تَفْسِيرُ ٱلْمُيَسَّر
Tafsir Al-Muyassar —
کنگ فہد قرآن کمپلیکس
يا أيها الناس خافوا الله والتزموا أوامره، واجتنبوا نواهيه؛ فهو الذي خلقكم من نفس واحدة هي آدم عليه السلام، وخلق منها زوجها وهي حواء، ونشر منهما في أنحاء الأرض رجالا كثيرًا ونساء كثيرات، وراقبوا الله الذي يَسْأل به بعضكم بعضًا، واحذروا أن تقطعوا أرحامكم. إن الله مراقب لجميع أحوالكم.
تَفْسِيرُ ٱلْجَلَالَيْنِ
Tafsir al-Jalalayn —
جلال الدین محلی اور جلال الدین سیوطی
«يا أيها الناس» أي أهل مكة «اتقوا ربكم» أي عقابه بأن تطيعوه «الذي خلقكم من نفس واحدة» آدم «وخلق منها زوجها» حواء بالمد من ضلع من أضلاعه اليسرى «وبث» فرق ونشر «منهما» من آدم وحواء «رجالا كثيرا ونساء» كثيرة «واتقوا الله الذي تَسّاءلون» فيه إدغام التاء في الأصل في السين، وفي قراءة بالتخفيف بحذفها أي تتساءلون «به» فيما بينكم حيث يقول بعضكم لبعض أسألك بالله وأنشدك بالله «و» اتقوا «الأرحام» أن تقطعوها، وفي قراءة بالجر عطفا على الضمير في به وكانوا يتناشدون بالرحم «إنَّ الله كان عليكم رقيبا» حافظا لأعمالكم فيجازيكم بها، أي لم يزل متصفا بذلك.
تَفْسِيرُ ٱلْقُرْطُبِيِّ
Tafsir al-Qurtubi —
علامہ قرطبی
سورة النساءوهي مدنية إلا آية واحدة نزلت بمكة عام الفتح في عثمان بن طلحة الحجبي وهي قوله : إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها على ما يأتي بيانه . قال النقاش : وقيل : نزلت عند هجرة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة . وقد قال بعض الناس : إن قوله تعالى : يا أيها الناس حيث وقع إنما هو مكي ، وقاله علقمة وغيره ، فيشبه أن يكون صدر السورة مكيا ، وما نزل بعد الهجرة فإنما هو مدني . وقال النحاس : هذه السورة مكية .قلت : والصحيح الأول ، فإن في صحيح البخاري عن عائشة أنها قالت : ما نزلت سورة النساء إلا وأنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ تعني قد بنى بها . ولا خلاف بين العلماء أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما بنى بعائشة بالمدينة . ومن تبين أحكامها علم أنها مدنية لا شك فيها . وأما من قال : إن قوله : يا أيها الناس مكي حيث وقع فليس بصحيح ؛ فإن البقرة مدنية وفيها قوله ، يا أيها الناس في موضعين ، وقد تقدم . والله أعلمقوله يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبافيه ست مسائل :الأولى : قوله تعالى : يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم قد مضى في [ ص: 4 ] " البقرة " اشتقاق الناس ومعنى التقوى والرب والخلق والزوج والبث ، فلا معنى للإعادة . وفي الآية تنبيه على الصانع . وقال : " واحدة " على تأنيث لفظ النفس . ولفظ النفس يؤنث وإن عني به مذكر . ويجوز في الكلام " من نفس واحد " وهذا على مراعاة المعنى ؛ إذ المراد بالنفس آدم عليه السلام ، قاله مجاهد وقتادة . وهي قراءة ابن أبي عبلة " واحد " بغير هاء . وبث : فرق ونشر في الأرض ؛ ومنه وزرابي مبثوثة وقد تقدم في " البقرة " .ومنهما يعني آدم وحواء . قال مجاهد : خلقت حواء من قصيرى آدم . وفي الحديث : خلقت المرأة من ضلع عوجاء ، وقد مضى في البقرة . رجالا كثيرا ونساء حصر ذريتهما في نوعين ؛ فاقتضى أن الخنثى ليس بنوع ، لكن له حقيقة ترده إلى هذين النوعين وهي الآدمية فيلحق بأحدهما ، على ما تقدم ذكره في " البقرة " من اعتبار نقص الأعضاء وزيادتها .الثانية : قوله تعالى واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام كرر الاتقاء تأكيدا وتنبيها لنفوس المأمورين . والذي في موضع نصب على النعت . والأرحام معطوف . أي اتقوا الله أن تعصوه ، واتقوا الأرحام أن تقطعوها . وقرأ أهل المدينة " تساءلون " بإدغام التاء في السين . وأهل الكوفة بحذف التاء ، لاجتماع تاءين ، وتخفيف السين ؛ لأن المعنى يعرف ؛ وهو كقوله : ولا تعاونوا على الإثم وتنزل وشبهه .وقرأ إبراهيم النخعي وقتادة والأعمش وحمزة " الأرحام " بالخفض .وقد تكلم النحويون في ذلك . فأما البصريون فقال رؤساؤهم : هو لحن لا تحل القراءة به . وأما الكوفيون فقالوا : هو قبيح ؛ ولم يزيدوا على هذا ولم يذكروا علة قبحه ؛ قال النحاس : فيما علمت .