّنى بقوله : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } [ المائدة : 44 ] .والكَتْب هنا مجاز في التّشريع والفرض بقرينة تعديته بحرف ( على ) ، أي أوجبنا عليهم فيها ، أي في التّوراة مضمونَ { أنّ النّفس بالنّفس } ، وهذا الحكم مسطور في التّوراة أيضاً ، كما اقتضت تعديّة فعل { كتبنا } بحرف ( في ) فهو من استعمال اللّفظ في حقيقته ، ومجازه .وفي هذا إشارة إلى أنّ هذا الحكم لا يستطاع جحده لأنّه مكتوب والكتابة تزيد الكلام توثّقاً ، كما تقدّم عند قوله تعالى : { يأيّها الّذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمّى فاكتبوه } في سورة البقرة ( 282 ) ، وقال الحارث بن حلّزة :وهل ينقض ما في المهارق الأهواءُ ... والمكتوب عليهم هو المصدر المستفاد من ( أنّ ) . والمصدرُ في مثل هذا يؤخذ من معنى حرف الباء الّذي هو التّعويض ، أي كتبنا تعويض النّفسسِ بالنّفس ، أي النّفس المقتولة بالنّفس القاتلة ، أي كتبنا عليهم مساواةَ القصاص . وقد اتّفق القرّاء على فتح همزة ( أنّ ) هنا ، لأنّ المفروض في التّوراة ليس هو عين هذه الجمل ولكن المعنى الحاصل منها وهو العوضية والمساواة فيها .وقرأ الجمهور والعينَ بالعينَ } وما عطف عليها بالنصب عطفاً على اسم ( أنّ ) . وقرأه الكسائي بالرفع . وذلك جائز إذا استكملت ( أنّ ) خبرها فيعتبر العطف على مجموع الجملة .والنّفس : الذات ، وقد تقدّم في قوله تعالى : { وتنسون أنفسكم } في سورة البقرة ( 44 ) . والأذن بضمّ الهمزة وسكون الذال ، وبضمّ الذال أيضاً . والمراد بالنفس الأولى نفس المعتدى عليه ، وكذلك في والعين } الخ .والباء في قوله : { بالنّفس } ونظائره الأربعة باء العوض ، ومدخولات الباء كلّها أخبار ( أنّ ) ، ومتعلّق الجار والمجرور في كلّ منها محذوف ، هو كون خاصّ يدلّ عليه سياق الكلام؛ فيقدر : أنّ النّفس المقتولة تعوّض بنفس القاتل والعين المتلفة تعوّض بعين المتلف ، أي بإتلافها وهكذا النفس متلفة بالنّفس؛ والعين مفقوءة بالعين ، والأنفَ مجدوع بالأنف؛ والأذن مصلُومة بالأذن .ولام التّعريف في المواضع الخمسة داخلة على عضو المجني عليه ، ومجرورات الباء الخمسة على أعضاء الجاني . والاقتصار على ذكر هذه الأعضاء دون غيرها من أعضاءِ الجسد كاليد والرِجل والإصبع لأنّ القطع يكون غالباً عند المضاربة بقصد قطع الرقبة ، فقد ينبو السيفُ عن قطع الرّأس فيصيب بعض الأعضاء المتّصلة به من عين أو أنف أو أذن أو سنّ . وكذلك عند المصاولة لأنّ الوجه يقابل الصائل ، قال الحَريش بنُ هلال :نعرِّض للسيوف إذا التقينا ... وُجوهاً لا تعرّض لللّطَاموقوله : { والجروحَ قصاص } أخبر بالقصاص عن الجروح على حذف مضاف ، أي ذات قصاص . وقصاص مصدر قاصّة الدَّالّ على المفاعلة ، لأنّ المجنيّ عليه يقاصّ الجاني ، والجاني يقاصّ المجني عليه ، أي يقطع كلّ منهما التبعة عن الآخر بذلك . ويجوز أن يكون { قصاص } مصدراً بمعنى المفعول ، كالخلْق بمعنى المخلوق ، والنَّصْب بمعنى المنصوب ، أي مقصوص بعضها ببعض . والقصاص : المماثلة ، أي عقوبة الجاني بجِراح أن يُجرح مثل الجرح الّذي جنى به عمداً . والمعنى إذا أمكن ذلك ، أي أُمِن من الزيادة على المماثلة في العقوبة ، كما إذا جَرحه مأمومة على رأسه فإنَّه لا يدري حين يَضرب رأس الجاني ماذا يكون مدى الضّربة فلعلّها تقضي بموته؛ فيُنتقَل إلى الدية كلّها أو بعضها . وهذا كلّه في جنايات العمد ، فأمّا الخطأ فلم تتعرض له الآية لأنّ المقصود أنّهم لم يقيموا حكم التوراة في الجناية .