تَفْسِيرُ ٱلْمُيَسَّر
Tafsir Al-Muyassar —
کنگ فہد قرآن کمپلیکس
ليس عليكم حرج في أن تطلبوا رزقًا من ربكم بالربح من التجارة في أيام الحج. فإذا دفعتم بعد غروب الشمس راجعين من "عرفات" -وهي المكان الذي يقف فيه الحجاج يوم التاسع من ذي الحجة- فاذكروا الله بالتسبيح والتلبية والدعاء عند المشعر الحرام -"المزدلفة"-، واذكروا الله على الوجه الصحيح الذي هداكم إليه، ولقد كنتم من قبل هذا الهدى في ضلال لا تعرفون معه الحق.
تَفْسِيرُ ٱلْجَلَالَيْنِ
Tafsir al-Jalalayn —
جلال الدین محلی اور جلال الدین سیوطی
«ليس عليكم جناح» في «أن تبتغوا» تطلبوا «فضلا» رزقا «من ربكم» بالتجارة في الحج نزل ردا لكراهيتهم ذلك «فإذا أفضتم» دفعتم «من عرفات» بعد الوقوف بها «فاذكروا الله» بعد المبيت بمزدلفة بالتلبية والتهليل والدعاء «عند المشعر الحرام» هو جبل في آخر المزدلفة يقال له قزح وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم وقف به يذكر الله ويدعو حتى أسفر جدا رواه مسلم «واذكروه كما هداكم» لمعالم دينه ومناسك حجه والكاف للتعليل «وإن» مخففة «كنتم من قبله» قبل هداه «لمن الضالين».
تَفْسِيرُ ٱلْقُرْطُبِيِّ
Tafsir al-Qurtubi —
علامہ قرطبی
قوله تعالى : ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالينقوله تعالى : ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم فيه مسألتان :الأولى : قوله تعالى : جناح أي إثم ، وهو اسم ليس . أن تبتغوا في موضع نصب [ ص: 383 ] خبر ليس ، أي في أن تبتغوا ، وعلى قول الخليل والكسائي أنها في موضع خفض ، ولما أمر تعالى بتنزيه الحج عن الرفث والفسوق والجدال رخص في التجارة ، المعنى : لا جناح عليكم في أن تبتغوا فضل الله ، وابتغاء الفضل ورد في القرآن بمعنى التجارة ، قال الله تعالى : فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله ، والدليل على صحة هذا ما رواه البخاري عن ابن عباس قال : كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقا في الجاهلية فتأثموا أن يتجروا في المواسم فنزلت : ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج .الثانية : إذا ثبت هذا ففي الآية دليل على جواز التجارة في الحج للحاج مع أداء العبادة ، وأن القصد إلى ذلك لا يكون شركا ولا يخرج به المكلف عن رسم الإخلاص المفترض عليه ، خلافا للفقراء . أما إن الحج دون تجارة أفضل ، لعروها عن شوائب الدنيا وتعلق القلب بغيرها . روى الدارقطني في سننه عن أبي أمامة التيمي قال قلت لابن عمر : إني رجل أكري في هذا الوجه ، وإن ناسا يقولون إنه لا حج لك ، فقال ابن عمر : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله مثل هذا الذي سألتني ، فسكت حتى نزلت هذه الآية : ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن لك حجا .قوله تعالى : فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين فيه ست عشرة مسألة :الأولى : قوله تعالى : فإذا أفضتم أي اندفعتم ، ويقال : فاض الإناء إذا امتلأ حتى ينصب عن نواحيه ، ورجل فياض ، أي مندفق بالعطاء . قال زهير :وأبيض فياض يداه غمامة على معتفيه ما تغب فواضلهوحديث مستفيض ، أي شائع .الثانية : قوله تعالى : " من عرفات " قراءة الجماعة عرفات بالتنوين ، وكذلك لو [ ص: 384 ] سميت امرأة بمسلمات ; لأن التنوين هنا ليس فرقا بين ما ينصرف وما لا ينصرف فتحذفه ، وإنما هو بمنزلة النون في مسلمين . قال النحاس : هذا الجيد . وحكى سيبويه عن العرب حذف التنوين من عرفات ، يقوله : هذه عرفات يا هذا ، ورأيت عرفات يا هذا ، بكسر التاء وبغير تنوين ، قال : لما جعلوها معرفة حذفوا التنوين ، وحكى الأخفش والكوفيون فتح التاء ، تشبيها بتاء فاطمة وطلحة ، وأنشدوا :تنورتها من أذرعات وأهلها بيثرب أدنى دارها نظر عالوالقول الأول أحسن ، وأن التنوين فيه على حده في مسلمات ، الكسرة مقابلة الياء في مسلمين ، والتنوين مقابل النون . وعرفات : اسم علم ، سمي بجمع كأذرعات ، وقيل : سمي بما حوله ، كأرض سباسب ، وقيل : سميت تلك البقعة عرفات لأن الناس يتعارفون بها ، وقيل : لأن آدم لما هبط وقع بالهند ، وحواء بجدة ، فاجتمعا بعد طول الطلب بعرفات يوم عرفة وتعارفا ، فسمي اليوم عرفة ، والموضع عرفات ، قاله الضحاك ، وقيل غير هذا لما تقدم ذكره عند قوله تعالى : وأرنا مناسكنا . قال ابن عطية : والظاهر أن اسمه مرتجل كسائر أسماء البقاع ، وعرفة هي نعمان الأراك ، وفيها يقول الشاعر :تزودت من نعمان عود أراكة لهند ولكن من يبلغه هنداوقيل : هي مأخوذة من العرف وهو الطيب ، قال الله تعالى : عرفها لهم أي طيبها ، فهي طيبة بخلاف منى التي فيها الفروث والدماء ، فلذلك سميت عرفات . ويوم الوقوف يوم عرفة ، وقال بعضهم : أصل هذين الاسمين من الصبر ، يقال : رجل عارف . إذا كان صابرا خاشعا ، ويقال في المثل : النفس عروف وما حملتها تتحمل . قال [ عنترة ] :فصبرت عارفة لذلك حرة ترسو إذا نفس الجبان تطلعأي نفس صابرة .وقال ذو الرمة :[ إذا خاف شيئا وقرنه طبيعة ] عروف لما خطت عليه المقادر[ ص: 385 ] أي صبور على قضاء الله ، فسمي بهذا الاسم لخضوع الحاج وتذللهم ، وصبرهم على الدعاء وأنواع البلاء واحتمال الشدائد ، لإقامة هذه العبادة .الثالثة : أجمع أهل العلم على أن من وقف بعرفة يوم عرفة قبل الزوال ثم أفاض منها قبل الزوال أنه لا يعتد بوقوفه ذلك قبل الزوال ، وأجمعوا على تمام حج من وقف بعرفة بعد الزوال وأفاض نهارا قبل الليل ، إلا مالك بن أنس فإنه قال : لا بد أن يأخذ من الليل شيئا ، وأما من وقف بعرفة بالليل فإنه لا خلاف بين الأمة في تمام حجه ، والحجة للجمهور مطلق قوله تعالى : فإذا أفضتم من عرفات ولم يخص ليلا من نهار ، وحديث عروة بن مضرس قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الموقف من جمع ، فقلت يا رسول الله ، جئتك من جبلي طيئ أكللت مطيتي ، وأتعبت نفسي ، والله إن تركت من جبل إلا وقفت عليه ، فهل لي من حج يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من صلى معنا صلاة الغداة بجمع وقد أتى عرفات قبل ذلك ليلا أو نهارا فقد قضى تفثه وتم حجه . أخرجه غير واحد من الأئمة ، منهم أبو داود والنسائي والدارقطني واللفظ له وقال الترمذي : حديث حسن صحيح ، وقال أبو عمر : حديث عروة بن مضرس الطائي حديث ثابت صحيح ، رواه جماعة من أصحاب الشعبي الثقات عن الشعبي عن عروة بن مضرس ، منهم إسماعيل بن أبي خالد وداود بن أبي هند وزكريا بن أبي زائدة وعبد الله بن أبي السفر ومطرف ، كلهم عن الشعبي عن عروة بن مضرس بن أوس بن حارثة بن لام ، وحجة مالك من السنة الثابتة : حديث جابر الطويل ، خرجه مسلم ، وفيه : فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلا حتى غاب القرص ، وأفعاله على الوجوب ، لا سيما في الحج وقد قال : خذوا عني مناسككم .