وقال سيبويه : لم يعطف على المضمر المخفوض ؛ لأنه بمنزلة التنوين ، والتنوين لا يعطف عليه . وقال جماعة : هو معطوف على المكني ؛ فإنهم كانوا يتساءلون بها ، يقول الرجل : سألتك بالله والرحم ؛ هكذا فسره الحسن والنخعي ومجاهد ، وهو الصحيح في المسألة ، على ما يأتي . وضعفه أقوام منهم الزجاج ، وقالوا : يقبح عطف الاسم الظاهر على المضمر في الخفض إلا بإظهار الخافض ؛ كقوله فخسفنا به وبداره الأرض ويقبح " مررت به وزيد " . قال الزجاج : عن المازني : لأن المعطوف والمعطوف عليه شريكان [ ص: 5 ] ، يحل كل واحد منهما محل صاحبه ؛ فكما لا يجوز " مررت بزيد وك " كذلك لا يجوز " مررت بك وزيد " . وأما سيبويه فهي عنده قبيحة ولا تجوز إلا في الشعر ؛ كما قال :فاليوم قربت تهجونا وتشتمنا فاذهب فما بك والأيام من عجبعطف " الأيام " على الكاف في " بك " بغير الباء للضرورة . وكذلك قول الآخر :نعلق في مثل السواري سيوفنا وما بينها والكعب مهوى نفانفعطف " الكعب " على الضمير في " بينها " ضرورة . وقال أبو علي : ذلك ضعيف في القياس . وفي كتاب التذكرة المهدية عن الفارسي أن أبا العباس المبرد قال : لو صليت خلف إمام يقرأ ما أنتم بمصرخي و اتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام لأخذت نعلي ومضيت . قال الزجاج : قراءة حمزة مع ضعفها وقبحها في العربية خطأ عظيم في أصول أمر الدين ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا تحلفوا بآبائكم فإذا لم يجز الحلف بغير الله فكيف يجوز بالرحم . ورأيت إسماعيل بن إسحاق يذهب إلى أن الحلف بغير الله أمر عظيم ، وأنه خاص لله تعالى . قال النحاس : وقول بعضهم " والأرحام " قسم خطأ من المعنى والإعراب ؛ لأن الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم يدل على النصب . وروى شعبة عن عون بن أبي جحيفة ، عن المنذر بن جرير ، عن أبيه قال : كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم حتى جاء قوم من مضر حفاة عراة ، فرأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتغير لما رأى من فاقتهم ؛ ثم صلى الظهر وخطب الناس فقال : يا أيها الناس اتقوا ربكم ، إلى : والأرحام ؛ ثم قال : تصدق رجل بديناره تصدق رجل بدرهمه تصدق رجل بصاع تمره . . . وذكر الحديث . فمعنى هذا على النصب ؛ لأنه حضهم على صلة أرحامهم . وأيضا فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت . فهذا يرد قول من قال : المعنى أسألك بالله وبالرحم . وقد قال أبو إسحاق : معنى تساءلون به يعني تطلبون حقوقكم به . ولا معنى للخفض أيضا مع هذا .قلت : هذا ما وقفت عليه من القول لعلماء اللسان في منع قراءة " والأرحام " [ ص: 6 ] بالخفض ، واختاره ابن عطية . ورده الإمام أبو نصر عبد الرحيم بن عبد الكريم القشيري ، واختار العطف فقال : ومثل هذا الكلام مردود عند أئمة الدين ؛ لأن القراءات التي قرأ بها أئمة القراء ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم تواترا يعرفه أهل الصنعة ، وإذا ثبت شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم فمن رد ذلك فقد رد على النبي صلى الله عليه وسلم ، واستقبح ما قرأ به ، وهذا مقام محذور ، ولا يقلد فيه أئمة اللغة والنحو ؛ فإن العربية تتلقى من النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا يشك أحد في فصاحته . وأما ما ذكر من الحديث ففيه نظر ؛ لأنه عليه السلام قال لأبي العشراء : وأبيك لو طعنت في خاصرته . ثم النهي إنما جاء في الحلف بغير الله ، وهذا توسل إلى الغير بحق الرحم فلا نهي فيه . قال القشيري : وقد قيل هذا إقسام بالرحم ، أي اتقوا الله وحق الرحم ؛ كما تقول : افعل كذا وحق أبيك . وقد جاء في التنزيل : والنجم ، والطور ، والتين ، لعمرك وهذا تكلفقلت : لا تكلف فيه فإنه لا يبعد أن يكون " والأرحام " من هذا القبيل ، فيكون أقسم بها كما أقسم بمخلوقاته الدالة على وحدانيته وقدرته تأكيدا لها حتى قرنها بنفسه . والله أعلم .ولله أن يقسم بما شاء ويمنع ما شاء ويبيح ما شاء ، فلا يبعد أن يكون قسما . والعرب تقسم بالرحم . ويصح أن تكون الباء مرادة فحذفها كما حذفها في قوله :مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة ولا ناعب إلا ببين غرابهافجر وإن لم يتقدم باء . قال ابن الدهان أبو محمد سعيد بن مبارك : والكوفي يجيز عطف الظاهر على المجرور ولا يمنع منه . ومنه قوله :آبك أيه بي أو مصدر من حمر الجلة جأب حشورومنه :فاذهب فما بك والأيام من عجبوقول الآخر :وما بينها والكعب غوط نفانفومنه :فحسبك والضحاك سيف مهندوقول الآخر :وقد رام آفاق السماء فلم يجد له مصعدا فيها ولا الأرض مقعدا[ ص: 7 ] وقول الآخر :ما إن بها والأمور من تلف ما حم من أمر غيبه وقعاوقول الآخر :أمر على الكتيبة لست أدري أحتفي كان فيها أم سواهاف " سواها " مجرور الموضع بفي . وعلى هذا حمل بعضهم قوله تعالى : وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين فعطف على الكاف والميم . وقرأ عبد الله بن يزيد " والأرحام " بالرفع على الابتداء ، والخبر مقدر ، تقديره : والأرحام أهل أن توصل . ويحتمل أن يكون إغراء ؛ لأن من العرب من يرفع المغرى . وأنشد الفراء :إن قوما منهم عمير وأشبا ه عمير ومنهم السفاحلجديرون باللقاء إذا قا ل أخو النجدة السلاح السلاحوقد قيل : إن " والأرحام " بالنصب عطف على موضع به ؛ لأن موضعه نصب ، ومنه قوله :فلسنا بالجبال ولا الحديداوكانوا يقولون : أنشدك بالله والرحم . والأظهر أنه نصب بإضمار فعل كما ذكرنا .