تَفْسِيرُ ٱلْمُيَسَّر
Tafsir Al-Muyassar —
کنگ فہد قرآن کمپلیکس
يا أيها الذين آمنوا لا تحرِّموا طيبات أحلَّها الله لكم من المطاعم والمشارب ونكاح النساء، فتضيقوا ما وسَّع الله عليكم، ولا تتجاوزوا حدود ما حرَّم الله. إن الله لا يحب المعتدين.
تَفْسِيرُ ٱلْجَلَالَيْنِ
Tafsir al-Jalalayn —
جلال الدین محلی اور جلال الدین سیوطی
ونزل لما همَّ قوم من الصحابة أن يلازموا الصوم والقيام ولا يقربوا النساء والطيب ولا يأكلوا اللحم ولا يناموا على الفراش «يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا» تتجاوزوا أمر الله «إن الله لا يحب المعتدين».
تَفْسِيرُ ٱلْقُرْطُبِيِّ
Tafsir al-Qurtubi —
علامہ قرطبی
قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدينقوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا فيه خمس مسائل :الأولى : أسند الطبري إلى ابن عباس أن الآية نزلت بسبب رجل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إني إذا أصبت من اللحم انتشرت وأخذتني شهوتي فحرمت اللحم ; فأنزل الله هذه الآية . وقيل : إنها نزلت بسبب جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم أبو بكر وعلي وابن مسعود وعبد الله بن عمر وأبو ذر الغفاري وسالم مولى أبي حذيفة والمقداد بن الأسود وسلمان الفارسي ومعقل بن مقرن رضي الله عنهم ، اجتمعوا في دار عثمان بن مظعون ، واتفقوا على أن يصوموا النهار ويقوموا الليل ولا يناموا على الفرش ، ولا يأكلوا اللحم ولا الودك ولا يقربوا النساء والطيب ، ويلبسوا المسوح ويرفضوا الدنيا ويسيحوا في الأرض ، ويترهبوا ويجبوا المذاكير ; فأنزل الله تعالى هذه الآية ، والأخبار بهذا المعنى كثيرة وإن لم يكن فيها ذكر النزول وهي :الثانية : خرج مسلم عن أنس أن نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عمله في السر ; فقال بعضهم : لا أتزوج النساء ; وقال بعضهم : لا آكل اللحم ; وقال بعضهم : لا أنام على الفراش ; فحمد الله وأثنى عليه فقال : وما بال أقوام قالوا كذا وكذا لكني أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني ، وخرجه البخاري عن أنس أيضا ولفظه قال : جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته ; فلما أخبروا كأنهم تقالوها - فقالوا : وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قد غفر الله له من ذنبه ما تقدم وما تأخر . فقال أحدهم : أما أنا فإني أصلي الليل أبدا ، وقال آخر : أما أنا فأصوم الدهر ولا أفطر ، وقال آخر : أما أنا فأعتزل النساء ولا أتزوج أبدا . فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أنتم الذين قلتم كذا وكذا أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني . وخرجا عن سعد بن أبي وقاص قال : أراد عثمان بن مظعون أن يتبتل فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم ولو أجاز له ذلك لاختصينا ، وخرج الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه [ ص: 195 ] في مسنده قال حدثنا أبو المغيرة قال حدثنا معان بن رفاعة ، قال حدثني علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه ، قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية من سراياه ; قال : فمر رجل بغار فيه شيء من الماء فحدث نفسه بأن يقيم في ذلك الغار فيقوته ما كان فيه من ماء ، ويصيب ما حوله من البقل ، ويتخلى عن الدنيا ; قال : لو أني أتيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك ، فإن أذن لي فعلت وإلا لم أفعل ; فأتاه فقال : يا نبي الله إني مررت بغار فيه ما يقوتني من الماء والبقل ، فحدثتني نفسي بأن أقيم فيه وأتخلى عن الدنيا ; قال : فقال له النبي صلى الله عليه وسلم إني لم أبعث باليهودية ولا بالنصرانية ولكني بعثت بالحنيفية السمحة والذي نفس محمد بيده لغدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها ولمقام أحدكم في الصف خير من صلاته ستين سنة .