تَفْسِيرُ ٱلْمُيَسَّر
Tafsir Al-Muyassar —
کنگ فہد قرآن کمپلیکس
وكما أوحينا إلى الأنبياء من قبلك -أيها النبي- أوحينا إليك قرآنًا من عندنا، ما كنت تدري قبله ما الكتب السابقة ولا الإيمان ولا الشرائع الإلهية؟ ولكن جعلنا القرآن ضياء للناس نهدي به مَن نشاء مِن عبادنا إلى الصراط المستقيم. وإنك -أيها الرسول- لَتَدُلُّ وَتُرْشِدُ بإذن الله إلى صراط مستقيم- وهو الإسلام- صراط الله الذي له ملك جميع ما في السموات وما في الأرض، لا شريك له في ذلك. ألا إلى الله- أيها الناس- ترجع جميع أموركم من الخير والشر، فيجازي كلا بعمله: إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر.
تَفْسِيرُ ٱلْجَلَالَيْنِ
Tafsir al-Jalalayn —
جلال الدین محلی اور جلال الدین سیوطی
«وكذلك» أي مثل إيحائنا إلى غيرك من الرسل «أوحينا إليك» يا محمد «روحاً» هو القرآن به تحيا القلوب «من أمرنا» الذي نوحيه إليك «ما كنت تدري» تعرف قبل الوحي إليك «ما الكتاب» القرآن «ولا الإيمان» أي شرائعه ومعالمه والنفي معلق للفعل عن العمل وما بعده سد مسد المفعولين «ولكن جعلناه» أي الروح أو الكتاب «نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي» تدعو بالوحي إليك «إلى صراط» طريق «مستقيم» دين الإسلام.
تَفْسِيرُ ٱلْقُرْطُبِيِّ
Tafsir al-Qurtubi —
علامہ قرطبی
قوله تعالى : وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيمفيه أربع مسائل : الأولى : قوله تعالى : وكذلك أوحينا إليك أي وكالذي أوحينا إلى الأنبياء من قبلك [ ص: 52 ] أوحينا إليك روحا أي : نبوة ، قاله ابن عباس . الحسن وقتادة : رحمة من عندنا . السدي : وحيا . الكلبي : كتابا . الربيع : هو جبريل . الضحاك : هو القرآن . وهو قول مالك بن دينار . وسماه روحا لأن فيه حياة من موت الجهل . وجعله من أمره بمعنى أنزله كما شاء على من يشاء من النظم المعجز والتأليف المعجب . ويمكن أن يحمل قوله : ويسألونك عن الروح على القرآن أيضا قل الروح من أمر ربي أي : يسألونك من أين لك هذا القرآن ؟ ، قل إنه من أمر الله أنزل علي معجزا ، ذكره القشيري . وكان مالك بن دينار يقول : يا أهل القرآن ، ماذا زرع القرآن في قلوبكم ؟ فإن القرآن ربيع القلوب كما أن الغيث ربيع الأرض .الثانية : قوله تعالى : ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان أي لم تكن تعرف الطريق إلى الإيمان . وظاهر هذا يدل على أنه ما كان قبل الإيحاء متصفا بالإيمان . قال القشيري : وهو من مجوزات العقول ، والذي صار إليه المعظم أن الله ما بعث نبيا إلا كان مؤمنا به قبل البعثة . وفيه تحكم ، إلا أن يثبت ذلك بتوقيف مقطوع به . قال القاضي أبو الفضل عياض وأما عصمتهم من هذا الفن قبل النبوة فللناس فيه خلاف ، والصواب أنهم معصومون قبل النبوة من الجهل بالله وصفاته والتشكك في شيء من ذلك . وقد تعاضدت الأخبار والآثار عن الأنبياء بتنزيههم عن هذه النقيصة منذ ولدوا ، ونشأتهم على التوحيد والإيمان ، بل على إشراق أنوار المعارف ونفحات ألطاف السعادة ، ومن طالع سيرهم منذ صباهم إلى مبعثهم حقق ذلك ، كما عرف من حال موسى وعيسى ويحيى وسليمان وغيرهم عليهم السلام . قال الله تعالى : وآتيناه الحكم صبيا قال المفسرون : أعطي