الثالثة : اتفقت الملة على أن صلة الرحم واجبة وأن قطيعتها محرمة . وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأسماء وقد سألته أأصل أمي ؟ نعم صلي أمك فأمرها بصلتها وهي كافرة .فلتأكيدها دخل الفضل في صلة الكافر ، حتى انتهى الحال بأبي حنيفة وأصحابه فقالوا بتوارث ذوي الأرحام إن لم يكن عصبة ولا فرض مسمى ، ويعتقون على من اشتراهم من ذوي رحمهم لحرمة الرحم ؛ وعضدوا ذلك بما رواه أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من ملك ذا رحم محرم فهو حر . وهو قول أكثر أهل العلم . روي ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعبد الله بن مسعود ، ولا يعرف لهما مخالف من الصحابة . وهو قول الحسن البصري وجابر بن زيد وعطاء والشعبي والزهري ، وإليه ذهب الثوري وأحمد وإسحاق . ولعلمائنا في [ ص: 8 ] ذلك ثلاثة أقوال : الأول - أنه مخصوص بالآباء والأجداد .الثاني - الجناحان يعني الإخوة .الثالث - كقول أبي حنيفة .وقال الشافعي : لا يعتق عليه إلا أولاده وآباؤه وأمهاته ، ولا يعتق عليه إخوته ولا أحد من ذوي قرابته ولحمته .والصحيح الأول للحديث الذي ذكرناه وأخرجه الترمذي والنسائي . وأحسن طرقه رواية النسائي له ؛ رواه من حديث ضمرة ، عن سفيان ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من ملك ذا رحم محرم فقد عتق عليه . وهو حديث ثابت بنقل العدل عن العدل ولم يقدح فيه أحد من الأئمة بعلة توجب تركه ؛ غير أن النسائي قال في آخره : هذا حديث منكر . وقال غيره : تفرد به ضمرة . وهذا هو معنى المنكر والشاذ في اصطلاح المحدثين . وضمرة عدل ثقة ، وانفراد الثقة بالحديث لا يضره . والله أعلم .الرابعة : واختلفوا من هذا الباب في ذوي المحارم من الرضاعة . فقال أكثر أهل العلم لا يدخلون في مقتضى الحديث . وقال شريك القاضي بعتقهم . وذهب أهل الظاهر وبعض المتكلمين إلى أن الأب لا يعتق على الابن إذا ملكه ؛ واحتجوا بقوله عليه السلام : لا يجزي ولد والدا إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه . قالوا : فإذا صح الشراء فقد ثبت الملك ، ولصاحب الملك التصرف . وهذا جهل منهم بمقاصد الشرع ؛ فإن الله تعالى يقول : وبالوالدين إحسانا فقد قرن بين عبادته وبين الإحسان للوالدين في الوجوب ، وليس من الإحسان أن يبقى والده في ملكه وتحت سلطانه ؛ فإذا يجب عليه عتقه إما لأجل الملك عملا بالحديث فيشتريه فيعتقه ، أو لأجل الإحسان عملا بالآية . ومعنى الحديث عند الجمهور أن الولد لما تسبب إلى عتق أبيه باشترائه نسب الشرع العتق إليه نسبة الإيقاع منه . وأما اختلاف العلماء فيمن يعتق بالملك ، فوجه القول الأول ما ذكرناه من معنى الكتاب والسنة ، ووجه الثاني إلحاق القرابة القريبة المحرمة بالأب المذكور في الحديث ، ولا أقرب للرجل من ابنه فيحمل على الأب ، والأخ يقاربه في ذلك لأنه يدلي بالأبوة ؛ فإنه يقول : أنا ابن أبيه . وأما القول الثالث فمتعلقه حديث ضمرة وقد ذكرناه . والله أعلم .الخامسة : قوله تعالى : والأرحام الرحم اسم لكافة الأقارب من غير فرق بين [ ص: 9 ] المحرم وغيره . وأبو حنيفة يعتبر الرحم المحرم في منع الرجوع في الهبة ، ويجوز الرجوع في حق بني الأعمام مع أن القطيعة موجودة والقرابة حاصلة ؛ ولذلك تعلق بها الإرث والولاية وغيرهما من الأحكام . فاعتبار المحرم زيادة على نص الكتاب من غير مستند . وهم يرون ذلك نسخا ، سيما وفيه إشارة إلى التعليل بالقطيعة ، وقد جوزوها في حق بني الأعمام وبني الأخوال والخالات . والله أعلم .السادسة : قوله تعالى : إن الله كان عليكم رقيبا أي حفيظا ؛ عن ابن عباس ومجاهد . ابن زيد : عليما . وقيل : رقيبا حافظا ؛ قيل : بمعنى فاعل . فالرقيب من صفات الله تعالى ، والرقيب : الحافظ والمنتظر ؛ تقول رقبت أرقب رقبة ورقبانا إذا انتظرت . والمرقب : المكان العالي المشرف ، يقف عليه الرقيب . والرقيب : السهم الثالث من السبعة التي لها أنصباء . ويقال : إن الرقيب ضرب من الحيات ، فهو لفظ مشترك . والله أعلم .