الثالثة : قال علماؤنا رحمة الله عليهم في هذه الآية وما شابهها والأحاديث الواردة في معناها رد على غلاة المتزهدين ، وعلى أهل البطالة من المتصوفين ; إذ كل فريق منهم قد عدل عن طريقه ، وحاد عن تحقيقه ; قال الطبري : لا يجوز لأحد من المسلمين تحريم شيء مما أحل الله لعباده المؤمنين على نفسه من طيبات المطاعم والملابس والمناكح إذا خاف على نفسه بإحلال ذلك بها بعض العنت والمشقة ; ولذلك رد النبي صلى الله عليه وسلم التبتل على ابن مظعون فثبت أنه لا فضل في ترك شيء مما أحله الله لعباده ، وأن الفضل والبر إنما هو في فعل ما ندب عباده إليه ، وعمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسنه لأمته ، واتبعه على منهاجه الأئمة الراشدون ، إذ كان خير الهدي هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، فإذا كان كذلك تبين خطأ من آثر لباس الشعر والصوف على لباس القطن والكتان إذا قدر على لباس ذلك من حله ، وآثر أكل الخشن من الطعام وترك اللحم وغيره حذرا من عارض الحاجة إلى النساء . قال الطبري : فإن ظن ظان أن الخير في غير الذي قلنا لما في لباس الخشن وأكله من المشقة على النفس وصرف ما فضل بينهما من القيمة إلى أهل الحاجة فقد ظن خطأ ; وذلك أن الأولى بالإنسان صلاح نفسه وعونه لها على طاعة ربها ، ولا شيء أضر للجسم من المطاعم الرديئة لأنها مفسدة لعقله ومضعفة لأدواته التي جعلها الله سببا إلى طاعته ، وقد جاء رجل إلى الحسن البصري ; فقال : إن لي جارا لا يأكل الفالوذج فقال : ولم ؟ قال : يقول لا يؤدي شكره ; فقال الحسن : أفيشرب الماء البارد ؟ فقال : نعم . فقال : إن جارك جاهل ، فإن نعمة الله عليه في الماء البارد أكثر من نعمته عليه في الفالوذج . قال ابن العربي قال علماؤنا : هذا إذا كان الدين قواما ، ولم يكن المال حراما ; فأما إذا فسد [ ص: 196 ] الدين عند الناس وعم الحرام فالتبتل أفضل ، وترك اللذات أولى ، وإذا وجد الحلال فحال النبي صلى الله عليه وسلم أفضل وأعلى . قال المهلب : إنما نهى صلى الله عليه وسلم عن التبتل والترهب من أجل أنه مكاثر بأمته الأمم يوم القيامة ، وأنه في الدنيا مقاتل بهم طوائف الكفار ، وفي آخر الزمان يقاتلون الدجال ; فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكثر النسل .الرابعة : قوله تعالى : ولا تعتدوا قيل : المعنى لا تعتدوا فتحلوا ما حرم الله فالنهيان على هذا تضمنا الطرفين ; أي : لا تشددوا فتحرموا حلالا ، ولا تترخصوا فتحلوا حراما ; قاله الحسن البصري ، وقيل : معناه التأكيد لقوله : تحرموا ; قاله السدي وعكرمة وغيرهما ; أي : لا تحرموا ما أحل الله وشرع ، والأول أولى ، والله أعلم .الخامسة : من حرم على نفسه طعاما أو شرابا أو أمة له ، أو شيئا مما أحل الله فلا شيء عليه ، ولا كفارة في شيء من ذلك عند مالك ; إلا أنه إن نوى بتحريم الأمة عتقها صارت حرة وحرم عليه وطؤها إلا بنكاح جديد بعد عتقها ، وكذلك إذا قال لامرأته أنت علي حرام فإنها تطلق عليه ثلاثا ; وذلك أن الله تعالى قد أباح له أن يحرم امرأته عليه بالطلاق صريحا وكناية ، و ( حرام ) من كنايات الطلاق . وسيأتي ما للعلماء فيه في سورة ( التحريم ) إن شاء الله تعالى ، وقال أبو حنيفة : إن من حرم شيئا صار محرما عليه ، وإذا تناوله لزمته الكفارة ; وهذا بعيد والآية ترد عليه ، وقال سعيد بن جبير : لغو اليمين تحريم الحلال ، وهو معنى قول الشافعي على ما يأتي .