وقرأ نافع ، وحمزة ، وعاصم ، وأبو جعفر ، وخلف { والجروح } بالنّصب عطفاً على اسم ( أنّ ) . وقرأه ابن كثير ، وابنُ عامر ، وأبو عمرو ، والكسائي ، ويعقوب بالرّفع على الاستئناف ، لأنّه إجمال لحكم الجراح بعد ما فصّل حكم قطع الأعضاء .وفائدة الإعلام بما شرع الله لبني إسرائيل في القصاص هنا زيادة تسجيل مخالفتهم لأحكام كتابهم ، وذلك أنّ اليهود في المدينة كانوا قد دخلوا في حروب بعاث فكانت قريظة والنضير حرباً ، ثمّ تحاجزوا وانهزمت قريظة ، فشرطت النضير على قريظة أنّ ديّة النضيري على الضِعف من ديّة القُرظي وعلى أنّ القرظي يُقتل بالنضيري ولا يقتل النضيري بالقرظي ، فأظهر الله تحريفهم لكتابهم . وهذا كقوله تعالى : { وإذا أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم إلى قوله { أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض } [ البقرة : 84 ، 85 ] . ويجوز أن يقصد من ذلك أيضاً تأييد شريعة الإسلام إذ جاءت بمساواة القصاص وأبطلت التكايُل في الدّماء الّذي كان في الجاهلية وعند اليهود . ولا شكّ أنّ تأييد الشّريعة بشريعة أخرى يزيدها قبولاً في النّفوس ، ويدلّ على أنّ ذلك الحكم مراد قديم للهتعالى ، وأنّ المصلحة ملازمة له لا تختلف باختلاف الأفوام والأزمان ، لأنّ العرب لم يزل في نفوسهم حرج من مساواة الشّريف الضّعيف في القصاص ، كما قالت كبشة أخت عمرو بن معد يكرب تثأر بأخيها عبد الله بن معد يكرب :فيَقْتُلَ جَبْراً بامرىءٍ لم يكن له ... بَوَاءً ولكنْ لاَ تَكَايُلَ بالدّمتريد : رضينا بأن يُقتل الرجل الذي اسمه ( جبر ) بالمرء العظيم الّذي ليس كفؤاً له ، ولكن الإسلام أبطل تكايُل الدّماء . والتكايل عندهم عبارة عن تقدير النّفس بعدّة أنفس ، وقد قدّر شيوخ بني أسد دَم حُجْرٍ والد امرىء القيس بدِيات عشرة من سادة بني أسد فأبى امرؤ القيس قبول هذا التّقدير وقال لهم : «قد علمتم أن حُجراً لم يكن ليَبُوء به شيء» وقال مهلهل حين قَتَل بُجيرا :«بُؤْ بشِسْع نَعْل كُليب» ... والبَواء : الكفاء . وقد عَدّت الآية في القصاص أشياء تكثر إصابتها في الخصومات لأنّ الرّأس قد حواها وإنَّما يقصد القاتل الرأس ابتداء .وقوله : { فمن تصدّق به فهو كفارة له } هو من بقية ما أخبر به عن بني إسرائيل ، فالمراد ب { مَنْ تصدّق } من تصدّق منهم ، وضمير { به } عائد إلى ما دلّت عليه باء العوض في قوله { بالنفس } الخ ، أي من تصدّق بالحقّ الذي له ، أي تنازل عن العوض . وضمير { له } عائد إلى { من تصدّق } . والمراد من التصدّق العفو ، لأنّ العفو لمّا كان عن حقّ ثابت بيد مستحقّ الأخذ بالقصاص جُعل إسقاطه كالعطيّة ليشير إلى فرط ثوابه ، وبذلك يتبيّن أن معنى { كفّارة له } أنّه يكفّر عنه ذنوباً عظيمة ، لأجل ما في هذا العفو من جلب القلوب وإزالة الإحن واستبقاء نفوس وأعضاء الأمّة .