تَنْوِيرُ ٱلْمِقْبَاسِ مِن تَفْسِيرِ ٱبْنِ عَبَّاس
Tafsir Tanwir al-Miqbas —
حضرت ابن عباسؓ
} ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ الذى خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ واحدة وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً } .جاء الخطاب بيأيُّها الناس : ليشمل جميع أمّة الدعوة الذين يسمعون القرآن يومئذ وفيما يأتي من الزمان . فضمير الخطاب في قوله : { خلقكم } عائد إلى الناس المخاطبين بالقرآن ، أي لئلاّ يختصّ بالمؤمنين ، إذ غير المؤمنين حينئذ هم كفّار العرب وهم الذين تلقّوا دعوة الإسلام قبل جميع البشر لأنّ الخطاب جاء بلغتهم ، وهم المأمورون بالتبليغ لبقية الأمم ، وقد كتب النبي صلى الله عليه وسلم كتبه للروم وفارس ومصر بالعربية لتترجم لهم بلغاتهم . فلمَّا كان ما بعد هذا النداء جامعاً لما يؤمر به الناس بين مؤمن وكافر ، نودي جميع الناس ، فدعاهم الله إلى التذكّر بأنّ أصلهم واحد ، إذ قال : { اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة } دعوة تظهر فيها المناسبة بين وحدة النوع ووحدة الاعتقاد ، فالمقصود من التقوى في { اتّقوا ربّكم } اتّقاء غضبه ، ومراعاة حقوقه ، وذلك حقّ توحيده والاعتراف له بصفات الكمال ، وتنزيهه عن الشركاء في الوجود والأفعال والصفات .وفي هذه الصلة براعة استهلال مناسبة لما اشتملت عليه السورة من الأغراض الأصلية ، فكانت بمنزلة الديباجة .وعبّر ب ( ربّكم ) ، دون الاسم العلم ، لأنّ في معنى الربّ ما يبعث العباد على الحرص في الإيمان بوحدانيته ، إذ الربّ هو المالك الذي يربّ مملوكه أي ، يدبّر شؤونه ، وليتأتّى بذكر لفظ ( الربّ ) طريق الإضافة الدالّة على أنّهم محقوقون بتقواه حقّ التقوى ، والدالّة على أنّ بين الربّ والمخاطبين صلة تعدّ إضاعتها حماقة وضلالاً . وأمّا التقوى في قوله : { واتقوا اللَّه الذي تساءلون به والأرحام } فالمقصد الأهمّ منها : تقوى المؤمنين بالحذر من التساهل في حقوق الأرحام واليتامى من النساء والرجال . ثم جاء باسم الموصول { الذي خلقكم } للإيماء إلى وجه بناء الخبر لأنّ الذي خلق الإنسان حقيق بأن يتّقى .ووَصْل { خلقكم } بصلة { من نفس واحدة } إدماج للتنبيه على عجيب هذا الخلق وحقّه بالاعتبار . وفي الآية تلويح للمشركين بأحقّيّة اتّباعهم دعوة الإسلام ، لأنّ الناس أبناء أب واحد ، وهذا الدين يدعو الناس كلّهم إلى متابعته ولم يخصّ أمّة من الأمم أو نسباً من الأنساب ، فهو جدير بأن يكون دين جميع البشر ، بخلاف بقية الشرائع فهي مصرّحة باختصاصها بأمم معيّنة . وفي الآية تعريض للمشركين بأنّ أولى الناس بأن يتّبعوه هو محمد صلى الله عليه وسلم لأنّه من ذوي رحمهم . وفي الآية تمهيد لما سَيُبَيَّنُ في هذه السورة من الأحكام المرتّبة على النسب والقرابة .والنفس الواحدة : هي آدم . والزوج : حوّاء ، فإنّ حوّاء أخرجت من آدم . من ضلعه ، كما يقتضيه ظاهر قوله : { منها } .و ( مِن ) تبعيضية . ومعنى التبعيض أنّ حوّاء خلقت من جزء من آدم .قيل : من بقية الطينة التي خلق منها آدم . وقيل : فصلت قطعة من ضلعه وهو ظاهر الحديث الوارد في «الصحيحين» .ومن قال : إنّ المعنى وخلق زوجها من نوعها لم يأت بطائل ، لأنّ ذلك لا يختصّ بنوع الإنسان فإنّ أنثى كلّ نوع هي من نوعه .وعُطف قوله : { وخلق منها زوجها } على { خلقكم من نفس واحدة } ، فهو صلة ثانية . وقوله : { وبث منهما } صلة ثالثة لأنّ الذي يخلق هذا الخلق العجيب جدير بأن يتّقى ، ولأنّ في معاني هذه الصلات زيادة تحقيق اتّصال الناس بعضهم ببعض ، إذ الكلّ من أصل واحد ، وإن كان خَلْقهم ما حصل إلاّ من زوجين فكلّ أصل من أصولهم ينتمي إلى أصل فوقه .وقد حصل من ذكر هذه الصلات تفصيل لكيفية خلق الله الناس من نفس واحدة . وجاء الكلام على هذا النظم توفية بمقتضى الحال الداعي للإتيان باسم الموصول ، ومقتضى الحال الداعي لتفصيل حالة الخلق العجيب . ولو غير هذا الأسلوب فجيء بالصورة المفصّلة دون سبق إجمال ، فقيل : الذي خلقكم من نفس واحدة وبثّ منها رجالاً كثيراً ونساء لفاتت الإشارة إلى الحالة العجيبة . وقد ورد في الحديث : أنّ حواء خلقت من ضلع آدم ، فلذلك يكون حرف ( مِن ) في قوله : { وخلق منها } للابتداء ، أي أخرج خلق حواء من ضلع آدم . والزوج هنا أريد به الأنثى الأولى التي تناسل منها البشر ، وهي حوّاء . وأطلق عليها اسمُ الزوج لأنّ الرجل يكون منفرداً فإذا اتّخذ امرأة فقد صارا زوجاً في بيت ، فكلّ واحد منهما زوج للآخر بهذا الاعتبار ، وإن كان أصل لفظ الزوج أن يطلق على مجموع الفردين ، فإطلاق الزوج على كلّ واحد من الرجل والمرأة المتعاقدين تسامح صار حقيقة عرفية ، ولذلك استوى فيه الرجل والمرأة لأنّه من الوصف بالجامد ، فلا يقال للمرأة ( زوجة ) ، ولم يسمع في فصيح الكلام ، ولذلك عدّه بعض أهل اللغة لحناً . وكان الأصمعي ينكره أشد الإنكار قيل له : فقد قال ذو الرمّة :أذو زوجة بالمصِر أمْ ذو خصومة ... أراك لها بالبصرة العام ثاويافقال : إنّ ذا الرّمة طالما أكل المالح والبقْل في حوانيت البقّالين ، يريد أنّه مولّد .