تَفْسِيرُ ٱلْمُيَسَّر
Tafsir Al-Muyassar —
کنگ فہد قرآن کمپلیکس
أيها المسلمون قاتلوا الكفار الذين لا يؤمنون بالله، ولا يؤمنون بالبعث والجزاء، ولا يجتنبون ما نهى الله عنه ورسوله، ولا يلتزمون أحكام شريعة الإسلام من اليهود والنصارى، حتى يدفعوا الجزية التي تفرضونها عليهم بأيديهم خاضعين أذلاء.
تَفْسِيرُ ٱلْجَلَالَيْنِ
Tafsir al-Jalalayn —
جلال الدین محلی اور جلال الدین سیوطی
«قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر» وإلا لآمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم «ولا يحرِّمون ما حرَّم الله ورسوله» كالخمر «ولا يدينون دين الحق» الثابت الناسخ لغيره من الأديان وهو دين الإسلام
تَفْسِيرُ ٱلْقُرْطُبِيِّ
Tafsir al-Qurtubi —
علامہ قرطبی
قوله تعالى قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرونفيه خمس عشرة مسألة :الأولى : قوله تعالى : قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر لما حرم الله تعالى على الكفار أن يقربوا المسجد الحرام ، وجد المسلمون في أنفسهم بما قطع عنهم من التجارة التي كان المشركون يوافون بها ، قال الله عز وجل : ( وإن خفتم عيلة ) الآية . على ما تقدم . ثم أحل في هذه الآية الجزية وكانت لم تؤخذ قبل ذلك ، فجعلها عوضا مما منعهم من موافاة المشركين بتجارتهم . فقال الله عز وجل : قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر الآية . فأمر سبحانه وتعالى بمقاتلة جميع الكفار لإصفاقهم على هذا الوصف ، [ ص: 45 ] وخص أهل الكتاب بالذكر إكراما لكتابهم ، ولكونهم عالمين بالتوحيد والرسل والشرائع والملل ، وخصوصا ذكر محمد صلى الله عليه وسلم وملته وأمته . فلما أنكروه تأكدت عليهم الحجة وعظمت منهم الجريمة ، فنبه على محلهم ثم جعل للقتال غاية وهي إعطاء الجزية بدلا عن القتل . وهو الصحيح . قال ابن العربي : سمعت أبا الوفاء علي بن عقيل في مجلس النظر يتلوها ويحتج بها . فقال : قاتلوا وذلك أمر بالعقوبة . ثم قال : الذين لا يؤمنون وذلك بيان للذنب الذي أوجب العقوبة . وقوله : ولا باليوم الآخر تأكيد للذنب في جانب الاعتقاد . ثم قال : ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله زيادة للذنب في مخالفة الأعمال . ثم قال : ولا يدينون دين الحق إشارة إلى تأكيد المعصية بالانحراف والمعاندة والأنفة عن الاستسلام . ثم قال : من الذين أوتوا الكتاب تأكيد للحجة ؛ لأنهم كانوا يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل . ثم قال : حتى يعطوا الجزية عن يد فبين الغاية التي تمتد إليها العقوبة وعين البدل الذي ترتفع به .الثانية : وقد اختلف العلماء فيمن تؤخذ منه الجزية ، قال الشافعي رحمه الله : لا تقبل الجزية إلا من أهل الكتاب خاصة عربا كانوا أو عجما لهذه الآية ، فإنهم هم الذين خصوا بالذكر فتوجه الحكم إليهم دون من سواهم لقوله عز وجل : فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم . ولم يقل : حتى يعطوا الجزية كما قال في أهل الكتاب . وقال : وتقبل من المجوس بالسنة ؛ وبه قال أحمد وأبو ثور . وهو مذهب الثوري وأبي حنيفة وأصحابه . وقال الأوزاعي : تؤخذ الجزية من كل عابد وثن أو نار أو جاحد أو مكذب . وكذلك مذهب مالك ، فإنه رأى الجزية تؤخذ من جميع أجناس الشرك والجحد ، عربيا أو عجميا ، تغلبيا أو قرشيا ، كائنا من كان ، إلا المرتد . وقال ابن القاسم وأشهب وسحنون : تؤخذ الجزية من مجوس العرب والأمم كلها . وأما عبدة الأوثان من العرب فلم يستن الله فيهم جزية ، ولا يبقى على الأرض منهم أحد ، وإنما لهم القتال أو الإسلام . ويوجد لابن القاسم : أن الجزية تؤخذ منهم ، كما يقول مالك . وذلك في التفريع لابن الجلاب وهو احتمال لا نص . وقال ابن وهب : لا تقبل الجزية من مجوس العرب وتقبل من غيرهم . قال : لأنه ليس في العرب مجوسي إلا وجميعهم أسلم ، فمن وجد منهم بخلاف الإسلام فهو مرتد يقتل بكل حال إن لم يسلم ولا تقبل منهم جزية . وقال ابن الجهم : تقبل الجزية من كل من دان بغير الإسلام إلا ما أجمع [ ص: 46 ] عليه من كفار قريش . وذكر في تعليل ذلك أنه إكرام لهم عن الذلة والصغار ، لمكانهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال غيره : إنما ذلك لأن جميعهم أسلم يوم فتح مكة . والله أعلم .الثالثة : وأما المجوس فقال ابن المنذر : لا أعلم خلافا أن الجزية تؤخذ منهم . وفي الموطإ : مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه أن عمر بن الخطاب ذكر أمر المجوس فقال : ما أدري كيف أصنع في أمرهم . فقال عبد الرحمن بن عوف : أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : سنوا بهم سنة أهل الكتاب . قال أبو عمر : يعني في الجزية خاصة . وفي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : سنوا بهم سنة أهل الكتاب دليل على أنهم ليسوا أهل كتاب . وعلى هذا جمهور الفقهاء . وقد روي عن الشافعي أنهم كانوا أهل كتاب فبدلوا . وأظنه ذهب في ذلك إلى شيء روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه من وجه فيه ضعف ، يدور على أبي سعيد البقال ، ذكره عبد الرزاق وغيره . قال ابن عطية : وروي أنه قد كان بعث في المجوس نبي اسمه زرادشت . والله أعلم .الرابعة : لم يذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه مقدارا للجزية المأخوذة منهم . وقد اختلف العلماء في مقدار الجزية المأخوذة منهم ، فقال عطاء بن أبي رباح : لا توقيت فيها ، وإنما هو على ما صولحوا عليه . وكذلك قال يحيى بن آدم وأبو عبيد والطبري ، إلا أن الطبري قال : أقله دينار وأكثره لا حد له . واحتجوا بما رواه أهل الصحيح عن عمرو بن عوف : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صالح أهل البحرين على الجزية . وقال الشافعي : دينار على الغني والفقير من الأحرار البالغين لا ينقص منه شيء واحتج بما رواه أبو داود وغيره عن معاذ : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن وأمره أن يأخذ من كل حالم دينارا في الجزية . قال الشافعي : وهو المبين عن الله تعالى مراده . وهو قول أبي ثور . قال الشافعي : وإن صولحوا على أكثر من دينار جاز ، وإن زادوا وطابت بذلك أنفسهم قبل منهم . وإن صولحوا على ضيافة ثلاثة أيام جاز ، إذا كانت الضيافة معلومة في الخبز والشعير والتبن والإدام ، وذكر ما على الوسط من ذلك وما على الموسر وذكر موضع النزول والكن من البرد والحر . وقال مالك فيما رواه عنه ابن القاسم وأشهب ومحمد بن الحارث بن زنجويه : إنها أربعة دنانير على أهل الذهب وأربعون درهما [ ص: 47 ] على أهل الورق ، الغني والفقير سواء ولو كان مجوسيا . لا يزاد ولا ينقص على ما فرض عمر لا يؤخذ منهم غيره . وقد قيل : إن الضعيف يخفف عنه بقدر ما يراه الإمام . وقال ابن القاسم : لا ينقص من فرض عمر لعسر ولا يزاد عليه لغنى . قال أبو عمر : ويؤخذ من فقرائهم بقدر ما يحتملون ولو درهما . وإلى هذا رجع مالك . وقال أبو حنيفة وأصحابه ومحمد بن الحسن وأحمد بن حنبل : اثنا عشر ، وأربعة وعشرون ، وأربعون . قال الثوري : جاء عن عمر بن الخطاب في ذلك ضرائب مختلفة ، فللوالي أن يأخذ بأيها شاء ، إذا كانوا أهل ذمة . وأما أهل الصلح فما صولحوا عليه لا غير .