تَنْوِيرُ ٱلْمِقْبَاسِ مِن تَفْسِيرِ ٱبْنِ عَبَّاس
Tafsir Tanwir al-Miqbas —
حضرت ابن عباسؓ
استئناف ابتدائي خطاب للمؤمنين بأحكام تشريعية ، وتكملة على صورة التفريع جاءت لمناسبة ما تقدّم من الثناء على القسّيسين والرهبان . وإذ قد كان من سنّتهم المبالغة في الزهد وأحدثوا رهبانية من الانقطاع عن التزوّج وعن أكل اللحوم وكثير من الطيّبات كالتدهُّن وترفيه الحالة وحُسن اللباس ، نبّه الله المؤمنين على أنّ الثناء على الرهبان والقسّيسين بما لهم من الفضائل لا يقتضي اطّراد الثناء على جميع أحوالهم الرهبانيّة . وصادف أن كانَ بعضُ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد طمَحت نفوسهم إلى التقلّل من التعلّق بلذائذ العيش اقتداء بصاحبهم سيِّد الزاهدين صلى الله عليه وسلم روى الطبري والواحدي أنّ نفَراً تنافسوا في الزهد . فقال أحدُهم : أمّا أنا فأقوم الليل لا أنام ، وقال الآخر : أمَّا أنا فأصوم النهار ، وقال آخر : أمّا أنا فلا آتي النساء ، فبلغ خبرُهم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فبعث إليهم ، فقال : " ألَمْ أنَبَّأ أنَّكم قلتم كذا . قالوا : بَلَى يا رسول الله ، وما أرَدْنا إلاّ الخَيْر ، قال : لَكِنِّي أقوم وأنام ، وأصوم وأفطر ، وآتي النساء ، فمن رغب عن سنّتي فليس منّي " فنزلت هذه الآية . ومعنى هذا في «صحيحي البخاري ومسلم» عن أنس بن مالك وليس فيه أنّ ذلك سبب نزول هذه الآية .ورُوي أنّ ناساً منهم ، وهم : أبو بكر ، وعليّ ، وابن مسعود ، وابن عُمر ، وأبو ذرّ ، وسالم مولى أبي حذيفة ، والمقدادُ بن الأسود ، وسلْمان الفارسي ، ومعقل بن مُقَرّن اجتمعوا في دار عثمان بن مظعون واتّفقوا على أن يرفُضوا أشغال الدنيا ، ويتركوا النساء ويترهّبوا . فقام رسول الله فغلّظ فيهم المقالة ، ثم قال : " إنّما هلك من كان قبلكم بالتشديد ، شَدّدوا على أنفسهم فشدّد الله عليهم فأولئك بقاياهم في الديار والصوامع " فنزلت فيهم هذه الآية . . وهذا الخبر يقتضي أنّ هذا الاجتماع كان في أول مدّة الهجرة لأنّ عثمان بن مظعون لم يكن له دار بالمدينة وأسكنه النبي صلى الله عليه وسلم في دار أمّ العلاء الأنصارية التي قيل : إنّها زوجة زيد بن ثابت ، وتوفّي عثمان بن مظعون سنة اثنتين من الهجرة . وفي رواية : أنّ ناساً قالوا إنّ النصارى قد حرّموا على أنفسهم فنحن نحرّم على أنفسنا بعض الطيّبات فحرّم بعضهم على نفسه أكل اللحم ، وبعضهم النوم ، وبعضهم النساء؛ وأنّهم ألزموا أنفسهم بذلك بأيمان حلفوها على ترك ما التزموا تركه . فنزلت هذه الآية .