وقال الفرزدق :وإنّ الذي يسعى ليفسد زوجتي ... كساع إلى أسد الشرى يستبيلهاوشاع ذلك في كلام الفقهاء ، قصدوا به التفرقة بين الرجل والمرأة عند ذكر الأحكام ، وهي تفرقة حسنة . وتقدّم عند قوله تعالى : { وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة } في سورة البقرة ( 35 ) .وقد شمل وخلق منها زوجها } العبرة بهذا الخلق العجيب الذي أصله واحد ، ويخرج هو مختلف الشكل والخصائص ، والمنّة على الذكران بخلق النساء لهم ، والمنّة على النساء بخلق الرجال لهنّ ، ثم منّ على النوع بنعمة النسل في قوله : { وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء } مع ما في ذلك من الاعتبار بهذا التكوين العجيب .والبثّ : النشر والتفريق للأشياء الكثيرة قال تعالى :{ يوم يكون الناس كالفراش المبثوب } [ القارعة : 4 ] .ووصف الرجال ، وهو جمع ، بكثير ، وهو مفرد ، لأنّ كثير يستوي فيه المفرد والجمع ، وقد تقدّم في قوله تعالى : { وكأين من نبي قتل معه ربيون كثير } في سورة آل عمران ( 146 ) . واستغنى عن وصف النساء بكثير لدلالة وصف الرجل به ما يقتضيه فعل البث من الكثرة .شروع في التشريع المقصود من السورة ، وأعيد فعل { اتّقوا } : لأنّ هذه التقوى مأمور بها المسلمون خاصّة ، فإنّهم قد بقيت فيهم بقية من عوائد الجاهلية لا يشعرون بها ، وهي التساهل في حقوق الأرحام والأيتام .واستحضر اسم الله العلم هنا دون ضمير يعود إلى ربّكم لإدخال الرّوع في ضمائر السامعين . لأنّ المقام مقام تشريع يناسبه إيثار المهابة بخلاف مقام قوله : { اتقوا ربكم } فهو مقام ترغيب . ومعنى { تسَّاءلون به } يَسْأل بعضكم بعضاً به في القسم فالمسايلة به تؤذن بمنتهى العظمة ، فكيف لا تتّقونه .وقرأ الجمهور { تسَّاءلون } بتشديد السين لإدغام التاء الثانية ، وهي تاء التفاعل في السين ، لقرب المخرج واتّحاد الصفة ، وهي الهمس . وقرأ حمزة ، وعاصم ، والكسائي ، وخلف : تساءلون بتخفيف السين على أنّ تاء الافتعال حذفت تخفيفاً .{ والأرحام } قرأه الجمهور بالنصب عطفاً على اسم الله . وقرأه حمزة بالجرّ عطفاً على الضمير المجرور . فعلى قراءة الجمهور يكون الأرحام مأموراً بتقواها على المعنى المصدري أي اتّقائها ، وهو على حذف مضاف ، أي اتّقاء حقوقها ، فهو من استعمال المشترك في معنييه ، وعلى هذه القراءة فالآية ابتداء تشريع وهو ممّا أشار إليه قوله تعالى : { وخلق منها زوجها } وعلى قراءة حمزة يكون تعظيماً لشأن الأرحام أي التي يسأل بعضكم بعضاً بها ، وذلك قول العرب : «ناشدتك اللَّه والرحم» كما روى في «الصحيح» : أنّ النبي صلى الله عليه وسلم حين قرأ على عتبة بن ربيعة سورة فصّلت حتّى بلغ : { فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود } [ فصلت : 13 ] فأخذت عتبة رهبة وقال : ناشدتك اللَّه والرحم . وهو ظاهر محمل هذه الرواية وإن أباه جمهور النحاة استعظاماً لعطف الاسم على الضمير المجرور بدون إعادة الجارّ ، حتّى قال المبرّد : «لو قرأ الإمام بهاته القراءة لأخذت نعلي وخرجت من الصلاة» وهذا من ضيق العطن وغرور بأنّ العربية منحصرة فيما يعلمه ، ولقد أصاب ابن مالك في تجويزه العطف على المجرور بدون إعادة الجارّ ، فتكون تعريضاً بعوائد الجاهلية ، إذ يتساءلون بينهم بالرحم وأواصر القرابة ثم يهملون حقوقها ولا يصلونها ، ويعتدون على الأيتام من إخوتهم وأبناء أعمامهم ، فناقضت أفعالُهم أقوالَهم ، وأيضاً هم قد آذوا النبي صلى الله عليه وسلم وظلموه ، وهو من ذوي رحمهم وأحقّ الناس بصلتهم كما قال تعالى : { لقد جاءكم رسول من أنفسكم } [ التوبة : 128 ] وقال : { لقد منَّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم } [ آل عمران : 164 ] . وقال : { قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى } [ الشورى : 23 ] . وعلى قراءة حمزة يكون معنى الآية تتمّة لمعنى التي قبلها .