الرابعة : واختلف الجمهور فيمن أفاض قبل غروب الشمس ولم يرجع ماذا عليه مع صحة الحج ، فقال عطاء وسفيان الثوري والشافعي وأحمد وأبو ثور وأصحاب الرأي وغيرهم : عليه دم ، وقال الحسن البصري : عليه هدي ، وقال ابن جريج : عليه بدنة ، وقال مالك : عليه [ ص: 386 ] حج قابل ، والهدي ينحره في حج قابل ، وهو كمن فاته الحج . فإن عاد إلى عرفة حتى يدفع بعد مغيب الشمس فقال الشافعي : لا شيء عليه ، وهو قول أحمد وإسحاق وداود ، وبه قال الطبري ، وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري : لا يسقط عنه الدم وإن رجع بعد غروب الشمس ، وبذلك قال أبو ثور .الخامسة : ولا خلاف بين العلماء في أن الوقوف بعرفة راكبا لمن قدر عليه أفضل ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم كذلك وقف إلى أن دفع منها بعد غروب الشمس ، وأردف أسامة بن زيد وهذا محفوظ في حديث جابر الطويل وحديث علي ، وفي حديث ابن عباس أيضا . قال جابر : ( ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى الموقف ، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات ، وجعل حبل المشاة بين يديه واستقبل القبلة ، فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلا حتى غاب القرص ، وأردف أسامة بن زيد خلفه . . . ) الحديث . فإن لم يقدر على الركوب وقف قائما على رجليه داعيا ، ما دام يقدر ، ولا حرج عليه في الجلوس إذا لم يقدر على الوقوف ، وفي الوقوف راكبا مباهاة وتعظيم للحج ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب . قال ابن وهب في موطئه قال لي مالك : الوقوف بعرفة على الدواب والإبل أحب إلي من أن أقف قائما ، قال : ومن وقف قائما فلا بأس أن يستريح .السادسة : ثبت في صحيح مسلم وغيره عن أسامة بن زيد أنه عليه السلام كان إذا أفاض من عرفة يسير العنق فإذا وجد فجوة نص قال هشام بن عروة : والنص فوق العنق وهكذا ينبغي على أئمة الحاج فمن دونهم ; لأن في استعجال السير إلى المزدلفة استعجال الصلاة بها ، ومعلوم أن المغرب لا تصلى تلك الليلة إلا مع العشاء بالمزدلفة ، وتلك سنتها ، على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى .السابعة : ظاهر عموم القرآن والسنة الثابتة يدل على أن عرفة كلها موقف ، قال صلى الله عليه وسلم : [ ص: 387 ] ووقفت ها هنا وعرفة كلها موقف رواه مسلم وغيره من حديث جابر الطويل ، وفي موطأ مالك أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : عرفة كلها موقف وارتفعوا عن بطن عرنة والمزدلفة كلها موقف وارتفعوا عن بطن محسر . قال ابن عبد البر : هذا الحديث يتصل من حديث جابر بن عبد الله ، ومن حديث ابن عباس ، ومن حديث علي بن أبي طالب ، وأكثر الآثار ليس فيها استثناء بطن عرنة من عرفة ، وبطن محسر من المزدلفة ، وكذلك نقلها الحفاظ الثقات الأثبات من أهل الحديث في حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر . قال أبو عمر : واختلف الفقهاء فيمن وقف بعرفة بعرنة ، فقال مالك فيما ذكر ابن المنذر عنه : يهريق دما وحجه تام ، وهذه رواية رواها خالد بن نزار عن مالك ، وذكر أبو المصعب أنه كمن لم يقف وحجه فائت ، وعليه الحج من قابل إذا وقف ببطن عرنة ، وروي عن ابن عباس قال : من أفاض من عرنة فلا حج له ، وهو قول ابن القاسم وسالم ، وذكر ابن المنذر هذا القول عن الشافعي ، قال وبه أقول : لا يجزيه أن يقف بمكان أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يوقف به . قال ابن عبد البر : الاستثناء ببطن عرنة من عرفة لم يجئ مجيئا تلزم حجته ، لا من جهة النقل ولا من جهة الإجماع ، وحجة من ذهب مذهب أبي المصعب أن الوقوف بعرفة فرض مجمع عليه في موضع معين ، فلا يجوز أداؤه إلا بيقين ، ولا يقين مع الاختلاف . وبطن عرنة يقال بفتح الراء وضمها ، وهو بغربي مسجد عرفة ، حتى لقد قال بعض العلماء : إن الجدار الغربي من مسجد عرفة لو سقط سقط في بطن عرنة ، وحكى الباجي عن ابن حبيب أن عرفة في الحل ، وعرنة في الحرم . قال أبو عمر : وأما بطن محسر فذكر وكيع : حدثنا سفيان عن أبي الزبير عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أوضع في بطن محسر .الثامنة : ولا بأس بالتعريف في المساجد يوم عرفة بغير عرفة ، تشبيها بأهل عرفة . روى شعبة عن قتادة عن الحسن قال : أول من صنع ذلك ابن عباس بالبصرة . يعني اجتماع الناس يوم عرفة في المسجد بالبصرة ، وقال موسى بن أبي عائشة : رأيت عمر بن حريث يخطب يوم عرفة وقد اجتمع الناس إليه ، وقال الأثرم : سألت أحمد بن حنبل عن التعريف في الأمصار ، [ ص: 388 ] يجتمعون يوم عرفة ، فقال : أرجو ألا يكون به بأس ، قد فعله غير واحد : الحسن وبكر وثابت ومحمد بن واسع ، كانوا يشهدون المسجد يوم عرفة .التاسعة : في فضل يوم عرفة : يوم عرفة فضله عظيم وثوابه جسيم ، يكفر الله فيه الذنوب العظام ، ويضاعف فيه الصالح من الأعمال ، قال صلى الله عليه وسلم : صوم يوم عرفة يكفر السنة الماضية والباقية . أخرجه الصحيح ، وقال صلى الله عليه وسلم : أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وروى الدارقطني عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ما من يوم أكثر أن يعتق الله فيه عددا من النار من يوم عرفة وإنه ليدنو عز وجل ثم يباهي بهم الملائكة يقول ما أراد هؤلاء ، وفي الموطأ عن عبيد الله بن كريز أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ما رئي الشيطان يوما هو فيه أصغر ولا أحقر ولا أدحر ولا أغيظ منه في يوم عرفة وما ذاك إلا لما رأى من تنزل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام إلا ما رأى يوم بدر . قيل : وما رأى يوم بدر يا رسول الله ؟ قال : أما إنه قد رأى جبريل يزع الملائكة . قال أبو عمر : روى هذا الحديث أبو النضر إسماعيل بن إبراهيم العجلي عن مالك عن إبراهيم بن أبي عبلة عن طلحة بن عبيد بن كريز عن أبيه ، ولم يقل في هذا الحديث عن أبيه غيره وليس بشيء ، والصواب ما في الموطأ ، وذكر الترمذي الحكيم في نوادر الأصول : حدثنا حاتم بن [ ص: 389 ] نعيم التميمي أبو روح قال حدثنا هشام بن عبد الملك أبو الوليد الطيالسي قال حدثنا عبد القاهر بن السري السلمي قال حدثني ابن لكنانة بن عباس بن مرداس عن أبيه عن جده عباس بن مرداس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا لأمته عشية عرفة بالمغفرة والرحمة ، وأكثر الدعاء فأجابه : إني قد فعلت إلا ظلم بعضهم بعضا فأما ذنوبهم فيما بيني وبينهم فقد غفرتها . قال : يا رب إنك قادر أن تثيب هذا المظلوم خيرا من مظلمته وتغفر لهذا الظالم فلم يجبه تلك العشية ، فلما كان الغداة غداة المزدلفة اجتهد في الدعاء فأجابه : إني قد غفرت لهم ، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقيل له : تبسمت يا رسول الله في ساعة لم تكن تتبسم فيها ؟ فقال : تبسمت من عدو الله إبليس إنه لما علم أن الله قد استجاب لي في أمتي أهوى يدعو بالويل والثبور ويحثي التراب على رأسه ويفر ، وذكر أبو عبد الغني الحسن بن علي حدثنا عبد الرزاق حدثنا مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا كان يوم عرفة غفر الله للحاج الخالص وإذا كان ليلة المزدلفة غفر الله للتجار وإذا كان يوم منى غفر الله للجمالين وإذا كان يوم جمرة العقبة غفر الله للسؤال ولا يشهد ذلك الموقف خلق ممن قال لا إله إلا الله إلا غفر له . قال أبو عمر : هذا حديث غريب من حديث مالك ، وليس محفوظا عنه إلا من هذا الوجه وأبو عبد الغني لا أعرفه ، وأهل العلم ما زالوا يسامحون أنفسهم في روايات الرغائب والفضائل عن كل أحد ، وإنما كانوا يتشددون في أحاديث الأحكام .العاشرة : استحب أهل العلم صوم يوم عرفة إلا بعرفة . روى الأئمة واللفظ للترمذي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم أفطر بعرفة ، وأرسلت إليه أم الفضل بلبن فشرب . قال : حديث حسن صحيح . وقد روي عن ابن عمر قال : حججت مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يصمه - يعني يوم عرفة - ومع أبي بكر فلم يصمه ، ومع عمر فلم يصمه والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم ، يستحبون الإفطار بعرفة ليتقوى به الرجل على الدعاء ، وقد صام بعض أهل العلم يوم عرفة بعرفة ، وأسند عن ابن عمر مثل الحديث الأول ، وزاد في آخره : ومع عثمان فلم يصمه ، [ ص: 390 ] وأنا لا أصومه ولا آمر به ولا أنهى عنه ، حديث حسن ، وذكره ابن المنذر . وقال عطاء في صوم يوم عرفة : أصوم في الشتاء ولا أصوم في الصيف . وقال يحيى الأنصاري : يجب الفطر يوم عرفة ، وكان عثمان بن أبي العاصي وابن الزبير وعائشة يصومون يوم عرفة . قال ابن المنذر : الفطر يوم عرفة بعرفات أحب إلي ، اتباعا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، والصوم بغير عرفة أحب إلي ، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سئل عن صوم يوم عرفة فقال : يكفر السنة الماضية والباقية ، وقد روينا عن عطاء أنه قال : من أفطر يوم عرفة ليتقوى على الدعاء فإن له مثل أجر الصائم .الحادية عشرة : في قوله تعالى : فاذكروا الله عند المشعر الحرام أي اذكروه بالدعاء والتلبية عند المشعر الحرام ، ويسمى جمعا لأنه يجمع ثم المغرب والعشاء ، قاله قتادة ، وقيل : لاجتماع آدم فيه مع حواء ، وازدلف إليها ، أي دنا منها ، وبه سميت المزدلفة . ويجوز أن يقال : سميت بفعل أهلها ; لأنهم يزدلفون إلى الله ، أي يتقربون بالوقوف فيها . وسمي مشعرا من الشعار وهو العلامة ; لأنه معلم للحج والصلاة والمبيت به ، والدعاء عنده من شعائر الحج ، ووصف بالحرام لحرمته .الثانية عشرة : ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى المغرب والعشاء بالمزدلفة جميعا ، وأجمع أهل العلم - لا اختلاف بينهم - أن السنة أن يجمع الحاج بجمع بين المغرب والعشاء ، واختلفوا فيمن صلاها قبل أن يأتي جمعا ، فقال مالك : من وقف مع الإمام ودفع بدفعه فلا يصلي حتى يأتي المزدلفة فيجمع بينها ، واستدل على ذلك بقوله لأسامة بن زيد : الصلاة أمامك . قال ابن حبيب : من صلى قبل أن يأتي المزدلفة دون عذر يعيد متى ما علم ، بمنزلة من قد صلى قبل الزوال ، لقوله عليه السلام : الصلاة أمامك ، وبه قال أبو حنيفة ، وقال أشهب : لا إعادة عليه ، إلا أن يصليهما قبل مغيب الشفق فيعيد العشاء وحدها ، وبه قال الشافعي ، وهو الذي نصره القاضي أبو الحسن ، واحتج له بأن هاتين صلاتان سن الجمع بينهما ، [ ص: 391 ] فلم يكن ذلك شرطا في صحتهما ، وإنما كان على معنى الاستحباب ، كالجمع بين الظهر والعصر بعرفة ، واختار ابن المنذر هذا القول ، وحكاه عن عطاء بن أبي رباح وعروة بن الزبير والقاسم بن محمد وسعيد بن جبير وأحمد وإسحاق وأبي ثور ويعقوب ، وحكي عن الشافعي أنه قال : لا يصلي حتى يأتي المزدلفة ، فإن أدركه نصف الليل قبل أن يأتي المزدلفة صلاهما .الثالثة عشرة : ومن أسرع فأتى المزدلفة قبل مغيب الشفق فقد قال ابن حبيب : لا صلاة لمن عجل إلى المزدلفة قبل مغيب الشفق [ لا لإمام ولا غيره حتى يغيب الشفق ] لقوله عليه السلام : الصلاة أمامك ثم صلاها بالمزدلفة بعد مغيب الشفق [ ومن جهة المعنى أن وقت هذه الصلاة بعد مغيب الشفق ] فلا يجوز أن يؤتى بها قبله ، ولو كان لها وقت قبل مغيب الشفق لما أخرت عنه .الرابعة عشرة : وأما من أتى عرفة بعد دفع الإمام ، أو كان له عذر ممن وقف مع الإمام فقد قال ابن المواز : من وقف بعد الإمام فليصل كل صلاة لوقتها ، وقال مالك فيمن كان له عذر يمنعه أن يكون مع الإمام : إنه يصلي إذا غاب الشفق الصلاتين يجمع بينهما ، وقال ابن القاسم فيمن وقف بعد الإمام : إن رجا أن يأتي المزدلفة ثلث الليل فليؤخر الصلاة حتى يأتي المزدلفة ، وإلا صلى كل صلاة لوقتها ، فجعل ابن المواز تأخير الصلاة إلى المزدلفة لمن وقف مع الإمام دون غيره ، وراعى مالك الوقت دون المكان ، واعتبر ابن القاسم الوقت المختار للصلاة والمكان ، فإذا خاف فوات الوقت المختار بطل اعتبار المكان ، وكان مراعاة وقتها المختار أولى .