تَفْسِيرُ ٱلْمُيَسَّر
Tafsir Al-Muyassar —
کنگ فہد قرآن کمپلیکس
يا أيها الذين صدَّقوا بالله ورسوله وعملوا بشرعه، لا تقربوا الصلاة ولا تقوموا إليها حال السكر حتى تميزوا وتعلموا ما تقولون، وقد كان هذا قبل التحريم القاطع للخمر في كل حال، ولا تقربوا الصلاة في حال الجنابة، ولا تقربوا مواضعها وهي المساجد، إلا من كان منكم مجتازًا من باب إلى باب، حتى تتطهروا. وإن كنتم في حال مرض لا تقدرون معه على استعمال الماء، أو حال سفر، أو جاء أحد منكم من الغائط، أو جامعتم النساء، فلم تجدوا ماء للطهارة فاقصدوا ترابًا طاهرًا، فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه. إن الله تعالى كان عفوًّا عنكم، غفورًا لكم.
تَفْسِيرُ ٱلْجَلَالَيْنِ
Tafsir al-Jalalayn —
جلال الدین محلی اور جلال الدین سیوطی
«يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة» أي لا تصلوا «وأنتم سكارى» من الشراب لأن سبب نزولها صلاة جماعة في حال سكر «حتى تعلموا ما تقولون» بأن تصْحوا «ولا جُنُبا» بإيلاج أو إنزال ونصبه على الحال وهو يطلق على المفرد وغيره «إلا عابري» مجتازي «سبيل» طريق أي مسافرين «حتى تغتسلوا» فلكم أن تصلوا واستثناء المسافر لأن له حكما آخر سيأتي وقيل المراد النهي عن قربان مواضع الصلاة أي المساجد إلا عبورها من غير مكث «وإن كنتم مرضى» مرضا يضره الماء «أو على سفر» أي مسافرين وأنتم جنب أو محدثون «أو جاء أحد منكم من الغائط» هو المكان المعَدُّ لقضاء الحاجة أي أحدث «أو لامستم النساء» وفي قراءة بلا ألف وكلاهما بمعنى اللمس هو الجَسُّ باليد قاله ابن عمر وعليه الشافعى وألحق به الجس بباقي البشرة وعن ابن عباس هو الجماع «فلم تجدوا ماءً» تتطهرون به للصلاة بعد الطلب والتفتيش وهو راجع إلى ما عدا المرضى «فتيمموا» اقصدوا بعد دخول الوقت «صعيدا طيبا» ترابا طاهرا فاضربوا به ضربتين «فامسحوا بوجوهكم وأيديكم» مع المرفقين منه ومسح يتعدى بنفسه وبالحرف «إن الله كان عفوا غفورا».
تَفْسِيرُ ٱلْقُرْطُبِيِّ
Tafsir al-Qurtubi —
علامہ قرطبی
قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن الله كان عفوا غفورافيه أربعة وأربعون مسألة :الأولى : قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى خص الله سبحانه وتعالى بهذا الخطاب المؤمنين ؛ لأنهم كانوا يقيمون الصلاة وقد أخذوا من الخمر وأتلفت عليهم أذهانهم فخصوا بهذا الخطاب ؛ إذ كان الكفار لا يفعلونها صحاة ولا سكارى . روى أبو داود عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : لما نزل تحريم الخمر قال عمر : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا ؛ فنزلت الآية التي في البقرة يسألونك عن الخمر والميسر قال : فدعي عمر فقرئت عليه فقال : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا ؛ فنزلت الآية التي في [ ص: 175 ] النساء يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقيمت الصلاة ينادي : ألا لا يقربن الصلاة سكران . فدعي عمر فقرئت عليه فقال : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا ؛ فنزلت هذه الآية : فهل أنتم منتهون قال عمر : انتهينا . وقال سعيد بن جبير : كان الناس على أمر جاهليتهم حتى يؤمروا أو ينهوا ؛ فكانوا يشربونها أول الإسلام حتى نزلت : يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس . قالوا : نشربها للمنفعة لا للإثم ؛ فشربها رجل فتقدم يصلي بهم فقرأ : قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون ؛ فنزلت : يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى . فقالوا : في غير عين الصلاة . فقال عمر : اللهم أنزل علينا في الخمر بيانا شافيا ؛ فنزلت : إنما يريد الشيطان الآية . فقال عمر : انتهينا ، انتهينا . ثم طاف منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا إن الخمر قد حرمت ؛ على ما يأتي بيانه في " المائدة " إن شاء الله تعالى : وروى الترمذي عن علي بن أبي طالب قال : صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاما فدعانا وسقانا من الخمر ، فأخذت الخمر منا ، وحضرت الصلاة فقدموني فقرأت : قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون . قال : فأنزل الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون . قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح . ووجه الاتصال والنظم بما قبله أنه قال سبحانه وتعالى : واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا . ثم ذكر بعد الإيمان الصلاة التي هي رأس العبادات ؛ ولذلك يقتل تاركها ولا يسقط فرضها ، وانجر الكلام إلى ذكر شروطها التي لا تصح إلا بها .الثانية : والجمهور من العلماء وجماعة الفقهاء على أن المراد بالسكر سكر الخمر ؛ إلا الضحاك فإنه قال : المراد سكر النوم ؛ لقوله عليه السلام : إذا نعس أحدكم في الصلاة فليرقد حتى يذهب عنه النوم ، فإنه لا يدري لعله يستغفر فيسب نفسه . وقال عبيدة السلماني : وأنتم سكارى يعني إذا كنت حاقنا ؛ لقوله عليه السلام : لا يصلين أحدكم وهو حاقن في رواية وهو ضام بين فخذيه .قلت : وقول الضحاك وعبيدة صحيح المعنى ؛ فإن المطلوب من المصلي الإقبال على [ ص: 176 ] الله تعالى بقلبه وترك الالتفات إلى غيره ، والخلو عن كل ما يشوش عليه من نوم وحقنة وجوع ، وكل ما يشغل البال ويغير الحال . قال صلى الله عليه وسلم : إذا حضر العشاء وأقيمت الصلاة فابدءوا بالعشاء . فراعى صلى الله عليه وسلم زوال كل مشوش يتعلق به الخاطر ، حتى يقبل على عبادة ربه بفراغ قلبه وخالص لبه ، فيخشع في صلاته . ويدخل في هذه الآية : قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون على ما يأتي بيانه . وقال ابن عباس : إن قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى منسوخ بآية المائدة : إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا الآية . فأمروا على هذا القول بألا يصلوا سكارى ؛ ثم أمروا بأن يصلوا على كل حال ؛ وهذا قبل التحريم . وقال مجاهد : نسخت بتحريم الخمر . وكذلك قال عكرمة وقتادة ، وهو الصحيح في الباب لحديث علي المذكور . وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : أقيمت الصلاة فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقربن الصلاة سكران ؛ ذكره النحاس . وعلى قول الضحاك وعبيدة الآية محكمة لا نسخ فيها .الثالثة : قوله تعالى : لا تقربوا إذا قيل : لا تقرب بفتح الراء كان معناه لا تلبس بالفعل ، وإذا كان بضم الراء كان معناه لا تدن منه . والخطاب لجماعة الأمة الصاحين . وأما السكران إذا عدم الميز لسكره فليس بمخاطب في ذلك الوقت لذهاب عقله ؛ وإنما هو مخاطب بامتثال ما يجب عليه ، وبتكفير ما ضيع في وقت سكره من الأحكام التي تقرر تكليفه إياها قبل السكر .الرابعة : قوله تعالى : الصلاة اختلف العلماء في المراد بالصلاة هنا ؛ فقالت طائفة : هي العبادة المعروفة نفسها ؛ وهو قول أبي حنيفة ؛ ولذلك قال حتى تعلموا ما تقولون . وقالت طائفة : المراد مواضع الصلاة ؛ وهو قول الشافعي ، فحذف المضاف . وقد قال تعالى لهدمت صوامع وبيع وصلوات الحج : فسمى مواضع الصلاة صلاة . ويدل على هذا التأويل قوله تعالى : ولا جنبا إلا عابري سبيل وهذا يقتضي جواز العبور للجنب في المسجد لا الصلاة فيه . وقال أبو حنيفة : المراد بقوله تعالى : ولا جنبا إلا عابري سبيل المسافر إذا لم [ ص: 177 ] يجد الماء فإنه يتيمم ويصلي ؛ وسيأتي بيانه . وقالت طائفة : المراد الموضع والصلاة معا ؛ لأنهم كانوا حينئذ لا يأتون المسجد إلا للصلاة ولا يصلون إلا مجتمعين ، فكانا متلازمين .الخامسة : قوله تعالى : وأنتم سكارى ابتداء وخبر ، جملة في موضع الحال من تقربوا . وسكارى جمع سكران ؛ مثل كسلان وكسالى . وقرأ النخعي " سكرى " بفتح السين على مثال فعلى ، وهو تكسير سكران ؛ وإنما كسر على سكرى لأن السكر آفة تلحق العقل فجرى مجرى صرعى وبابه . وقرأ الأعمش " سكرى " كحبلى فهو صفة مفردة ؛ وجاز الإخبار بالصفة المفردة عن الجماعة على ما يستعملونه من الإخبار عن الجماعة بالواحد . والسكر : نقيض الصحو ؛ يقال : سكر يسكر سكرا ، من باب حمد يحمد . وسكرت عينه تسكر أي تحيرت ؛ ومنه قوله تعالى : إنما سكرت أبصارنا . وسكرت الشق سددته . فالسكران قد انقطع عما كان عليه من العقل .السادسة : وفي هذه الآية دليل بل نص على أن الشرب كان مباحا في أول الإسلام حتى ينتهي بصاحبه إلى السكر . وقال قوم : السكر محرم في العقل وما أبيح في شيء من الأديان ؛ وحملوا السكر في هذه الآية على النوم . وقال القفال : يحتمل أنه كان أبيح لهم من الشراب ما يحرك الطبع إلى السخاء والشجاعة والحمية .قلت : وهذا المعنى موجود في أشعارهم ؛ وقد قال حسان :ونشربها فتتركنا ملوكاوقد أشبعنا هذا المعنى في " البقرة " . قال القفال : فأما ما يزيل العقل حتى يصير صاحبه في حد الجنون والإغماء فما أبيح قصده ، بل لو اتفق من غير قصد فيكون مرفوعا عن صاحبه .قلت : هذا صحيح ، وسيأتي بيانه في " المائدة " إن شاء الله تعالى في قصة حمزة . وكان المسلمون لما نزلت هذه الآية يجتنبون الشرب أوقات الصلوات ، فإذا صلوا العشاء شربوها ؛ فلم يزالوا على ذلك حتى نزل تحريمها في " المائدة " في قوله تعالى : فهل أنتم منتهون .السابعة : قوله تعالى : حتى تعلموا ما تقولون أي حتى تعلموه متيقنين فيه من غير غلط . والسكران لا يعلم ما يقول ؛ ولذلك قال عثمان بن عفان رضي الله عنه : إن السكران لا يلزمه طلاقه . وروي عن ابن عباس وطاوس وعطاء والقاسم وربيعة ، وهو قول الليث بن سعد وإسحاق وأبي ثور والمزني ؛ واختاره الطحاوي وقال : أجمع العلماء على أن طلاق المعتوه لا [ ص: 178 ] يجوز ، والسكران معتوه كالموسوس معتوه بالوسواس . ولا يختلفون أن من شرب البنج فذهب عقله أن طلاقه غير جائز ؛ فكذلك من سكر من الشراب . وأجازت طائفة طلاقه ؛ وروي عن عمر بن الخطاب ومعاوية وجماعة من التابعين ، وهو قول أبي حنيفة والثوري والأوزاعي ، واختلف فيه قول الشافعي . وألزمه مالك الطلاق والقود في الجراح والقتل ، ولم يلزمه النكاح والبيع . وقال أبو حنيفة : أفعال السكران وعقوده كلها ثابتة كأفعال الصاحي ، إلا الردة فإنه إذا ارتد فإنه لا تبين منه امرأته إلا استحسانا . وقال أبو يوسف : يكون مرتدا في حال سكره ؛ وهو قول الشافعي إلا أنه لا يقتله في حال سكره ولا يستتيبه . وقال الإمام أبو عبد الله المازري : وقد رويت عندنا رواية شاذة أنه لا يلزم طلاق السكران . وقال محمد بن عبد الحكم : لا يلزمه طلاق ولا عتاق . قال ابن شاس : ونزل الشيخ أبو الوليد الخلاف على المخلط الذي معه بقية من عقله إلا أنه لا يملك الاختلاط من نفسه فيخطئ ويصيب . قال : فأما السكران الذي لا يعرف الأرض من السماء ولا الرجل من المرأة ، فلا اختلاف في أنه كالمجنون في جميع أفعاله وأحواله فيما بينه وبين الناس ، وفيما بينه وبين الله تعالى أيضا ؛ إلا فيما ذهب وقته من الصلوات ، فقيل : إنها لا تسقط عنه بخلاف المجنون ؛ من أجل أنه بإدخاله السكر على نفسه كالمتعمد لتركها حتى خرج وقتها . وقال سفيان الثوري : حد السكر اختلال العقل ؛ فإذا استقرئ فخلط في قراءته وتكلم بما لا يعرف جلد . وقال أحمد : إذا تغير عقله عن حال الصحة فهو سكران ؛ وحكي عن مالك نحوه . قال ابن المنذر : إذا خلط في قراءته فهو سكران ؛ استدلالا بقول الله تعالى : حتى تعلموا ما تقولون . فإذا كان بحيث لا يعلم ما يقول تجنب المسجد مخافة التلويث ؛ ولا تصح صلاته وإن صلى قضى . وإن كان بحيث يعلم ما يقول فأتى بالصلاة فحكمه حكم الصاحي .الثامنة : قوله تعالى : ولا جنبا عطف على موضع الجملة المنصوبة في قوله : حتى تعلموا أي لا تصلوا وقد أجنبتم . ويقال : تجنبتم وأجنبتم وجنبتم بمعنى . ولفظ الجنب لا يؤنث ولا يثنى ولا يجمع ؛ لأنه على وزن المصدر كالبعد والقرب . وربما خففوه فقالوا : جنب ؛ وقد قرأه كذلك قوم . وقال الفراء : يقال جنب الرجل وأجنب من الجنابة . وقيل : يجمع الجنب في لغة على أجناب ؛ مثل عنق وأعناق ، وطنب وأطناب . ومن قال للواحد جانب قال في الجمع : جناب ؛ كقولك : راكب وركاب . والأصل البعد ؛ كأن الجنب بعد بخروج الماء الدافق عن حال الصلاة ؛ قال :فلا تحرمني نائلا عن جنابة فإني امرؤ وسط القباب غريب[ ص: 179 ] ورجل جنب : غريب . والجنابة مخالطة الرجل المرأة .التاسعة : والجمهور من الأمة على أن الجنب هو غير الطاهر من إنزال أو مجاوزة ختان . وروي عن بعض الصحابة ألا غسل إلا من إنزال ؛ لقوله عليه السلام : إنما الماء من الماء أخرجه مسلم . وفي البخاري عن أبي بن كعب أنه قال : يا رسول الله ، إذا جامع الرجل المرأة فلم ينزل ؟ قال : يغسل ما مس المرأة منه ثم يتوضأ ويصلي . قال أبو عبد الله : الغسل أحوط ؛ وذلك الآخر إنما بيناه لاختلافهم . وأخرجه مسلم في صحيحه بمعناه ، وقال في آخره : قال أبو العلاء بن الشخير كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينسخ حديثه بعضه بعضا كما ينسخ القرآن بعضه بعضا . قال أبو إسحاق : هذا منسوخ . وقال الترمذي : كان هذا الحكم في أول الإسلام ثم نسخ .قلت : على هذا جماعة العلماء من الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار ، وأن الغسل يجب بنفس التقاء الختانين . وقد كان فيه خلاف بين الصحابة ثم رجعوا فيه إلى رواية عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا جلس بين شعبها الأربع ومس الختان الختان منه وجب الغسل . أخرجه مسلم . وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا قعد بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب عليه الغسل . زاد مسلم ( وإن لم ينزل ) . وقال ابن القصار : وأجمع التابعون ومن بعدهم بعد خلاف من قبلهم على الأخذ بحديث ( إذا التقى الختانان ) وإذا صح الإجماع بعد الخلاف كان مسقطا للخلاف . قال القاضي عياض : لا نعلم أحدا قال به بعد خلاف الصحابة إلا ما حكي عن الأعمش ثم بعده داود الأصبهاني . وقد روي أن عمر رضي الله عنه حمل الناس على ترك الأخذ بحديث ( الماء من الماء ) لما اختلفوا . وتأوله ابن عباس على الاحتلام ؛ أي إنما يجب الاغتسال بالماء من إنزال الماء في الاحتلام . ومتى لم يكن إنزال وإن رأى أنه يجامع فلا غسل . وهذا ما لا خلاف فيه بين كافة العلماء .