ٱلتَّفْسِيرُ ٱلْوَسِيط
Tafsir Al-Waseet —
علمائے جامعہ ازہر
افتتحت السورة الكريمة بهذا النداء الشامل لجميع المكلفين من وقت نزولها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، وذلك لأن لفظ الناس لا يختص بقبيل دون قبيل ، ولا بقوم دون قوم ، وقد دخلته الألف واللام المفيدة للاستغراق؛ ولأن ما في مضمون هذا النداء من إنذار وتبشير وأمر بمراقبة الله وخشيته ، يتناول جميع المكلفين لا أهل مكة وحدهم كما ذكره بعضهم؛ لأن تخصيص قوله - تعالى - ( ياأيها الناس ) بأهل مكة تخصيص بغير مخصص .والمراد بالنفس الواحدة هنا : آدم - عليه السلام - . وقد جاء الوصف وهو واحدة بالتأنيث باعتبار لفظ النفس فإنها مؤنثة .ومن فى قوله ( مِنْهَا ) للتبعيض . والضمير المؤنث " ها " يعود إلى النفس الواحدة .والمراد بقوله - تعالى - : ( زَوْجَهَا ) حواء؛ فإنها أخرجت من آدم كما يقتضيه ظاهر قوله - تعالى - ( مِنْهَا ) .قال الفخر الرازى ما ملخصه : " المراد من هذا الزوج هو حواء . وفى كون حواء مخلوقة من آدم قولان :الأول : وهو الذي عليه الأكثرون : أنه لما خلق الله - تعالى - آدم ألقى عليه النوم ، ثم خلق حواء من ضلع من أضلاعه ، فلما استيقظ رآها ومال إليها وألفها ، لأنها كانت مخلوقة من جزء من أجزائه . واحتجوا عليه بقول النبى صلى الله عليه وسلم : " إن المرأة خلقت من ضلع أعوج فإن ذهبت تقيمها كسرتها وإن تركتها وفيها عوج استمتعت بها "والقول الثانى : وهو اختيار أبى مسلم الأصفهانى : أن المراد من قوله ( وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا ) أى من جنسها . وهو كقوله - تعالى - ( والله جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً ) وكقوله ( إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ ) وقوله ( لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ ) قال القاضى : والقول الأول أقوى ، لكى يصح قوله : ( خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ) ، إذ لو كانت حواء مخلوقة إبتداء لكان الناس مخلوقين من نفسين لا من نفس واحدة .وقد تضمن هذا النداء لجميع المكلفين تنبيهم إلى أمرين :أولهما : وحدة الاعتقاد بأن ربهم جميعا واحد لا شريك له . فهو الذى خلقهم وهو الذى رزقهم ، وهو الذى يميتهم وهو الذى يحييهم ، وهو الذى أوجد أبيضهم وأسودهم ، وعربيهم وأعجميهم .وثانيهما : وحدة النوع والتكوين ، إذ الناس جميعاً على اختلاف ألسنتهم وألوانهم وأجناسهم قد انحدروا عن أصل واحد وهو آدم - عليه السلام - .فيجب أن يشعر الجميع بفضل الله عليهم . وأن يخلصوا له العبادة والطاعة ، وأن يتعاونوا على البر والتقوى لا على الإِثم والعدوان ، وأن يوقنوا بأنه لا فضل لجنس على جنس ، ولا للون على لون إلا بمقدار حسن صلتهم بربهم وما لكهم ومدبر أمورهم .والمعنى : يا أيها الناس اتقوا ربكم بأن تطيعوه فلا تعصوه ، وبأن تشكروه فلا تكفروه ، فهو وحده الذى أوجدكم من نفس واحدة هى نفس أبيكم آدم ، وذلك من أظهر الأدلة على كمال قدرته - سبحانه ، ومن أقوى الدواعى إلى اتقاء موجبات نقمته ، ومن أشد المقتضيات التى تحملكم على التاطف والتراحم والتعاون فيما بينكم ، إذ أنتم جميعا قد أوجدكم - سبحانه - من نفس واحدة .وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله : " فإن قلت : الذى يقتضيه سداد نظم الكلام وجزالته ، أن يجاء عقيب الأمر بالتقوى بما يوجبها أو يدعو إليها ويحث عليها فكيف كان خلقه إياهم من نفس واحدة على التفصيل الذى ذكره موجبا للتقوى وداعيا إليها؟قلت : لأن ذلك مما يدل على القدرة العظيمة . ومن قدر على نحوه كان قادرا على كل شىء ، ولأنه يدل على النعمة السابغة عليهم ، فحقهم أن يتقوه فى كفرانها والتفريط فيما يلزمهم من القيام بشكرها . أو أراد بالتقوى تقوى خاصة ، وهى أن يتقوه فيما يتصل بحفظ الحقوق بينهم ، فلا يقطعوا ما يجب عليهم وصله فقيل : اتقوا ربكم الذى وصل بينكم؛ حيث جعلكم صنوانا مفرعة من أرومة واحدة فيما يجب على بعضكم لبعض ، فحافظوا عليه ولا تغفلوا عنه وهذا المعنى مطابق لمعانى السورة " .وقوله : ( وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا ) معطوف على قوله ( خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ) . أو معطوفة على محذوف والتقدير : خلقكم من نفس واحدة ابتدأها وخلق منها زوجها .ثم بين - سبحانه - ما ترتب على هذا الازدواج من تناسل فقال : ( وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً ) .