الخامسة : قال علماؤنا رحمة الله عليهم : والذي دل عليه القرآن أن الجزية تؤخذ من الرجال المقاتلين ؛ لأنه تعالى قال : قاتلوا الذين إلى قوله : حتى يعطوا الجزية فيقتضي ذلك وجوبها على من يقاتل . ويدل على أنه ليس على العبد وإن كان مقاتلا ؛ لأنه لا مال له ، ولأنه تعالى قال : حتى يعطوا . ولا يقال لمن لا يملك حتى يعطي . وهذا إجماع من العلماء على أن الجزية إنما توضع على جماجم الرجال الأحرار البالغين ، وهم الذين يقاتلون دون النساء والذرية والعبيد والمجانين المغلوبين على عقولهم والشيخ الفاني . واختلف في الرهبان ، فروى ابن وهب عن مالك أنها لا تؤخذ منهم . قال مطرف وابن الماجشون : هذا إذا لم يترهب بعد فرضها فإن فرضت ثم ترهب لم يسقطها ترهبه .السادسة : إذا أعطى أهل الجزية الجزية لم يؤخذ منهم شيء من ثمارهم ولا تجارتهم ولا زروعهم إلا أن يتجروا في بلاد غير بلادهم التي أقروا فيها وصولحوا عليها . فإن خرجوا تجارا عن بلادهم التي أقروا فيها إلى غيرها أخذ منهم العشر إذا باعوا ونض ثمن ذلك بأيديهم ولو كان ذلك في السنة مرارا إلا في حملهم الطعام : الحنطة والزيت إلى المدينة ومكة خاصة ، فإنه يؤخذ منهم نصف العشر على ما فعل عمر . ومن أهل المدينة من لا يرى أن يؤخذ من أهل الذمة العشر في تجارتهم إلا مرة في الحول ، مثل ما يؤخذ من المسلمين . وهو مذهب عمر بن عبد العزيز وجماعة من أئمة الفقهاء . والأول قول مالك وأصحابه .السابعة : إذا أدى أهل الجزية جزيتهم التي ضربت عليهم أو صولحوا عليها خلي بينهم وبين أموالهم كلها ، وبين كرومهم وعصرها ما ستروا خمورهم ولم يعلنوا بيعها من مسلم ، ومنعوا من إظهار الخمر والخنزير في أسواق المسلمين ، فإن أظهروا شيئا من ذلك أريقت الخمر عليهم ، وأدب من أظهر الخنزير . وإن أراقها مسلم من غير إظهارها فقد تعدى ، ويجب [ ص: 48 ] عليه الضمان . وقيل : لا يجب ولو غصبها وجب عليه ردها . ولا يعترض لهم في أحكامهم ولا متاجرتهم فيما بينهم بالربا . فإن تحاكموا إلينا فالحاكم مخير ، إن شاء حكم بينهم بما أنزل الله وإن شاء أعرض . وقيل : يحكم بينهم في المظالم على كل حال ، ويؤخذ من قويهم لضعيفهم ؛ لأنه من باب الدفع عنهم . وعلى الإمام أن يقاتل عنهم عدوهم ويستعين بهم في قتالهم . ولا حظ لهم في الفيء ، وما صولحوا عليه من الكنائس لم يزيدوا عليها ، ولم يمنعوا من إصلاح ما وهى منها ، ولا سبيل لهم إلى إحداث غيرها . ويأخذون من اللباس والهيئة بما يبينون به من المسلمين ، ويمنعون من التشبه بأهل الإسلام . ولا بأس باشتراء أولاد العدو منهم إذا لم تكن لهم ذمة . ومن لد في أداء جزيته أدب على لدده وأخذت منه صاغرا .الثامنة : اختلف العلماء فيما وجبت الجزية عنه ، فقال علماء المالكية : وجبت بدلا عن القتل بسبب الكفر . وقال الشافعي : وجبت بدلا عن الدم وسكنى الدار . وفائدة الخلاف أنا إذا قلنا وجبت بدلا عن القتل فأسلم سقطت عنه الجزية لما مضى ، ولو أسلم قبل تمام الحول بيوم أو بعده عند مالك . وعند الشافعي أنها دين مستقر في الذمة فلا يسقطه الإسلام كأجرة الدار . وقال بعض الحنفية بقولنا . وقال بعضهم : إنما وجبت بدلا عن النصر والجهاد . واختاره القاضي أبو زيد وزعم أنه سر الله في المسألة . وقول مالك أصح ، لقوله صلى الله عليه وسلم : ليس على مسلم جزية . قال سفيان : معناه إذا أسلم الذمي بعد ما وجبت الجزية عليه بطلت عنه . أخرجه الترمذي وأبو داود . قال علماؤنا : وعليه يدل قوله تعالى : حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون لأن بالإسلام يزول هذا المعنى . ولا خلاف أنهم إذا أسلموا فلا يؤدون الجزية عن يد وهم صاغرون . والشافعي لا يأخذ بعد الإسلام على الوجه الذي قاله الله تعالى . وإنما يقول : إن الجزية دين ، وجبت عليه بسبب سابق وهو السكنى أو توقي شر القتل ، فصارت كالديون كلها .