يحيى العلم بكتاب الله في حال صباه . قال معمر : كان ابن سنتين أو ثلاث ، فقال له الصبيان : لم لا تلعب! فقال : أللعب خلقت! وقيل في قوله : مصدقا بكلمة من الله صدق يحيى بعيسى وهو ابن ثلاث سنين ، فشهد له أنه كلمة الله وروحه وقيل : صدقه وهو في بطن أمه ، فكانت أم يحيى تقول لمريم إني أجد ما في بطني يسجد لما في بطنك تحية له . وقد نص الله على كلام عيسى لأمه عند ولادتها إياه بقوله : ألا تحزني على قراءة من قرأ " من تحتها " ، وعلى قول من قال : إن المنادي عيسى ونص على كلامه في مهده فقال : إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا . وقال : [ ص: 53 ] ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما وقد ذكر من حكم سليمان وهو صبي يلعب في قصة المرجومة وفي قصة الصبي ما اقتدى به أبوه داود . وحكى الطبري أن عمره كان حين أوتي الملك اثني عشر عاما . وكذلك قصة موسى - عليه السلام - مع فرعون وأخذه بلحيته وهو طفل . وقال المفسرون في قوله تعالى : ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل أي : هديناه صغيرا ، قاله مجاهد وغيره . وقال ابن عطاء : اصطفاه قبل إبداء خلقه . وقال بعضهم : لما ولد إبراهيم بعث الله إليه ملكا يأمره عن الله تعالى أن يعرفه بقلبه ويذكره بلسانه فقال : قد فعلت ، ولم يقل أفعل ، فذلك رشده . وقيل : إن إلقاء إبراهيم في النار ومحنته كانت وهو ابن ست عشرة سنة . وإن ابتلاء إسحاق بالذبح وهو ابن سبع سنين . وإن استدلال إبراهيم بالكوكب والقمر والشمس كان وهو ابن خمس عشرة سنة . وقيل : أوحي إلى يوسف وهو صبي عندما هم إخوته بإلقائه في الجب بقوله تعالى : وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا الآية ، إلى غير ذلك من أخبارهم . وقد حكى أهل السير أن آمنة بنت وهب أخبرت أن نبينا محمدا - صلى الله عليه وسلم - ولد حين ولد باسطا يديه إلى الأرض رافعا رأسه إلى السماء ، وقال في حديثه - صلى الله عليه وسلم - : لما نشأت بغضت إلي الأوثان وبغض إلي الشعر ولم أهم بشيء مما كانت الجاهلية تفعله إلا مرتين فعصمني الله منهما ثم لم أعد . ثم يتمكن الأمر لهم ، وتترادف نفحات الله تعالى عليهم ، وتشرق أنوار المعارف في قلوبهم حتى يصلوا الغاية ، ويبلغوا باصطفاء الله تعالى لهم بالنبوة في تحصيل الخصال الشريفة النهاية دون ممارسة ولا رياضة . قال الله تعالى : ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما .قال القاضي : ولم ينقل أحد من أهل الأخبار أن أحدا نبئ واصطفي ممن عرف بكفر وإشراك قبل ذلك . ومستند هذا الباب النقل . وقد استدل بعضهم بأن القلوب تنفر عمن كانت هذه سبيله . قال القاضي : وأنا أقول إن قريشا قد رمت نبينا - عليه السلام - بكل ما افترته ، وعير كفار الأمم أنبياءها بكل ما أمكنها واختلقته ، مما نص الله عليه أو نقلته إلينا الرواة ، ولم نجد في شيء من ذلك تعييرا لواحد منهم برفضه آلهتهم وتقريعه بذمه بترك ما كان قد جامعهم عليه . ولو كان هذا لكانوا بذلك مبادرين ، وبتلونه في معبوده محتجين ، [ ص: 54 ] ولكان توبيخهم له بنهيهم عما كان يعبد قبل أفظع وأقطع في الحجة من توبيخه بنهيهم عن تركه آلهتهم وما كان يعبد آباؤهم من قبل ، ففي إطباقهم على الإعراض عنه دليل على أنهم لم يجدوا سبيلا إليه ، إذ لو كان لنقل وما سكتوا عنه كما لم يسكتوا عن تحويل القبلة وقالوا : ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها كما حكاه الله عنهم .