والبث معناه : النشر والتفريق . يقال : بث الخيل فى الغارة ، أى فرقها ونشرها . ويقال : يثثت البسط إذا نشرتها . قال - تعالى - ( وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ ) أى منشورة .والمعنى : ونشر وفرق من تلك النفس الواحدة وزوجها على وجه التوالد والتناسل ، رجالا كثيرا ونساء كثيرة .والتعبير بالبث يفيد أن هؤلاء الذين توالدوا وتناسلوا عن تلك النفس وزوجها ، قد تكاثروا وانتشروا فى أقطار الأرض على اختلاف ألوانهم ولغاتهم ، وأن من الواجب عليهم مهما تباعدت ديارهم ، واختلفت ألسنتهم وأشكالهم أن يدركوا أنهم جميعا ينتمون إلى أصل واحد ، وهذا يقتضى تراحمهم وتعاطفهم فيما بينهم . وقوله ( كَثِيراً ) صفة لقوله ( رِجَالاً ) وهو صفة مؤكدة لما إفاده التنكير من معنى الكثرة . وجاء الوصف بصيغة الإِفراد ، لأن ( كَثِيراً ) وإن كان مفردا لفظا إلا أنه دال على معنى الجمع . واستغنى عن وصف النساء بالكثرة ، اكتفاء بوصف الرجال بذلك ، ولأن الفعل ( وَبَثَّ ) يقضى الكثرة والانتشار .وقال الفخر الرازى : خصص وصف الكثرة بالرجال دون النساء ، لأن شهرة الرجال أتم ، فكانت كثرتهم أظهر ، فلا جرم خصوا بوصف الكثرة . وهذا كالتنبيه على أن اللائق بحال الرجال الاشتهار والخروج البروز . واللائق بحال النساء الاختفاء والخمول " .وقوله : ( واتقوا الله الذي تَسَآءَلُونَ بِهِ والأرحام ) تكرير للأمر بالتقوى لتربية المهابة فى النفس وتذكير ببعض آخر من الأمور الموجبة لخشية الله وامتثال أوامره .وقوله ( تَسَآءَلُونَ ) أصلها تتساءلون فطرحت إحدى التاءين تخفيفا . وهى قراءة عصام وحمزة الكسائى .وقرأ الباقون " تساءلون " بالتشديد بإدغام تاء التفاعل فى السينه لتقاربهما فى الهمس . والأرحام : جمع رحم وهى القرابة . مشتقة من الرحمة ، لأن ذوى القرابة من شأنهم أن يتراحموا ويعطف بعضهم على بعض .وكلمة ( والأرحام ) قرأها الجمهور بالنصب عطفا على اسم الله تعالى .والمعنى؛ واتقوا الله الذى يسأل بعضكم بعضا به ، بأن يقول له على سبيل الاستعطاف : أسألك بالله أن تفعل كذا ، أو أن تترك كذا . واتقوا الأرحام أن تقطعوها فلا تصلوها بالبر والإِحسان ، فإن قطيعتها وعدم صلتها مما يجب أن يتقى ويبعد عنه ، وإنما الذى يجب أن يفعل هو صلتها وبرها .وقرأها حمزة بالجر عطفا على الضمير المجرور فى ( به ) . أى : اتقوا الله الذى تساءلون به وبالأرحام بأن يقول بعضكم لبعض مستعطفا أسألك بالله وبالرحم أن تفعل كذا .وقد كان من عادة العرب أن يقرنوا الأرحام بالله تعالى - فى المناشدة والسؤال فيقولون : اسألك بالله وبالرحم .ولم يرتض كثير من النحويين هذه القراءة من حمزة ، وقالوا : إنها تخالف القواعد النحوية التى تقول : إن عطف الاسم الظاهر على الضمير المجرور المتصل بدون إعادة الجار لا يصح ، لأن الضمير المجرور المتصل بمنزلة الحرف ، والحرف لا يصح عطف الاسم الظاهر عليه ، ولأن الضمير المجرور كبعض الكلمة لشدة اتصاله بها ، وكما أنه لا يجوز أن يعطف على بعض الكلمة فكذلك لا يجوز أن يعطف عليه . إلى غير ذلك مما قالوه فى تضعيف هذه القراءة . وقد دافع كثير من المفسرين عن هذه القراءة التى قرأها حمزة . وأنكروا على النحويين تشنيعهم عليه .ومما قاله القرطبى فى دفاعه عن صحة هذه القراءة : ومثل هذا الكلام - أى من النحويين - مردود عند أئمة الدين ، لأن القراءات التى قرأ بها أئمة القراء ثبتت عن النبى صلى الله عليه وسلم تواترا يعرفه أهل الصنعة ، وإذا ثبت شىء عن النبى صلى الله عليه وسلم فمن رد ذلك فقد رد على النبى صلى الله عليه وسلم واسقبح ما قرأ به .وهذا مقام محذور ، ولا يقلد فيه أئمة اللغة والنحو ، فإن العربية تتلقى من النبى صلى الله عليه وسلم ولا يشك أحد فى فصاحته .ثم قال : والكوفى يجيز عطف الظاهر على الضمير المجرور ولا يمنع منه ، ومنه قولهم :فاذهب فما بك والأيام من عجبومما قاله الفخر الرازى فى ذلك : واعلم أن هذه الوجوه - أى التى احتج بها النحويون في تضعيف قراءة حمزة - ليست وجوها قوية فى رفع الروايات الواردة فى اللغات؛ وذلك لأن حمزة أحد القراء السبعة ، ولم يأت بهذه القراءة من عند نفسه ، بل رواها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك يوجب القطع بصحة هذه اللغة ، والقياس يتضاءل عند سماع لا سيما بمثل هذه الأقيسة التى هى أوهن من بيت العنكبوت .وأيضا فلهذه القراءة وجهان :أحدهما : أنها على تقدير تكرير الجار . كأنه قيل : تساءلون به وبالأرحام .وثانيهما : أنه ورد ذلك فى الشعر ومنه :نعلق فى مثل السوارى سيوفنا ... وما بينها والكعب غوط نفائفثم قال : والعجب من هؤلاء النحاة أنهم يستحسنون إثبات هذه اللغة بمثل هذه الأبيات المجهولة ، ولا يستحسنوا إثباتها بقراءة حمزة ومجاهد ، مع أنهما كانا من أكابر علماء السلف فى علم القرآن " .