التاسعة : لو عاهد الإمام أهل بلد أو حصن ثم نقضوا عهدهم وامتنعوا من أداء ما يلزمهم من الجزية وغيرها وامتنعوا من حكم الإسلام من غير أن يظلموا وكان الإمام غير جائر عليهم ؛ وجب على المسلمين غزوهم وقتالهم مع إمامهم . فإن قاتلوا وغلبوا حكم فيهم بالحكم في دار الحرب سواء . وقد قيل : هم ونساؤهم فيء ولا خمس فيهم ، وهو مذهب .[ ص: 49 ] العاشرة : فإن خرجوا متلصصين قاطعين الطريق فهم بمنزلة المحاربين المسلمين إذا لم يمنعوا الجزية . ولو خرجوا متظلمين نظر في أمرهم وردوا إلى الذمة وأنصفوا من ظالمهم ولا يسترق منهم أحد وهم أحرار . فإن نقض بعضهم دون بعض فمن لم ينقض على عهده ، ولا يؤخذ بنقض غيره وتعرف إقامتهم على العهد بإنكارهم على الناقضين .الحادية عشرة : الجزية وزنها فعلة ، من جزى يجزي إذا كافأ عما أسدي إليه ، فكأنهم أعطوها جزاء ما منحوا من الأمن ، وهي كالقعدة والجلسة . ومن هذا المعنى قول الشاعر :يجزيك أو يثني عليك وإن من أثنى عليك بما فعلت كمن جزىالثانية عشرة : روى مسلم عن هشام بن حكيم بن حزام ومر على ناس من الأنباط بالشام قد أقيموا في الشمس - في رواية : وصب على رءوسهم الزيت - فقال : ما شأنهم ؟ فقال يحبسون في الجزية . فقال هشام : أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا . في رواية : وأميرهم يومئذ عمير بن سعد على فلسطين ، فدخل عليه فحدثه فأمر بهم فخلوا . قال علماؤنا : أما عقوبتهم إذا امتنعوا من أدائها مع التمكين فجائز ، فأما مع تبين عجزهم فلا تحل عقوبتهم ؛ لأن من عجز عن الجزية سقطت عنه . ولا يكلف الأغنياء أداءها عن الفقراء . وروى أبو داود عن صفوان بن سليم عن عدة من أبناء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن آبائهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من ظلم معاهدا أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ شيئا منه بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة .الثالثة عشرة : قوله تعالى : عن يد قال ابن عباس : يدفعها بنفسه غير مستنيب فيها أحدا روى أبو البختري عن سلمان قال : مذمومين . وروى معمر عن قتادة قال : عن قهر . وقيل : عن يد عن إنعام منكم عليهم ؛ لأنهم إذا أخذت منهم الجزية فقد أنعم عليهم بذلك . عكرمة : يدفعها وهو قائم والآخذ جالس وقاله سعيد بن جبير . ابن العربي : وهذا ليس من قوله : عن يد وإنما هو من قوله : وهم صاغرون .[ ص: 50 ] الرابعة عشرة : روى الأئمة عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : اليد العليا خير من اليد السفلى واليد العليا : المنفقة ، والسفلى : السائلة . وروي : " واليد العليا هي المعطية " . فجعل يد المعطي في الصدقة عليا ، وجعل يد المعطي في الجزية سفلى . ويد الآخذ عليا ; ذلك بأنه الرافع الخافض ، يرفع من يشاء ويخفض من يشاء ، لا إله غيره .الخامسة عشرة : عن حبيب بن أبي ثابت قال : جاء رجل إلى ابن عباس فقال : إن أرض الخراج يعجز عنها أهلها أفأعمرها وأزرعها وأؤدي خراجها ؟ فقال : لا . وجاءه آخر فقال له ذلك فقال : لا وتلا قوله تعالى : قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر إلى قوله : وهم صاغرون أيعمد أحدكم إلى الصغار في عنق أحدهم فينتزعه فيجعله في عنقه وقال كليب بن وائل : قلت لابن عمر اشتريت أرضا قال الشراء حسن . قلت : فإني أعطي عن كل جريب أرض درهما وقفيز طعام . قال : لا تجعل في عنقك صغارا . وروى ميمون بن مهران عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : ما يسرني أن لي الأرض كلها بجزية خمسة دراهم أقر فيها بالصغار على نفسي .