وهذه الأخبار متظافرة على وقوع انصراف بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المبالغة في الزهد واردة في الصحيح ، مثل حديث عبد الله بن عمرو بن العاصي . قال : قال لي رسول الله : " ألم أخْبَر أنّك تقوم الليل وتصوم النهارَ ، قلت : إنّي أفعلُ ذلك . قال : فإنّك إذا فعلتَ هجَمت عينُك ونَفِهَتْ نَفْسك . وإنّ لنفسك عليك حقاً ولأهلِك عليك حقّاً ، فصم وأفطر وقُم ونَم "وحديث سلمان مع أبي الدرداء أنّ سلمان زار أبا الدرداء فصنع أبو الدرداء طعاماً فقال لسلمان : كُلْ فإنّي صائم ، فلمّا كانَ الليلُ ذهب أبو الدرداء يقوم ، فقال : نم ، فنام ، ثم ذهب يقوم فقال : نم ، فنام . فلمّا كان آخر اللّيل قال سلمان : قم الآن ، وقال سلمان : إنّ لربّك عليك حقّاً ولنفسك عليك حقّاً ولأهلك عليك حقّاً فأعط كلّ ذي حقّ حقّه . فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له . فقال النبي عليه الصلاة والسلام : «صدقَ سلمانُ» . وفي الحديث الصحيح أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أمّا أنا فأقوم وأرقد وأصوم وأفطر وأتزوّج النساء فمن رغب عن سُنّتي فليس منّي "والنهي إنّما هو عن تحريم ذلك على النفس . أمّا ترك تناول بعض ذلك في بعض الأوقات من غير التزام ولقصد التربية للنفس على التصبّر على الحِرمان عند عدم الوجدان ، فلا بأس به بمقدار الحاجة إليه في رياضة النفس . وكذلك الإعراض عن كثير من الطّيبات للتطلّع على ما هو أعلى من عبادة أو شغل بعمل نافع وهو أعلى الزهد ، وقد كان ذلك سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخاصّة من أصحابه ، وهي حالة تناسب مرتبته ولا تتناسب مع بعض مراتب الناس ، فالتطلّع إليها تعسير ، وهو مع ذلك كان يتناول الطيّبات دون تشوّف ولا تطلّع . وفي تناولها شكر لله تعالى ، كما ورد في قصّة أبي الدحداح حين حَلّ رسولُ الله وأبُو بكر وعمرُ في حائطه وأطعمهم وسقاهم . وعن الحسن البصري : أنّه دُعي إلى طعام ومعه فَرقد السَبَخي وأصحابه فجلسوا على مائدة فيها ألوان من الطعام دجاج مسمَّن وفالَوْذ فاعتزل فرقد نَاحِية . فسأله الحسن : أصائم أنت ، قال : لا ولكنّي أكره الألوان لأنّي لا أؤدّي شكره ، فقال له : الحسن : أفتشرب الماءَ البارد ، قال : نعم ، قال : إنّ نعمةَ الله في الماءِ البارد أكثر من نعمته في الفَالَوْذ .وليس المراد من النهي أن يلفظ بلفظ التحريم خاصّة بل أن يتركه تشديداً على نفسه سواء لفظ بالتحريم أم لم يلفظ به . ومن أجل هذا النهي اعتبر هذا التحريم لغواً في الإسلام فليس يلزم صاحبه في جميع الأشياء التي لم يجعل الإسلام للتحريم سبيلاً إليها وهي كلّ حال عدا تحريم الزوجة . ولذلك قال مالك فيمن حرّم على نفسه شيئاً من الحلال أو عمّم فقال : الحلال عليّ حرام ، أنّه لا شيء عليه في شيء من الحلال إلاّ الزوجة فإنّها تحرم عليه كالبتَات ما لم ينو إخراج الزوجة قبل النطق بصيغة التحريم أو يخرجها بلفظ الاستثناء بعد النطق بصيغة التحريم ، على حكم الاستثناء في اليمين .