وعاد فحذّر من مخالفة حكم الله فقال : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظّالمون } لينبّه على أنّ التّرغيب في العفو لا يقتضي الاستخفاف بالحكم وإبطال العمل به لأنّ حكم القصاص شُرع لحكم عظيمة : منها الزجر ، ومنها جبر خاطر المعتدى عليه ، ومنها التفادي من ترصّد المعتدى عليهم للانتقام من المعتدين أو من أقوامهم . فإبطال الحكم بالقصاص يعطّل هذه المصالح ، وهْو ظلم ، لأنّه غمص لحقّ المعتدى عليه أو ولِيّه . وأمّا العفو عن الجاني فيحقّق جميع المصالح ويزيد مصلحة التحابب لأنّه عن طيب نفس ، وقد تغشى غباوة حكّام بني إسرائيل على أفهامهم فيجعلوا إبطال الحكم بمنزلة العفو ، فهذا وجه إعادة التّحذير عقب استحباب العفو . ولم ينبّه عليه المفسّرون . وبه يتعيّن رجوع هذا التّحذير إلى بني إسرائيل مثل سابقه .وقوله : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظّالمون } القول فيه كالقول في نظيره المتقدّم . والمراد بالظّالمين الكافرون لأنّ الظلم يطلق على الكفر فيكون هذا مؤكّداً للّذي في الآية السابقة . ويحتمل أنّ المراد به الجور فيكون إثبات وصف الظلم لزيادة التشنيع عليهم في كفرهم لأنّهم كافرون ظالمون .
ٱلتَّفْسِيرُ ٱلْوَسِيط
Tafsir Al-Waseet —
علمائے جامعہ ازہر
قوله - تعالى - : ( إِنَّآ أَنزَلْنَا التوراة فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ) بيان لشرف التوراة قبل أن تمتد إليها الأيدي الأثيمة بالتحريف والتبديل . ويدل على شرفها وعلو مقامها أن الله - تعالى - هو الذي أنزلها لا غيره ، وأنه - سبحانه - جعلها مشتملة على الهدى والنور . والمراد بالهدى ، ما اشتملت عليه من بيان للأحكام والتكاليف والشرائع التي تهدي الناس إلى طريق السعادة .والمراد بالنور : ما اشتملت عليه من بيان للعقائد السليمة ، والمواعظ الحكيمة ، والأخلاق القويمة .والمعنى إنا أنزلنا التوراة على نبينا موسى - عليه السلام - مشتملة على ما يهدي الناس إلى الحق من أحكام وتكاليف وعلى ما يضئ لهم حياتهم من عقائد ومواعظ وأخلاق فاضلة .ثم بين - سبحانه - بعض الوظائف التي جعلها للتوراة فقال : ( يَحْكُمُ بِهَا النبيون الذين أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ والربانيون والأحبار بِمَا استحفظوا مِن كِتَابِ الله وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَآءَ ) .والمراد بقوله : ( النبيون ) من بعثهم الله في بني إسرائيل من بعد موسى لإِقامة التوراة .وقوله : الذين أسلموا صفة للنبيين . أي : أسلموا وجوههم لله وأخلصوا له العبادة والطاعة .وعن الحسن والزهري وقتادة : يحتمل أن يكون المراد بالنبيين الذين أسلموا محمدا صلى الله عليه وسلم وذلك لأنه حكم على اليهوديين الذين زنيا بالرجم ، وكان هذا حكم التوراة . وإنما ذكر بلفظ الجمع تعظيما له .وقال ابن الأنباري : هذا رد على اليهود والنصارى لأن بعضهم كانوا يقولون : الأنبياء كلهم يهود أو نصارى - فقال - تعالى - ( يَحْكُمُ بِهَا النبيون الذين أَسْلَمُواْ ) يعني أن الأنبياء ما كانوا موصوفين باليهودية أو النصرانية ، بل كانوا مسلمين لله منقادين لتكاليفه .وقوله : ( لِلَّذِينَ هَادُواْ ) أي : رجعوا عن الكفر . والمراد بهم اليهود . واللام للتعليل .