الثالثة : وتكلم العلماء في نبينا - صلى الله عليه وسلم - ، هل كان متعبدا بدين قبل الوحي أم لا ، فمنهم من منع ذلك مطلقا وأحاله عقلا . قالوا : لأنه يبعد أن يكون متبوعا من عرف تابعا ، وبنوا هذا على التحسين والتقبيح . وقالت فرقة أخرى : بالوقف في أمره - عليه السلام - وترك قطع الحكم عليه بشيء في ذلك ، إذ لم يحل الوجهين منهما العقل ولا استبان عندها في أحدهما طريق النقل ، وهذا مذهب أبي المعالي . وقالت فرقة ثالثة : إنه كان متعبدا بشرع من قبله وعاملا به ، ثم اختلف هؤلاء في التعيين ، فذهبت طائفة إلى أنه كان على دين عيسى فإنه ناسخ لجميع الأديان والملل قبلها ، فلا يجوز أن يكون النبي على دين منسوخ . وذهبت طائفة إلى أنه كان على دين إبراهيم ; لأنه من ولده وهو أبو الأنبياء . وذهبت طائفة إلى أنه كان على دين موسى ; لأنه أقدم الأديان . وذهبت المعتزلة إلى أنه لا بد أن يكون على دين ولكن عين الدين غير معلومة عندنا . وقد أبطل هذه الأقوال كلها أئمتنا ، إذ هي أقوال متعارضة وليس فيها دلالة قاطعة ، وإن كان العقل يجوز ذلك كله . والذي يقطع به أنه - عليه السلام - لم يكن منسوبا إلى واحد من الأنبياء نسبة تقتضي أن يكون واحدا من أمته ومخاطبا بكل شريعته ، بل شريعته مستقلة بنفسها مفتتحة من عند الله الحاكم - جل وعز - وأنه - صلى الله عليه وسلم - كان مؤمنا بالله عز وجل ، ولا سجد لصنم ، ولا أشرك بالله ، ولا زنى ولا شرب الخمر ، ولا شهد السامر ولا حضر حلف المطر ولا حلف المطيبين ، بل نزهه الله وصانه عن ذلك . فإن قيل : فقد روى عثمان بن أبي شيبة حديثا بسنده عن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد كان يشهد مع المشركين مشاهدهم ، فسمع ملكين خلفه أحدهما يقول لصاحبه : اذهب حتى تقوم خلفه ، فقال الآخر : كيف أقوم خلفه وعهده باستلام الأصنام [ ص: 55 ] فلم يشهدهم بعد ؟ فالجواب أن هذا حديث أنكره الإمام أحمد بن حنبل جدا وقال : هذا موضوع أو شبيه بالموضوع . وقال الدارقطني : إن عثمان وهم في إسناده ، والحديث بالجملة منكر غير متفق على إسناده فلا يلتفت إليه ، والمعروف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - خلافه عند أهل العلم من قوله : بغضت إلي الأصنام وقوله في قصة بحيرا حين استحلف النبي - صلى الله عليه وسلم - باللات والعزى إذ لقيه بالشام في سفرته مع عمه أبي طالب وهو صبي ، ورأى فيه علامات النبوة فاختبره بذلك ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : لا تسألني بهما فوالله ما أبغضت شيئا قط بغضهما فقال له بحيرا : فبالله إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه ، فقال : سل عما بدا لك . وكذلك المعروف من سيرته - عليه السلام - وتوفيق الله إياه له أنه كان قبل نبوته يخالف المشركين في وقوفهم بمزدلفة في الحج ، وكان يقف هو بعرفة ، لأنه كان موقف إبراهيم عليه السلام . فإن قيل : فقد قال الله تعالى : قل بل ملة إبراهيم وقال : أن اتبع ملة إبراهيم وقال : شرع لكم من الدين الآية . وهذا يقتضي أن يكون متعبدا بشرع . فالجواب أن ذلك فيما لا تختلف فيه الشرائع من التوحيد وإقامة الدين ، على ما تقدم بيانه في غير موضع وفي هذه السورة عند قوله : شرع لكم من الدين والحمد لله .