الخامسة عشرة : اختلف العلماء في هيئة الصلاة بالمزدلفة على وجهين : أحدهما : الأذان والإقامة ، والآخر : هل يكون جمعهما متصلا لا يفصل بينهما بعمل ، أو يجوز العمل بينهما وحط الرحال ونحو ذلك ، فأما الأذان والإقامة فثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى المغرب والعشاء بالمزدلفة بأذان واحد وإقامتين . أخرجه الصحيح من حديث جابر الطويل ، وبه قال أحمد بن حنبل وأبو ثور وابن المنذر . وقال مالك : يصليهما بأذانين وإقامتين ، وكذلك الظهر والعصر بعرفة ، إلا أن ذلك في أول وقت الظهر بإجماع . قال أبو عمر : لا أعلم فيما قاله مالك حديثا مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بوجه من الوجوه ، ولكنه روي عن عمر بن الخطاب ، وزاد ابن المنذر ابن مسعود ، ومن الحجة لمالك في هذا الباب من جهة النظر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سن في [ ص: 392 ] الصلاتين بمزدلفة وعرفة أن الوقت لهما جميعا وقت واحد ، وإذا كان وقتهما واحدا وكانت كل صلاة تصلى في وقتها لم تكن واحدة منهما أولى بالأذان والإقامة من الأخرى ; لأن ليس واحدة منهما تقضى ، وإنما هي صلاة تصلى في وقتها ، وكل صلاة صليت في وقتها سنتها أن يؤذن لها وتقام في الجماعة ، وهذا بين ، والله أعلم ، وقال آخرون : أما الأولى منهما فتصلى بأذان وإقامة ، وأما الثانية فتصلى بلا أذان ولا إقامة . قالوا : وإنما أمر عمر بالتأذين الثاني لأن الناس قد تفرقوا لعشائهم فأذن ليجمعهم . قالوا : وكذلك نقول إذا تفرق الناس عن الإمام لعشاء أو غيره ، أمر المؤذنين فأذنوا ليجمعهم ، وإذا أذن أقام . قالوا : فهذا معنى ما روي عن عمر ، وذكروا حديث عبد الرحمن بن يزيد قال : كان ابن مسعود يجعل العشاء بالمزدلفة بين الصلاتين ، وفي طريق أخرى وصلى كل صلاة بأذان وإقامة ، ذكره عبد الرزاق ، وقال آخرون : تصلى الصلاتان جميعا بالمزدلفة بإقامة ولا أذان في شيء منهما ، روي عن ابن عمر وبه قال الثوري ، وذكر عبد الرزاق وعبد الملك بن الصباح عن الثوري عن سلمة بن كهيل عن سعيد بن جبير عن ابن عمر قال : جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المغرب والعشاء بجمع ، صلى المغرب ثلاثا والعشاء ركعتين بإقامة واحدة وقال آخرون : تصلى الصلاتان جميعا بين المغرب والعشاء بجمع بأذان واحد وإقامة واحدة ، وذهبوا في ذلك إلى ما رواه هشيم عن يونس بن عبيد عن سعيد بن جبير عن ابن عمر أنه جمع بين المغرب والعشاء بجمع بأذان واحد وإقامة واحدة ، لم يجعل بينهما شيئا ، وروي مثل هذا مرفوعا من حديث خزيمة بن ثابت ، وليس بالقوي ، وحكى الجوزجاني عن محمد بن الحسن عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أنهما تصليان بأذان واحد وإقامتين ، يؤذن للمغرب ويقام للعشاء فقط ، وإلى هذا ذهب الطحاوي لحديث جابر ، وهو القول الأول وعليه المعول . وقال آخرون : تصلى بإقامتين دون أذان لواحدة منهما ، وممن قال ذلك الشافعي وأصحابه وإسحاق وأحمد بن حنبل في أحد قوليه ، وهو قول سالم بن عبد الله والقاسم بن محمد ، واحتجوا بما ذكره عبد الرزاق عن معمر عن ابن شهاب عن سالم عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء المزدلفة جمع بين المغرب والعشاء ، صلى المغرب ثلاثا والعشاء ركعتين بإقامة لكل واحدة منهما ولم يصل بينهما شيئا قال أبو عمر : والآثار عن ابن عمر في هذا القول من أثبت ما روي عنه في هذا الباب ، ولكنها محتملة للتأويل ، وحديث جابر لم يختلف فيه ، فهو أولى ، ولا مدخل في هذه المسألة للنظر ، وإنما فيها الاتباع .السادسة عشرة : وأما الفصل بين الصلاتين بعمل غير الصلاة فثبت عن أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء المزدلفة نزل فتوضأ فأسبغ الوضوء ، ثم أقيمت الصلاة فصلى المغرب ، ثم [ ص: 393 ] أناخ كل إنسان بعيره في منزله ، ثم أقيمت الصلاة فصلاها ، ولم يصل بينهما شيئا في رواية : ولم يحلوا حتى أقام العشاء الآخرة فصلى ثم حلوا وقد ذكرنا آنفا عن ابن مسعود أنه كان يجعل العشاء بين الصلاتين ، ففي هذا جواز الفصل بين الصلاتين بجمع ، وقد سئل مالك فيمن أتى المزدلفة : أيبدأ بالصلاة أو يؤخر حتى يحط عن راحلته ؟ فقال : أما الرحل الخفيف فلا بأس أن يبدأ به قبل الصلاة ، وأما المحامل والزوامل فلا أرى ذلك ، وليبدأ بالصلاتين ثم يحط عن راحلته ، وقال أشهب في كتبه : له حط رحله قبل الصلاة ، وحطه له بعد أن يصلي المغرب أحب إلي ما لم يضطر إلى ذلك ، لما بدابته من الثقل ، أو لغير ذلك من العذر ، وأما التنفل بين الصلاتين فقال ابن المنذر : ولا أعلمهم يختلفون أن من السنة ألا يتطوع بينهما الجامع بين الصلاتين ، وفي حديث ابن أسامة : ولم يصل بينهما شيئا .السابعة عشرة : وأما المبيت بالمزدلفة فليس ركنا في الحج عند الجمهور ، واختلفوا فيما يجب على من لم يبت بالمزدلفة ليلة النحر ولم يقف بجمع ، فقال مالك : من لم يبت بها فعليه دم ، ومن قام بها أكثر ليله فلا شيء عليه ; لأن المبيت بها ليلة النحر سنة مؤكدة عند مالك وأصحابه ، لا فرض ، ونحوه قول عطاء والزهري وقتادة وسفيان الثوري وأحمد وإسحاق وأبي ثور وأصحاب الرأي فيمن لم يبت ، وقال الشافعي : إن خرج منها بعد نصف الليل فلا شيء عليه ، وإن خرج قبل نصف الليل فلم يعد إلى المزدلفة افتدى ، والفدية شاة ، وقال عكرمة والشعبي والنخعي والحسن البصري : الوقوف بالمزدلفة فرض ، ومن فاته جمع ولم يقف فقد فاته الحج ، ويجعل إحرامه عمرة ، وروي ذلك عن ابن الزبير وهو قول الأوزاعي ، وروي عن الثوري مثل ذلك ، والأصح عنه أن الوقوف بها سنة مؤكدة ، وقال حماد بن أبي سليمان . من فاتته الإفاضة من جمع فقد فاته الحج ، وليتحلل بعمرة ثم ليحج قابلا ، واحتجوا بظاهر الكتاب والسنة ، فأما الكتاب فقول الله تعالى : فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام وأما السنة فقوله صلى الله عليه وسلم : من أدرك جمعا فوقف مع الناس حتى يفيض فقد أدرك ومن لم يدرك ذلك فلا حج له . ذكره ابن المنذر ، وروى الدارقطني عن عروة بن مضرس : قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو بجمع فقلت له : يا رسول الله ، هل لي من حج ؟ فقال : من صلى معنا [ ص: 394 ] هذه الصلاة ثم وقف معنا حتى نفيض وقد أفاض قبل ذلك من عرفات ليلا أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه . قال الشعبي : من لم يقف بجمع جعلها عمرة ، وأجاب من احتج للجمهور بأن قال : أما الآية فلا حجة فيها على الوجوب في الوقوف ولا المبيت ، إذ ليس ذلك مذكورا فيها ، وإنما فيها مجرد الذكر ، وكل قد أجمع أنه لو وقف بمزدلفة ولم يذكر الله أن حجه تام ، فإذا لم يكن الذكر المأمور به من صلب الحج فشهود الموطن أولى بألا يكون كذلك . قال أبو عمر : وكذلك أجمعوا أن الشمس إذا طلعت يوم النحر فقد فات وقت الوقوف بجمع ، وأن من أدرك الوقوف بها قبل طلوع الشمس فقد أدرك ، ممن يقول إن ذلك فرض ، ومن يقول إن ذلك سنة ، وأما حديث عروة بن مضرس فقد جاء في بعض طرقه بيان الوقوف بعرفة دون المبيت بالمزدلفة ، ومثله حديث عبد الرحمن بن يعمر الديلي قال : شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة ، وأتاه ناس من أهل نجد فسألوه عن الحج ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الحج عرفة من أدركها قبل أن يطلع الفجر من ليلة جمع فقد تم حجه رواه النسائي قال : أخبرنا إسحاق بن إبراهيم قال حدثنا وكيع قال حدثنا سفيان - يعني الثوري - عن بكير بن عطاء عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي قال : شهدت . . . ، فذكره ، ورواه ابن عيينة عن بكير عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي قال : شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : الحج عرفات فمن أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك وأيام منى ثلاثة ؛ فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه ، وقوله في حديث عروة : من صلى صلاتنا هذه ، فذكر الصلاة بالمزدلفة ، فقد أجمع العلماء أنه لو بات بها ووقف ونام عن الصلاة فلم يصل مع الإمام حتى فاتته إن حجه تام ، فلما كان حضور الصلاة مع الإمام ليس من صلب الحج كان الوقوف بالموطن الذي تكون فيه الصلاة أحرى أن يكون كذلك . قالوا : فلم يتحقق بهذا الحديث ذلك الفرض إلا بعرفة خاصة .الثامنة عشرة : قوله تعالى : واذكروه كما هداكم كرر الأمر تأكيدا ، كما تقول : ارم . ارم ، وقيل : الأول أمر بالذكر عند المشعر الحرام ، والثاني أمر بالذكر على حكم الإخلاص وقيل : المراد بالثاني تعديد النعمة وأمر بشكرها ، ثم ذكرهم بحال ضلالهم ليظهر [ ص: 395 ] قدر الإنعام فقال : وإن كنتم من قبله لمن الضالين والكاف في " كما " نعت لمصدر محذوف ، و " ما " مصدرية أو كافة والمعنى : اذكروه ذكرا حسنا كما هداكم هداية حسنة ، واذكروه كما علمكم كيف تذكرونه لا تعدلوا عنه . و " إن " مخففة من الثقيلة ، يدل على ذلك دخول اللام في الخبر ، قاله سيبويه . الفراء : نافية بمعنى ما ، واللام بمعنى إلا ، كما قال :ثكلتك أمك إن قتلت لمسلما حلت عليك عقوبة الرحمنأو بمعنى قد أي قد كنتم ، ثلاثة أقوال والضمير في " قبله " عائد إلى الهدى ، وقيل إلى القرآن ، أي ما كنتم من قبل إنزاله إلا ضالين . وإن شئت على النبي صلى الله عليه وسلم كناية عن غير مذكور ، والأول أظهر والله أعلم .
تَنْوِيرُ ٱلْمِقْبَاسِ مِن تَفْسِيرِ ٱبْنِ عَبَّاس
Tafsir Tanwir al-Miqbas —
حضرت ابن عباسؓ
جملة معترضة بين المتعاطفين بمناسبة النهي عن أعمال في الحج تنافي المقصد منه فنقل الكلام إلى إباحة ما كانوا يتحرجون منه في الحج وهو التجارة ببيان أنها لا تنافي المقصد الشرعي إبطالاً لما كان عليه المشركون ، إذ كانوا يرون التجارة للمُحْرم بالحج حراماً . فالفضل هنا هو المال ، وابتغاء الفضل التجارة لأجل الربح كما هو في قوله تعالى : { وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ } [ المزمل : 20 ] . وقد كان أهل الجاهلية إذا خرجوا من سوق ذي المجاز إلى مكة حرم عندهم البيع والشراء قال النابغة :كادَتْ تُسَاقِطُني رَحْلي ومِيثَرَتِي ... بذِي المجاز ولم تُحسس به نَغَما ( )من صَوْتتِ حِرْمِيَّةٍ قالتْ وقد ظعنوا ... هل في مُخِفِّيكُمُ مَنْ يشتري أَدَماقلتُ لهَا وهي تَسْعَى تحتَ لَبَّتِها ... لا تَحْطِمنَّككِ إن البيعَ قد زَرِماأي انقطع البيع وحَرُم ، وعن ابن عباس : كانت عكاظ ومَجَنَّة ، وذو المجاز أسواقاً في الجاهلية فتأَثَّمُوا أنْ يَتَّجِرُوا في المواسم فنزلت : ( ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم في موسم الحج ) اه . أي قرأها ابن عباس بزيادة في مواسم الحج .وقد كانت سوق عكاظ تفتح مستهل ذي القعدة وتدوم عشرين يوماً وفيها تباع نفائس السلع وتتفاخر القبائل ويتبارى الشعراء ، فهي أعظم أسواق العرب وكان موقعها بين نَخْلَةَ والطائف ، ثم يخرجون من عكاظ إلى مَجِنَة ثم إلى ذي المَجاز ، والمظنون أنهم يقضون بين هاتين السوقين بقية شهر ذي القعدة؛ لأن النابغة ذكر أنه أقام بذي المجاز أربع ليال وأنه خرج من ذي المجاز إلى مكة فقال يذكر راحلته :باتَت ثلاثَ لياللٍ ثم واحِدَةً ... بذي المجاز تُراعِي مَنْزِلاً زِيَمَاثم ذكر أنه خرج من هنالك حاجّاً فقال :كادَتْ تُساقِطني رَحْلي ومِيثَرَتِي ... الفاء عاطفة على قوله : { فلا رفث ولا فسوق } [ البقرة : 197 ] الآية ، عطف الأمر على النهي ، وقوله : ( إذا أفضتم ) شرط للمقصود وهو : ( فاذكروا الله ) .والإفاضة هنا : الخروج بسرعة وأصلها من فاض الماء إذا كثر على ما يحويه فبرز منه وسالَ؛ ولذلك سموا إحالة القِداح في المَيْسر إفَاضَةً والمجيلَ مُفيضاً ، لأنه يُخْرِج القِدَاح من الرِّبَابَة بقوة وسرعة أي بدون تَخَيُّر ولا جَسَ لينظر القدح الذي يخرج ، وسمَّوا الخروج من عرفة إفاضة لأنهم يخرجون في وقت واحد وهم عدد كثير فتكون لخروجهم شدة ، والإفاضة أطلقت في هاته الآية على الخروج من عرفة والخروج من مزدلفة .والعرب كانوا يسمون الخروج من عرفة الدَّفْع ، ويسمون الخروج من مزدلفة إفاضة ، وكلا الإطلاقين مجاز؛ لأن الدفع هو إبعاد الجسم بقوة ، ومن بلاغة القرآن إطلاق الإفاضة على الخروجين؛ لما في أفاض من قرب المشابهة من حيث معنى الكثرة دون الشدة . ولأن في تجنُّب دَفَعْتُم تجنباً لتوهم السامعين أن السير مشتمل على دفععِ بعض الناس بعضاً؛ لأنهم كانوا يجعلون في دفعهم ضَوْضَاء وجلبة وسرعةَ سير فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك في حجة الوداع وقال :" ليس البِرُّ بالإيضَاع فإذا أفضتم فعليكم بالسَّكينة والوَقَار " .و ( عرفات ) اسم واد ويقال : بطن وهو مَسِيلٌ متَّسع تنحدر إليه مياه جبال تحيط به تعرف بجبال عرفة بالإفراد ، وقد جُعل عرفات علَمَاً على ذلك الوادي بصيغة الجمع بألففٍ وتاء ، ويقال له : عرفة بصيغة المفرد ، وقال الفرّاء : قول الناس يومُ عَرفة مولَّد ليس بعربي محْضضٍ ، وخالفه أكثر أهل العلم فقالوا : يقال عرفات وعرفة ، وقد جاء في عدة أحاديث «يوم عرفة» ، وقال بعض أهل اللغة : لا يقال : يوم عرفات .وفي وسط وادي عرفة جُبيل يقف عليه ناس ممن يقفون بعرفة ويخطب عليه الخطيب بالناس يوم تاسع ذي الحجة عند الظهر ، ووقف عليه النبي صلى الله عليه وسلم راكباً يوم عرفة ، وبُني في أعلى ذلك الجبيل عَلَم في الموضع الذي وقف فيه النبي عليه الصلاة والسلام فيقف الأئمة يوم عرفة عنده .