وقوله : ( والربانيون ) معطوف على ( النبيون ) وهو جمع رباني . وهم - كما يقول ابن جرير - العلماء والحكماء البصراء بسياسة الناس وتدبير أمورهم ، والقيام بمصالحهم .وقوله : ( الأحبار ) معطوف أيضاً على ( النبيون ) .قال القرطبي ما ملخصه : والأحبار : قال ابن عباس : هم الفقهاء . والحبر بالفتح والكسر - الرجل العالم وهو مأخوذ من التحبير بمعنى التحسين والتزيين ، قفهم يحبرون العلم .أي : يبينونه ، وهو محبر في صدورهم .والباء في قوله : ( بِمَا استحفظوا مِن كِتَابِ الله ) متعلقة بقوله ( يَحْكُم ) .وقوله ( استحفظوا ) من الاستحفاظ بمعنى طلب الحفظ بعناية وفهم ، إذ أن السين والتاء للطلب ، والضمير في ( استحفظوا ) يعود على النبيين والربانيين والأحبار .والمعنى : إنا أنزلنا التوراة فيها هداية للناس إلى الحق ، وضاء لهم من ظلمات الباطل ، وهذه التوراة يحكم بها بين اليهود أنبياءهم الذين أسلموا وجوههم لله ، وأخلصوا له العبادة والطاعة ، ويحكم أيضاً بينهم الربانيون والأحبار الذين هم خلفاء الأنبياء . وكان هذا الحكم منهم بالتوراة بين اليهود ، بسبب أنه - تعالى - حملهم أمانة حفظ كتابه ، وتنفيذ احكامه وشرائعه وتعاليمه .ويصح أن يكون قوله ( بِمَا استحفظوا ) متعلقا بالربانيين والأحبار ، وأن يكون الضمير عائدا عليهم وحدهم . أي : على الربانيين والأحبار ويكون الاستحفاظ بمعنى أن الأنبياء قد طلبوا منهم حفظه وتطبيق أحكامه .والمعنى : كذلك الربانيون والأحبار كانوا يحكمون بالتوراة بين اليهود . بسبب أمر أنبيائهم إياهم بأن يحفظوا كتاب الله من التغيير والتبديل .وقوله : ( وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَآءَ ) معطوف على ( استحفظوا ) .أي : وكان الأنبياء والربانيون والأحبار شهداء على الكتاب الذي أنزله الله - وهو التوراة - بأنه حق ، وكانوا رقباء على تنفيذ حدوده ، وتطبيق أحكامه حتى لا يهمل شيء منها .قال الفخر الرازي قوله : ( بِمَا استحفظوا مِن كِتَابِ الله ) : حفظ كتاب الله على وجهين :الأول : أن يحفظ فلا ينسى .الثاني : أن يحفظ فلا يضيع .وقد أخذ الله على العلماء حفظ كتابه من وجهين .أحدهما : أن يحفظوه في صدورهم ويدرسوه بألسنتهم .والثاني : ألا يضيعوا أحكامه ولا يهملوا شرائعه .وقوله : ( وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَآءَ ) أي : هؤلاء النبيون والربانيون والأحبار كانوا شهداء على أن كل ما في التوراة حق وصدق ومن عند الله فلا جرم كانوا يمضون أحكام التوراة ويحفظونها من التحريف والتغيير .ثم أمر الله - تعالى - اليهود - ولا سيما علماءهم وفقهاءهم - أن يجعلوا خشيتهم منه وحده .وألا يبيعوا دينهم بدنياهم فقال - تعالى - : ( فَلاَ تَخْشَوُاْ الناس واخشون وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً ) .والخشية - كما يقول الراغب - خوف يشوبه تعظيم ، وأكثر ما يكون ذلك على علم بما يخشى منه ، ولذلك خص العلماء بها في قوله : ( إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء ) وكأن الراغب - رحمه الله - يريد أن يفرق بين الخوف والخشية فهو يرى أن الخشية خوف يشوبه تعظيم ومحبة للمخشى بخلاف الخوف فهو أعم من أن يكون من مرهوب معظم محبوب أو مرهوب مبغوض مذموم .