العاشرة : قوله تعالى : إلا عابري سبيل يقال : عبرت الطريق أي قطعته من جانب إلى جانب . وعبرت النهر عبورا ، وهذا عبر النهر أي شطه ، ويقال : عبر بالضم . والمعبر ما [ ص: 180 ] يعبر عليه من سفينة أو قنطرة . وهذا عابر السبيل أي مار الطريق . وناقة عبر أسفار : لا تزال يسافر عليها ويقطع بها الفلاة والهاجرة لسرعة مشيها . قال الشاعر :عيرانة سرح اليدين شملة عبر الهواجر كالهزف الخاضبوعبر القوم ماتوا . وأنشد :قضاء الله يغلب كل شيء ويلعب بالجزوع وبالصبورفإن نعبر فإن لنا لمات وإن نغبر فنحن على نذوريقول : إن متنا فلنا أقران ، وإن بقينا فلا بد لنا من الموت ؛ حتى كأن علينا في إتيانه نذورا .الحادية عشرة : واختلف العلماء في قوله : إلا عابري سبيل فقال علي رضي الله عنه وابن عباس وابن جبير ومجاهد والحكم : عابر السبيل المسافر . ولا يصح لأحد أن يقرب الصلاة وهو جنب إلا بعد الاغتسال ، إلا المسافر فإنه يتيمم ؛ وهذا قول أبي حنيفة ؛ لأن الغالب في الماء لا يعدم في الحضر ؛ فالحاضر يغتسل لوجود الماء ، والمسافر يتيمم إذا لم يجده . قال ابن المنذر : وقال أصحاب الرأي في الجنب المسافر يمر على مسجد فيه عين ماء يتيمم الصعيد ويدخل المسجد ويستقي منها ثم يخرج الماء من المسجد . ورخصت طائفة في دخول الجنب المسجد . واحتج بعضهم بقول النبي صلى الله عليه وسلم : المؤمن ليس بنجس . قال ابن المنذر : وبه نقول . وقال ابن عباس أيضا وابن مسعود وعكرمة والنخعي : عابر السبيل الخاطر المجتاز ؛ وهو قول عمرو بن دينار ومالك والشافعي . وقالت طائفة : لا يمر الجنب في المسجد إلا ألا يجد بدا فيتيمم ويمر فيه ؛ هكذا قال الثوري وإسحاق بن راهويه . وقال أحمد وإسحاق في الجنب : إذا توضأ لا بأس أن يجلس في المسجد حكاه ابن المنذر . وروى بعضهم في سبب الآية أن قوما من الأنصار كانت أبواب دورهم شارعة في المسجد ، فإذا أصاب أحدهم الجنابة اضطر إلى المرور في المسجد .قلت : وهذا صحيح ؛ يعضده ما رواه أبو داود عن جسرة بنت دجاجة قالت : سمعت عائشة رضي الله عنها تقول : جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجوه بيوت أصحابه شارعة في المسجد ؛ فقال : وجهوا هذه البيوت عن المسجد . ثم دخل النبي صلى الله عليه وسلم ولم يصنع القوم شيئا رجاء أن تنزل لهم رخصة فخرج إليهم فقال : وجهوا هذه البيوت عن المسجد فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب . وفي صحيح مسلم : لا تبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر . [ ص: 181 ] فأمر صلى الله عليه وسلم بسد الأبواب لما كان يؤدي ذلك إلى اتخاذ المسجد طريقا والعبور فيه . واستثنى خوخة أبي بكر إكراما له وخصوصية ؛ لأنهما كانا لا يفترقان غالبا . وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن أذن لأحد أن يمر في المسجد ولا يجلس فيه إلا علي بن أبي طالب رضي الله عنه . ورواه عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما ينبغي لمسلم ولا يصلح أن يجنب في المسجد إلا أنا وعلي . قال علماؤنا : وهذا يجوز أن يكون ذلك ؛ لأن بيت علي كان في المسجد ، كما كان بيت النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد ، وإن كان البيتان لم يكونا في المسجد ولكن كانا متصلين بالمسجد وأبوابهما كانت في المسجد فجعلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد فقال : ما ينبغي لمسلم . . الحديث . والذي يدل على أن بيت علي كان في المسجد ما رواه ابن شهاب عن سالم بن عبد الله قال : سأل رجل أبي عن علي وعثمان رضي الله عنهما أيهما كان خيرا ؟ فقال له عبد الله بن عمر : هذا بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ! وأشار إلى بيت علي إلى جنبه ، لم يكن في المسجد غيرهما ؛ وذكر الحديث . فلم يكونا يجنبان في المسجد وإنما كانا يجنبان في بيوتهما ، وبيوتهما من المسجد إذ كان أبوابهما فيه ؛ فكانا يستطرقانه في حال الجنابة إذا خرجا من بيوتهما . ويجوز أن يكون ذلك تخصيصا لهما ؛ وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم خص بأشياء ، فيكون هذا مما خص به ، ثم خص النبي صلى الله عليه وسلم عليا عليه السلام فرخص له في ما لم يرخص فيه لغيره . وإن كانت أبواب بيوتهم في المسجد ، فإنه كان في المسجد أبواب بيوت غير بيتيهما ؛ حتى أمر النبي صلى الله عليه وسلم بسدها إلا باب علي . وروى عمرو بن ميمون عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : سدوا الأبواب إلا باب علي فخصه عليه السلام بأن ترك بابه في المسجد ، وكان يجنب في بيته وبيته في المسجد . وأما قوله : لا تبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر فإن ذلك كانت - والله أعلم - أبوابا تطلع إلى المسجد خوخات ، وأبواب البيوت خارجة من المسجد ؛ فأمر عليه السلام بسد تلك الخوخات وترك خوخة أبي بكر إكراما له . والخوخات كالكوى والمشاكي ، وباب علي كان باب البيت الذي كان يدخل منه ويخرج . وقد فسر ابن عمر ذلك بقوله : ولم يكن في المسجد غيرهما .فإن قيل : فقد ثبت عن عطاء بن يسار أنه قال : كان رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تصيبهم الجنابة فيتوضئون ويأتون المسجد فيتحدثون فيه . وهذا يدل على أن اللبث في [ ص: 182 ] المسجد للجنب جائز إذا توضأ ؛ وهو مذهب أحمد وإسحاق كما ذكرنا . فالجواب أن الوضوء لا يرفع حدث الجنابة ، وكل موضع وضع للعبادة وأكرم عن النجاسة الظاهرة ينبغي ألا يدخله من لا يرضى لتلك العبادة ، ولا يصح له أن يتلبس بها . والغالب من أحوالهم المنقولة أنهم كانوا يغتسلون في بيوتهم . فإن قيل : يبطل بالمحدث . قلنا : ذلك يكثر وقوعه فيشق الوضوء منه ؛ وفي قوله تعالى : ولا جنبا إلا عابري سبيل ما يغني ويكفي . وإذا كان لا يجوز له اللبث في المسجد فأحرى ألا يجوز له مس المصحف ولا القراءة فيه ؛ إذ هو أعظم حرمة . وسيأتي بيانه في " الواقعة " إن شاء الله تعالى .الثانية عشرة : ويمنع الجنب عند علمائنا من قراءة القرآن غالبا إلا الآيات اليسيرة للتعوذ . وقد روى موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يقرأ الجنب والحائض شيئا من القرآن أخرجه ابن ماجه . وأخرج الدارقطني من حديث سفيان عن مسعر ، وشعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة عن علي قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحجبه عن قراءة القرآن شيء إلا أن يكون جنبا . قال سفيان : قال لي شعبة : ما أحدث بحديث أحسن منه . وأخرجه ابن ماجه قال : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن عمرو بن مرة ؛ فذكره بمعناه ، وهذا إسناد صحيح . وعن ابن عباس ، عن عبد الله بن رواحة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يقرأ أحدنا القرآن وهو جنب ؛ أخرجه الدارقطني . وروى عن عكرمة قال : كان ابن رواحة مضطجعا إلى جنب امرأته فقام إلى جارية له في ناحية الحجرة فوقع عليها ؛ وفزعت امرأته فلم تجده في مضجعه ، فقامت فخرجت فرأته على جاريته ، فرجعت إلى البيت فأخذت الشفرة ثم خرجت ، وفرغ فقام فلقيها تحمل الشفرة فقال مهيم ؟ قالت : مهيم ! لو أدركتك حيث رأيتك لوجأت بين كتفيك بهذه الشفرة . قال : وأين رأيتني ؟ قالت : رأيتك على الجارية ؛ فقال : ما رأيتني ؛ وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرأ أحدنا القرآن وهو جنب . قالت : فاقرأ ، وكانت لا تقرأ القرآن ، فقال :أتانا رسول الله يتلو كتابه كما لاح مشهور من الفجر ساطعأتى بالهدى بعد العمى فقلوبنا به موقنات أن ما قال واقعيبيت يجافي جنبه عن فراشه إذا استثقلت بالمشركين المضاجعفقالت : آمنت بالله وكذبت البصر . ثم غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره ؛ فضحك حتى بدت نواجذه صلى الله عليه وسلم .[ ص: 183 ] الثالثة عشرة : حتى تغتسلوا نهى الله سبحانه وتعالى عن الصلاة إلا بعد الاغتسال ؛ والاغتسال معنى معقول ، ولفظه عند العرب معلوم ، يعبر به عن إمرار اليد مع الماء على المغسول ؛ ولذلك فرقت العرب بين قولهم : غسلت الثوب ، وبين قولهم : أفضت عليه الماء وغمسته في الماء . إذا تقرر هذا فاعلم أن العلماء اختلفوا في الجنب يصب على جسده الماء أو ينغمس فيه ولا يتدلك ؛ فالمشهور من مذهب مالك أنه لا يجزئه حتى يتدلك ؛ لأن الله سبحانه وتعالى أمر الجنب بالاغتسال ، كما أمر المتوضئ بغسل وجهه ويديه ؛ ولم يكن للمتوضئ بد من إمرار يديه مع الماء على وجهه ويديه ، فكذلك جميع جسد الجنب ورأسه في حكم وجه المتوضئ ويديه . وهذا قول المزني واختياره . قال أبو الفرج عمرو بن محمد المالكي : وهذا هو المعقول من لفظ الغسل ؛ لأن الاغتسال في اللغة هو الافتعال ، ومن لم يمر فلم يفعل غير صب الماء لا يسميه أهل اللسان غاسلا ، بل يسمونه صابا للماء ومنغمسا فيه . قال : وعلى نحو هذا جاءت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : تحت كل شعرة جنابة فاغسلوا الشعر وأنقوا البشرة قال : وإنقاؤه - والله أعلم - لا يكون إلا بتتبعه ؛ على حد ما ذكرنا .قلت : لا حجة فيما استدل به من الحديث لوجهين : أحدهما : أنه قد خولف في تأويله ؛ قال سفيان بن عيينة : المراد بقوله عليه السلام وأنقوا البشرة أراد غسل الفرج وتنظيفه ، وأنه كنى بالبشرة عن الفرج . قالابن وهب : ما رأيت أحدا أعلم بتفسير الأحاديث من ابن عيينة .الثاني : أن الحديث أخرجه أبو داود في سننه وقال فيه : وهذا الحديث ضعيف ؛ كذا في رواية ابن داسة . وفي رواية اللؤلئي عنه : الحارث بن وجيه ضعيف ، حديثه منكر ؛ فسقط الاستدلال بالحديث ، وبقي المعول على اللسان كما بينا . ويعضده ما ثبت في صحيح الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بصبي فبال عليه ، فدعا بماء فأتبعه بوله ولم يغسله ؛ روته عائشة ، ونحوه عن أم قيس بنت محصن ؛ أخرجهما مسلم . وقال الجمهور من العلماء وجماعة الفقهاء : يجزئ الجنب صب الماء والانغماس فيه إذا أسبغ وعم وإن لم يتدلك ؛ على مقتضى حديث ميمونة وعائشة في غسل النبي صلى الله عليه وسلم . رواهما الأئمة ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفيض الماء على جسده ؛ وبه قال محمد بن عبد الحكم ، وإليه رجع أبو الفرج ورواه عن مالك ؛ قال : وإنما أمر بإمرار اليدين في الغسل لأنه لا يكاد من لم يمر يديه عليه يسلم من تنكب الماء عن بعض ما يجب عليه من جسده . وقال ابن العربي : وأعجب لأبي الفرج الذي روى وحكى عن [ ص: 184 ] صاحب المذهب أن الغسل دون ذلك يجزئ ! وما قاله قط مالك نصا ولا تخريجا ، وإنما هي من أوهامه .قلت : قد روي هذا عن مالك نصا ؛ قال مروان بن محمد الظاهري وهو ثقة من ثقات الشاميين : سألت مالك بن أنس عن رجل انغمس في ماء وهو جنب ولم يتوضأ ، قال : مضت صلاته .قال أبو عمر : فهذه الرواية فيها لم يتدلك ولا توضأ ، وقد أجزأه عند مالك . والمشهور من مذهبه أنه لا يجزئه حتى يتدلك ؛ قياسا على غسل الوجه واليدين . وحجة الجماعة أن كل من صب عليه الماء فقد اغتسل . والعرب تقول : غسلتني السماء . وقد حكت عائشة وميمونة صفة غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يذكرا تدلكا ، ولو كان واجبا ما تركه ؛ لأنه المبين عن الله مراده ، ولو فعله لنقل عنه ؛ كما نقل تخليل أصول شعره بالماء وغرفه على رأسه ، وغير ذلك من صفة غسله ووضوئه عليه السلام . قال أبو عمر : وغير نكير أن يكون الغسل في لسان العرب مرة بالعرك ومرة بالصب والإفاضة ؛ وإذا كان هذا فلا يمتنع أن يكون الله جل وعز تعبد عباده في الوضوء بإمرار أيديهم على وجوههم مع الماء ويكون ذلك غسلا ، وأن يفيضوا الماء على أنفسهم في غسل الجنابة والحيض ، ويكون ذلك غسلا موافقا للسنة غير خارج من اللغة ، ويكون كل واحد من الأمرين أصلا في نفسه ، لا يجب أن يرد أحدهما إلى صاحبه ؛ لأن الأصول لا يرد بعضها إلى بعض قياسا - وهذا ما لا خلاف فيه بين علماء الأمة . وإنما ترد الفروع قياسا على الأصول . وبالله التوفيق .الرابعة عشرة : حديث ميمونة وعائشة يرد ما رواه شعبة مولى ابن عباس عن ابن عباس أنه كان إذا اغتسل من الجنابة غسل يديه سبعا وفرجه سبعا . وقد روي عن ابن عمر قال : كانت الصلاة خمسين ، والغسل من الجنابة سبع مرار ، وغسل البول من الثوب سبع مرار ؛ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل حتى جعلت الصلاة خمسا ، والغسل من الجنابة مرة ، والغسل من البول مرة . قال ابن عبد البر : وإسناد هذا الحديث عن ابن عمر فيه ضعف ولين ، وإن كان أبو داود قد خرجه والذي قبله عن شعبة مولى ابن عباس ، وشعبة هذا ليس بالقوي ، ويردهما حديث عائشة وميمونة .الخامسة عشرة : ومن لم يستطع إمرار يده على جسده فقد قال سحنون : يجعل من يلي ذلك منه ، أو يعالجه بخرقة . وفي الواضحة : يمر يديه على ما يدركه من جسده ، ثم يفيض الماء حتى يعم ما لم تبلغه يداه .السادسة عشرة : واختلف قول مالك في تخليل الجنب لحيته ؛ فروى ابن القاسم عنه أنه [ ص: 185 ] قال : ليس عليه ذلك . وروى أشهب عنه أن عليه ذلك . قال ابن عبد الحكم : ذلك هو أحب إلينا ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخلل شعره في غسل الجنابة ، وذلك عام وإن كان الأظهر فيه شعر رأسه ؛ وعلى هذين القولين العلماء . ومن جهة المعنى أن استيعاب جميع الجسد في الغسل واجب ، والبشرة التي تحت اللحية من جملته ؛ فوجب إيصال الماء إليها ومباشرتها باليد . وإنما انتقل الفرض إلى الشعر في الطهارة الصغرى لأنها مبنية على التخفيف ، ونيابة الأبدال فيها من غير ضرورة ؛ ولذلك جاز فيها المسح على الخفين ولم يجز في الغسل .قلت : ويعضد هذا قوله صلى الله عليه وسلم : تحت كل شعرة جنابة .السابعة عشرة : وقد بالغ قوم فأوجبوا المضمضة والاستنشاق ؛ لقوله تعالى : حتى تغتسلوا منهم أبو حنيفة ؛ ولأنهما من جملة الوجه وحكمهما حكم ظاهر الوجه كالخد والجبين ، فمن تركهما وصلى أعاد كمن ترك لمعة ، ومن تركهما في وضوئه فلا إعادة عليه . وقال مالك : ليستا بفرض لا في الجنابة ولا في الوضوء ؛ لأنهما باطنان فلا يجب كداخل الجسد . وبذلك قال محمد بن جرير الطبري والليث بن سعد والأوزاعي وجماعة من التابعين . وقال ابن أبي ليلى وحماد بن أبي سليمان : هما فرض في الوضوء والغسل جميعا ؛ وهو قول إسحاق وأحمد بن حنبل وبعض أصحاب داود . وروي عن الزهري وعطاء مثل هذا القول . وروي عن أحمد أيضا أن المضمضة سنة والاستنشاق فرض ؛ وقال به بعض أصحاب داود . وحجة من لم يوجبهما أن الله سبحانه لم يذكرهما في كتابه ، ولا أوجبهما رسوله ولا اتفق الجميع عليه ؛ والفرائض لا تثبت إلا بهذه الوجوه . احتج من أوجبهما بالآية ، وقوله تعالى : فاغسلوا وجوهكم فما وجب في الواحد من الغسل وجب في الآخر ، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يحفظ عنه أنه ترك المضمضة والاستنشاق في وضوئه ولا في غسله من الجنابة ؛ وهو المبين عن الله مراده قولا وعملا . احتج من فرق بينهما بأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل المضمضة ولم يأمر بها ، وأفعاله مندوب إليها ليست بواجبة إلا بدليل ، وفعل الاستنشاق وأمر به ؛ وأمره على الوجوب أبدا .