ولا يُدرَى وجه اشتقاققٍ في تسمية المكان عَرَفات أو عَرَفة ، ولا أنه علم منقول أو مرتجل ، والذي اختارَه الزمخشري وابنُ عطية أنه علم مرتجل ، والذي يظهر أن أحد الاسمين أصل والآخر طارىء عليه وأن الأصل ( عرفات ) من العربية القديمة وأن عرفة تخفيف جرى على الألسنة ، ويحتمل أن يكون الأصل ( عرفة ) وأن عرفات إشباع من لغة بعض القبائل .وذكر ( عرفات ) باسمه في القرآن يشير إلى أن الوقوف بعرفة رُكن الحج وقال النبي صلى الله عليه وسلم " الحج عرفة " .سمي الموضع عرفات الذي هو على زنة الجمع بألففٍ وتاء فعاملوه معاملة الجمع بألففٍ وتاء ولم يمنعوه الصرف مع وجود العلمية . وجمع المؤنث لا يُمنع من الصرف؛ لأن الجمع يزيل ما في المفرد من العلمية؛ إذ الجمع بتقدير مُسَمَّيَات بكذا ، فما جُمع إلاّ بعدَ قصدِ تنكيره ، فالتأنيث الذي يمنع الصرف مع العلمية أو الوصفية هو التأنيث بالهاء .وذكر الإفاضة من ( عرفات ) يقتضي سبق الوقوف به؛ لأنه لا إفاضة إلاّ بعد الحُلول بها ، وذِكر ( عرفات ) باسمه تنويه به يدل على أن الوقوف به ركن فلم يُذكر من المناسك باسمه غير عرفة والصفا والمروة ، وفي ذلك دلالة على أنهما من الأركان ، خلافاً لأبي حنيفة في الصفا والمروة ، ويؤخذ ركن الإحرام من قوله : { فمن فرض فيهن الحج } [ البقرة : 197 ] ، وأما طواف الإفاضة فثبت بالسنة وإجماع الفقهاء .و ( من ) ابتدائية .والمعنى فإذا أفضتم خارجين من عرفات إلى المزدلفة .والتصريح باسم ( عرفات ) في هذه الآية للرد على قريش؛ إذ كانوا في الجاهلية يقفون في ( جَمْع ) وهو المزدلفة؛ لأنهم حُمْس ، فيرون أن الوقوف لا يكون خارج الحرم ، ولما كانت مزدلفة من الحرم كانوا يقفون بها ولا يرضون بالوقوف بعرفة ، لأن عرفة من الحل كما سيأتي ، ولهذا لم يذكر الله تعالى المزدلفة في الإفاضة الثانية باسمها وقال : { مِنْ حيثُ أَفَاضَ الناسُ } لأن المزدلفة هو المكان الذي يفيض منه الناس بعد إفاضة عرفات ، فذلك حوالة على ما يعلمونه .و ( المشعر ) اسم مشتق من الشعور أي العِلْم ، أو من الشِّعَار أي العَلاَمة ، لأنه أقيمت فيه علامة كالمنار من عهد الجاهلية ، ولعلهم فعلوا ذلك لأنهم يدفعون من عرفات آخر المساء فيدركهم غبسُ ما بعد الغروب وهم جماعات كثيرة فخشوا أن يضلوا الطريق فيضيق عليهم الوقت .إوصف المشعر بوصف ( الحَرام ) لأنه من أرض الحرم بخلاف عرفات .والمشعر الحرام هو ( المزدلفة ) ، سميت مزدلفة لأنها ازدلفت من مِنَى أي اقتربت؛ لأنهم يبيتون بها قاصدين التصبيح في مِنى . ويقال للمزدلفة أيضاً ( جَمْع ) لأن جميع الحجيج يجتمعون في الوقوف بها ، الحُمْس وغيرُهم من عهد الجاهلية ، قال أبو ذؤيب :فبَاتَ بجَمْععٍ ثم راح إلى منًى ... فأصبح رَاداً يبتغي المَزْجَ بالسَّحْل ( )فمن قال : إن تسميتها جمعاً لأنها يُجْمع فيها بين المغرب والعشاء فقد غفل عن كونه اسماً من عهد ما قبل الإسلام .وتسمى المزدلفة أيضاً ( قُزَح ) بقاف مضمومة وزاي مفتوحة ممنوعاً من الصرف ، باسم قرن جبل بين جباللٍ من طَرَف مزدلفة ويقال له : المِيقَدَة لأن العرب في الجاهلية كانوا يُوقدون عليه النيران ، وهو موقف قريش في الجاهلية ، وموقفُ الإمام في المزدلفة على قُزح . روى أبو داود والترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أصبح بجَمْع أتى قُزَحَ فوقف عليه وقال : هذا قُزَح وهو الموقف وجَمْعُ كلها موقف .ومذهب مالك أن المبيت سنة وأما النزول حصةً فواجب . وذهب علقمة وجماعة من التابعين والأوزاعي إلى أن الوقوف بمزدلفة ركن من الحج فمن فاته بطل حجه تمسكاً بظاهر الأمر في قوله { فاذكروا الله } .وقد كانت العرب في الجاهلية لا يفيضون من عرفة إلى المزدلفة حتى يجيزهم أحد ( بني صُوفَة ) وهم بنو الغوث بن مُر بن أدِّ بن طابخة بن إلياس بن مُضر وكانت أمهُ جرهمية ، لقب الغوث بصُوفَة؛ لأن أمه كانت لا تلد فنذرت إنْ هي ولدت ذكراً أن تجعله لخدمة الكعبة فولدت الغوث وكانوا يجعلون صوفةً يَربطون بها شعر رأس الصبي الذي ينذرونه لخِدمة الكعبة وتسمى الرَّبيِطَ ، فكان الغوْث يلي أمر الكعبة مع أخواله من جرهم فلما غلب قصَي بن كِلاب على الكعبة جعل الإجازة للغَوْث ثم بَقيت في بنيه حتى انقرضوا ، وقيل إن الذي جعل أبناء الغَوْث لإجازة الحَاجِّ هم ملوك كندة ، فكان الذي يجيز بهم من عرفة يقول :لاَ هُمَّ إِني تَابِع تباعَهْ ... إن كان إثْمٌ فعلَى قُضاعهْلأن قضاعة كانت تُحل الأشهر الحرم ، ولما انقرض أبناء صوفة صارت الإجازة لبني سعد بن زيد مناءة بن تميم ورثوها بالقُعدد فكانت في آل صَفْوان منهم وجاء الإسلام وهي بيد كَرب بن صفوان قال أوس بن مَغْراء :لاَ يَبْرَحُ الناسُ ما حَجُّوا مُعَرَّفَهُم ... حَتَّى يُقَالَ أجيزوا آل صفوانَاالواو عاطفة على قوله : { فاذكروا الله عند المشعر الحرام } والعطف يقتضي أن الذكر المأمور به هنا غير الذكر المأمور به في قوله : { فاذكروا الله عند المشعر الحرام } فيكون هذا أمراً بالذكر على العموم بعد الأمر بذكر خاص فهو في معنى التذييل بعد الأمر بالذكر الخاص في المشعر الحرام .ويجوز أن يكون المراد من هذه الجملة هو قوله : { كما هداكم } فموقعها موقع التذييل . وكان مقتضى الظاهر ألا تعطف بل تُفْصَل وعدل عن مقتضى الظاهر فعطفت بالواو باعتبار مغايرتها للجملة التي قبلها بما فيها من تعليل الذكر وبياننِ سببه وهي مغايَرةٌ ضعيفة لكنها تصحح العطف كما في قول الحارث بن همام الشيباني :أيا ابْنَ زَيَّابَةَ إِنْ تَلْقَني ... لا تلقني في النَّعَم العَازِبوتَلْقَني يشتَدُّ بي أَجْرَدٌ ... مُسْتَقْدِم البِرْكَة كالراكبفإن جملة تلقني الثانية هي بمنزلة بدَل الاشتمال من لا تلقني في النعم العازب لأن معناه لا تلقني راعيَ إبل وذلك النفي يقتضي كونه فارساً؛ إذ لا يخلو الرجل عن إحدى الحالتين فكان الظاهر فصل جملة تلقني تشتد بي أجرد لكنه وصلها لمغايرةٍ مَّا .وقوله : { كما هداكم } تشبيه للذكر بالهدى وما مصدرية . ومعنى التشبيه في مثل هذا المشابهةُ في التساوي أي اذكروه ذكراً مساوياً لهدايته إياكم فيفيد معنى المجازاة والمكافأَة فلذلك يقولون إن الكاف في مثله للتعليل وقد تقدم الفرق بينها وبين كاف المجازاة عند قوله تعالى : { فنتبرأ منهم كما تبرؤوا منا } [ البقرة : 167 ] وكثر ذلك في الكاف التي اقترنت بها ( ما ) كيف كانت ، وقيل ذلك خاص بما الكافة والحق أنه وارد في الكاف المقترنة بما وفي غيرها .وضمير { من قبله } يرجع إلى الهدى المأخوذ من ما المصدرية و«إنْ» مخففة . من إنَّ الثقيلة . والمراد ضلالهم في الجاهلية بعبادة الأصنام وتغيير المناسك وغير ذلك .