والفاء في قوله ( فَلاَ تَخْشَوُاْ ) للإِفصاح عن كلام مقدر .والمعنى : إذا كان الأمر كما ذكر من أن الله - تعالى - قد أنزل التوراة لتنفيذ أحكامها ، وتطبيق تعاليمها . . فمن الواجب عليكم يا معشر اليهود أن تقتدوا بأنبيائكم وصلحائكم في ذلك ، وأن تستجيبوا للحث الذي جاء به رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم وأن تجعلوا خشيتكم منى وحدي لا من أحد من الناس ، فأنا الذي بيدي نفع العباد وضرهم .وقوله : ( وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً ) معطوف على قوله ( فَلاَ تَخْشَوُاْ الناس واخشون ) والاشتراء هنا المراد به الاستبدال .والمراد بالآيات : ما اشتملت عليه التوراة من أحكام وتشريعات وبشارات بالنبي صلى الله عليه وسلم .والمراد بالثمن القليل : حظوظ الدنيا وشهواتها من نحو الرياسة والمال والجاه وما إلى ذلك من متع الحياة الدنيا .أي : ولا تستبدلوا بأحكام آياتي التي اشتملت عليها التوراة احكاماً أخرى وتغريرها وتخالفها ، لكي تأخذوا في مقابل هذا الاستبدال ثمنا قليلا من حظوظ الدنيا وشهواتها كالمال والجاه وما يشبه ذلك .وليس وصف الثمن بالقلة من الأوصاف المخصصة للنكرات ، بل هو من الأوصاف اللازمة للثمن المحصل في مقابل استبدال الآيات؛ لأنه لا يكون إلا قليلا - وإن بلغ ما بلغ من أعراض الدنيا - بالنسبة لطاعة الله ، والرجاء في رحمته ورضاه .وهذا النهي الذي اشتملت عليه هاتان الجملتان الكريمتان : ( فَلاَ تَخْشَوُاْ ) ( وَلاَ تَشْتَرُواْ ) وإن كان موجها في الأصل إلى رؤساء اليهود وأحبارهم . إلا أنه يتناول الناس جميعا في كل زمان ومكان ، لأنه نهى عن رذائل يجب أن يبتعد عنها كل إنسان يتأتى له الخطاب .وإلى هذا المعنى أشار الآلوسي بقوله : ( فَلاَ تَخْشَوُاْ الناس ) خطاب لرؤساء اليهود وعلمائهم بطريق الالتفات - إذ انتقل من الحديث عن الأحبار السابقين منهم إلى خطاب هؤلاء المعاصين للنبي صلى الله عليه وسلم ويتناول غير أولئك المخاطبين بطريق الدلالة .ثم ختم - سبحانه - الآية ببيان سوء عاقبة من يفعل فعل اليهود ، فيحكم بغير شريعة الله فقال - تعالى - ( وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الكافرون ) .أي : كل من رغب عن الحكم بما أنزل الله : وقضى بغيره من الأحكام ، فأولئك هم الكافرون بما أنزله - سبحانه - لأنهم كتموا الحق الذي كان من الواجب عليهم إظهاره والعمل به . والجملة الكريمة - كما يقول الآلوسي - تذييل مقرر لمضمون ما قبلها أبلغ تقرير ، وتحذير من الإِخلال به أشد تحذير .هذا ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآية ما يأتي :1 - سمو منزلة التوراة التي أنزلها الله - تعالى - على نبيه موسى - عليه السلام ، فقد أضاف - سبحانه - إنزالها إليه ، فكان لهذه الإِضافة مالها من الدلالة على علو مقامها ، كما بين - سبحانه - شرفها الذاتي بذكر ما اشتملت عليه من هداية إلى الحق ، ومن نور يكشف للناس ما اشتبه عليهم من أمور دينهم ودنياهم .