تَنْوِيرُ ٱلْمِقْبَاسِ مِن تَفْسِيرِ ٱبْنِ عَبَّاس
Tafsir Tanwir al-Miqbas —
حضرت ابن عباسؓ
الظاهر أن هذه الآية استيناف ابتدائي لا تتفرّع على التي قبلها ، فالكلام انتقال من غرض نبْذِ العهد مع المشركين وأحوال المعاملة بينهم وبين المسلمين إلى غرض المعاملة بين المسلمين وأهل الكتاب من اليهود والنصارى ، إذ كان الفريقان مسالمين المسلمين في أول بدء الإسلام ، وكانوا يحسبون أنّ في مدافعة المشركين للمسلمين ما يكفيهم أمر التصدّي للطعن في الإسلام وتلاشي أمره فلمّا أخذ الإسلام ينتشر في بلاد العرب يوماً فيوماً ، واستقلّ أمره بالمدينة ، ابتدأ بعض اليهود يظهر إحَنَه نحو المسلمين ، فنشأ النفاق بالمدينة وظاهرت قُريظة والنضير أهل الأحزاب لما غزوا المدينة فأذهبهم الله عنها .ثم لمّا اكتمل نصر الإسلام بفتح مكّة والطائف وعمومه بلاد العرب بمجيء وفودهم مسلمين ، وامتد إلى تخوم البلاد الشامية ، أوجست نصارى العرب خيفة من تطرّقه إليهم ، ولم تغمض عين دولة الروم حامية نصارى العرب عن تداني بلاد الإسلام من بلادهم ، فأخذوا يستعدّون لحرب المسلمين بواسطة ملوك غسّان سادة بلاد الشام في ملك الروم . ففي «صحيح البخاري» عن عمر بن الخطاب أنّه قال : «كان لي صاحب من الأنصار إذا غبتُ أتاني بالخبر وإذا غاب كنت أنا آتيه بالخبر ونحن نتخوّف مَلِكاً من ملوك غسّان ذُكر لنا أنّه يريد أن يسير إلينا وأنّهم يُنْعِلون الخيلَ لغزونا فإذا صاحبي الأنصاري يدُقّ الباب فقال : افتح افتح . فقلت : أجَاء الغسّاني . قال : بل أشَدُّ من ذلك اعتزل رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه إلى آخر الحديث .فلا جرم لمّا أمِن المسلمون بأس المشركين وأصبحوا في مأمن منهم ، أن يأخذوا الأهبة ليأمنوا بأس أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، فابتدأ ذلك بغزو خيبر وقريظة والنضير وقد هُزموا وكفَى الله المسلمين بأسَهم وأورثَهم أرضهم فلم يقع قتال معهم بعد ثم ثنّى بغزوة تبوك التي هي من مشارف الشام .وعن مجاهد : أنّ هذه الآية نزلت في الأمر بغزوة تبوك فالمراد من الذين أوتوا الكتاب خصوص النصارى ، وهذا لا يلاقي ما تظافرت عليه الأخبار من أنّ السورة نزلت بعد تبوك .و { مِن } بيانية وهي تُبَيِّن الموصولَ الذي قبلها .وظاهر الآية أنّ القوم المأمور بقتالهم ثبتت لهم معاني الأفعال الثلاثة المتعاطفة في صلة الموصول ، وأنّ البيان الواقع بعد الصلة بقوله : { من الذين أوتوا الكتاب } راجع إلى الموصول باعتبار كونه صاحبَ تلك الصلات ، فيقتضي أنّ الفريق المأمور بقتاله فريق واحد ، انتفى عنهم الإيمانُ بالله واليوم الآخر ، وتحريمُ ما حرم الله ، والتديُّنُ بدين الحقّ . ولم يُعرف أهل الكتاب بأنّهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر . فاليهود والنصارى مثبتون لوجود الله تعالى ومؤمنون بيوم الجزاء .وبهذا الاعتبار تحيّر المفسرون في تفسير هذه الآية فلذلك تأوّلوها بأنّ اليهود والنصارى ، وإن أثبتوا وجود الله واليوم الآخر ، فقد وصفوا الله بصفات تنافي الإلهية فكأنّهم ما آمنوا به ، إذْ أثبتَ اليهود الجسمية لله تعالى وقالوا :{ يد الله مغلولة } [ المائدة : 64 ]. وقال كثير منهم : { عزيز ابن الله } [ التوبة : 30 ].