ووجهه أنّ عقد العصمة يتطرّق إليه التحريم شرعاً في بعض الأحوال ، فكان التزام التحريم لازماً فيها خاصّة ، فإنّه لو حرّم الزوجة وحدها حرمت ، فكذلك إذا شملها لفظ عامّ . ووافقه الشافعي . وقال أبو حنيفة : من حرّم على نفسه شيئاً من الحلال حَرم عليه تناوُله ما لم يكَفّر كفارة يمين ، فإنْ كفَّر حلّ له إلاّ الزوجة . وذهب مسروق وأبو سلمة إلى عدم لزوم التحريم في الزوجة وغيرها .وفي قوله تعالى : { لا تحرّموا طيّبات ما أحلّ الله لكم } تنبيه لفقهاء الأمّة على الاحتراز في القول بتحريم شيء لم يقم الدليل على تحريمه ، أو كان دليله غير بالغ قوة دليل النهي الوارد في هذه الآية .ثم إنّ أهل الجاهلية كانوا قد حرّموا أشياء على أنفسهم كما تضمنته سورة الأنعام ، وقد أبطلها الله بقوله : { قل من حرّم زينة الله التي أخرج لِعباده والطيّبات من الرزق } [ الأعراف : 32 ] ، وقوله : { قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهاً بغير علم وحرّموا ما رزقهم الله افتراء على الله } [ الأنعام : 140 ] ، وقوله : { قُل الذّكَرَيْننِ حَرّم أم الأنثيين إلى قوله { فمن أظلم ممّن افترى على الله كذباً ليُضلّ النّاس بغير علم } [ الأنعام : 143 ، 144 ] ، وغير ذلك من الآيات . وقد كان كثير من العرب قد دخلوا في الإسلام بعد فتح مكّة دفعة واحدة كما وصفهم الله بقوله : { يدخلون في دين الله أفواجاً } [ النصر : 2 ] . وكان قصر الزمان واتّساع المكان حائلين دون رسوخ شرائع الإسلام فيما بينهم ، فكانوا في حاجة إلى الانتهاء عن أمور كثيرة فاشية فيهم في مدّة نزول هذه السورة ، وهي أيام حجّة الوداع وما تقدّمها وما تأخّر عنها .وجملة { ولا تعتدوا } معترضة ، لمناسبة أنّ تحريم الطّيبات اعتداء على ما شرع الله ، فالواو اعتراضية . وبما في هذا النهي من العموم كانت الجملة تذييلاً .والاعتداء افتعال العدوْ ، أي الظلم . وذِكره في مقابلة تحريم الطيّبات يدلّ على أنّ المراد النهي عن تجاوز حدّ الإذننِ المشروع ، كما قال { تلك حدود الله فلا تعتدوها } [ البقرة : 229 ] . فلمّا نهى عن تحريم الحلال أردفه بالنهي عن استحلال المحرّمات وذلك بالاعتداء على حقوق النّاس ، وهو أشدّ الاعتداء ، أو على حقوق الله تعالى في أمره ونهيه دون حقّ الناس ، كتناول الخنزير أو الميتة . ويعمّ الاعتداءُ في سياق النهي جميع جنسه ممّا كانت عليه الجاهلية من العدوان ، وأعظمه الاعتداء على الضعفاء كالوأْد ، وأكللِ مال اليتيم ، وعضل الأيامَى ، وغير ذلك .وجملة { إنّ الله لا يحبّ المعتدين } تذييل للّتي قبلها للتحذير من كلّ اعتداء .