وهذا السمو إنما هو للتوراة التي لم تمتد إليها أيدي اليهود بالتحريف والتبديل ، والزيادة والنقصان . أما تلك التوراة التي بين أيديهم الآن ، والتي دخلها من التحريف ما دخلها فهي عارية عن الثقة في كثير مما اشتملت عليه من قصص وأحكام .2 - قال الفخر الرازي : " دلت الآية على أنه يحكم بالتوارة النبيون والربانيون والأحبار ، وهذا يقتضي كون الربانيين أعلى حالا من الأحبار ، فثبت أن يكون الربانيون كالمجتهدين . والأحبار كآحاد العلماء .ثم قال : وقد احتج جماعة بأن شرع من قبلنا لازم علينا - إلا إذا قام الدليل على صيرورته منسوخا - بهذه الآية ، وتقريره أنه - تعالى - قال في التوراة هدى ونوراً ، والمراد كونها هدى ونورا في أصول الشرع وفروعه ، ولو كان ما فيها منسوخا غير معتبر الحكم بالكلية لما كان فيها هدى ونور ، ولا يمكن أن يحمل الهدى والنور على ما يتعلق بأصول الدين فقط ، لأنه ذكر الهدى والنور ولو كان المراد منهما معا ما يتعلق بأصول الدين للزم التكرار ، وأيضاً فإن هذه الآية إنما نزلت في مسألة الرجم فلا بد وأن تكون الأحكام الشرعية داخلة فيها لأنا - وإن اختلفنا في أن غير سبب نزول الآية هل يدخل فيها أم لا - لكنا توافقنا على أن سبب نزول الآية يجب أن يكون داخلا فيها .3 - استدل العلماء بهذه الآية على أن الحاكم من الواجب عليه أن ينفذ أحكام الله دون أن يخشى أحدا سواه ، وأن عليه كذلك أن يبتعد عن أكل المحرم بكل صورة وأشكاله ، وألا يغير حكم الله في نظير أي عرض من أعراض الدنيا ، لأن الله - تعالى - يقوله : ( فَلاَ تَخْشَوُاْ الناس واخشون ) ( وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً ) .وقد أشار إلى هذا المعنى صاحب الكشاف بقوله : قوله : ( فَلاَ تَخْشَوُاْ الناس واخشون ) نهى للحكام عن خشيتهم غير الله في حكومتهم ، وادهانهم فيها - أي ومصانعتهم فيها - وإمضائها على خلاف ما أمروا به من العدل لخشية سلطان ظالم ، أو خيفة أذية أحد من الأقرباء والأصدقاء وقوله : ( وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً ) وهو الرشوة وابتغاء الجاه ورضا الناس ، كما حرف أحبار اليهود كتاب الله وغيروا أحكامه رغبة في الدنيا وطلبا للرياسة فهلكوا .4 - قال بعض العلماء : في قوله : ( وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الكافرون ) تغليظ في الحكم بخلاف المنصوص عليه ، حيث علق عليه الكفر هنا والظلم والفسق بعد . وكفر الحاكم لحكمه بغير ما أنزل الله مقيد بقيد الاستهانة به . والجحود له ، وهذا ما سار عليه كثير من العلماء وأثروه عن عكرمة وابن عباس .وعن عطاء : هو كفر دون كفر ، وظلم دون ظلم ، وفسق دون فسق . أي : أن كفر المسلم وظلمه وفسقه ليس مثل كفر الكافر وظلمه وفسقه . فإن كفر المسلم قد يحمل على جحود النعمة .وقال فضيلة الشيخ حسنين محمد مخلوف : قوله : ( وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الكافرون ) : اختلف المفسرون فيمن نزلت هذه الآية والآيتان بعدها . فقيل في اليهود خاصة وقيل : في الكفار عامة . وقيل : الأولى في هذه الأمة والثانية في اليهود . والثالثة في النصارى والكفر إذا نسب إلى المؤمنين حمل على التشديد والتغليظ ، لا على الكفر الذي ينقل عن الملة . والكافر إذا وصف بالفسق والظلم أريد منهما العتو التمرد في الكفر . وعن ابن عباس : من لم يحكم بما أنزل الله جاهدا به فهو كافر .ومن أقربه ولم يحكم به فهو ظالم فاسق .