الثامنة عشرة : قال علماؤنا : ولا بد في غسل الجنابة من النية ؛ لقوله تعالى : حتى تغتسلوا وذلك يقتضي النية ؛ وبه قال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور ، وكذلك الوضوء والتيمم . وعضدوا هذا بقوله تعالى : وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين [ ص: 186 ] والإخلاص النية في التقرب إلى الله تعالى ، والقصد له بأداء ما افترض على عباده المؤمنين ، وقال عليه السلام : إنما الأعمال بالنيات وهذا عمل . وقال الأوزاعي والحسن : يجزئ الوضوء والتيمم بغير نية . وقال أبو حنيفة وأصحابه : كل طهارة بالماء فإنها تجزئ بغير نية ، ولا يجزئ التيمم إلا بنية ؛ قياسا على إزالة النجاسة بالإجماع من الأبدان والثياب بغير نية . ورواه الوليد بن مسلم عن مالك .التاسعة عشرة : وأما قدر الماء الذي يغتسل به ؛ فروى مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغتسل من إناء هو الفرق من الجنابة . " الفرق " تحرك راؤه وتسكن . قال ابن وهب : " الفرق " مكيال من الخشب ، كان ابن شهاب يقول : إنه يسع خمسة أقساط بأقساط بني أمية . وقد فسر محمد بن عيسى الأعشى " الفرق " فقال : ثلاثة آصع ، قال : وهي خمسة أقساط ، قال : وفي الخمسة أقساط اثنا عشر مدا بمد النبي صلى الله عليه وسلم . وفي صحيح مسلم قال سفيان : " الفرق " ثلاثة آصع . وعن أنس قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد . وفي رواية : يغتسل بخمسة مكاكيك ويتوضأ بمكوك . وهذه الأحاديث تدل على استحباب تقليل الماء من غير كيل ولا وزن ، يأخذ منه الإنسان بقدر ما يكفي ولا يكثر منه ، فإن الإكثار منه سرف والسرف مذموم . ومذهب الإباضية الإكثار من الماء ، وذلك من الشيطان .الموفية عشرين : قوله تعالى : وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكمهذه آية التيمم ، نزلت في عبد الرحمن بن عوف أصابته جنابة وهو جريح ؛ فرخص له في أن يتيمم ، ثم صارت الآية عامة في جميع الناس . وقيل : نزلت بسبب عدم الصحابة الماء في غزوة " المريسيع " حين انقطع العقد لعائشة . أخرج الحديث مالك من رواية عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة . وترجم البخاري هذه الآية في كتاب التفسير : حدثنا محمد قال : أخبرنا عبدة ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : هلكت قلادة لأسماء فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في طلبها رجالا ، فحضرت الصلاة وليسوا على وضوء ولم يجدوا ماء فصلوا وهم على غير وضوء ؛ فأنزل الله تعالى آية التيمم .[ ص: 187 ] قلت : وهذه الرواية ليس فيها ذكر للموضع ، وفيها أن القلادة كانت لأسماء ؛ خلاف حديث مالك . وذكر النسائي من رواية علي بن مسهر عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها استعارت من أسماء قلادة لها وهي في سفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فانسلت منها وكان ذلك المكان يقال له الصلصل ؛ وذكر الحديث . ففي هذه الرواية عن هشام أن القلادة كانت لأسماء ، وأن عائشة استعارتها من أسماء . وهذا بيان لحديث مالك إذا قال : انقطع عقد لعائشة ، ولحديث البخاري إذ قال : هلكت قلادة لأسماء . وفيه أن المكان يقال له الصلصل . وأخرجه الترمذي حدثنا الحميدي ، حدثنا سفيان ، حدثنا هشام بن عروة عن أبيه ، عن عائشة أنها سقطت قلادتها ليلة الأبواء ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين في طلبها ، وذكر الحديث . ففي هذه الرواية عن هشام أيضا إضافة القلادة إليها ، لكن إضافة مستعير بدليل حديث النسائي . وقال في المكان : " الأبواء " كما قال مالك ، إلا أنه من غير شك . وفي حديث مالك قال : وبعثنا البعير الذي كنت عليه فوجدنا العقد تحته . وجاء في البخاري : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجده . وهذا كله صحيح المعنى ، وليس اختلاف النقلة في العقد والقلادة ولا في الموضع ما يقدح في الحديث ولا يوهن شيئا منه ؛ لأن المعنى المراد من الحديث والمقصود به إليه هو نزول التيمم ، وقد ثبتت الروايات في أمر القلادة . وأما قوله في حديث الترمذي : فأرسل رجلين قيل : أحدهما أسيد بن حضير . ولعلهما المراد بالرجال في حديث البخاري فعبر عنهما بلفظ الجمع ، إذ أقل الجمع اثنان ، أو أردف في أثرهما غيرهما فصح إطلاق اللفظ والله أعلم . فبعثوا في طلبها فطلبوا فلم يجدوا شيئا في وجهتهم ، فلما رجعوا أثاروا البعير فوجدوه تحته . وقد روي أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابتهم جراحة ففشت فيهم ثم ابتلوا بالجنابة فشكوا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية . وهذا أيضا ليس بخلاف لما ذكرنا ؛ فإنهم ربما أصابتهم الجراحة في غزوتهم تلك التي قفلوا منها إذ كان فيها قتال فشكوا ، وضاع العقد ونزلت الآية . وقد قيل : إن ضياع العقد كان في غزاة بني المصطلق . وهذا أيضا ليس بخلاف لقول من قال في غزاة المريسيع ، إذ هي غزاة واحدة ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم غزا بني المصطلق في شعبان من السنة السادسة من الهجرة ، على ما قال خليفة بن خياط وأبو عمر بن عبد البر ، واستعمل على المدينة أبا ذر الغفاري . وقيل : بل نميلة بن عبد الله الليثي . وأغار رسول الله صلى الله عليه وسلم على بني المصطلق وهم غارون ، وهم على ماء يقال له المريسيع من ناحية قديد مما يلي الساحل فقتل من قتل وسبى من سبى من النساء والذرية وكان شعارهم يومئذ : أمت أمت . وقد قيل : إن بني المصطلق جمعوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأرادوه ، فلما بلغه ذلك خرج إليهم فلقيهم على ماء . فهذا ما جاء في بدء [ ص: 188 ] التيمم والسبب فيه . وقد قيل : إن آية المائدة آية التيمم ، على ما يأتي بيانه هناك . قال أبو عمر : فأنزل الله تعالى آية التيمم ، وهي آية الوضوء المذكورة في سورة " المائدة " ، أو الآية التي في سورة " النساء " . ليس التيمم مذكورا في غير هاتين الآيتين وهما مدنيتان .الحادية والعشرون : قوله تعالى : مرضى المرض عبارة عن خروج البدن عن حد الاعتدال والاعتياد ، إلى الاعوجاج والشذوذ . وهو على ضربين : كثير ويسير ؛ فإذا كان كثيرا بحيث يخاف الموت لبرد الماء ، أو للعلة التي به ، أو يخاف فوت بعض الأعضاء ، فهذا يتيمم بإجماع ؛ إلا ما روي عن الحسن وعطاء أنه يتطهر وإن مات . وهذا مردود بقوله تعالى : وما جعل عليكم في الدين من حرج وقوله تعالى : ولا تقتلوا أنفسكم . وروى الدارقطني عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله عز وجل : وإن كنتم مرضى أو على سفر قال : إذا كانت بالرجل الجراحة في سبيل الله أو القروح أو الجدري فيجنب فخاف أن يموت إن اغتسل ، تيمم . وعن سعد بن جبير أيضا عن ابن عباس قال : رخص للمريض في التيمم بالصعيد . وتيمم عمرو بن العاص لما خاف أن يهلك من شدة البرد ولم يأمره صلى الله عليه وسلم بغسل ولا إعادة . فإن كان يسيرا إلا أنه يخاف معه حدوث علة أو زيادتها أو بطء برء فهؤلاء يتيممون بإجماع من المذهب . قال ابن عطية : فيما حفظت .قلت : قد ذكر الباجي فيه خلافا ؛ قال القاضي أبو الحسن : مثل أن يخاف الصحيح نزلة أو حمى ، وكذلك إن كان المريض يخاف زيادة مرض ؛ وبنحو ذلك قال أبو حنيفة . وقال الشافعي : لا يجوز له التيمم مع وجود الماء إلا أن يخاف التلف ؛ ورواه القاضي أبو الحسن عن مالك . قال ابن العربي : " قال الشافعي لا يباح التيمم للمريض إلا إذا خاف التلف ؛ لأن زيادة المرض غير متحققة ؛ لأنها قد تكون وقد لا تكون ، ولا يجوز ترك الفرض المتيقن للخوف المشكوك . قلنا : قد ناقضت ؛ فإنك قلت إذا خاف التلف من البرد تيمم ؛ فكما يبيح التيمم خوف التلف كذلك يبيحه خوف المرض ؛ لأن المرض محذور كما أن التلف محذور . قال : وعجبا للشافعي يقول : لو زاد الماء على قدر قيمته حبة لم يلزمه شراؤه صيانة للمال ويلزمه التيمم ، وهو يخاف على بدنه المرض ! وليس لهم عليه كلام يساوي سماعه " .قلت : الصحيح من قول الشافعي فيما قال القشيري أبو نصر عبد الرحيم في تفسيره : والمرض الذي يباح له التيمم هو الذي يخاف فيه فوت الروح أو فوات بعض الأعضاء لو [ ص: 189 ] استعمل الماء . فإن خاف طول المرض فالقول الصحيح للشافعي : جواز التيمم . روى أبو داود والدارقطني ، عن يحيى بن أيوب ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن عمران بن أبي أنس ، عن عبد الرحمن بن جبير ، عن عمرو بن العاص قال : احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك ؛ فتيممت ثم صليت بأصحابي الصبح ؛ فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا عمرو : صليت بأصحابك وأنت جنب ؟ فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال وقلت : إني سمعت الله عز وجل يقول : ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما فضحك نبي الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئا . فدل هذا الحديث على إباحة التيمم مع الخوف لا مع اليقين ، وفيه إطلاق اسم الجنب على المتيمم وجواز صلاة المتيمم بالمتوضئين ؛ وهذا أحد القولين عندنا ؛ وهو الصحيح وهو الذي أقرأه مالك في موطئه وقرئ عليه إلى أن مات .والقول الثاني : أنه لا يصلي ؛ لأنه أنقص فضيلة من المتوضئ ، وحكم الإمام أن يكون أعلى رتبة ؛ وقد روى الدارقطني من حديث جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يؤم المتيمم المتوضئين إسناده ضعيف . وروى أبو داود والدارقطني عن جابر قال : خرجنا في سفر فأصاب رجلا منا حجر فشجه في رأسه ثم احتلم ، فسأل أصحابه هل تجدون لي رخصة في التيمم ؟ فقالوا : ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء ؛ فاغتسل فمات ، فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك فقال : قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر أو يعصب - شك موسى - على جرحه خرقة ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده . قال الدارقطني : " قال أبو بكر هذه سنة تفرد بها أهل مكة وحملها أهل الجزيرة ، ولم يروه عن عطاء عن جابر غير الزبير بن خريق ، وليس بالقوي ، وخالفه الأوزاعي فرواه عن عطاء عن ابن عباس وهو الصواب . واختلف عن الأوزاعي فقيل عنه عن عطاء ، وقيل عنه : بلغني عن عطاء ، وأرسل الأوزاعي آخره عن عطاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو الصواب . وقال ابن أبي حاتم : سألت أبي وأبا زرعة عنه فقالا : رواه ابن أبي العشرين ، عن الأوزاعي ، عن إسماعيل بن مسلم ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، وأسند الحديث " . وقال داود : كل من انطلق عليه اسم المريض فجائز له التيمم ؛ لقوله تعالى : وإن كنتم مرضى . قال ابن عطية : وهذا قول خلف ، وإنما هو عند علماء الأمة لمن خاف من استعمال [ ص: 190 ] الماء أو تأذيه به كالمجدور والمحصوب ، والعلل المخوف عليها من الماء ؛ كما تقدم عن ابن عباس .الثانية والعشرون : أو على سفر يجوز التيمم بسبب السفر طال أو قصر عند عدم الماء ، ولا يشترط أن يكون مما تقصر فيه الصلاة ؛ هذا مذهب مالك وجمهور العلماء . وقال قوم : لا يتيمم إلا في سفر تقصر فيه الصلاة . واشترط آخرون أن يكون سفر طاعة . وهذا كله ضعيف . والله أعلم .الثالثة والعشرون : أجمع العلماء على جواز التيمم في السفر حسبما ذكرنا ، واختلفوا فيه في الحضر ؛ فذهبمالك وأصحابه إلى أن التيمم في الحضر والسفر جائز ؛ وهو قول أبي حنيفة ومحمد . وقال الشافعي : لا يجوز للحاضر الصحيح أن يتيمم إلا أن يخاف التلف ؛ وهو قول الطبري . وقال الشافعي أيضا والليث والطبري : إذا عدم الماء في الحضر مع خوف الوقت الصحيح والسقيم تيمم وصلى ثم أعاد . وقال أبو يوسف وزفر : لا يجوز التيمم في الحضر لا لمرض ولا لخوف الوقت وقال الحسن وعطاء : لا يتيمم المريض إذا وجد الماء ، ولا غير المريض . وسبب الخلاف اختلافهم في مفهوم الآية ؛ فقال مالك ومن تابعه : ذكر الله تعالى المرضى والمسافرين في شرط التيمم خرج على الأغلب فيمن لا يجد الماء ، والحاضرون الأغلب عليهم وجوده فلذلك لم ينص عليهم . فكل من لم يجد الماء أو منعه منه مانع أو خاف فوات وقت الصلاة ، تيمم المسافر بالنص ، والحاضر بالمعنى . وكذلك المريض بالنص والصحيح بالمعنى . وأما من منعه في الحضر فقال : إن الله تعالى جعل التيمم رخصة للمريض والمسافر ؛ كالفطر وقصر الصلاة ، ولم يبح التيمم إلا بشرطين ، وهما المرض والسفر ؛ فلا دخول للحاضر الصحيح في ذلك لخروجه من شرط الله تعالى . وأما قول الحسن وعطاء الذي منعه جملة مع وجود الماء فقال : إنما شرطه الله تعالى مع عدم الماء ، لقوله تعالى : فلم تجدوا ماء فتيمموا فلم يبح التيمم لأحد إلا عند فقد الماء . وقال أبو عمر : ولولا قول الجمهور وما روي من الأثر لكان قول الحسن وعطاء صحيحا ؛ والله أعلم . وقد أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم التيمم لعمرو بن العاص وهو مسافر إذ خاف الهلاك إن اغتسل بالماء ، فالمريض أحرى بذلك .قلت : ومن الدليل على جواز التيمم في الحضر إذا خاف فوات الصلاة إن ذهب إلى الماء الكتاب والسنة :[ ص: 191 ] أما الكتاب فقوله سبحانه : أو جاء أحد منكم من الغائط يعني المقيم إذا عدم الماء تيمم . نص عليه القشيري عبد الرحيم قال : ثم يقطع النظر في وجوب القضاء ؛ لأن عدم الماء في الحضر عذر نادر وفي القضاء قولان :قلت : وهكذا نص أصحابنا فيمن تيمم في الحضر ، فهل يعيد إذا وجد الماء أم لا ؛ المشهور من مذهب مالك أنه لا يعيد وهو الصحيح . وقال ابن حبيب ومحمد بن عبد الحكم . يعيد أبدا ؛ ورواه ابن المنذر عن مالك . وقال الوليد عنه : يغتسل وإن طلعت الشمس .