ٱلتَّفْسِيرُ ٱلْوَسِيط
Tafsir Al-Waseet —
علمائے جامعہ ازہر
ثم وجه - سبحانه - نداء إلى المؤمنين نهاهم عن تحريم الطيبات التي أحلها الله لهم ، وأمرهم أن يتمتعوا بما رزقهم من رزق طيب حلال فقال - تعالى :( ياأيها الذين . . . )قال صاحب المنار بدأ الله - هذه السورة بآيات من أحكام الحلال والحرام والنسك .ثم جاء بهذا السياق الطويل في بيان أحوال أهل الكتاب ومحاجتهم ، فكان أوفى وأتم ما ورد في القرآن من ذلك ، ولم يتخلله إلا قليل من الأحكام . وهاتان الآيتان وما بعدهما عود إلى أحكام الحلال والحرام والنسك التي بدئت بها السورة .وإنما لم تجعل آيات الأحكام كلها في أول السورة وتجعل الآيات في أهل الكتاب مفصلا بعضها ببعض في باقيها . لما بيناه غير مرة من حكمة مزج المسائل والموضوعات في القرآن من حيث هو مثاني تتلى دائما للاهتداء بها ، لا كتابا فنياً ولا قانونا يتخذ لأجل مراجعه كل مسألة من كل طائفة من المعاني في باب معين .على أن نظمه وترتيب آياته يدهش أصحاب الأفهام الدقيقة بحسنه وتنسيقه كما ترى في مناسبة هاتين الآيتين لما قبلهما مباشرة .ذلك أنه - تعالى - ذكر أن النصارى أقرب الناس مودة للذين آمنوا وذكر من سبب ذلك أن منهم قسيسين ورهبانا فكان من مقتضى هذا أن يرغب المؤمنون في الرهبانية ويظن الميالون للتقشف والزهد أنها مرتبة كما تقربهم إلى الله - تعالى - وهي إنما تتحقق بتحريم التمتع بالطيبات . وقد أزال الله - تعالى - هذا الظن وقطع طريق تلك الرغبة بقوله : ( ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ الله لَكُمْ .هذا ، وقد ذكر المفسرون في سبب نزول هاتين الآيتيني روايات متعدة منها ما أخرجه الترمذي وابن جرير عن ابن عباس : أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أني إذا أكلت انتشرت للنساء ، وأخذتني شهوتي فحرمت على اللحم . فأنزل الله - تعالى - ( ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ ) . الآية .وأخرج ابن جرير عن عكرمة قال ، كان : أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هموا بالخصاء وترك اللحم والنساء ، فنزلت هذه الآية ( ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ الله لَكُمْ ) وعن أبي قلابة قال : أراد أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن يرفضوا الدنيا ، ويتركوا النساء ويترهبوا فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فغلظ فيهم المقالة . ثم قال : " إنما هلك من كان قبلكم بالتشديد شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم ، فأولئك بقاياهم في الديار والصوامع ، واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وحجوا واعتمروا واستقيموا " قال : ونزلت فيهم ( ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ ) الآية وعن أبي طلحة عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية في رهط من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا : نقطع مذاكيرنا ، ونترك شهوات الدنيا ، ونسيح في الأرض كما تفعل الرهبان ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليهم ، فذكرلهم ذلك فقالوا : نعم .فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لكني أصوم وأفطر ، وأصلي وأنام ، و أنكح النساء ، فمن أخذ بسنتي فهو مني ، ومن لم يأخذ بسنتي فليس مني " .وقد وجه سبحانه النداء للمؤمنين بوصف الإِيمان؛ لتحريك حرارة العقيدة في قلوبهم حتى يمتثلوا أوامر الله ونواهيه .والمراد بقوله : ( لاَ تُحَرِّمُواْ ) : لا تعتقدوا تحريم ما أحل الله لكم من طيبات بأن تأخذوا على أنفسكم عهدا بعدم تناولها أو الانتفاع بها .فالنيه عن التحريم هنا ليس منصاب على الترك المجرد . فقد ترك الإِنسان بعض الطيبات لأسباب تتعلق بالمرض أو غيره . وإنما هو منصب على اعتقاد أن هذه الطيبات يجب تركها ويأخذ الشخص على نفسه عهدا بذلك .والمراد بالطيبات : الأشياء المستلذة المستطابة المحللة التي تقوى بدن الإِنسان وتعينه على الجهاد في سبيل الله ، من طعام شهى ، وشراب سائغ . وملبس جميل .والمعنى : يأيها الذين آمنوا بالله إيمانا حقا ، لا تحرموا على أنفسكم شياً من الطيبات التي أحلها الله لكم ، فإنه - سبحانه - ما أحلها لكم إلا لما فيها من منافع وفوائد تعينكم على شئون دينكم ودنياكم .وقوله : ( وَلاَ تعتدوا ) تأكيد للنهي السابق . والتعدي معناه : تجاوز الحدود التي شرعها الله - تعالى - عن طريق الإِسراف أو عن طريق التقتير . أو عن طريق الاعتداء على حق الغير أو عن طريق يخالف ما شرعه الله - تعالى - .وقوله : ( إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المعتدين ) في موضع التعليل لما قبله .أي : لا تحرموا - أيها المؤمنون - على أنفسكم ما أحله الله لكم من طيبات ولا تتجاوزوا حدوده بالإِسراف . أو بالتقتير أو بتناول ما حرمه عليكم فإنه - سبحانه - لا يحب الذين يتجاوزون حدود شريعته ، وسنن فطرته . وهدى نبيه صلى الله عليه وسلم .