وأثبت النصارى تعدّد الإله بالتثليث فقاربوا قول المشركين فهم أبعد من اليهود عن الإيمان الحقّ ، وأنّ قول الفريقين بإثبات اليوم الآخر قد ألصقوا به تخيّلات وأكذوبات تنافي حقيقة الجزاء : كقولهم : { لن تمسسّنا النار إلا أياماً معدودة } [ البقرة : 80 ] فكأنّهم لم يؤمنوا باليوم الآخر . وتكلّف المفسّرون لدفع ما يرد على تأويلهم هذا من المنوّع وذلك مَبسوط في تفسير الفخر وكلّه تعسّفات .والذي أراه في تفسير هذه الآية أنّ المقصود الأهم منها قتال أهل الكتاب من النصارى كما علمتَ ولكنّها أدمجت معهم المشركين لئلا يتوهّم أحد أنّ الأمر بقتال أهل الكتاب يقتضي التفرّغ لقتالهم ومتاركة قتال المشركين .فالمقصود من الآية هو الصفة الثالثة { ولا يدينون دين الحق }.وأمّا قوله : { الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر } إلى قوله { ورسوله } فإدماج . فليس المقصود اقتصار القتال على من اجتمعت فيهم الصفات الأربع بل كل الصفة المقصودة هي التي أردفت بالتبيين بقوله : { من الذين أوتوا الكتاب } وما عداها إدماج وتأكيد لما مضى ، فالمشركون لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرّمون شيئاً ممّا حرم الله ورسوله لأنّهم لا شريعة لهم فليس عندهم حلال وحرام ولا يدينون دين الحق وهو الإسلام وأما اليهود والنصارى فيؤمنون بالله واليوم الآخر ويحرَمون ما حرّم الله في دينهم ولكنّهم لا يدينون دين الحقّ وهو الإسلام ويلحق بهم المجوس فقد كانت هذه الأديان هي الغالبة على أمممِ المعروففِ من العالم يومئذٍ ، فقد كانت الروم نصارى ، وكان في العرب النصارى في بلاد الشام وطي وكلب وقضاعة وتغلب وبَكر ، وكان المجوس ببلاد الفرس وكان فرق من المجوس في القبائل التي تتبع ملوك الفرس من تميم وبَكر والبحرين ، وكانت اليهود في خيبر وقريظة والنضير وأشتات في بلاد اليمن وقد توفّرت في أصحاب هذه الأديان من أسباب الأمر بقتالهم ما أومأ إليه اختيار طريق الموصولية لتعريفهم بتلك الصلات لأنّ الموصولية أمكن طريق في اللغة لحكاية أحوال كفرهم .ولا تحسبنّ أنّ عطف جمل على جملة الصلة يقتضي لزوم اجتماع تلك الصلات لكلّ ما صدق عليه اسم الموصول ، فإن الواو لا تقيد إلاّ مطلق الجمع في الحكم فإنّ اسم الموصول قد يكون مراداً به واحد فيكون كالمعهود باللام ، وقد يكون المراد به جنساً أو أجناساً ممّا يثبت له معنى الصلة أو الصلات ، عَلى أنّ حرف العطف نائب عن العامل فهو بمنزلة إعادة اسم الموصول سواء وقع الاقتصار على حرف العطف كما في هذه الآية ، أم جمع بين حرف العطف وإعادة اسم الموصول بعد حرف العطف كما في قوله تعالى :{ وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً والذين يبيتون لربّهم سجّداً وقياماً ، والذين يقولون ربّنا اصرف عنّا عذاب جهنّم إنّ عذابها كان غراماً إنّها ساءت مستقراً ومقاماً ، والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً ، والذين لا يدعون مع الله إلها آخر } [ الفرقان : 63 68 ] فقد عطفت فيها ثمانية أسماء موصولة على اسم الموصول ولم يقتض ذلك أنّ كلّ موصول مختصّ المَاصْدَق على طائفة خاصّة بل العبرةِ بالاتّصاف بمضمون إحدى تلك الصلات جميعها بالأولى ، والتعويل في مثل هذا على القرائن .