وأما السنة فما رواه البخاري عن أبي الجهيم بن الحارث بن الصمة الأنصاري قال : أقبل النبي صلى الله عليه وسلم من نحو " بئر جمل " فلقيه رجل فسلم عليه فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم حتى أقبل على الجدار فمسح بوجهه ويديه ، ثم رد عليه السلام . وأخرجه مسلم وليس فيه لفظ " بئر " . وأخرجه الدارقطني من حديث ابن عمر وفيه " ثم رد على الرجل السلام وقال : إنه لم يمنعني أن أرد عليك السلام إلا أني لم أكن على طهر .الرابعة والعشرون : أو جاء أحد منكم من الغائط الغائط أصله ما انخفض من الأرض ، والجمع الغيطان أو الأغواط ؛ وبه سمي غوطة دمشق . وكانت العرب تقصد هذا الصنف من المواضع لقضاء حاجتها تسترا عن أعين الناس ، ثم سمي الحدث الخارج من الإنسان غائطا للمقارنة . وغاط في الأرض يغوط إذا غاب .وقرأ الزهري : " من الغيط " فيحتمل أن يكون أصله الغيط فخفف ، كهين وميت وشبهه . ويحتمل أن يكون من الغوط ؛ بدلالة قولهم تغوط إذا أتى الغائط ، فقلبت واو الغوط ياء ؛ كما قالوا في لا حول لا حيل . وأو بمعنى الواو ، أي إن كنتم مرضى أو على سفر وجاء أحد منكم من الغائط فتيمموا فالسبب الموجب للتيمم على هذا هو الحدث لا المرض والسفر ؛ فدل على جواز التيمم في الحضر كما بيناه . والصحيح في أو أنها على بابها عند أهل النظر . فلأو معناها ، وللواو معناها . وهذا عندهم على الحذف ، والمعنى وإن كنتم مرضى مرضا لا تقدرون فيه على مس الماء أو على سفر ولم تجدوا ماء واحتجتم إلى الماء . والله أعلم .الخامسة والعشرون : لفظ الغائط يجمع بالمعنى جميع الأحداث الناقضة للطهارة الصغرى . وقد اختلف الناس في حصرها ، وأنبل ما قيل في ذلك أنها ثلاثة أنواع ، لا خلاف فيها في مذهبنا : زوال العقل ، خارج معتاد ، ملامسة . وعلى مذهب أبي حنيفة ما خرج من [ ص: 192 ] الجسد من النجاسات ، ولا يراعى المخرج ولا يعد اللمس . وعلى مذهب الشافعي ومحمد بن عبد الحكم ما خرج من السبيلين ، ولا يراعى الاعتياد ، ويعد اللمس . وإذا تقرر هذا فاعلم أن المسلمين أجمعوا على أن من زال عقله بإغماء أو جنون أو سكر فعليه الوضوء ، واختلفوا في النوم هل هو حدث كسائر الأحداث ؟ أو ليس بحدث أو مظنة حدث ؛ ثلاثة أقوال : طرفان وواسطة .الطرف الأول : ذهب المزني أبو إبراهيم إسماعيل إلى أنه حدث ، وأن الوضوء يجب بقليله وكثيره كسائر الأحداث ؛ وهو مقتضى قول مالك في الموطأ لقوله : ولا يتوضأ إلا من حدث يخرج من ذكر أو دبر أو نوم . ومقتضى حديث صفوان بن عسال أخرجه النسائي والدارقطني والترمذي وصححه . رووه جميعا من حديث عاصم بن أبي النجود عن زر بن حبيش فقال : أتيت صفوان بن عسال المرادي فقلت : جئتك أسألك عن المسح على الخفين ؛ قال : نعم كنت في الجيش الذي بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرنا أن نمسح على الخفين إذا نحن أدخلناهما على طهر ثلاثا إذا سافرنا ، ويوما وليلة إذا أقمنا ، ولا نخلعهما من بول ولا غائط ولا نوم ولا نخلعهما إلا من جنابة . ففي هذا الحديث وقول مالك التسوية بين الغائط والبول والنوم . قالوا : والقياس أنه لما كان كثيره وما غلب على العقل منه حدثا وجب أن يكون قليله كذلك . وقد روي عن علي بن أبي طالب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وكاء السه العينان فمن نام فليتوضأ وهذا عام . أخرجه أبو داود ، وأخرجه الدارقطني من حديث معاوية بن أبي سفيان عن النبي صلى الله عليه وسلم .وأما الطرف الآخر فروي عن أبي موسى الأشعري ما يدل على أن النوم عنده ليس بحدث على أي حال كان ، حتى يحدث النائم حدثا غير النوم ؛ لأنه كان يوكل من يحرسه إذا نام . فإن لم يخرج منه حدث قام من نومه وصلى ؛ وروي عن عبيدة وسعيد بن المسيب والأوزاعي في رواية محمود بن خالد . والجمهور على خلاف هذين الطرفين . فأما جملة مذهب مالك فإن كل نائم استثقل نوما ، وطال نومه على أي حال كان ، فقد وجب عليه الوضوء ؛ وهو قول الزهري وربيعة والأوزاعي في رواية الوليد بن مسلم . قال أحمد بن حنبل : فإن كان النوم خفيفا لا يخامر القلب ولا يغمره لم يضر . وقال أبو حنيفة وأصحابه : لا وضوء إلا على من نام مضطجعا أو متوركا . وقال الشافعي : من نام جالسا فلا وضوء عليه ؛ ورواه ابن وهب عن مالك . والصحيح من هذه الأقوال مشهور مذهب مالك ؛ لحديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شغل عنها ليلة يعني العشاء فأخرها حتى رقدنا في المسجد ثم استيقظنا ثم [ ص: 193 ] رقدنا ثم استيقظنا ثم خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال : ليس أحد من أهل الأرض ينتظر الصلاة غيركم رواه الأئمة واللفظ للبخاري ؛ وهو أصح ما في هذا الباب من جهة الإسناد والعمل .وأما ما قاله مالك في موطئه وصفوان بن عسال في حديثه فمعناه : ونوم ثقيل غالب على النفس ؛ بدليل هذا الحديث وما كان في معناه . وأيضا فقد روى حديث صفوان وكيع عن مسعر عن عاصم بن أبي النجود فقال : ( أو ريح ) بدل ( أو نوم ) ، فقال الدارقطني : لم يقل في هذا الحديث ( أو ريح ) غير وكيع عن مسعر .قلت : وكيع ثقة إمام أخرج له البخاري ومسلم
تَنْوِيرُ ٱلْمِقْبَاسِ مِن تَفْسِيرِ ٱبْنِ عَبَّاس
Tafsir Tanwir al-Miqbas —
حضرت ابن عباسؓ
{ ياأيها الذين ءَامَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنتُمْ سكارى حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ } .هذه الآية استئناف لبيان حكمين يتعلّقان بالصلاة ، دعا إلى نزولها عقب الآيات الماضية أنّه آن الأوان لتشريع هذا الحكم في الخمر حينئذ ، وإلى قَرنه بحكم مقرّر يتعلّق بالصلاة أيضاً . ويظهر أنّ سبب نزولها طرأ في أثناء نزول الآيات التي قبلها والتي بعدها ، فوقعت في موقععِ وقت نزولها وجاءت كالمعترضة بين تلك الآيات . تضمّنت حكماً أوَّلَ يتعلّق بالصلاة ابتداء ، وهو مقصود في ذاته أيضاً بحسب الغاية ، وهو قوله : { لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } ، ذلك أنّ الخمر كانت حَلالا لم يحرّمها الله تعالى ، فبقيت على الإباحة الأصلية ، وفي المسلمين من يشربها . ونزل قوله تعالى : { يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس } [ البقرة : 219 ] في أول مدّة الهجرة فقال فريق من المسلمين : نحن نشربها لمنافعها لا لإثْمها ، وقد علموا أنّ المراد من الإثم الحرج والمضرّة والمفسدة ، وتلك الآية كانت إيذانا لهم بأنّ الخمر يوشك أن تكون حراماً لأنّ ما يشتمل على الإثم مُتّصف بوصف مناسب للتحريم ، ولكن الله أبقى إباحتها رحمة لهم في معتادهم ، مع تهيئة النفوس إلى قبول تحريمها ، فحدث بعد ثلاث سنين ما رواه الترمذي عن علي بن أبي طالب قال : صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاماً فدعانا وسقانا خمراً وحضرت الصلاة فقدّموني فقرأتُ : قل يأيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون ، فأنزل الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } . قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح .والقرب هنا مستعمل في معناه المجازي وهو التلبّس بالفعل ، لأنّ ( قَرُب ) حقيقة في الدنوّ من المكان أو الذات يقال : قرب منه بضم الراء وقرِبه بكسر الراء وهما بمعنى ، ومن الناس من زعم أنّ مكسور الراء للقرب المجازي خاصّة ، ولا يصحّ .وإنّما اختير هذا الفعل دون لا تُصَلُّوا ونحوه للإشارة إلى أنّ تلك حالة منافية للصلاة ، وصاحبُها جدير بالابتعاد عن أفضل عمل في الإسلام ، ومن هنا كانت مؤذنة بتغيّر شأن الخمر ، والتنفير منها ، لأنّ المخاطبين يومئذ هم أكمل الناس إيماناً وأعلقهم بالصلاة ، فلا يرمُقون شيئاً يمنعهم من الصلاة إلاّ بعَين الاحتقار . ومن المفسّرين مَن تأوّل الصلاة هنا بالمسجد من إطلاق اسم الحالّ على المحلّ كما في قوله تعالى : { وصلوات ومساجد } [ الحج : 40 ] ، ونقل عن ابن عباس ، وابن مسعود ، والحسن قالوا : كان جماعة من الصحابة يشربون الخمر ثم يأتون المسجد للصلاة مع رسول الله فنهاهم الله عن ذلك ولا يخفى بعده ومخالفته لمشهور الآثار .وقوله : { حتى تعلموا ما تقولون } غاية للنهي وإيماء إلى علّته ، واكتفى بقوله ( تقولون ) عن { تفعلون } لظهور أنّ ذلك الحدّ من السكر قد يفضي إلى اختلال أعمال الصلاة ، إذ العمل يسرع إليه الاختلال باختلال العقل قبل اختلال القول .وفي الآية إيذان بأنّ السكر الخفيف لا يمنع الصلاة يومئذ؛ أو أريد من الغاية أنّها حالة انتهاء السكر فتبقى بعدها النشوة . وسكارى جمع سكران ، والسكران من أخَذ عقله في الانغلاق ، مشتقّ من السَّكْر ، وهو الغلق ، ومنه سكْر الحوض وسكْر الباب { وسكرت أبصارنا } [ الحجر : 15 ] .ولمّا نزلت هذه الآية اجتنب المسلمون شرب الخمر في أوقات الصلوات فكانوا لا يشربون إلاّ بعد صلاة العشاء وبعد صلاة الصبح ، لبعد ما بين هاتين الصلاتين وبين ما تليانهما ، ثم أكمل مع تحريم قربان الصلاة في حالة السكر تحريم قربانها بدون طهارة .عطف على جملة { وأنتم سكارى } لأنّا في محلّ الحال ، وهذا النصب بعد العطف دليل بيِّنٌ على أنّ جملة الحال معَتبرة في محلّ نصب .والجنُب فُعُل ، قيل : مصدر ، وقيل : وصف مثل أُجُد ، وقد تقدّم الكلام فيه آنفاً عند قوله : { والجار الجنب } [ النساء : 36 ] ، والمراد به المباعد للعبادةِ من الصلاة إذا قارف امرأته حتى يغتسل .ووصفُ جنُب وصفٌ بالمصدر فلذلك لم يجمع إذْ أخبر به عن جمع ، مِن قوله : { وأنتم سكارى } . وإطلاق الجنابة على هذا المعنى من عهد الجاهلية ، فإنّ الاغتسال من الجنابة كان معروفاً عندهم ، ولعلّه من بقايا الحنيفية ، أو ممّا أخذوه عن اليهود ، فقد جاء الأمر بغسل الجنابة في «الاصحاح» 15 من سفر اللاويين من التوراة . وذكر ابن إسحاق في «السيرة» أنّ أبا سفيان ، لما رجع مهزوماً من بدر ، حلف أن لا يمسّ رأسَه غسلٌ من جنابة حتّى يغزوَ محمّداً . ولم أقف على شيء من كلام العرب يدلّ على ذكر غسل الجنابة .والمعنى لا تُصَلُّوا في حال الجنابة حتّى تغتسلوا إلخ . والمقصود من قوله : { ولا جنباً } التمهيد للتخلّص إلى شرع التَّيمّم ، فإنّ حكم غسل الجنابة مقرّر من قبل ، فذكره هنا إدماج . والتيمّم شرع في غزوة المُرَيْسيع على الصحيح ، وكانت سنة ستّ أو سنة خمسسٍ على الأصحّ . وظاهر حديث مالك عن عائشة أنّ الآية التي نزلت في غزوة المرَيْسيع هي آية التيمّم ، فيظهر أن تكون هذه الآية التي في سورة النساء لأنّها لم يذكر منها إلاّ التيمّم . ووقع في حديث عمرو عن عائشة أنّ الآية التي نزلت هي قوله : { يأيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة } التي في سورة المائدة ( 6 ) ، أخرجه البخاري وقد جزم القرطبي بأنّ الآية التي نزلت في غزوة المريسيع هي آية سورة النساء ، قال : لأنّ آية سورة المائدة تسمّى آية الوضوء . وكذلك الواحدي أورد في أسباب النزول حديث عائشة في سبب نزول آية سورة النساء . وقال ابن العربي هذه معضلة ما وجدت لدائها من دواء لا نعلم أيّ الآيتين عنت عائشة .وسورة المائدة قيل : نزلت قبل سورة النساء ، وقيل بعدها ، والخطب سهل ، والأصحّ أنّ سورة النساء نزلت قبل سورة المائدة .والاستثناء في قوله : إلا عابري سبيل } استثناء من عموم الأحوال المستفادِ من وقوع ( جنبا ) ، وهو حال نكرة ، في سياق النفي . وعابر السبيل ، في كلام العرب : المسافر حين سيره في سفره ، مشتقّ من العبر وهو القطع والاجتياز ، يقال : عبر النهر وعبر الطريق . ومن العلماء من فسّر { عابري سبيل } بمارّين في طريق ، وقال : المراد منه طريق المسجد ، بناء على تفسير الصلاة في قوله : { لا تقربوا الصلاة } بالمسجد ، وجعلوا الآية رخصة في مرور الجنب في المسجد إذا كان قصده المرور لا المكث ، قاله الذين تأوّلوا الصلاة بالمسجد . ونسب أيضاً إلى أنس بن مالك ، وأبي عبيدة ، وابن المسّيب ، والضحّاك ، وعطاء ، ومجاهد ، ومسروق ، والنخعي ، وزيد بن أسْلم ، وعمرو بن دينار ، وعكرمة ، وابن شهاب ، وقتادة ، قالوا : كان ذلك أيام كان لكثير من المهاجرين والأنصار أبواب دُور في المسجد ، ثم نسخ ذلك بعدَ سدّ الأبواب كلّها إلاّ خوخة أبي بكر ، فكان المرور كذلك رخصة للنبيء صلى الله عليه وسلم ولأبي بكر ، وفي رواية ولعلي ، وقيل : أبقيت خوخة بنت عليّ في المسجد ، ولم يصحّ .وفائدة هذا الاستثناء عند من فسّر { تقربوا الصلاة } بدخول المسجد ، وفسّر { عابري سبيل } بالمارّين في المسجد ظاهرة ، وهو استثناء حقيقي من عموم أحوال الجنب باستثناء عابري السبيل . وعابرُ السبيل المأخوذ من الاستثناء مطلق ، وهو عند أصحاب هذا المحمل باق على إطلاقه لا تقييد فيه ، وأمّا عند الجمهور الذين حملوا الآية على ظاهرها في معنى تقربوا الصلاة ، وفي معنى عابري السبيل فلا تظهر له فائدة ، للاستغناء عنه بقوله بعده { أو على سفر } ولأنّ في عموم الحصر تخصيصاً ، فالذي يظهر لي أنّه إنّما قدّم هنا لأنّه غالب الأحوال التي تحول بين المرء وبين الاغتسال من جهة حاجة المسافر استبقاءَ الماء . ولندور عروض المرض . والاستثناء على محمل الجمهور يحتمل أنْ يكون متّصلا عند من يرى المتيمّم جنباً ، ويرى التيمّم غير رافع للحدث ، ولكنّه مبيح للصلاة للضرورة في الوقت ، وهذا قول الشافعي ، فهو عنده بدل ضروري يقدّر بقدر الضرورة ، ودَليله ظاهر الاستثناء ، ويحتمل أن يكون منقطعاً عند من يرى المتيمّم غير جنب ، ويرى التيمّم رافعاً للحدث حتّى ينتقض بناقض ويزول سببه . وهذا قول أبي حنيفة ، فلذلك إذا تيمّم الجنب وصلّى وصار منه حدث ناقض للوضوء يتوضّأ لأنّ تيمّمه بدل عن الغسل مطلقاً ، وهذا هو الظاهر بحسب المعنى وليس في السنّة ما يقتضي خلافه . وعن مالك في ذلك قولان : فالمشهور من رواية ابن القاسم أنّ التيمّم مبيح للصلاة وليس رافعاً للحدث ، فلذلك لا يصلّي المتيمّم به إلاّ فرضاً واحداً ، ولو تيمّم لجنابة لعذر يمنع من الغسل وانتقض وضوءه تيمّم عن الوضوء .وعن مالك ، في رواية البغداديين : أنّ المريض الذي لا يقدر على مسّ الماء يتيمّم ويصلّي أكثر من صلاة ، حتّى ينتقض تيمّمه بناقض الوضوء ، وكذلك فيمن ذكر فوائت يصلّيها بتيمّم واحد ، فعلى هذا ليس تجديد التيمّم لغيرهما إلاّ لأنَّه لا يدري لعلّه يجد الماء فكانت نيّة التيمّم غيرَ جازمة في بقائه ، ولم ينقل عن مالك قول بأنّ المتيمّم للجنابة بعذر مانع من الغسل إذا انتقض وضوءه يتوضأ .