ٱلتَّفْسِيرُ ٱلْوَسِيط
Tafsir Al-Waseet —
علمائے جامعہ ازہر
ثم بين - سبحانه - أن التزود بالزاد الروحي لا يتنافى مع التزود يا لزاد المادي متى توافرت التقوى ، فقال - تعالى - : ( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ ) .الجناح : أصله من جنح الشيء إذا مال : يقال جنحت السفينة إذا مالت إلى أحد جانبيها والمراد بالجناح هنا الإِثم والذنب ، لأنه لما كان الإِثم يميل بالإِنسان عن الحق إلى الباطل سمى جناحاً .والابتغاء : الطلب بشدة ، وجملة ( أَن تَبْتَغُواْ ) في موضع جر بتقدير في .والفضل : الزيادة وتكون في الخير والشر إلأا أنه جرى العرف أن يعبر عن الزيادة الحسنة بالفضل وعن الزيادة القبيحة بالفضول .والمراد به هنا : المال الحلال المكتسب عن طريق التجارة المشروعة أو غيرها من وجوه الرزق الحلال .أي : لا إثم ولا حرج عليهكم في أن تطلبوا رزقا حلالا ومالا طيباً عن طريق التجارة أو غيرها من وسائل الكسب المشروعة في موسم الحج .وقد ذكر المفسرون أن الناس كانوا يتحاشون من التجارة في الحج ، حتى إنهم كانوا يتجنبون البيع والشراء في العشر الأوائل من ذي الحجة ، فنزلت هذه الآية لتخبرهم أنه لا حرج عليهم في ذلك .روى البخاري عن ابن عباس قال : كان ذو المجاز وعظام متجر الناس في الجاهلية فلما جاء الإِسلام كأنهم كرهوا ذلك حتى نزلت ( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ ) .وقال ابن كثير : وروى الإِمام أحمد عن أبي أمامة التيمي قال : قلت لابن عمر : إنا نُكْرَى فهل لنا من حج؟ قال : أليس تطوفون بالبيت وترمون الجمخار وتحلقون رءوسكم وتقضون المناسك قال : قلت بلى . فقال ابن عمر : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الذي سألتني فلم يجبه حتى نزل عليه جبريل بهذه الآية ( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ ) فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال له " أنتم حجج " .فالآية الكريمة صريحة في إباحة طلب الرزق لمن هو في حاجة إلأى ذلك في موسم الحج ، بشرط ألا يشغله عن أداء فرائض الله .ثم قال - تعالى - : ( فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فاذكروا الله عِندَ المشعر الحرام ) .الفاء في قوله : فإذا لتفصيل بعض ما أجمل من قبل في قوله : ( فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج . . ) وأفضتم . اندفعتم بكثرة متزاحمين . وذلك تشبيه لهم بالماء إذا كثر ودفع بعضه بعضاً فانتشر وسال من حافتي الوادي والإِناء والإِفاضة في الحديث الاندافع فيه بإكثار وتصرف في وجوهه ومنه قوله - تعالى - ( إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ) فأصل هذه الكلمة الدفع للشيء بكثرة حتى يتفرق .والتقدير : أفضتم أنفسكم فحذف المفعول للعلم به .والمراد : خروجهم من عرفات بشيء ، من السرعة في تكاثر وازدحام متجهين إلى المزدلفة .وعرفات : اسم للجبل المعروف ، قيل سمي بذل كلأن الناس يتعارفون به فهم يجتمعون عليه في وقت واحد فيجري التعارف بينهم .وقد اتفق العلماء على أن الوقوف بعرفات هو ركن الحج الأكبر ففي الحديث الشريف " الحج عرفة " ويكون ذلك في اليوم التاسع من ذي الحجة .قال القرطبي : أجمع أهل العلم على أن من وقف بعرفة يوم عرفة قبل الزوال ثم أفاض منها قبل الزوال أنه لا يعتد ذلك قبل الزوال . وأجمعوا على تمام الحج من وقف بعرفة بعد الزوال وأفاض نهاراً قبل الليل إلا مالك بن أنس فإنه قال : لابد أن يأخذ من الليل شيئاً ، وأما من وقف بعرفة بالليل فإنه لا خلاف بين الأمة في تمام حجه . والحجة للجمهور مطلق قوله : ( فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ ) : فإنه لم يختص ليلا من نهار . وحديث عروة بن مضرس قال : " أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الموقف من جَمْع - أي من المزدلفة - قلت : يا رسول الله ، جئتك من جبل طيء أكللت مطيتي وأتعبت نفسي . . فهل لي من حج يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من صلى معنا صلاة الغداة بجمع وقد أتى عرفات قبل ذلك ليلا أو نهاراً فقد تم "ومن في قوله : ( مِّنْ عَرَفَاتٍ ) ابتدائية . أي ، فإذا أفضتم خارجين من عرافت إلى المشعر الحرام .والمشعر الحرام : هو المزدلفة وقيل هو موضع بها . والمشعر : اسم مشتق من الشعور أي : العلم ، أو من الشعار أي : العلامة .ووصف المشعر بوصف الحرام لأنه من أرض الحرم ، وهو منسك له حرمة وتقديس .والمزدلفة من الازدلاف وهو القرب وسميت بذلك لأن الحجاج يزدلفون إليها من عرفات ليبيتوا بها قاصدين الاقتراب من منى .وتسمى المزدلفة - أيضاً - " جَمْع " لاجتماع الناس في هذا المكان أو جمعهم فيه بين صلاتي المغرب والعشاء جمع تأخير . وتسمى كذلك " قزح " .ويرى الحنفية والشافعية أن الوقوف بالمزدلفة واجب وليس بركن ، ومن فاته لا يبطل حجه ويجب عليه دم .ويرى أكثر المالكية أن الوقوف بها سنة مؤكدة .ويرى بعض التابعين وبعض الشافعية أن الوقوف بها ركن كالوقوف بعرفات .والمعنى : فإذا سرتم - يا معشر الحجاج - من عرفات متدافعين متزاحمين متجهين إلى المزدلفة فأكثروا من ذكر الله - تعالى - بالتلبية والتهليل والدعاء بقلوب مخبتة ، ونفوس صافية ، لأن ذكر الله - تعالى - في تلك المواطن المقدسة والأوقات الفاضلة من شأنه أن يرفع الدرجات ، ويوصل إلى أعلا المقامات .ثم قال - تعالى - : ( واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ ) الكاف للتشبيه : ومعنى التشبيه في مثل هذا التركيب المشابهة في التساوي في الحسن والكمال . كما تقول : اخدمه كما أكرمك تعني : لا تتقاصر خدمتك عن إكرامه .والمعنى : اذكروا الله - تعالى - ذكراً حسناً مماثلا لهدايته لكم ، وأنتم تعلمون أن هذه الهداية شأنها عظيم فبسببها خرجتم من الظلمات إلى النور ، فيجب عليهكم أن تكثروا من ذكر الله ومن الثناء عليه .قال الآلوسي : و " ما " تحتمل أن تكون مصدرية فمحل ( كَمَا هَدَاكُمْ ) النصب على المصدرية ، بحذف الموصوف . أي : ذكراً مماثلا لهداكم . . . وتحتمل أن تكون كافلة فلا محل لها من الإِعراب . والمقصود من الكاف مجرد تشبيه مضمون الجملة بالجملة ، لذا لا تطلب عاملا تفضي بمعناه إلى مدخولها . وقيل : إن الكاف للتعليل ، وما مصدرية . أي ، اكذروه وعظموه لأجل هدايته السابقة منه - تعالى - لكم .و ( وَإِن ) في قوله : ( وَإِن كُنْتُمْ مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضآلين ) هي المخففة من الثقيلة والضمير في ( مِّن قَبْلِهِ ) يعود إلى الهدى المأخوذ من ما المصدرية وما دخلت عليه .والمراد بالضلال هنا : الجهل بالإِيمان وبالتكاليف التي كلف الله بها عباده .أي : اذكروا الله - تعالى - ذكراً مشابهاً لهدايته لكم ، وإنكم لولا هذه الهداية فأكثروا من ذكره وشكره عليها .