وقوله : { من الذين أوتوا الكتاب } بيان لأقرب صلة منه وهي صلة { ولا يدينون دين الحق } والأصل في البيان أن يكون بلصق المبين لأنّ البيان نظير البدل المطابق وليس هذا من فروع مسألة الصفة ونحوها الواردة بعد جمل متعاطفة مفرد وليس بياناً لجملة الصلة على أنّ القرينة تردّه إلى مردّه . وفائدة ذكره التنديد عليهم بأنّهم أوتوا الكتاب ولم يدينوا دين الحقّ الذي جاء به كتابهم ، وإنّما دانوا بما حرفوا منه ، ومَا أنكروا منه ، وما ألصقوا به ، ولو دانوا دين الحق لاتّبعوا الإسلام ، لأنّ كتابهم الذي أوتوه أوصاهم باتّباع النبي الآتي من بعد { وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيناكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدّق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون أفغير دين الله تبغون } [ آل عمران : 81 83 ].وقوله : { ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله }. بمعنى لا يجعلون حراماً ما حرّمه الله فإنّ مادة فعَّل تستعمل في جعل المفعول متّصفاً بمصدر الفعل ، فيفيد قوله : { ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله } أنّهم يجعلونه غير حرام والمراد أنّهم يجعلونه مباحاً . والمقصود من هذا تشنيع حالهم وإثارة كراهيتهم لهم بأنّهم يستبيحون ما حرّمه الله على عباده ولمّا كان ما حرمه الله قبيحاً منكراً لقوله تعالى : { ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث } [ الأعراف : 157 ] لا جرم أنّ الذين يستبيحونه دلّوا على فساد عقولهم فكانوا أهلاً لردعهم عن باطلهم على أنّ ما حرّم الله ورسوله شامل لكليات الشريعة الضروريات كحفظ النفس والنسب والمال والعرض والمشركون لا يحرّمون ذلك .والمراد ( برسوله ) محمد صلى الله عليه وسلم كما هو متعارف القرآن ولو أريد غيره من الرسل لقال ورسله لأنّ الله ما حرّم على لسان رسوله إلاّ ما هو حقيق بالتحريم .وعلى هذا التفسير تكون هذه الآية تهيئة للمسلمين لأنّ يغزوا الروم والفرس وما بقي من قبائِل العرب الذين يستظلّون بنصر إحدى هاتين الأمّتين الذينَ تأخر إسلامهم مثل قضاعة وتغلب بتخوم الشَّام حتّى يؤمنوا أو يعطوا الجزية .و { حتّى } غاية للقتال ، أي يستمرّ قتالكم إيّاهم إلى أن يعطوا الجزية .وضمير { يعطوا } عائِد إلى { الذين أوتوا الكتاب }.والجِزية اسم لمال يعطيه رجال قوم جزاء على الإبقاء بالحياة أو على الإقرار بالأرض ، بنيتْ على وزن اسم الهيئة ، ولا مناسبة في اعتبار الهيئة هنا ، فلذلك كان الظاهر . هذا الاسم أنّه معرب عن كلمة ( كِزْيَت ) بالفارسية بمعنى الخراج نقله المفسّرون عن الخوارزمي ، ولم أقف على هذه الكلمة في كلام العرب في الجاهلية ولم يعرج عليها الراغب في «مفردات القرآن» . ولم يذكروها في «مُعَرَّب القرآن» لوقوع التردّد في ذلك لأنّهم وجدوا مادّة الاشتقاق العربي صالحة فيها ولا شكّ أنّها كانت معروفة المعنى للذين نزل القرآن بينهم ولذلك عُرّفت في هذه الآية .