وفي مفهوم هذا الاستثناء ، عند القائلين بالمفاهيم من الجمهور ، على هذا المحمل تفصيل . فعابر السبيل مُطلق قيده قوله : { فلم تجوا ماء فتيمموا } وبقي عموم قوله { ولا جنباً } في غير عابر السبيل ، لأنّ العامّ المخصوص يبقى عامّا فيما عدا ما خُصّص ، فخَصَّصه الشرط تخصيصاً ثانياً في قوله : { وإن كنتم مرضى } . ثم إن كان قد تقرّر عند المسلمين أنّ الصلاة تقع بدون طهارة يبق قوله : { إلا عابري سبيل } مجملاً لأنّهم يترقّبون بيانَ الحكم في قربان الصلاة على غير طهارة للمسافر ، فيكون في قوله : { وإن كنتم مرضى أو على سفر } بيان لهذا الإجمال ، وإن كان ذلك لم يخطر ببالهم فلا إجمال ، ويكون قوله : { وإن كنتم مرضى أو على سفر } استئنافا لأحكام التيمّم .وتقديم المُستثنى في قوله : { إلا عابري سبيل } قبل تمام الكلام المقصود قصره بقوله : { حتى تغتسلوا } للاهتمام وهو جار على استعمال قليل ، كقول موسى بن جابر الحنفي أموي :لاَ أشتهي يا قوم إلاَّ كارها ... بابَ الأمير ولا دفاع الحاجبوقوله : { حتى تَغْتَسِلُواْ } غاية للنهي عن الصلاة إذا كانوا جنباً ، فهو تشريع للغسل من الجنابة وإيجاب له ، لأنّ وجوب الصلاة لا يسقط بحال ، فلمّا نهوا عن اقترابها بدون الغسل علم من ذلك فرض الغسل . والحكمة في مشروعية الغسل النظافة ، ونيطَ ذلك بأداء الصلاة ليكون المصلّي في حالة كمال الجسد ، كما كان حينئذ في حال كمال الباطن بالمناجاة والخضوع . ومن أبدع الحِكم الشرعية أنّها لم تنط وجوب التنظّف بحال الوسخ لأنّ مقدار الحال من الوسخ الذي يستدعي الاغتسال والتنظف ممّا تختلف فيه مدارك البشر في عوائدهم وأحوالهم ، فنيطَ وجوب الغسل بحالة لا تنفكّ عن القوة البشرية في مدّة متعَارف أعمار البشر ، وهي حالة دفع فواضل القوة البشرية ، وحيث كان بَيْن تلك الحالة وبين شدّة القوّة تناسب تامّ ، إذ بمقدار القوة تندفع فضلاتها ، وكان أيضاً بين شدّة القوة وبين ظهور الفضلات على ظاهر البدن المعبّر عنها بالوسخ تناسبٌ تامّ ، كان نوْط الاغتسال بالجنابة إناطة بوصف ظاهر منضبط فجُعل هو العلّة أو السبب ، وكان مع ذلك محصّلا للمناسبة المقتضية للتشريع ، وهي إزالة الأوساخ عند بلوغها مقدارا يناسب أن يزال مع جعل ذلك مرتبطاً بأعظم عبادة وهي الصلاة ، فصارت الطهارة عبادة كذلك ، وكذلك القول في مشروعية الوضوء ، على أنّ في الاغتسال من الجنابة حكمة أخرى ، وهي تجديد نشاط المجموع العصبي الذي يعتريه فتورٌ باستفراغ القوة المأخوذة من زبد الدم ، حسبما تفطّن لذلك الأطباء فقُضيت بهذا الانضباط حِكَمٌ عظيمة .ودلّ إسناد الاغتسال إلى الذوات في قوله : { حتى تغتسلوا } على أنّ الاغتسال هو إحاطة البدن بالماء ، وهذا متّفق عليه ، واختلف في وجوب الدلك أي إمرار اليد على أجزاء البدن : فشرطه مالك رحمه الله بناء على أنّه المعروف من معنى الغسل في «لسان العرب» ، ولأنّ الوضوء لا يجزىء بدون ذلك باتّفاق ، فكذلك الغسل .وقال جمهور العلماء : يجزىء في الغسل إحاطة البدن بالماء بالصبّ أو الانغماس؛ واحتجّوا بحديث ميمونة وعائشة رضي الله عنهما في غسل النبي صلى الله عليه وسلم أنّه أفاض الماء على جسده ، ولا حجّة فيه لأنّهما لم تذكرا أنّه لم يتدلّك ، ولكنّهما سكتتا عنه ، فيجوز أن يكون سكوتهما لعلمهما بأنّه المتبادر ، وهذا أيضاً رواية عن مالك رواها عنه أبو الفرج ، ومروان بن محمد الطاطري ، وهي ضعيفة .وقوله : { وإن كنتم مرضى } إلخ ذكرُ حالةِ الرخصة في ترك الاغتسال وترك الوضوء الذي لم يذكر في هذه السورة ، وذُكر في سورة المائدة ، وهي نازلة قبل هذه السورة . فالمقصود بيان حكم التيمّم بحذافره . وفي جمع هذه الأشياء في نسق حصل هذا المقصود ، وحصل أيضاً تخصيص لعموم قوله : { ولا جنباً } كما تقدّم .وقوله : { أو على سفر } بيان للإجمال الواقع في قوله : { إلا عابرب سبيل } إن كان فيه إجمال ، وإلاّ فهو استئناف حكم جديد كما تقدّم .وقوله : { أو جاء أحد منكم من الغائط } زيادة على حكم التيمّم الواقع بدلا من الغسل ، بذكر التيمّم الواقع بدلا عن الوضوء إيعاباً لنوعَي التيمّم . وغير ذلك من أسبابه يؤخذ بالقياس على المذكور . فالمريض أريد به الذي اختلّ نظام صحتِه بحيث صار الاغتسال يضرّه أو يزيد عِلَّتَه . { أو جاء . . . من الغائط } كناية عن قضاء الحاجة البشرية ، شاع في كلامهم التكنّي بذلك لبشاعة الصريح .والغائط : المنخفض من الأرض ، وما غاب عن البصر ، يقال : غَاط في الأرض إذا غاب يغوط ، فهمزته منقلبة عن الواو ، وكانت العرب يذهبون عند قضاء الحاجة إلى مكان منخفض من جهة الحي بعيد عن بيوت سكناهم ، فيكنون عنه : يقولون ذهب إلى الغائط أو تغوّط ، فكانت كناية لطيفة ثم استعملها الناس بعد ذلك كثيراً حتّى ساوت الحقيقة فسمَجَت ، فصار الفقهاء يطلقونه على نفس الحدث ويعلّقونه بأفعال تناسب ذلك .وقوله : { أو لامستم النساء } قرىء ( لامستم ) بصيغة المفاعلة ، وقرىء ( لمستم ) بصيغة الفعل كما سيأتي ، وهما بمعنى واحد على التحقيق . ومن حاول التفصيل لم يأت بما فيه تحصيل . وأصل اللّمس المباشرة باليد أو بشيء من الجسد ، وقد أطلق مجازاً وكناية على الافتقاد ، قال تعالى :{ وأنا لمسنا السماء } [ الجن : 8 ] وعلى النزول ، قال النابغة :ليَلْتَمِسَنْ بالجيش دارَ المحارب ... وعلى قربان النساء ، لأنّه مرادف المسّ ، ومنه قولهم : «فلانة لا تردّ يد لامس» ، ونظيره { وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن } [ البقرة : 237 ] . والملامسة هنا يحتمل أن يكون المراد منها ظاهرها ، وهو الملامسة بمباشرة اليد أو بعضضِ الجسد جسدَ المرأة ، فيكون ذكر سببا ثانياً من أسباب الوضوء التي توجب التيمّم عند فقد الماء ، وبذلك فسّره الشافعي ، فجعل لمس الرجل بيده جسد امرأته موجباً للوضوء ، وهو محمل بعيد ، إذ لا يكون لمس الجسد موجباً للوضوء وإنَّما الوضوء ممّا يخرج خروجاً معتاداً . فالمحمل الصحيح أنّ الملامسة كناية عن الجماع . وتعديد هذه الأسباب لجمع ما يغلب من موجبات الطهارة الصغرى والطهارة الكبرى ، وإنّما لم يستغن عن { لمستم النساء } بقوله آنفاً { ولا جنباً } لأنّ ذلك ذكر في معرض الأمر بالاغتسال ، وهذا ذكر في معرض الإذن بالتيمّم الرخصة . والمقام مقام تشريع يناسبه عدم الاكتفاء بدلالة الالتزام ، وبذلك يكون وجه لذكره وجيه . وأمّا على تأويل الشافعي ومن تابعه فلا يكون لذكر سبب ثان من أسباب الوضوء كبير أهمية . وإلى هذا مال الجمهور فلذلك لم يجب عند مالك وأبي حنيفة الوضوء من لمس الرجل امرأته ما لم يخرج منه شيء ، إلاّ أنّ مالكاً قال : إذا التذ اللامس أو قَصَد اللذّة انتقض وضوءه ، وحمل الملامسة في هذه الآية على معنييها الكنائي والصريح ، لكن هذا بشرط الالتذاذ ، وبه قال جمع من السلف ، وأرى مالكاً اعتمد في هذا على الآثار المروية عن أيّمة السلف ، ولا أراه جعله المراد من الآية .وقرأ الجمهور { لامستم } بصيغة المفاعلة؛ وقرأه حمزة والكسائي وخلف { لمستم } بدون ألف .وقوله : { فلم تجدوا ماء } عطف على فعل الشرط ، وهو قيد في المسافر ، ومن جاء من الغائط ، ومن لامس النساء ، أمّا المريض فلا يتقيّد تَيمّمه بعدم وجدان الماء لأنّه يتيمّم مطلقاً ، وذلك معلوم بدلالة معنى المرض ، فمفهوم القيد بالنسبة إليه معطّل بدلالة المعنى ، ولا يكون المقصود من المريض الزمن ، إذ لا يعدم الزمن مناوِلاً يُناوله الماء إلاّ نادرا .وقوله { فتيمموا } جواب الشرط والتيمّم القصد والصعيد وجه الأرض ، قال ذو الرمّة يصف خشفا من بقر الوحش نائماً في الشمس لا يكاد يفيق :كأنَّه بالضحى تَرْمِي الصعيدَ به ... دَبَّابَةٌ في عظام الرأس خُرطوموالطيّب : الطاهر الذي لم تلوّثه نجاسة ولا قذر ، فيشمل الصعيدُ الترابَ والرملَ والحجارة ، وإنّما عبّر بالصعيد ليصرف المسلمين عن هوس أن يتطلّبوا التراب أو الرمل ممّا تحت وجه الأرض غلوّا في تحقيق طهارته .وقد شُرع بهذه الآية حكم التيمّم أو قرّر شرعه السابق في سورة المائدة على الأصحّ ، وكان شرع التيمم سنة ستّ في غزوة المريسيع ، وسبب شرعه ما في «الصحيح» عن عائشة قالت : خرجنا مع رسول الله في بعض أسفاره حتى إذا كنّا بالبيداء أو بذات الجيش انقطع عقد لي فأقام رسول الله على التماسه وأقام الناس معه وليسوا على ماء وليس معهم ماء فأتى الناسُ إلى أبي بكر الصديق فقالوا : ألا ترى إلى ما صنعت عائشة أقامت برسول الله والناسسِ وليسوا على ماء وليس معهم ماء .فجاء أبو بكر ورسول الله واضع رأسه على فخذي قد نام ، فقال : حَبَسْتتِ رسول الله والناسَ وليسوا على ماء وليس معهم ماء ، فعاتَبني أبو بكر وقال ما شاء الله أن يقول وجعل يطعنني بيده في خاصرتي فلا يمنعني من التحرّك إلا مَكانُ رسول الله على فَخِذي ، فقام رسول الله حين أصبح على غير ماء ، فأنزل الله تعالى آية التيمّم . فقال أسَيْد بنُ الحُضَيْر : ما هي بأوّللِ بركتكم يا آلَ أبي بكر ، فوالله ما نَزل بككِ أمْر تكرهينَه إلاّ جعل الله ذلك لككِ وللمسلمين فيه خيراً . قالت : فبعثْنَا البعيرَ الذي كنتُ عليه فأصبنا العِقْد تحته .والتيمّم من خصائص شريعة الإسلام كما في حديث جابر أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : « أعْطِيتُ خمسا لَمْ يُعْطَهُنَّ أحد قبلي فذكر منها وجُعِلت لي الأرض مسجداً وطَهوراً » . والتيمّم بدل جعله الشرع عن الطهارة ، ولم أر لأحد من العلماء بيانا في حكمة جعل التيمّم عوضاً عن الطهارة بالماء وكان ذلك من همّي زمنا طويلاً وقت الطلب ثم انفتح لي حكمة ذلك .وأحسب أنّ حكمة تشريعه تقرير لزوم الطهارة في نفوس المؤمنين ، وتقرير حُرمة الصلاة ، وترفيع شأنها في نفوسهم ، فلم تُترك لهم حالة يعدّون فيها أنفسهم مُصلّين بدون طهارة تعظيماً لمناجاة الله تعالى ، فلذلك شَرع لهم عملا يشبه الإيماء إلى الطهارة ليستشعروا أنفسهم متطهّرين ، وجعل ذلك بمباشرة اليدين صَعيدَ الأرض التي هي منبع الماء ، ولأنّ التراب مستعمل في تطهير الآنية ونحوها ، ينظّفون به ما علق لهم من الأقذار في ثيابهم وأبدانهم وماعونهم ، وما الاستجمار إلاّ ضرب من ذلك ، مع ما في ذلك من تجديد طلب الماء لفاقده وتذكيره بأنّه مطالب به عند زوال مانعه ، وإذ قد كان التيمّم طهارة رمزية اقتنعت الشريعة فيه بالوجه والكفين في الطهارتين الصغرى والكبرى ، كما دلّ عليه حديث عمّار بن ياسِر ، ويؤيّد هذا المقصد أنّ المسلمين لما عَدِموا الماء في غزوة المريسيع صلَّوْا بدون وضوء فنزلت آية التيمّم . هذا منتهى ما عرض لي من حكمة مشروعيّة التيمّم بعد طول البحث والتأمّل في حكمة مقنعة في النظر ، وكنت أعدّ التيمّم هو النوع الوحيد بين الأحكام الشرعية في معنى التعبّدِ بنَوعه ، وأمّا التعبّد ببعض الكيفيات والمقادير من أنواع عبادات أخرى فكثير ، مثل عدد الركعات في الصلوات ، وكأنَّ الشافعي لمّا اشترط أن يكون التيمّم بالتراب خاصّة وأن ينقل المتيمّم منه إلى وجهه ويديه ، راعى فيه معنى التنظيف كما في الاستجمار ، إلاّ أنّ هذا القول لم ينقل عن أحد من السلف ، وهو ما سبق إلى خاطر عَمّار بن ياسر حين تمرّغ في التراب لمّا تعذّر عليه الاغتسال ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم" يكفيك من ذلك الوجهُ والكفَّان " . ولأجل هذا أيضاً اختلف السلف في حكم التيمّم ، فقال عُمر وابن مسعود : لا يقع التيمّم بدلا إلاّ عن الوضوء دون الغسل ، وأنّ الجنب لا يصلّي حتّى يَغتسل سواء كان ذلك في الحضر أم في السفر . وقد تناظر في ذلك أبو موسى الأشعري وعبد الله بن مسعود : روى البخاري في كتاب التيمّم قال أبو موسى لا بن مسعود : أرأيتَ إذا أجنب فلم يجد الماء كيف يصنع؟ قال عبدُ اللَّه : لا يُصلّي حتّى يجد الماء . فقال أبو موسى : فكيف تصنع بقول عمّار حين قال له النبي : كان يكفيك هكذا ، فضرب بكفّيه الأرض ثم مسح بهما وجهه وكفّيه ، قال ابن مسعود : ألم تر عُمَرَ لم يقنَعْ منه بذلك ، قال أبو موسى . فدَعْنَا من قول عمّار ، كيف تصنع بهذه الآية { وإن كنتم مرضى أو على سفر } فما درى عبد الله ما يقول ، فقال : إنَّا لو رخَّصْنا لهم في هذا لأوْشَكَ إذا بَرَد على أحدهم الماءُ أن يدَعَه ويتيمّم ، ولا شك أنّ عمر ، وابن مسعود ، تأوّلا آية النساء فجعلا قوله : { إلا عابري سبيل } رخصة لمرور المسجد ، وجعلا { أو لامستم النساء } مراداً به اللّمس الناقض للوضوء على نحو تأويل الشافعي ، وخالف جميعُ علماء الأمّة عمرَ وابنَ مسعود في هذا ، فقال الجمهور : يتيمّم فاقد الماء ومن يخاف على نفسه الهلاك أو المرض أو زيادة المرض ولو نَزْلَة أو حمّى . وقال الشافعي : لا يتيمّم إلاّ فاقد الماء أو من يخاف على نفسه التلف دون المرض أو زيادته ، لأنّ زيادة المرض غير محقّقة ، ويردّه أنّ كلا الأمرين غير محقّق الحصول ، وأنّ الله لم يكلّف الخلق بما فيه مشقّة . وقد تيمّم عَمْرو بن العاص رضي الله عنه في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل وصلّى بالناس ، «فذكروا ذلك للنبيء صلى الله عليه وسلم فسأله فقال عمرو : إني سمعت الله يقول : { ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً } [ النساء : 29 ] فضحك النبي عليه الصلاة والسلام ولم ينكر عليه .وقوله : { فامسحوا بوجوهكم وأيديكم } جعل التيمّم قاصرا على مسح الوجه واليدين ، وأسقط مسح ما سواهما من أعضاء الوضوء بَلْهَ أعضاء الغسل ، إذ ليس المقصود منه تطهيراً حسيَّا ، ولا تجديد النشاط ، ولكن مجرّد استحضار استكمال الحالة للصلاة ، وقد ظنّ بعض الصحابة أنّ هذا تيمّم بدل عن الوضوء ، وأنّ التيمّم البدل عن الغسل لا يجزىء منه إلاّ مسح سائر الجسد بالصعيد ، فعلّمه النبي صلى الله عليه وسلم أن التيمّم للجنابة مثل التيمّم للوضوء ، فقد ثبت في «الصحيح» عن عمّار بن ياسر ، قال : كنت في سفر فأجنبت فتمعَّكْت في التَراب ( أيْ تمرّغت ) وصلّيت فأتيت النبي فذكرت ذلك فقال «يكفيك الوجه والكفان» وقد تقدّم آنفاً .والباء للتأكيد مثل : «وهزّي إليك بجذع النخلة» وقول النابغة يرثي النعمان بن المنذر :لكَ الخيرُ إن وارتْ بك الأرضُ واحدا ... وأصْبَحَ جَدُّ الناس يظْلَعَ عَاثِراأراد إن وارتْك الأرض مواراة الدفن . والمعنى : فامسحوا وجوهكم وأيديكم ، وقد ذُكرت هذه الباء مع الممسوح في الوضوء ومع التيمّم للدلالة على تمكّن المسح لئلا تزيد رخصةٌ على رخصة .وقوله : { إن الله كان عفواً غفوراً } تذييل لحكم الرخصة إذ عفا عن المسلمين فلم يكلّفهم الغسل أو الوضوء عند المرض ، ولا ترقّبَ وجود الماء عند عدمه ، حتّى تكثر عليهم الصلوات فيعسر عليهم القضاء .