الرابعة : إذا تقرر هذا فاعلم أن العلماء اختلفوا في تأويل قوله تعالى : ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان فقال جماعة : معنى الإيمان في هذه الآية شرائع الإيمان ومعالمه ، ذكره الثعلبي . وقيل : تفاصيل هذا الشرع ، أي : كنت غافلا عن هذه التفاصيل . ويجوز إطلاق لفظ الإيمان على تفاصيل الشرع ، ذكره القشيري : وقيل : ما كنت تدري قبل الوحي أن تقرأ القرآن ، ولا كيف تدعو الخلق إلى الإيمان ، ونحوه عن أبي العالية . وقال بكر القاضي : ولا الإيمان الذي هو الفرائض والأحكام . قال : وكان قبل مؤمنا بتوحيده ثم نزلت الفرائض التي لم يكن يدريها قبل ، فزاد بالتكليف إيمانا . وهذه الأقوال الأربعة متقاربة . وقال ابن خزيمة : عنى بالإيمان الصلاة ، لقوله تعالى : وما كان الله ليضيع إيمانكم أي : صلاتكم إلى بيت المقدس ، فيكون اللفظ عاما والمراد الخصوص .وقال الحسين بن الفضل : أي : ما كنت تدري ما الكتاب ولا أهل الإيمان . وهو من باب حذف المضاف ، أي : من الذي يؤمن ؟ أبو طالب أو العباس أو غيرهما . وقيل : ما كنت تدري شيئا إذ كنت في المهد وقبل البلوغ . وحكى الماوردي نحوه عن علي بن عيسى قال : ما كنت تدري ما الكتاب لولا الرسالة ، ولا الإيمان [ ص: 56 ] لولا البلوغ . وقيل : ما كنت تدري ما الكتاب لولا إنعامنا عليك ، ولا الإيمان لولا هدايتنا لك ، وهو محتمل . وفي هذا الإيمان وجهان : أحدهما : أنه الإيمان بالله ، وهذا يعرفه بعد بلوغه وقبل نبوته . والثاني : أنه دين الإسلام ، وهذا لا يعرفه إلا بعد النبوة .قلت : الصحيح أنه - صلى الله عليه وسلم - كان مؤمنا بالله - عز وجل - من حين نشأ إلى حين بلوغه ، على ما تقدم . وقيل : ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان أي : كنت من قوم أميين لا يعرفون الكتاب ولا الإيمان ، حتى تكون قد أخذت ما جئتهم به عمن كان يعلم ذلك منهم ، وهو كقوله تعالى : وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون روي معناه عن ابن عباس - رضي الله عنهما .ولكن جعلناه قال ابن عباس والضحاك : يعني الإيمان . السدي : القرآن وقيل الوحي ، أي : جعلنا هذا الوحي نورا نهدي به من نشاء أي من نختاره للنبوة ، كقوله تعالى : يختص برحمته من يشاء ووحد الكتابة لأن الفعل في كثرة أسمائه بمنزلة الفعل في الاسم الواحد ، ألا ترى أنك تقول : إقبالك وإدبارك يعجبني ، فتوحد ، وهما اثنان .وإنك لتهدي أي تدعو وترشد إلى صراط مستقيم دين قويم لا اعوجاج فيه . وقال علي : إلى كتاب مستقيم . وقرأ عاصم الجحدري وحوشب ( وإنك لتهدى ) غير مسمى الفاعل ، أي : لتدعى . الباقون ( لتهدي ) مسمي الفاعل . وفي قراءة أبي ( وإنك لتدعو ) . قال النحاس : وهذا لا يقرأ به ; لأنه مخالف للسواد ، وإنما يحمل ما كان مثله على أنه من قائله على جهة التفسير ، كما قال : وإنك لتهدي أي : لتدعو . وروى معمر عن قتادة في قوله تعالى : وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم قال : ولكل قوم هاد .