تَفْسِيرُ ٱلْبَغَوِيِّ
Tafsir al-Baghawi —
علامہ بغوی
قوله تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ) الآية قال أهل التفسير : ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الناس يوما ووصف القيامة ، فرق له الناس وبكوا ، فاجتمع عشرة من أصحابه في بيت عثمان بن مظعون الجمحي ، وهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر ، وأبو ذر الغفاري وسالم مولى أبي حذيفة ، والمقداد بن الأسود وسلمان الفارسي ، ومعقل بن مقرن رضي الله عنهم ، وتشاوروا واتفقوا على أن يترهبوا ويلبسوا المسوح ويجبوا مذاكيرهم ، ويصوموا الدهر ، ويقوموا الليل ولا يناموا على الفرش ، ولا يأكلوا اللحم والودك ، ولا يقربوا النساء والطيب ، ويسيحوا في الأرض ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى دار عثمان بن مظعون فلم يصادفه ، فقال لامرأته أم حكيم بنت أبي أمية ، واسمها الخولاء ، وكانت عطارة : أحق ما بلغني عن زوجك وأصحابه؟ فكرهت أن تكذب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكرهت أن تبدي على زوجها ، فقالت : يا رسول الله إن كان أخبرك عثمان بشيء فقد صدقك ، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما دخل عثمان أخبرته بذلك فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ألم أنبأ أنكم اتفقتم على كذا وكذا ) ؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، وما أردنا إلا الخير ، فقال صلى الله عليه وسلم : ( إني لم أؤمر بذلك ) ، ثم قال : ( إن لأنفسكم عليكم حقا فصوموا وأفطروا وقوموا وناموا ، فإني أقوم وأنام وأصوم وأفطر ، وآكل اللحم والدسم وآتي النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني ) ، ثم جمع الناس وخطبهم فقال : ( ما بال أقوام حرموا النساء والطعام والطيب والنوم وشهوات [ النساء ] ؟ أما إني لست آمركم أن تكونوا قسيسين ورهبانا فإنه ليس في ديني ترك اللحم والنساء ، ولا اتخاذ الصوامع ، وإن سياحة أمتي الصوم ورهبانيتهم الجهاد ، اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ، وحجوا واعتمروا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ، وصوموا رمضان واستقيموا يستقم لكم ، فإنما هلك من كان قبلكم بالتشديد ، شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم ، فأولئك بقاياهم في الديار والصوامع ) ، فأنزل الله عز وجل هذه الآية .أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة الكشميهني أنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن الحارث أنا أبو الحسن محمد بن يعقوب الكسائي أنا عبد الله بن محمود أنا إبراهيم بن عبد الله الخلال أنا عبد الله بن المبارك عن رشدين بن سعد حدثني ابن أنعم عن سعد بن مسعود أن عثمان بن مظعون رضي الله عنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ائذن لنا في الاختصاء ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ليس منا من خصى ولا اختصى ، خصاء أمتي الصيام ) ، فقال : يا رسول الله ائذن لنا في السياحة ، فقال : ( إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله ) ، فقال : يا رسول الله ائذن لنا في الترهب ، فقال : ( إن ترهب أمتي الجلوس في المساجد وانتظار الصلاة ) .وروي عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلا قال : يا رسول الله إني أصبت من اللحم فانتشرت وأخذتني شهوة ، فحرمت اللحم ، فأنزل الله تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ) يعني : اللذات التي تشتهيها النفوس ، مما أحل لكم من المطاعم الطيبة والمشارب اللذيذة ( ولا تعتدوا ) أي : ولا تجاوزوا الحلال إلى الحرام ، وقيل : هو جب المذاكير ( إن الله لا يحب المعتدين )