ٱلتَّفْسِيرُ ٱلْوَسِيط
Tafsir Al-Waseet —
علمائے جامعہ ازہر
ثم وجه - سبحانه - بعد ذلك نداء إلى المؤمنين بين لهم فيه بعض الأحكام التى تتعلق بالصلاة وأرشدهم إلى ما يجب عليهم عند أدائها من تظهير بدنى وروحى حتى يكونوا أهلا لرضا الله وحسن قبوله ، فقال - تعالى - : ( يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ ) .روى المفسرون فى سبب نزول الآية الكريمة روايات منها ما رواه أبو داود والنسائى عن على بن أبى طالب أنه كان هو وعبد الرحمن بن عوف ورجل آخر ، قد شربوا الخمر . فصلى بهم عبد الرحمن فقرأ : قل يا أيها الكافرون . فخلط فيها . فنزلت : ( يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى ) .وروى الترمذى وابن أبى حاتم عن على بن أبى طالب قال : صنع لنا بعد الرحمن بن عوف طعاما فدعانا وسقانا من الخمر . فأخذت الخمر منا . وحضرت الصلاة . فقدموا فلانا . قال : فقرأ : " قل يأيها الكافرون . أعبد ما تعبدون . ونحن نعبد ما تعبدون " فأنزل الله الآية .قال ابن كثير : وقد كان هذا النهى قبل تحريم الخمر . كما دل عليه الحديث الذى ذكرناه فى سورة البقرة عند قوله - تعالى - ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر ) الآية فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلاهما على عمر . فقال : اللهم بين لنا فى الخمر بيانا شافيا . فلما نزلت هذه الآية تلاها عليه فقال : اللهم بين لنا فى الخمر بيانا شافيا . فكانوا لا يشربون الخمر فى أوقات الصلاة - وفى رواية لأبى داود : فكان منادى رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قامت الصلاة ينادى : لا يقربن الصلاة سكران - حتى نزل قوله - تعالى - فى سورة المائدة : ( إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه ) إلى قوله : ( فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ ) فقال عمر : انتهينا انتهينا .والمراد بالصلاة عند كثير من العلماء : الهيئة المخصوصة من قراءة وقيام ركوع وسجود .والمراد بقربها : القيام إليها والتلبس بها ، إلا أنه - سبحانه - نهى عن القرب منها مبالغة فى النهى عن غشيانها وهم بحالة تتنافى مع جلالها والخشوع فيها .وقوله ( سكارى ) جمع سكران .وأصل السكر فى اللغة السد . ومنه قولهم سكرت الطريق أى سددته . ومنه قوله - تعالى - حكاية عن الكافرين ( وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السماء فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا ) أى : انسدت فصارت لا ينفذ إليها النور ، ولا ندرك الأشياء على حقيقتها .والمراد بالسكر هنا الحالة التى تحصل لشارب الخمر والتى يفقد معها وعيه ، ويسد ما بين المرء وعقله .والجنب : من أصابته الجناية بسبب جماع أو احتلام أو غيرهما . وهذا اللفظ يستوى فيه - على الصحيح - الواحد ، والمثنى ، والجمع ، والمذكر والمؤنث لجريانه مجرى المصدر ، واشتقاقه من المجانبة بمعنى المباعدة .وعابر السبيل : مجتاز الطريق وهو المسافر . أو من يعبر الطريق من جانب إلى جانب .يقال : عبرت هذا الطريق فأنا أعبره عبرا وعبورا . ومنه قيل : عبر فلان النهر إذا قطعه وجازه .والمعنى : يأيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن تؤدوا الصلاة وأنتم فى حالة السكر .حتى تكونوا بحيث تعلمون ما تقولونه قبل أدائها ، ولا فى حال الجنابة حتى تغتسلوا؛ إلا أن تكونوا مسافرين ولم تجدوا ماء فتيمموا لكى تؤدوها .ومن العلماء من يرى أن المراد بالصلاة هنا : مواضعها وهى المساجد . فالكلام مجاز مرسل بتقدير مضاف فهو من باب ذكر الحال وإرادة المحل .والمعنى عليه : لا تقربوا مواضع الصلاة وهى المساجد وأنتم سكارى ، ولا تقربوها وأنتم جنب حتى تغتسلوا إلا أن تكونوا تريدون اجتيازها من باب إلى آخر من غير مكث فيها إنه يجوز لكم ذلك .روى ابن جرير عن الليث قال : حدثنا يزيد بن أبى حبيب عن قول الله - تعالى - : ( وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ ) أن رجالا من الأنصار كانت أبوابهم فى المسجد تصيبهم نابة ولا ماء عندهم فيريدون الماء . ولا يجدون ممرا إلا فى المسجد . فأنزل الله - تعالى - ( وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ ) .وقال بعض العلماء : وبالجملة فالحال الأولى أعنى قوله ( وَأَنْتُمْ سكارى ) تقوى بقاء الصلاة على معناها الحقيقى ، من دون تقدير مضاف : وقوله : ( إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ ) يقوى تقدير المضاف . أى : لا تقربوا موضع الصلاة .ويمكن أن يقال : إن بعض قيود النهى - وهو قوله : ( وَأَنْتُمْ سكارى ) يدل على أن المراد بالصلاة معناها الحقيقى .وبعض قيود النهى - وهو قوله : إلا عابرى سبيل - يدل على أن المراد مواضع الصلاة .ولا مانع من اعتبار كل واحد منهما مع قيده الدال عليه . ويكون ذلك بمنزلة نهيين مقيد كل واحد منهما بقيد . وهما : لا تقربوا الصلاة التى هى ذات الأذكار والأركان وأنتم سكارى . ولا تقربوا مواضع الصلاة حال كونكم جنبا إلا حال عبوركم المسجد من جانب إلى جانب . وغاية ما يقال فى هذا إنه من باب الجمع بين الحقيقة والمجاز .وفى ندائهم بصفة الإيمان ، تحريك لحرارة العقيدة فى قلوبهم ، وتوجيه لنفوسهم إلى ما يستدعيه الإِيمان من طاعة واستجابة لله رب العالمين .وقوله ( وَأَنْتُمْ سكارى ) جملة حالية . أى لا تقربوها فى حال السكر ، لأن ذلك يتنافى مع الإِيمان السليم ، ومع ما تستحقه الصلاة من خشوع واستحضار للقلب . وإنما الذى يقتضيه إيمانكم وحياؤكم من الله أن تدخلوا فى الصلاة وأنتم بكامل وعيكم ، واستحضاركم لما يستلزمها من خشوع وأدب .ولا شك أن هذا كان قبل أن ينزل التحريم القطاع لشرب الخمر فى جمع الأوقات كما سبق أن أشرنا .وقوله ( حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ ) غاية للنهى وإيماء إلى علته .وحتى هنا حرف جر بمعنى إلى ، والفعل بعدها منصوب بأن مضمرة . وما فى قوله ( مَا تَقُولُونَ ) موصولة بمعنى الذى أو نكرة موصوفة والعائد محذوف أى تقولونه .أى : حتى تعلموا ما تقولونه علما يقينيا لا غلط معه ولا تخليط ، بأن تعقلوا ما اشتملت عليه الصلاة من تكبير وقراءة وتسبيح ودعاء وغير ذلك مما تقتضيه الصلاة .قال الآلوسى : وقد روى أنهم كانوا بعدما أنزلت الآية لا يشربون الخمر فى أوقات الصلاة ، فإذا صلوا العشاء شربوها فلا يصبحون إلا وقد ذهب عنهم السكر وعلموا ما يقولون .وقوله ( وَلاَ جُنُباً ) معطوف على قوله ( وَأَنْتُمْ سكارى ) إذ الجملة فى موضع النصب على الحال . والاستثناء فى قوله ( إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ ) مفرغ من أعم الأحوال .وقوله ( حتى تَغْتَسِلُواْ ) بيان لغاية المنع بالنسبة للجنب .والاغتسال : تعميم الجسد كله بالماء . وهو بعد الجنابة طهارة حسية وتنشيط للبدن بعد أن أصابه بعض التعب بسبب الأفعال التى أدت إلى الجنابة . وهو كذلك طهارة نفسية ، لأنه يبعث فى الإِنسان حسن الاستعداد لذكر الله ولأداء الصلاة بعد أن استحكمت الشهوة وسيطرت على صاحبها لفترة من الوقت . فبالاغتسال بعد قضاء الشهوة يتجدد للبدن نشاطه ، وللروح صفاؤها وحسن استعدادها لطاعة الله .ثم شرع - سبحانه - فى بيان الأعذار التى تبيح التيمم عند العجز عن الماء فقال : ( وَإِنْ كُنْتُمْ مرضى أَوْ على سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن الغآئط أَوْ لاَمَسْتُمُ النسآء فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِنَّ الله كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً ) والمراد بالمرض فى قوله - تعالى - : ( وَإِنْ كُنْتُمْ مرضى ) : المرض الذى يمنع من استعمال الماء مطلقا ، كأن يكون إستعمال الماء يزيد المرض شدة ، أو يبطئ البرء ، فإن الله - تعالى - قد أباح للمريض فى هذه الأحوال وأمثالها أن يتيمم بدل الوضوء أو الغسل . كما أباح له - أيضا - أن يتيمم عند فقد الماء أو ما فى حكم ذلك .وقوله : ( أَوْ على سَفَرٍ ) فى محل نصب عطفا على خبر كان وهو قوله : ( مرضى ) .أى : وكذلك أباح الله لكم التيمم عند السفر إذا لم تجدوا ماء ، أو كان معكم من الماء ما أنتم فى حاجة شديدة إليه ، أو كان هناك ما يمنع من استعمال الماء .وقوله ( أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن الغآئط ) معطوف على قوله : ( كُنْتُمْ ) .والغائظ من الغيظ . وهو المكان المنخفض من الأرض . وهو هنا كناية عن الحدث لأن العادة جرت على أن من بريد الحدث يذهب إلى ذلك المكان المنخفض ليتوارى عن أعين الناس .وفى إسناد المجئ إلى واحد مبهم من المخاطبين ، سمو فى الخطاب ، حيث تحاشى - سبحانه - التصريح بنسبتهم إلى ما يستحيا من ذكره أو ما بستهجن التصريح به .أى وكذلك أباح الله لكم التيمم إن كنتم محدثين ولم تجدوا ماء تتطهرون به من الحدث أو تجدونه ولكن هناك ما يمنعكم من استعماله .والمراد بالملامسة فى قوله ( أَوْ لاَمَسْتُمُ النسآء ) الجماع عند بعض الفقهاء قال الآلوسى ما ملخصه : قوله - تعالى - ( أَوْ لاَمَسْتُمُ النسآء ) يريد - سبحانه - : أو جامعتم النساء .إلا أنه كنى بالملامسة عن الجماع ، لأنه ما يستهجن التصريح به أو يستحيى منه . وإليه ذهب ابن عباس والحسن وغيرهما .وعن ابن مسعود أن المراد بالملامسة ما دون الجماع . أى ما سستم بشرتهن ببشرتكم . وبه استدل الشافعى على أن اللمس بنقض الوضوء .وقال مالك : إن كان اللمس بشهوة نقض وإلا فلا . . .وذهب أبو حنيقة إلا أنه لا ينتقض الوضوء بالمس ولو بشهوة . . . والفاء فى قوله ( فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً ) عطفت ما بعدها على الشرط السابق وهو قوله ( وَإِنْ كُنْتُمْ مرضى ) . والضمير فى قوله ( تَجِدُواْ ) يعود لكل من تقدم من مريض ومسافر ومتغوط وملامس . وفيه تغليب للخطاب على الغيبة . وذلك أنه تقدم ضمير الغيبة فى قوله ( أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن الغآئط ) بينما تقدم ضمير المخاطب فى قوله ( كُنْتُمْ ) ( لاَمَسْتُمُ ) .والمراد بعدم الوجدان هنا ما هو أعم من الوجود الحسى . أى أن قوله ( فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً ) كناية عن عدم التمكن من استعماله وإن وجد حسا ، إذ أن الشئ المتعذر استعماله كالمعدوم .وقوله ( فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً ) جواب الشرط وهو قوله : ( وَإِنْ كُنْتُمْ ) .والمعنى : وإن كنتم أيها المؤمنون فى حالة مرض أو على سفر أو كنتم محدثين أو لامستم النساء فلم تجدوا فى تلك الأحوال ما تستعملونه لطهارتكم ، أو وجدتم ماء ولكن منعكم مانع من استعماله ، فعليكم أن تتيمموا صعيدا طيبا ، بدلا من الماء ، فان الله - تعالى - ( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ ) ومنهم من يرى أن الضمير فى قوله : ( فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً ) يعود إلى الجمع ما عدا المرضى ، لأن المرضى يباح لهم التيمم مع وجود الماء إذا تضرروا من استعماله .وعلى هذا الرأى يكون المراد بعدم الوجدان . عدم الوجدان الحسى .والتيمم لغة : القصد . يقال تيممت الشى أى قصدته .ويطلق فى الشرع على القصد إلى التراب لمسح الوجه واليدين به .وأما الصعيد - بوزن فعيل - فيطلق على وجه الأرض البارز ، ترابا كان أو غيره . وقيل طلق على التراب خاصة .والطيب : الطاهر الذى لم تلوثه نجاسة ولا قذر .أى : إذا لم تجدوا ماء للتطهر به أو وجدتموه ولكنكم عجزتم عن استعماله فاقصدوا ترابا طاهراً بارزاً على وجه الأرض لكى تستعملوه فى طهارتكم عوضا عن الماء .وقوله ( فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ ) بيان لكيفية التيمم .أى : اقصدوا تراباً على ظاهر الأرض طاهراً فسحوا منه بوجوهكم وأيديكم .وقوله ( إِنَّ الله كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً ) تذييل قصد به بيان أنه - سبحانه - متصف بالعفو فلا يختار لعباده إلا السهل اليسير الذى يسهل عليهم اداؤه من غير مشقة مرهقة ، وأنه هو الغفار الذى يغفر للمقصرين والمخطئين ذنوبهم متى تابوا إليه واستغفروه مما صدر عنهم من ذنوب .هذا ومن الأحكام والآداب التى أخذها العلماء من هذه الآية ما يأتى :1- أن من الواجب على المسلم عندما يتهيأ للصلاة أن يتجنب كل ما يتعارض مع الخشوع فيها ، لأن الصلاة مناجاة ووقوف بين يدي الله - تعالى ، ومن شأن المناجى لله - تعالى - أن يتفرغ لذلك ، وأن يكون على درجة من العلم والفهم تمكنه من الوقوف الخاشع بين يدى الله رب العالمين .2- أن الصلاة محرمة على السكران حال سكره حتى يصحوا . فإذا أداها حال سكره تكون باطلة ، وكذلك الحكم بالنسبة للمحدث أو الجنب حتى يتطهر .3- استدل بهذه الآية - من قال بأن المراد بالصلاة مواضعها - على أنه يحرم على السكران دخول المسجد ، لما يتوقع منه من التلويث وفحش القول ، ويقاس عليه كل ذى نجاسة يخشى معها التلويث والسياب ونحوه .4- استدلوا بقوله - تعالى - : ( حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ ) على أن المسلم منهى عن الصلاة حال النعاس أو ما يشبهه ، لأنه فى هذه الحالة لا يعلم ما يقول ويؤيد ذلك ما رواه البخارى عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا نعس أحدكم وهو يصلى فليرقد حتى يذهب عنه النوم . فان أحدكم إذا صلى وهو ناعس لا يدرى لعله يستغفر فيسب نفسه " .وروى البخارى عن أنس عن النبى صلى الله علي وسلم قال : " إذا نعس أحدكم فى الصلاة فلينم حتى يعلم ما يقرأ " .قال الفخر الرازى ما ملخصه : ويرى الضحاك أنه ليس المراد من لفظ ( سكارى ) السكر من الخمر ، وإنما المراد منه سكر النوم . لأن لفظ السكر يستعمل فى النوم فكان هذا اللفظ محتملا له . . .ثم قال الرازى : واعلم أن القول الصحيح هو قول الجمهور هو من الصحابة والتابعين وهو أن المراد من لفظ ( سكارى ) السكر من الخمر ، لأن لفظ السكر حقيقة فى السكر من شرب الخمر ، والأصل فى الكلام الحقيقة . . . ، ولأن جميع المفسرين قد اتفقوا على أن هذه الآية إنما نزلت فى شرب الخمر . . .5- استدلوا بقوله - تعالى ( وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حتى تَغْتَسِلُواْ ) على أنه يحرم على الجنب المكث فى المسجد ، إلا أنه يجوز له المرور فيه .قال ابن كثير ما ملخصه : قال ابن عباس فى قوله ( وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ ) لا تدخلوا المسجد وأنتم جنب إلا عابرى سبيل . أى : تمر به مراً ولا تجلس .وروى ابن جرير عن يزيد بن أبى حبيب فى قوله - تعالى - ( وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ ) أن رجلا من الأنصار كانت أبوابهم فى المسجد فكانت تصيبهم الجنابة ولا ماء عندهم فيردون الماء ولا يجدون مروراً إلى فى المسجد . فأنزل الله - تعالى - ( وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ ) ويشهد لصحة ذلك ما ثبت فى صحيح البخارى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" سدوا كل خوخة فى المسجد إلا خوخة أبى بكر . . "وبهذه الآية احتج كثير من الأئمة على أنه يحرم على الجنب المكث فى المسجد ، ويجوز له المرور ، وكذا الحائض والنفساء أيضاً متى أمنت كل واحدة منهما التلويث فى حال المرور . . .ثم قال ابن كثير : وقوله ( حتى تَغْتَسِلُواْ ) دليل لما ذهب إليه الأئمة الثلاثة : أبو حنيفة ومالك والشافعى من أنه يحرم على الجنب المكث فى المسجد حتى يغتسل أو يتيمم إن عدم الماء أو لم يقدر على استعماله . وذهب الإِمام أحمد إلى أنه متى توضأ الجنب جاز له المكث فى المسجد ، لما روى من أن صحابه كانوا يفعلون ذلك . وعن عطاء بن يسار قال : رأيت رجالا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلسون فى المسجد وهم مجنبون إذا توضأوا وضوء الصلاة . وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم .6- ظاهر قوله - تعالى - ( فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ ) يفيد أن التيمم لا يصح مع وجود الماء ، لأن الآية الكريمة قد رتبت الأمر بالتيمم على نفى وجود الماء .