تَنْوِيرُ ٱلْمِقْبَاسِ مِن تَفْسِيرِ ٱبْنِ عَبَّاس
Tafsir Tanwir al-Miqbas —
حضرت ابن عباسؓ
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) عطف على جملة { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً حَكِيمٌ * وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الكتاب وَلاَ الإيمان ولكن جعلناه نُوراً نَّهْدِى بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا } [ الشورى : 51 ] الآية ، وهذا دليل عليهم أن القرآن أُنزل من عند الله أعقب به إبطال شبهتهم التي تقدم لإبطالها قوله : { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً الآية ، أي كان وحينا إليك مثلَ كلامنا الذي كلّمنا به من قبلك على ما صُرح به في قوله تعالى : إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيئين من بعده } [ النساء : 163 ] . والمقصود من هذا هو قوله : { ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان } .والإشارة إلى سابق في الكلام وهو المذكور آنفاً في قوله : { وما كان لبشرٍ أن يكلمه الله إلا وحياً } [ الشورى : 51 ] الآية ، أي ومثل الذي ذكر من تكليم الله وَحْيُنا إليك رُوحاً من أمرنا ، فيكون على حد قول الحارث بن حلزة: ... مِثْلَها تَخْرُج النصيحةُ للقومفَلاَةً من دونها أفْلاَءُ ... أي مثل نصيحتنا التي نصحناها للملك عمرو بن هند تكون نصيحة الأقوام بعضهم لبعض لأنها نصيحة قرابة ذوي أرحام . ويجوز أن تكون الإشارة إلى ما يأتي من بعدُ وهو الإيحاء المأخوذُ من أوحينا إليك } ، أي مثل إيحائنا إليك أوحينا إليك ، أي لو أريد تشبيه إيحائنا إليك في رفعة القدر والهُدَى ما وجد له شَبيه إلا نفسُه على طريقة قوله تعالى : { وكذلك جعلناكم أمةً وسَطاً } كما تقدم في سورة البقرة ( 143 ) . والمعنى : إنّ ما أوحينا إليك هو أعزّ وأشرف وحي بحيث لا يماثله غيره .وكلا المعنيين صالح هنا فينبغي أن يكون كلاهما مَحْمَلاً للآية على نحو ما ابتكرناه في المقدمة التاسعة من هذا التفسير . ويؤخذ من هذه الآية أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم قد أعطي أنواع الوحي الثلاثة ، وهو أيضاً مقتضى الغرض من مساق هذه الآيات .والروح : ما به حياة الإنسان ، وقد تقدم عند قوله تعالى : { ويسألونك عن الرّوح } في سورة الإسراء ( 85 ) . وأطلق الروح هنا مجازاً على الشريعة التي بها اهتداء النفوس إلى ما يعود عليهم بالخير في حياتهم الأولى وحياتهم الثانية ، شبهت هداية عقولهم بعد الضلالة بحلول الروح في الجسد فيصير حَيّاً بعد أن كان جُثّة .ومعنى { من أمرنا } مما استأثرنا بخلقه وحجبناه عن النّاس فالأمر المضاف إلى الله بمعنى الشأن العظيم ، كقولهم : أمِرَ أمْر فلان ، أي شأنه ، وقوله تعالى : { بإذن ربّهم من كل أمر } [ القدر : 4 ] .والمراد بالروح من أمر الله : ما أوحي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم من الإرشاد والهداية سواء كان بتلقين كلام معين مأمور بإبلاغه إلى النّاس بلفظه دون تغيّر وهو الوحي القرآني المقصود منه أمران : الهداية والإعجاز ، أم كان غير مقيد بذلك بل الرّسول مأمور بتبليغ المعنى دون اللّفظ وهو ما يكون بكلام غير مقصود به الإعجاز ، أو بإلقاء المعنى إلى الرّسول بمشافهة المَلككِ ، وللرّسول في هذا أن يتصرف من ألفاظ ما أُوحي إليه بما يريد التعبير به أو برؤيا المنام أو بالإلقاء في النّفس كما تقدم .واختتام هذه السورة بهذه الآية مع افتتاحها بقوله : { كذلك أوحينا إليك } [ الشورى : 7 ] الآية فيه محسن ردّ العجز على الصدر .