وقال الآلوسي ما ملخصه : واحتجت الخوارج بهذه الآية على أن الفاسق كافر غير مؤمن .ووجه استدلالهم بها أن كلمة ( من ) في قوله : ( وَمَن لَّمْ يَحْكُم ) عامة شاملة لكل من لم يحكم بما أنزل الله فيدخل الفاسق المصدق أيضاً لأنه غير حاكم وغير عامل بما أنزل الله .وأجيب عن شبهتهم بأن الآية متروكة الظاهر فإن الحكم وإن كان شاملا لفعل القلب والجوارح لكن المراد به هنا عمل القلب وهو التصديق ولا نزاع في كفر من لم يصدق بما أنزل الله - تعالى .والذي يبدو لنا أن هذه الجملة الكريمة عامة في اليهود وفي غيرهم فكل من حكم بغير ما أنزل الله ، مستهيناً بحكمه - تعالى - أو منكراً له ، يعد كافراً لأن فعله هذا جحود وإنكار واستهزاء بحكم الله ومن فعل ذلك كان كافراً .أما الذي يحكم بغير حكم الله مع إقراره بحكم الله واعترافه به ، فإنه لا يصل في عصيانه وفسقه إلى درجة الكفر .
تَفْسِيرُ ٱلْبَغَوِيِّ
Tafsir al-Baghawi —
علامہ بغوی
قوله تعالى : ( وكتبنا عليهم فيها ) أي : أوجبنا على بني إسرائيل في التوراة ، ( أن النفس بالنفس ) يعني : نفس القاتل بنفس المقتول وفاء يقتل به ، ( والعين بالعين ) تفقأ بها ، ( والأنف بالأنف ) يجدع به ، ( والأذن بالأذن ) تقطع بها ، قال ابن عباس : أخبر الله تعالى بحكمه في التوراة وهو : أن النفس بالنفس إلى آخرها ، فما بالهم يخالفون فيقتلون بالنفس النفسين ، ويفقأون بالعين العينين ، وخفف نافع الأذن في جميع القرآن وثقلها الآخرون ، ( والسن بالسن ) تقلع بها وسائر الجوارح قياس عليها في القصاص ، ( والجروح قصاص ) فهذا تعميم بعد تخصيص ، لأنه ذكر العين والأنف والأذن والسن ، ثم قال : ( والجروح قصاص ) أي فيما يمكن الاقتصاص منه كاليد والرجل واللسان ونحوها ، وأما ما لا يمكن الاقتصاص منه من كسر عظم أو جرح لحم كالجائفة ونحوها فلا قصاص فيه ، لأنه لا يمكن الوقوف على نهايته ، وقرأ الكسائي " والعين " وما بعدها بالرفع ، وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو جعفر وأبو عمرو " والجروح " بالرفع فقط وقرأ الآخرون كلها بالنصب كالنفس .قوله تعالى : ( فمن تصدق به ) أي بالقصاص ( فهو كفارة له ) قيل : الهاء في " له " كناية عن المجروح وولي القتيل ، أي : كفارة للمتصدق وهو قول عبد الله بن عمرو بن العاص والحسن والشعبي وقتادة .أخبرنا أبو سعيد أحمد بن إبراهيم الشريحي أنا أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي أنا عبد الله الحسين بن محمد الدينوري أنا عمر بن الخطاب أنا عبد الله بن الفضل أخبرنا أبو خيثمة أنا جرير عن مغيرة عن الشعبي عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من تصدق من جسده بشيء كفر الله عنه بقدره من ذنوبه " .وقال جماعة : هي كناية عن الجارح والقاتل ، يعني : إذا عفا المجني عليه عن الجاني فعفوه كفارة لذنب الجاني لا يؤاخذ به في الآخرة ، كما أن القصاص كفارة له ، فأما أجر العافي فعلى الله عز وجل ، قال الله تعالى : " فمن عفا وأصلح فأجره على الله " ( الشورى - 40 ) ، روي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وهو قول إبراهيم ومجاهد وزيد بن أسلم ، ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ) .