تَفْسِيرُ ٱلْبَغَوِيِّ
Tafsir al-Baghawi —
علامہ بغوی
قوله تعالى : ( ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم ) أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا علي بن عبد الله أخبرنا سفيان عن عمرو بن دينار ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقا في الجاهلية فلما كان الإسلام تأثموا من التجارة فيها فأنزل الله تعالى ( ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم ) في مواسم الحج قرأ ابن عباس كذا ، وروي عن أبي أمامة التيمي قال قلت لابن عمر : إنا قوم نكري في هذا الوجه يعني إلى مكة فيزعمون أن لا حج لنا فقال ألستم تحرمون كما يحرمون وتطوفون كما يطوفون وترمون كما يرمون قلت بلى قال أنت حاج جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن الذي سألتني عنه فلم يجبه بشيء حتى نزل جبريل بهذه الآية ( ليس عليكم جناح ) أي حرج ( أن تبتغوا فضلا ) أي رزقا ( من ربكم ) يعني بالتجارة في مواسم الحج ( فإذا أفضتم ) دفعتم والإفاضة دفع بكثرة وأصله من قول العرب أفاض الرجل ماء أي صبه ( من عرفات ) هي جمع عرفة جمع بما حولها وإن كانت بقعة واحدة كقولهم ثوب أخلاقواختلفوا في المعنى الذي لأجله سمي الموقف عرفات واليوم عرفة فقال عطاء : كان جبريل عليه السلام يري إبراهيم عليه السلام المناسك ويقول عرفت فيقول : عرفت فسمي ذلك المكان عرفات واليوم عرفة وقال الضحاك : إن آدم عليه السلام لما أهبط إلى الأرض وقع بالهند وحواء بجدة فجعل كل واحد منهما يطلب صاحبه فاجتمعا بعرفات يوم عرفة وتعارفا فسمي اليوم يوم عرفة والموضع عرفات وقال السدي لما أذن إبراهيم في الناس بالحج وأجابوه بالتلبية وأتاه من أتاه أمره الله أن يخرج إلى عرفات ونعتها له ، فخرج فلما بلغ الجمرة عند العقبة استقبله الشيطان ليرده فرماه بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة فطار فوقع على الجمرة الثانية فرماه وكبر ، فطار فوقع على الجمرة الثالثة فرماه ، وكبر فلما رأى الشيطان أنه لا يطيعه ذهب فانطلق إبراهيم حتى أتى ذا المجاز فلما نظر إليه لم يعرفه فجاز فسمي ذا المجاز ثم انطلق حتى وقف بعرفات فعرفها بالنعت فسمي الوقت عرفة والموضع عرفات حتى إذا أمسى ازدلف إلى جمع أي قرب إلى جمع فسمي المزدلفة .وروي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنه أن إبراهيم عليه السلام رأى ليلة التروية في منامه أنه يؤمر بذبح ابنه فلما أصبح روى يومه أجمع أي فكر أمن الله تعالى هذه الرؤيا أم من الشيطان فسمي اليوم يوم التروية ، ثم رأى ذلك ليلة عرفة ثانيا فلما أصبح عرف أن ذلك من الله تعالى فسمي اليوم يوم عرفة وقيل سمي بذلك لأن الناس يعترفون في ذلك اليوم بذنوبهم وقيل سمي بذلك من العرف وهو الطيب وسمي منى لأنه يمنى فيه الدم أي يصب فيكون فيه الفروث والدماء ولا يكون الموضع طيبا وعرفات طاهرة عنها فتكون طيبةقوله تعالى : ( فاذكروا الله ) بالدعاء والتلبية ( عند المشعر الحرام ) ما بين جبلي المزدلفة من مأزمي عرفة إلى المحسر وليس المأزمان ولا المحسر من المشعر وسمي مشعرا من الشعار وهي العلامة لأنه من معالم الحج وأصل الحرام من المنع فهو ممنوع أن يفعل فيه ما لم يؤذن فيه وسمي المزدلفة جمعا لأنه يجمع فيه بين صلاتي العشاء والإفاضة من عرفات تكون بعد غروب الشمس ومن جمع قبل طلوعها من يوم النحرقال طاووس كان أهل الجاهلية يدفعون من عرفة قبل أن تغيب الشمس ومن مزدلفة بعد أن تطلع الشمس ويقولون أشرق ثبير كيما نغير فأخر الله هذه وقدم هذهأخبرنا أبو الحسن السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن موسى بن عقبة عن كريب مولى عبد الله بن عباس عن أسامة بن زيد أنه سمعه يقول : " دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرفة حتى إذا كان بالشعب نزل فبال ثم توضأ فلم يسبغ الوضوء فقلت له الصلاة يا رسول الله قال فقال الصلاة أمامك فركب فلما جاء المزدلفة نزل فتوضأ فأسبغ الوضوء ثم أقيمت الصلاة فصلى المغرب ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله ثم أقيمت العشاء فصلاها ولم يصل بينهما شيئا " .وقال جابر : " دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئا ثم اضطجع حتى طلع الفجر فصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة فدعاه وكبره وهلله ، ووحده فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا فدفع قبل أن تطلع الشمس " .أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا زهير بن حرب أخبرنا وهب بن جرير أخبرنا أبي عن يونس الأيلي عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس رضي الله عنهما أن أسامة بن زيد كان ردف النبي صلى الله عليه وسلم من عرفة إلى المزدلفة ثم أردف الفضل من مزدلفة إلى منى قال فكلاهما قال لم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يلبي حتى رمى جمرة العقبة " .قوله تعالى : ( واذكروه كما هداكم ) أي واذكروه بالتوحيد والتعظيم كما ذكركم بالهداية فهداكم لدينه ومناسك حجه ( وإن كنتم من قبله لمن الضالين ) أي وقد كنتم وقيل وما كنتم من قبله إلا من الضالين كقوله تعالى : " وإن نظنك لمن الكاذبين " ( 186 - الشعراء ) أي وما نظنك إلا من الكاذبين والهاء في قوله من قبله راجعة إلى الهدى ، وقيل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كناية عن غير مذكور .