وجملة { ما كنت تدري ما الكتاب } في موضع الحال من ضمير { أوحينا } أي أوحينا إليك في حال انتفاء علمك بالكتاب والإيمان ، أي أفضنا عليك موهبة الوحي في حال خلوّك عن علم الكتاب وعِلم الإيمان . وهذا تحدَ للمعاندين ليتأملوا في حال الرّسول صلى الله عليه وسلم فيعلموا أن ما أوتيه من الشريعة والآداب الخُلقية هو من مواهب الله تعالى التي لم تسبق له مزاولتها ، ويَتضمن امتناناً عليه وعلى أمته المسلمين .ومعنى عدم دراية الكتاب : عدم تعلق علمه بقراءة كتاب أو فهمه . ومعنى انتفاء دراية الإيمان : عدم تعلق علمه بما تحتوي عليه حقيقة الإيمان الشرعي من صفات الله وأصول الدين وقد يطلق الإيمان على ما يرادف الإسلام كقوله تعالى : { وما كان الله ليضيع إيمانكم } [ البقرة : 143 ] وهو الإيمان الذي يزيد وينقص كما في قوله تعالى : { ويزداد الذين آمنوا إيماناً } [ المدثر : 31 ] . فيزاد في معنى عدم دراية الإيمان انتفاء تعلق علم الرّسول صلى الله عليه وسلم بشرائع الإسلام . فانتفاء درايته بالإيمان مثل انتفاء درايته بالكتاب ، أي انتفاء العلم بحقائقه ولذلك قال : { ما كنت تدري } ولم يقل : ما كنت مؤمناً .وكلا الاحتمالين لا يقتضي أن الرّسول صلى الله عليه وسلم لم يكن مؤمناً بوجود الله ووحدانية إلهيته قبل نزول الوحي عليه إذ الأنبياء والرّسل معصومون من الشرك قبل النبوءة فهم مُوحّدُون لله ونابذون لعبادة الأصنام ، ولكنهم لا يعلمون تفاصيل الإيمان ، وكان نبيئنا صلى الله عليه وسلم في عهد جاهلية قومه يعلم بطلان عبادة الأصنام ، وإذ قد كان قومه يشركون مع الله غيره في الإلهية فبطلان إلهية الأصنام عنده تمحِّضه لإفراد الله بالإلهية لا محالة .وقد أخبر بذلك عن نفسه فيما رواه أبو نعيم في «دلائل النبوءة» عن شداد بن أوس وذكره عياض في «الشفاء» غير معزو : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمّا نَشَأت أي عقلت بُغِّضَتَ إليَّ الأوْثانُ وبُغض إليَّ الشعرُ ، ولم أهِمَّ بشيء مما كانت الجاهلية تفعله إلا مرتين فعصمني الله منهما ثم لم أَعُدْ " . وعلى شدة منازعة قريش إياه في أمر التوحيد فإنهم لم يحاجُّوه بأنه كان يعبد الأصنام معهم . وفي هذه الآية حجة للقائلين بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن متعبداً قبل نبوءته بشرع .وإدْخال { لا } النافية في قوله : { ولا الإيمان } تأكيد لنفي درايته إيّاه ، أي ما كنت تدري الكتاب ولا الإيمان ، للتنصيص على أن المنفي دراية كل واحدٍ منهما .وقوله : { ولكن جعلناه نوراً } عطف على جملة { ما كنت تدري ما الكتاب } . وضمير { جعلناه } عائد إلى الكتاب في قوله : { ما كنت تدري ما الكتاب } . والتقدير : وجعلنا الكتاب نوراً . وأقحم في الجملة المعطوفة حرف الاستدراك للتنبيه على أن مضمون هذه الجملة عكس مضمون جملة { ما كنت تدري ما الكتاب } .والاستدراك ناشىء على ما تضمنته جملة { ما كنت تدري ما الكتاب } لأن ظاهر نفي دراية الكتاب أن انتفاءها مستمر فاستدرك بأن الله هداه بالكتاب وهدى به أمته ، فالاستدراك واقع في المحزّ . والتقدير : ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ثم هديناك بالكتاب ابتداء وعرفناك به الإيمان وهَدَيت به النّاس ثانياً فاهتدى به من شِئنا هدايته ، أي وبقي على الضلال من لم نشأ له الاهتداء ، كقوله تعالى : { يضلّ به كثيراً ويهدي به كثيراً } [ البقرة : 26 ] .وشبه الكتاب بالنّور لمناسبة الهَدي به لأن الإيمان والهُدى والعلم تشبَّه بالنور ، والضلال والجهل والكفر تشبه بالظلمة ، قال تعالى : { يخرجهم من الظلمات إلى النّور } [ البقرة : 257 ] . وإذا كان السائر في الطريق في ظلمة ضل عن الطريق فإذا استنار له اهتدى إلى الطريق ، فالنّور وسيلة الاهتداء ولكن إنما يَهتدي به من لا يكون له حائل دون الاهتداء وإلا لم تنفعه وسيلة الاهتداء ولذلك قال تعالى : { نهدي به من نشاء من عبادنا } ، أي نَخلُق بسببه الهداية في نفوس الذين أعددناهم للهُدى من عبادنا . فالهداية هنا هداية خاصة وهي خلق الإيمان في القلب .