ولكن هذا الظاهر غير مراد ، لأنه يقتضى أنه حتى لو وجدنا ماء ، وكنا فى حاجة شديدة إليه ، أو لا نقدر على استعماله فإنه لا يجوز لنا أن نتيمم ، وهذا بتعارض مع سماحه الشريعة الإِسلامية ويسرها ، قال - تعالى : ( يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر ) وقال - تعالى - : ( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ ) ويتعارض كذلك مع ما شرع من أجله التيمم وهو التيسير على الناس ، والتيسير على الناس لا يتأتى بإلزامهم أن يفقدوا ما معهم من الماء فى الطهارة ليقعوا فى العنت بسبب العطش أو الجوع . أو بإلزامهم استعمال الماء فى طهارتهم مع أن فى استعماله مضرة بهم .لهذا قال العلماء : إن التيمم مشروع للمسلم عند فقده للماء ، أو عند وجود الماء ولكن هناك عارض يمنعه من استعماله كمرض أو نحوه .ولقد ورد فى السنة الشريفة ما يشهد بأنه يجوز للمسلم أن يتيمم مع وجود الماء متى كان هناك ما يمنع من استعماله .ومن ذلك ما أخرجه أبو داود والدارقطنى عن جابر قال : " خرجنا فى سفر . فأصاب رجلا منا حجر فشجه فى رأسه . ثم احتلم فسأل أصحابه فقال هل تجدون لى رخصة فى التيمم؟ فقالوا : ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء . فاغتسل فمات . فلما قدمنا على النبى صلى الله عليه وسلم أخبر بدلك فقال : قتلوه ، قتلهم الله ، هلا سألوا إذا لم يعلموا؟ فإنما شفاء العى السؤال . إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصب على جرحه ثم يمسح عليه ويغسل سائر جسده " .وروى أبو داود والدارقطنى عن عمرو بن العاص قال :" احتلمت فى ليلة باردة فى غزوة ذات السلاسل فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك . فتيممت . ثم صليت بأصحابى الصبح . فذركوا ذلك للنبى صلى الله عليه وسلم فقال : " يا عمرو صليت باصحابى وأنت جنب "؟ فأخبرته بالذى منعنى من الاغتسال وقلت : إنى سمعت الله يقول : ( وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ الله كَانَ بِكُمْ رَحِيماً ) فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئا " .قال القرطبى - بعد أن ساق هذا الحديث والذى قبله - فدل هذا الحديث على إباحة التيمم مع الخوف من المرض - عند استعمال الماء - : وفيه إطلاق اسم الجنب على المتيمم ، وجواز صلاة المتيمم بالمتوضئين . وهذا أحد القولين عندنا . وهو الصحيح الذى أقره مالك مالك فى موطئه وقرئ عليه إلى أن مات .وقال ابن كثير : وقد استنبط كثير من الفقهاء من الآية أنه لا يجوز التيمم لعدم الماء إلا بعد طلب الماء . فمتى طلبه فلم يجده جاز له حينئذ التيمم . وقد ذكروا كيفية الطلب فى كتب الفروع . .7- أخذ الشافعية والحنابلة من قوله - تعالى - ( فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً ) : أن التيمم لا يجوز إلا بالتراب الطاهر لأنه هو المقصود بالصعيد الطيب ولأنه ثبت فى صحيح مسلم عن حذيفة بن اليمان قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فضلنا على الناس بثلاث : جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة . وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا . وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء " قالوا : فخصص الطهور بالتراب فى مقام الامتنان . فلو كان غيره يقوم مقامه لذكره معه .ويرى الإِمام أبو حنيفة التيمم يجوز بالتراب وبالحجر وبما ماثله من كل ما كان من جنس الأرض متى كان طاهرا . قالوا : لأن الظاهر من لفظ الصعيد وجه الأرض وهذه الصفة لا تختص بالتراب .وتوسع الإِمام مالك فذهب إلى أن التيمم يجوز بكل ما سبق وبغيره كالشجرة والحجر والنبات لأن الصعيد عنده كل ما صعد على وجه الأرض .قال القرطبى عند حديثه عن اختلاف الفقهاء فى ذلك : وإذا تقرر هذا فاعلم أن مكان الإِجماع فيما ذكرناه أن يتيمم الرجل على تراب منبت طاهر غير منقول ولا منصوب . ومكان الإِجماع فى المنع أن يتيمم الرجل على الذهب الصرف والفضة والياقوت والأطعمة كالخبز واللحم وغيرهما . أو على النجاسات . واختلف فى غير هذا كالمعادن ، فأجيز وهو مذهب مالك وغيره . ومنع وهو مذهب الشافعى وغيره . . .8- أفاد قوله - تعالى - ( فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ ) أن الواجب فى التيمم هو مسح الوجه واليدين فقط سواء أكان التيمم بدلا عن الوضوء أو عن الغسل .قال القرطبى : وروى التيمم إلى المرفقين عن النبى صلى الله عليه وسلم جابر عن عبد الله ، وابن عمر وبه كان يقول : قال الدارقطنى : سئل قتادة عن التيمم فى السفر فقال : كان ابن عمر يقول : إلى المرفقين .وكان الحسن وإبراهيم النخعى يقولان : إلى المرفقين .ثم قال : وقالت طائفة يبلغ به إلى الكوعين وهما الرسغان . روى ذلك عن على بن أبى طالب والأوزاعى وعطاء والشعبى فى رواية . وبه قال أحمد ابن حنبل ، والطبرى .وقال مكحول : اجتمعت أنا والزهرى فتذاكرنا التيمم فقال الزهرى : المسح إلى الآباط .وقال ابن أبى الجهم : التيمم بضربة واحدة ، وبه قال أحمد بن حنبل وإسحاق وداود والطبرى .9- ذكر المفسرون فى سبب مشروعية التيمم روايات منها ما أخرجه البخارى عن عائشة - رضى الله عنها - قالت : خرجنا ما رسول الله صلى الله عليه وسلم فى بعض أسفاره : حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش انقطع عقدلى . فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على التماسه وأقام الناس معه . وليسوا على ماء . وليس معهم ماء . فأتى الناس إلى أبى بكر الصديق فقالوا : ألا ترى ما صنعت عائشة؟ أقمت برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء . فجاء أبو بكر رسول الله صلى الله عليه وسلم واضع رأسه على فخذى قد نام . فقال : حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء . قالت عائشة : فعاتبنى أبو بكر وقال ما شاء الله أن يقول . فجعل يطعننى بيده فى خاصرتى فلا يمنعنى من التحرك إلا مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذى . فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصبح على غير ماء . فأنزل الله آية التيمم . فتيمموا . فقال أسيد بن الحضير : ما هى بأول بركتكم يا آل أبى بكر .قالت : فبعثنا البعير الذى كنت عليه فوجدنا العقد تحته .قال الحافظ ابن كثير عند ذكره هنا لسبب مشروعيته التيمم ، وإنما ذكرنا ذلك ههنا ، لأن هذه الآية التى فى النساء متقدمة فى النزول على آية سورة المائدة وبيانه : أن هذه نزلت قبل تحريم الخمر . والخمر إنما حرم بعد أحد بيسير ، فى محاصرة النبى صلى الله عليه وسلم لبنى النضير . وأما المائدة فإنها من آخر ما نزل ولا سيما صدرها . فناسب أن يذكر السبب هنا .10- تكلم بعض العلماء عن حكمة مشروعية التيمم عروضا عن الطهارة بالماء فقال : والتيمم من خصائص شريعة الإسلام كما فى حديث جابر أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلى - فذكر منها - وعلت لى الأرض مسجدا وطهورا " .والتيمم بدل جعله الشرع عن الطهارة . ولم أر لأحد من العلماء بيانا فى حكمة جعل التيمم عوضا عن الطهارة بالماء ، وكان ذلك من همى زمنا طويلا وقت الطلب .ثم انفتح لى حكمة ذلك .وأحسب أن حكمة تشريعه تقرير لزوم الطهارة فى نفوس المؤمنين . وتقرير حرمة الصلاة وترفيع شأنها فى نفوسهم . فلم تترك لهم حالة يعدون فيها أنفسهم مصلين بدون طهارة تعظيما لمناجاة الله - تعالى - فلذك شرع لهم عملا يشبه الإِيمان إلى الطهارة ليستشعروا أنفسهم متطهرين ، وجعل ذلك بمباشرة اليدين صعيد الأرض التى هى منبع الماء . ولأن التراب مستعمل فى تطهير الآنية ونحوها ، ينطقون به ما علق لهم من الأقذار فى ثيابهم وأبدانهم وما عونهم . وما الاستجمار إلا من ضرب ذلك ، مع ما فى ذلك من تجديد طلب الماء لفاقده وتذكيره بأنه مطالب به عند زوال مانعه . وإذ قد كان التيمم طهارة رمزية اكتفت الشريعة فيه بالوجه والكفين فى الطهارتين الصغرى والكبرى كما دل عليه حديث عمار بن ياسر فقد ثبت فى الصحيح " عن عمار بن ياسر قال : كنت فى سفر فأجنبت فتمعكت فى التراب " أى تمرغت " وصليت . فأتيت النبى صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال : " يكفيك الوجه والكفان " ويؤيد هذا المقصد أن المسلمين لما عدموا الماء فى غزوة المريسيع صلوا بدون وضوء فنزلت آية التيمم .هذا منتهى ما عرض لى من حكمة مشروعية التيمم بعد طول البحث والتأمل فى حكمة مقنعة فى النظر .وبعد ، فهذه بعض الأحكام والآداب التى اشتملت عليها تلك الآية ، ومنها نرى كيف وجهت المؤمنين إلى ما يقوى إيمانهم ، ويصفى نفوسهم ، ويبعدهم عن الأسباب التى تحول بينهم وبين إخلاص المناجاة لله رب العالمين ، وإلى ما يجعلهم يتحرزون عن كل ما يدنسهم أو يلهيهم عن طاعة الله .كما ترى كيف استعملت فى خطابها للمؤمنين ألطف الكنايات؛ وأسمى التعبيرات ، وأبلغ الإِشارات ، وفى ذلك ما فيه من تربية سليمة للمؤمنين تجعلهم يسعدون فى نياهم وآخرتهم .هذا ، وأنت إذا تدبرت السورة الكريمة من مطلعها إلى هنا ، تراها قد نظمت العلاقات بين أفراد المجتمع الإِسلامى تنظيما حكيما ، وساقت لهم من التوجيات السامية ، والآداب العالية ، والتشريعات الجليلة . . . ما يجعلهم يعيشون فى أمان واطمئنان .ثم أخذت السورة بعد ذلك تسوق لنا فى أكثر من عشر آيات ، ألوانا من رذائل أهل الكتاب ، ومن مسالكهم الخبيثة لكيد الدعوة الإِسلامية ، ومن حسدهم للنبى صلى الله عليه وسلم على ما آتاه الله من فضله ، وتوعدتهم بسوء المصير على ما اقترفوه من منكرات وآثام . . .وكأن السورة الكريمة بعد أن نظمت المجتمع الإِسلامي هذا التنظيم الداخلى السليم ، أخذت فى تحذير المؤمنين من عدوهم الخارجى ، وأطلعتهم على ما يضمره لهم أهل الكتاب من كراهية وبغضاء .استمع إلى السورة الكريمة وهى تحكى كى ذلك فتقول : ( أَلَمْ تَرَ . . . . بِجَهَنَّمَ سَعِيراً ) .
تَفْسِيرُ ٱلْبَغَوِيِّ
Tafsir al-Baghawi —
علامہ بغوی
قوله عز وجل : ( ياأيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ) الآية ، والمراد من السكر : السكر من الخمر ، عند الأكثرين ، وذلك أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه صنع طعاما ودعا ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأتاهم بخمر فشربوها قبل تحريم الخمر وسكروا فحضرت صلاة المغرب فقدموا رجلا ليصلي بهم فقرأ ( قل يا أيها الكافرون ) أعبد ما تعبدون ، بحذف ( لا ) هكذا إلى آخر السورة ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، فكانوا بعد نزول هذه الآية يجتنبون السكر أوقات الصلوات حتى نزل تحريم الخمر .وقال الضحاك بن مزاحم : أراد به سكر النوم ، نهى عن الصلاة عند غلبة النوم ، أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد ، أنا أبو القاسم جعفر بن محمد بن المغلس أنا هارون بن إسحاق الهمذاني ، أخبرنا عبدة بن سليمان عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا نعس أحدكم وهو يصلي فليرقد حتى يذهب عنه النوم فإن أحدكم إذا صلى وهو ينعس لعله يذهب يستغفر فيسب نفسه " .قوله تعالى : ( حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا ) نصب على الحال ، يعني : ولا تقربوا الصلاة وأنتم جنب ، يقال : رجل جنب وامرأة جنب ، ورجال جنب ونساء جنب .وأصل الجنابة : البعد وسمي جنبا لأنه يتجنب موضع الصلاة ، أو لمجانبته الناس وبعده منهم ، حتى يغتسل .قوله تعالى : ( إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا ) اختلفوا في معناه ، فقالوا : [ إلا أن تكونوا مسافرين ولا تجدون الماء فتيمموا ، منع الجنب من الصلاة حتى يغتسل ] إلا أن يكون في سفر ولا يجد ماء فيصلي بالتيمم ، وهذا قول علي وابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد رضي الله عنهم .وقال الآخرون : المراد من الصلاة موضع الصلاة ، كقوله تعالى : " وبيع وصلوات " ( الحج - 40 ) ، ومعناه : لا تقربوا المسجد وأنتم جنب إلا مجتازين فيه للخروج منه ، مثل أن ينام في المسجد فيجنب أو تصيبه جنابة والماء في المسجد أو يكون طريقه عليه ، فيمر فيه ولا يقيم وهذا قول عبد الله بن مسعود وسعيد بن المسيب والضحاك والحسن وعكرمة والنخعي والزهري ، وذلك أن قوما من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد فتصيبهم الجنابة ولا ماء عندهم ولا ممر لهم إلا في المسجد ، فرخص لهم في العبور .واختلف أهل العلم فيه : فأباح بعضهم المرور فيه على الإطلاق ، وهو قول الحسن وبه قال مالك والشافعي رحمهم الله ، ومنع بعضهم على الإطلاق وهو قول أصحاب الرأي ، وقال بعضهم : يتيمم للمرور فيه .أما المكث فلا يجوز عند أكثر أهل العلم لما روينا عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " وجهوا هذه البيوت عن المسجد فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب " ، وجوز أحمد المكث فيه وضعف الحديث لأن راويه مجهول ، وبه قال المزني .ولا يجوز للجنب الطواف كما لا يجوز له الصلاة ولا يجوز له قراءة القرآن ، أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا عبد الرحمن بن أبي شريح أنا أبو القاسم البغوي أنا علي بن الجعد أنا شعبة أخبرني عمرو بن مرة قال سمعت عبد الله بن سلمة يقول : دخلت على علي رضي الله عنه فقال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي الحاجة ويأكل معنا اللحم ويقرأ القرآن وكان لا يحجبه أو لا يحجزه عن قراءة القرآن شيء إلا الجنابة " .وغسل الجنابة يجب بأحد الأمرين : إما بنزول المني أو بالتقاء الختانين ، وهو تغييب الحشفة في الفرج وإن لم ينزل ، وكان الحكم في الابتداء أن من جامع امرأته فأكسل لا يجب عليه الغسل ثم صار منسوخا .أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع ، أنا الشافعي ، أنا سفيان ، عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب أن أبا موسى الأشعري سأل عائشة رضي الله عنها عن التقاء الختانين فقالت عائشة : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا التقى الختانان ، أو مس الختان الختان فقد وجب الغسل " .قوله تعالى : ( وإن كنتم مرضى ) جمع مريض ، وأراد به مريضا يضره إمساس الماء مثل الجدري ونحوه ، أو كان على موضع طهارته جراحة يخاف من استعمال الماء فيها التلف أو زيادة الوجع ، فإنه يصلي بالتيمم وإن كان الماء موجودا ، وإن كان بعض أعضاء طهارته صحيحا والبعض جريحا غسل الصحيح منها وتيمم للجريح ، لما أخبرنا أبو طاهر عمر بن عبد العزيز القاشاني ، أنا أبو عمر القاسم بن جعفر الهاشمي ، أنا أبو علي محمد بن أحمد بن عمرو اللؤلؤي ، أنا أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني ، أنا موسى بن عبد الرحمن الأنطاكي ، أنا محمد بن سلمة عن الزبير بن خريق عن جابر بن عبد الله قال : خرجنا في سفر فأصاب رجلا منا حجر فشجه في رأسه ، فاحتلم فسأل أصحابه : هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ قالوا : ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء ، فاغتسل فمات ، فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك فقال : " قتلوه قتلهم الله ، ألا سألوا إذا لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر أو يعصب - شك الراوي - على جرحه خرقة ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده " .ولم يجوز أصحاب الرأي الجمع بين التيمم والغسل ، وقالوا : إن كان أكثر أعضائه صحيحا غسل الصحيح ولا يتيمم عليه ، وإن كان الأكثر جريحا اقتصر على التيمم .والحديث حجة لمن أوجب الجمع بينهما .قوله تعالى : ( أو على سفر ) أراد أنه إذا كان في سفر طويلا كان أو قصيرا ، وعدم الماء فإنه يصلي بالتيمم ولا إعادة عليه ، لما روي عن أبي ذر قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الصعيد الطيب وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين ، فإذا وجد الماء فليمسه بشره " .أما إذا لم يكن الرجل مريضا ولا في سفر لكنه عدم الماء في موضع لا يعدم فيه الماء غالبا بأن كان في قرية انقطع ماؤها فإنه يصلي بالتيمم ثم يعيد إذا قدر على الماء عند الشافعي ، وعند مالك والأوزاعي لا إعادة عليه ، وعند أبي حنيفة رضي الله عنه يؤخر الصلاة حتى يجد الماء .