هذا ، وهناك قراءة بالرفع . قال الآلوسى : وقرأ ابن زيد ( والأرحام ) بالرفع على أنه مبتدأ محذوف الخبر . أى والأرحام كذلك أى مما يتقى لقرينه ( واتقوا ) . أو مما يتساءل به لقرينة ( تَسَآءَلُونَ ) .ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بما يحمل العقلاء على المبالغة فى تقوى الله ، وفى صلة الرحم فقال - تعالى : ( إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ) . أى حافظا يحصى عليكم كل شىء . من رقبه إذا حفظه .أو مطلعا على جميع أحوالكم وأعمالكم ، ومنه المرقب للمكان العالى الذى يشرف منه الرقيب ليطلع على ما دونه .وقد أكد - سبحانه - رقابته على خلقه ، واطلاعه على جميع أحوالهم بأوثق المؤكدات . فقد أكد - سبحانه - الجملة الكريمة بإن ، وبتكرار لفظ الجلالة التى يبعث فى النفوس كل معانى الخشية والعبودية له ، وبالتعبير بكان الدالة على الدوام والاستمرار ، وبذكر الفوقية التى يدل عليها لفظ ( عَلَيْكُمْ ) إذ هو يفيد معنى الاطلاع الدائم مع السيطرة والقهر ، وبالإِتيان بصيغة المبالغة وهى قوله : ( رَقِيباً ) أى شديد المراقبة لجميع أقوالكم وأعمالكم فهو يراها ويعلمها وسيحاسبكم عليها يوم القيامةوقد أخذ العلماء من هذه الآية الكريمة : وجوب مراقبته - سبحانه - وخشيته وإخلاص العبادة له ، لأنه هو الذى أوجدهم من نفس واحدة ، وهو الذى أوجد من هذه النفس الموحدة زوجها ، وهو الذى أوجد منها عن طريق التناسل الذكور والإِناث الذين يملؤون أقطار الأرض على اختلاف صفاتهم وألوانهم ولغاتهم ، وهو الذى لا تخفى عليه خافية من أحوالهم ، بل هو مطلع عليهم وسيحاسبهم على أعمالهم يوم الدين ، ومن كان كذلك فمن حقه أن يتقى ويخضى ويطاع ولا يعصى .كما أخذوا منها جواز المسألة بالله - تعالى - لأنه - سبحانه - قد أقرهم على هذا التساؤل؛ لكونهم يعتقدون عظمته وقدرته .وقد ورد فى هذا الباب أحاديث متعددة منها ما أخرجه الإِمام أحمد وأبو داود والنسائى وابن حبان عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من استعاذ بالله فأعيذه ، ومن سألكم بالله فأعطوه ، ومن دعاكم فأجيبوه . ومن أسدى إليكم معروفا فكافئوه ، فإن لم تجدوا ما تكافئون به فادعوا له حتى تعلموا أن قد كافأتموه " .نعم من أداه التساؤل باسمه - تعالى - إلى التساهل فى شأنه ، وجعله عرضة لعدم إجلاله ، فإنه يكون محظورا قطعا . وعليه يحمل ما ورد من أحاديث تصرح بلعن من سأل بوجه الله . ومنها ما رواه الطبرانى عن أبى موسى الأشعرى مرفوعا : ملعون من سأل بوجه الله . وملعون من سئل بوجه الله ثم منع سائله ما لم يسأل هجراً . أى ما لم يسأل أمرا قبيحا لا يليق .كما أخذوا منها أيضا وجوب صلة الرحم ، فقد جعل - سبحانه - الإِحسان إلى الآباء وإلى الأقارب فى المنزلتين الثانية والثالثة بعد الأمر بعبادته فقال : ( واعبدوا الله وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وبالوالدين إِحْسَاناً وَبِذِي القربى واليتامى والمساكين ) ومن الأحاديث التى وردت فى وجوب صلة الرحم ما رواه البخارى عن أبى هريرة قال : " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من سره أن يبسط له فى رزقه ، وأن ينسأ له فى أجله ، فليصل رحمه "وأخرج الإِمام مسلم فى صحيحه عن عائشة - رضى الله عنها - عن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " الرحم مغلفة بالعرش . تقول : من وصلنى وصله الله ، ومن قطعنى قطعه الله "وأخرج البخارى عن عبد الله بن عمرو عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ليس الواصل بالمكافىء "ولكن الواصل من إذا قطعت رحمه وصلها .إلى غير ذلك من الأحاديث التى وردت فى الترغيب فى صلة الرحم والترهيب من قطيعتها .
تَفْسِيرُ ٱلْبَغَوِيِّ
Tafsir al-Baghawi —
علامہ بغوی
قوله تعالى : ( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة ) يعني : آدم عليه السلام ، ( وخلق منها زوجها ) يعني : حواء ، ( وبث منهما ) نشر وأظهر ، ( رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به ) أي : تتساءلون به ، وقرأ أهل الكوفة بتخفيف السين على حذف إحدى التاءين ، كقوله تعالى : ( ولا تعاونوا ) ، ( والأرحام ) قراءة العامة بالنصب ، أي : واتقوا الأرحام أن تقطعوها ، وقرأ حمزة بالخفض ، أي : به وبالأرحام كما يقال : سألتك بالله والأرحام ، والقراءة الأولى أفصح لأن العرب لا تكاد =تنسق بظاهر على مكنى ، إلا أن تعيد الخافض فتقول : مررت به وبزيد ، إلا أنه جائز مع قلته ، ( إن الله كان عليكم رقيبا ) أي : حافظا .