ٱلتَّفْسِيرُ ٱلْوَسِيط
Tafsir Al-Waseet —
علمائے جامعہ ازہر
ثم بين - سبحانه - جانبا من مظاهر فضله على نبيه - صلى الله عليه وسلم - فقال : ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكتاب وَلاَ الإيمان .. ) .والكاف فى قوله " كذلك " بمعنى مثل واسم الإِشارة يعود إلى ما أوحاه إلى الرسل السابقين .والمراد بالروح : القرآن - وسماه - سبحانه - روحا ، لأن الأرواح تحيا به ، كما تحيا الأبدان بالغذاء المادى .أى : ومثل إيحائنا إلى غيرك من الرسل ، أوحينا إليك - أيها الرسول الكريم ، هذا القرآن ، الذى هو بمنزلة الأرواح للأجساد ، وقد أوحيناه إليك بأمرنا وإرادتنا ومشيئتنا ، وأنت - أيها الرسول الكريم - ما كنت تعرف أو تدرك حقيقة هذا الكتاب حتى عرفناك إياه ، وما كنت تعرف أو تدرك تفاصيل ، وشرائع وأحكام هذا الذين الذى أحينا إليك بعد النبوة .فالمقصود بهذه الآية الكريمة نفى علم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بهذا القرآن قبل النبوة ، ونفى أن يكون - أيضا - عالما بتفاصيل وأحكام هذا الدين لا نفى أصل الإِيمان .وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : ( وَأَنزَلَ الله عَلَيْكَ الكتاب والحكمة وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيماً ) وقوله - سبحانه - : ( نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ هذا القرآن وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الغافلين ) والضمير فى قوله - تعالى - : ( ولكن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا ) يعود إلى القرآن الكريم ، الذى عبر عنه بالروح .أى : ولكن جعلنا هذا القرآن العظيم نورا ساطعا ، نهدى به من نشاء هدايته من عبادنا ( وَإِنَّكَ ) أيها الرسول الكريم ( لتهدي ) من أرسلناك إليهم ( إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) أى طريق واضح قويم اعوجاج فيه ولا التواء .
تَفْسِيرُ ٱلْبَغَوِيِّ
Tafsir al-Baghawi —
علامہ بغوی
( وكذلك ) أي : كما أوحينا إلى سائر رسلنا ، ( أوحينا إليك روحا من أمرنا ) قال ابن عباس : نبوة . وقال الحسن : رحمة . وقال السدي ومقاتل : وحيا . وقال الكلبي : كتابا . وقال الربيع : جبريل . وقال مالك بن دينار : يعني القرآن . ( ما كنت تدري ) قبل الوحي ، ( ما الكتاب ولا الإيمان ) يعني شرائع الإيمان ومعالمه ، قال محمد بن إسحاق بن خزيمة : " الإيمان " في هذا الموضع : الصلاة ، ودليله : قوله - عز وجل - : وما كان الله ليضيع إيمانكم ( البقرة 143 ) .وأهل الأصول على أن الأنبياء عليهم السلام كانوا مؤمنين قبل الوحي ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعبد الله قبل الوحي على دين إبراهيم ، ولم يتبين له شرائع دينه .( ولكن جعلناه نورا ) قال ابن عباس : يعني الإيمان . وقال السدي : يعني القرآن . ( نهدي به ) نرشد به ، ( من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي ) أي لتدعو ، ( إلى صراط مستقيم ) يعني الإسلام .