قوله تعالى : ( أو جاء أحد منكم من الغائط ) أراد به إذا أحدث ، والغائط : اسم للمطمئن من الأرض ، وكانت عادة العرب إتيان الغائط للحدث فكني عن الحدث بالغائط ، ( أو لامستم النساء ) قرأ حمزة والكسائي " لمستم " هاهنا وفي المائدة ، وقرأ الباقون ( لامستم النساء )واختلفوا في معنى اللمس والملامسة ، فقال قوم : المجامعة ، وهو قول ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة ، وكني باللمس [ عن الجماع لأن الجماع لا يحصل إلا باللمس ] .وقال قوم : هما التقاء البشرتين سواء كان بجماع أو غير جماع ، وهو قول ابن مسعود وابن عمر ، والشعبي والنخعي .واختلف الفقهاء في حكم الآية فذهب جماعة إلى أنه إذا أفضى الرجل بشيء من بدنه إلى شيء من بدن المرأة ولا حائل بينهما ، ينتقض وضوءهما ، وهو قول ابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهما ، وبه قال الزهري والأوزاعي والشافعي رضي الله عنهم .وقال مالك والليث بن سعد وأحمد وإسحاق : إن كان اللمس بشهوة نقض الطهر ، وإن لم يكن بشهوة فلا ينتقض .وقال قوم : لا ينتقض الوضوء باللمس بحال ، وهو قول ابن عباس وبه قال الحسن والثوري .وقال أبو حنيفة رضي الله عنه لا ينتقض إلا أن يحدث الانتشار .واحتج من لم يوجب الوضوء باللمس بما أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد ، أنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن أبي النضر مولى عمر بن عبد الله ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت : كنت أنام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجلاي في قبلته فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي وإذا قام بسطتهما ، قالت والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح .أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد ، أنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن يحيى بن سعيد ، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي ، أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : كنت نائمة إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم ففقدته من الليل فلمسته بيدي فوضعت يدي على قدميه وهو ساجد وهو يقول : " أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك " .واختلف قول الشافعي رضي الله عنه فيما لو لمس امرأة من محارمه كالأم والبنت والأخت أو لمس أجنبية صغيرة ، أصح القولين أنه لا ينقض الوضوء لأنها ليست بمحل الشهوة كما لو لمس رجلا .واختلف قوله في انتقاض وضوء الملموس على قولين ، أحدهما : ينتقض لاشتراكهما في الالتذاذ كما يجب الغسل عليهما بالجماع ، والثاني : لا ينتقض لحديث عائشة رضي الله عنها حيث قالت : فوضعت يدي على قدميه وهو ساجد .ولو لمس شعر امرأة أو سنها أو ظفرها لم ينتقض وضوءه عنده .واعلم أن المحدث لا تصح صلاته ما لم يتوضأ إذا وجد الماء أو يتيمم إذا لم يجد الماء . أخبرنا حسان بن سعيد المنيعي ، أخبرنا أبو طاهر الزيادي ، أنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان ، أنا أحمد بن يوسف السلمي ، أنا عبد الرزاق ، أنا معمر ، عن همام بن منبه ، أنا أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تقبل صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ " .والحدث هو خروج الخارج من أحد الفرجين عينا كان أو أثرا ، والغلبة على العقل بجنون أو إغماء على أي حال كان ، وأما النوم فمذهب الشافعي رضي الله عنه أنه يوجب الوضوء إلا أن ينام قاعدا متمكنا فلا وضوء عليه ، لما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أخبرنا عبد العزيز الخلال ، أنا أبو العباس الأصم ، أخبرنا الربيع ، أنا الشافعي ، أنا الثقة عن حميد الطويل ، عن أنس رضي الله عنهما قال : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرون العشاء فينامون ، أحسبه قال قعودا حتى تخفق رءوسهم ثم يصلون ولا يتوضئون .وذهب قوم إلى أن النوم يوجب الوضوء بكل حال وهو قول أبي هريرة رضي الله عنه وعائشة رضي الله عنها ، وبه قال الحسن وإسحاق والمزني ، وذهب قوم إلى أنه لو نام قائما أو قاعدا أو ساجدا فلا وضوء عليه حتى ينام مضطجعا وبه قال الثوري وابن المبارك وأصحاب الرأي .واختلفوا في مس الفرج من نفسه أو من غيره فذهب جماعة إلى أنه يوجب الوضوء وهو قول عمر وابن عباس وسعد بن أبي وقاص وأبي هريرة وعائشة رضي الله عنها ، وبه قال سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وعروة بن الزبير ، وإليه ذهب الأوزاعي والشافعي ، وأحمد وإسحاق ، وكذلك المرأة تمس فرجها ، غير أن الشافعي رضي الله عنه يقول لا ينتقض إلا أن يمس ببطن الكف أو بطون الأصابع .واحتجوا بما أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن عبد الله بن أبي بكر محمد بن محمد بن عمرو بن حزم أنه سمع عروة بن الزبير يقول : دخلت على مروان بن الحكم فذكرنا ما يكون منه الوضوء ، فقال مروان : من مس الذكر الوضوء ، فقال عروة : ما علمت ذلك ، فقال مروان : أخبرتني بسرة بنت صفوان أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إذا مس أحدكم ذكره فليتوضأ " .وذهب جماعة إلى أنه لا يوجب الوضوء ، روي ذلك عن علي وابن مسعود وأبي الدرداء وحذيفة وبه قال الحسن ، وإليه ذهب الثوري وابن المبارك وأصحاب الرأي .واحتجوا بما روي عن طلق بن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن مس الرجل ذكره ، فقال : " هل هو إلا بضعة منك " ؟ ويروى " هل هو إلا بضعة أو مضغة منه " .ومن أوجب الوضوء منه قال : هذا منسوخ بحديث بسرة لأن أبا هريرة يروي أيضا : أن الوضوء من مس الذكر ، وهو متأخر الإسلام ، وكان قدوم طلق بن علي على رسول الله صلى الله عليه وسلم أول زمن الهجرة حين كان يبني المسجد .واختلفوا في خروج النجاسة من غير الفرجين بالفصد والحجامة وغيرهما من القيء ونحوه ، فذهب جماعة إلى أنه لا يوجب الوضوء ، روي ذلك عن عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس ، وبه قال عطاء وطاوس والحسن وسعيد بن المسيب وإليه ذهب مالك والشافعي .وذهبت جماعة إلى إيجاب الوضوء بالقيء والرعاف والفصد والحجامة منهم سفيان الثوري وابن المبارك وأصحاب الرأي وأحمد وإسحاق .واتفقوا على أن القليل منه وخروج الريح من غير السبيلين لا يوجب الوضوء ولو أوجب الوضوء كثيره لأوجب قليله كالفرج .( فلم تجدوا ماء فتيمموا ) اعلم أن التيمم من خصائص هذه الأمة ، روى حذيفة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فضلنا على الناس بثلاث : جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة ، وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا ، وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء " .وكان بدء التيمم ما أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي ، أخبرنا أبو علي زاهر بن أحمد السرخسي ، أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي ، أخبرنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش انقطع عقد لي فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على التماسه وأقام الناس معه ، وليسوا على ماء وليس معهم ماء فأتى الناس أبا بكر رضي الله عنه فقالوا ألا ترى ما صنعت عائشة أقامت برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالناس معه ، وليسوا على ماء وليس معهم ماء فجاء أبو بكر رضي الله عنه ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع رأسه على فخذي قد نام فقال : أحبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء ، قالت : فعاتبني أبو بكر رضي الله عنه وقال ما شاء الله أن يقول ، وجعل يطعن بيده في خاصرتي فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أصبح على غير ماء ، فأنزل الله تعالى آية التيمم ( فتيمموا ) فقال أسيد بن حضير وهو أحد النقباء : ما هذه بأول بركتكم يا آل أبي بكر ، قالت عائشة رضي الله عنها : فبعثنا البعير الذي كنت عليه فوجدنا العقد تحته .وأخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا عبيد بن إسماعيل ، أنا أبو أسامة ، عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة رضي الله عنها : أنها استعارت من أسماء قلادة فهلكت : فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسا من أصحابه في طلبها فأدركتهم الصلاة فصلوا بغير وضوء ، فلما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم شكوا ذلك إليه فنزلت آية التيمم . فقال أسيد بن حضير : جزاك الله خيرا فوالله ما نزل بك أمر قط إلا جعل الله لك منه مخرجا وجعل للمسلمين فيه بركة .( فتيمموا ) أي : اقصدوا ، ( صعيدا طيبا ) أي : ترابا طاهرا نظيفا ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : الصعيد هو التراب .واختلف أهل العلم فيما يجوز به التيمم ، فذهب الشافعي رحمه الله تعالى إلى أنه يختص بما يقع عليه اسم التراب مما يعلق باليد منه غبار ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " وجعلت تربتها لنا طهورا " .وجوز أصحاب الرأي التيمم بالزرنيخ والجص والنورة وغيرها من طبقات الأرض ، حتى قالوا : لو ضرب يديه على صخرة لا غبار عليها أو على التراب ثم نفخ فيه حتى زال كله فمسح به وجهه ويديه صح تيممه ، وقالوا : الصعيد وجه الأرض ، لما روي عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا " .وهذا مجمل ، وحديث حذيفة في تخصيص التراب مفسر ، والمفسر من الحديث يقضي على المجمل .وجوز بعضهم التيمم بكل ما هو متصل بالأرض من شجر ونبات ، ونحوهما وقال : إن الصعيد اسم لما تصاعد على وجه الأرض .والقصد إلى التراب شرط لصحة التيمم ، لأن الله تعالى قال : ( فتيمموا ) والتيمم : القصد ، حتى لو وقف في مهب الريح فأصاب الغبار وجهه ونوى لم يصح .قوله تعالى : ( فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن الله كان عفوا غفورا ) اعلم أن مسح الوجه واليدين واجب في التيمم ، واختلفوا في كيفيته : فذهب أكثر أهل العلم إلى أنه يمسح الوجه واليدين مع المرفقين ، بضربتين ، يضرب كفيه على التراب فيمسح جميع وجهه ، ولا يجب إيصال التراب إلى ما تحت الشعور ، ثم يضرب ضربة أخرى فيمسح يديه إلى المرفقين ، لما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد بن الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع ، أنا الشافعي ، أنا إبراهيم بن محمد ، عن أبي الحويرث ، عن الأعرج ، عن أبي الصمة قال : مررت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول فسلمت عليه فلم يرد علي حتى قام إلى جدار فحته بعصا كانت معه ، ثم وضع يديه على الجدار فمسح وجهه وذراعيه ثم رد علي " ففيه دليل على وجوب مسح اليدين إلى المرفقين كما يجب غسلهما في الوضوء إلى المرفقين ، ودليل على أن التيمم لا يصح ما لم يعلق باليد غبار التراب ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم حت الجدار بالعصا ، ولو كان مجرد الضرب كافيا لما كان حته .وذهب الزهري إلى أنه يمسح اليدين إلى المنكبين ، لما روي عن عمار أنه قال : تيممنا إلى المناكب .وذلك حكاية فعله لم ينقله عن النبي صلى الله عليه وسلم ، كما روي أنه قال : أجنبت فتمعكت في التراب ، فلما سأل النبي صلى الله عليه وسلم أمره بالوجه والكفين .وذهب جماعة إلى أن التيمم ضربة واحدة للوجه والكفين ، وهو قول علي وابن عباس رضي الله عنهم ، وبه قال الشعبي وعطاء بن أبي رباح ومكحول ، وإليه ذهب الأوزاعي وأحمد وإسحاق ، واحتجوا بما أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا آدم ، أنا شعبة ، أخبرنا الحكم ، عن ذر ، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى ، عن أبيه قال : جاء رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال : إني أجنبت فلم أصب الماء ، فقال عمار بن ياسر لعمر بن الخطاب : أما تذكر أنا كنا في سفر أنا وأنت ، فأما أنت فلم تصل ، وأما أنا فتمعكت فصليت فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إنما كان يكفيك هكذا ، فضرب النبي صلى الله عليه وسلم بكفيه الأرض ونفخ فيهما ، ثم مسح بهما وجهه وكفيه " .وقال محمد بن إسماعيل أنا محمد بن كثير عن شعبة بإسناده فقال عمار لعمر رضي الله عنه : تمعكت فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " يكفيك الوجه والكفان " .وفي الحديث دليل على أن الجنب إذا لم يجد الماء يصلي بالتيمم ، وكذا الحائض والنفساء إذا طهرتا وعدمتا الماء .وذهب عمر وابن مسعود رضي الله عنهما إلى أن الجنب لا يصلي بالتيمم بل يؤخر الصلاة إلى أن يجد الماء فيغتسل ، وحملا قوله تعالى : ( أو لامستم النساء ) على اللمس باليد دون الجماع ، وحديث عمار رضي الله عنه حجة ، وكان عمر نسي ما ذكر له عمار فلم يقنع بقوله . وروي أن ابن مسعود رضي الله عنه رجع عن قوله وجوز التيمم للجنب ، والدليل عليه أيضا : ما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع ، أنا الشافعي ، أنا إبراهيم بن محمد بن عياد بن منصور ، عن أبي رجاء العطاردي ، عن عمران بن حصين رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر رجلا كان جنبا أن يتيمم ثم يصلي فإذا وجد الماء اغتسل .وأخبرنا عمر بن عبد العزيز ، أنا أبو القاسم بن جعفر الهاشمي ، أنا أبو علي اللؤلؤي ، أنا أبو داود السجستاني ، أنا مسدد ، أنا خالد الواسطي ، عن خالد الحذاء ، عن أبي عمرو ، عن بجدان ، عن أبي ذر رضي الله عنهم قال : اجتمعت غنيمة من الصدقة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا أبا ذر ابد فيها ، فبدوت إلى الربذة وكانت تصيبني الجنابة فأمكث الخمس والست ، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " الصعيد الطيب وضوء المسلم ولو إلى عشر سنين ، فإذا وجدت الماء فأمسه جلدك فإن ذلك خير " .ومسح الوجه واليدين في التيمم ، تارة يكون بدلا من غسل جميع البدن في حق الجنب والحائض والنفساء والميت ، وتارة يكون بدلا عن غسل الأعضاء الأربع في حق المحدث ، وتارة يكون بدلا عن غسل بعض أعضاء الطهارة ، بأن يكون على بعض أعضاء طهارته جراحة لا يمكنه غسل محلها ، فعليه أن يتيمم بدلا عن غسله .ولا يصح التيمم لصلاة الوقت إلا بعد دخول الوقت ، ولا يجوز أن يجمع بين فريضتين بتيمم واحد ، لأن الله تعالى قال : ( إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم ) إلى أن قال : ( فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا ) ظاهر الآية يدل على وجوب الوضوء أو التيمم إذا لم يجد الماء عند كل صلاة ، إلا أن الدليل قد قام في الوضوء فإن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوم فتح مكة الصلوات بوضوء واحد ، فبقي التيمم على ظاهره ، وهذا قول علي وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم ، وبه قال الشعبي والنخعي وقتادة ، وإليه ذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحاق .وذهب جماعة إلى أن التيمم كالطهارة بالماء يجوز تقديمه على وقت الصلاة ، ويجوز أن يصلي به ما شاء من الفرائض ما لم يحدث ، وهو قول سعيد بن المسيب والحسن والزهري والثوري وأصحاب الرأي .واتفقوا على أنه يجوز أن يصلي بتيمم واحد مع الفريضة ما شاء من النوافل ، قبل الفريضة وبعدها ، وأن يقرأ القرآن إن كان جنبا ، وإن كان تيممه بعذر السفر وعدم الماء فيشترط طلب الماء ، وهو أن يطلبه من رحله ورفقائه .وإن كان في صحراء لا حائل دون نظره ينظر حواليه ، وإن كان دون نظره حائل قريب من تل أو جدار عدل عنه ، لأن الله تعالى قال : ( فلم تجدوا ماء فتيمموا ) ولا يقال : لم يجد الماء : إلا لمن طلب .وعند أبي حنيفة رضي الله عنه : طلب الماء ليس بشرط ، فإن رأى الماء ولكن بينه وبين الماء حائل من عدو أو سبع يمنعه من الذهاب إليه ، أو كان الماء في البئر وليس معه آلة الاستقاء ، فهو كالمعدوم ، يصلي بالتيمم ولا إعادة عليه .