وقوله : { عن يد } تأكيد لمعنى { يعطوا } للتنصيص على الإعطاء و { عن } فيه للمجاوزة . أي يدفعوها بأيديهم ولا يقبل منهم إرسالها ولا الحوالة فيها ، ومحلّ المجرور الحال من الجزية . والمراد يَد المعطي أي يعطوها غير ممتنعين ولا منازعين في إعطائها وهذا كقول العرب «أعطى بيده» إذا انقاد .وجملة { وهم صاغرون } حال من ضمير يعطوا .والصاغر اسم فاعل من صَغر بكسر الغين صَغَراً بالتحريك وصَغَاراً . إذا ذلّ ، وتقدّم ذكر الصغار في قوله تعالى : { سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله } في سورة الأنعام ( 124 ) ، أي وهم أذلاّء وهذه حال لازمة لإعطاء الجزية عن يد : والمقصود منه تعظيم أمر الحكم الإسلامي ، وتحقير أهل الكفر ليكون ذلك ترغيباً لهم في الانخلاع عن دينهم الباطل واتّباعهم دين الإسلام . وقد دلّت هذه الآية على أخذ الجزية من المجوس لأنهم أهل كتاب ونقل عن ابن المنذر : لا أعلم خلافاً في أنّ الجزية تؤخذ منهم ، وخالف ابنُ وهب من أصحاب مالك في أخذ الجزية من مجوس العرب . وقال لا تقبل منهم جزية ولا بدّ من القتل أو الإسلام كما دلت الآية على أخذ الجزية من نصارى العرب ، دون مشركي العرب : لأنّ حكم قتالهم مضى في الآيات السالفة ولم يتعرّض فيها إلى الجزية بل كانت نهاية الأمر فيها قوله : { فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلّوا سبيلهم } [ التوبة : 5 ] وقوله { فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم } [ التوبة : 11 ] وقوله { ويتوب الله على من يشاء } [ التوبة : 15 ]. ولأنّهم لو أخذت منهم الجزية لاقتضى ذلك إقرارهم في ديارهم لأنّ الله لم يشرع إجلاءهم عن ديارهم وذلك لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم
ٱلتَّفْسِيرُ ٱلْوَسِيط
Tafsir Al-Waseet —
علمائے جامعہ ازہر
ثم ساقت السورة الكريمة بعد ذلك سبع آيات بينت فيها ما يجب أن يكون عليه موقف المسلمين من المنحرفين من أهل الكتاب ، كما حكت بعض أقوالهم الذميمة ، وأفعالهم القبيحة ، التى تدعو المسلمين إلى قتالهم حتى يخضعوا لسلطان الإِسلام ، وقد بدئت هذه الآيات بقوله - تعالى - ( قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ . . . . ) .قال الإِمام الرازى : اعلم أنه لما ذكر - سبحانه - حكم المشركين فى إظهار البراءة من عهدهم ، وفى إظهار البراءة عنهم فى أنفسهم ، وفى وجوب مقاتلتهم ، وفى تبعيدهم عن المسجد الحرام . . ذكر بعده حكم أهل الكتاب ، وهو أن يقاتلوا إلى أن يعطوا الجزية فحينئذ يقرون على ما هم عليه بشرائط ، ويكونون عند ذلك من أهل الذمة والعهد .وقال ابن كثير ما ملخصه : هذه الآية أول أمر نزل بقتال أهل الكتاب - اليهود والنصارى . وكان ذلك فى سنة تسع ، ولهذا " تجهز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقتال الروم ، ودعا الناس إلى ذلك ، وأظهره لهم ، وبعث إلى أحياء العرب حول المدينة ، فندبهم فأوعبوا معه ، واجتمع من المقاتلة نحو من ثلاثين ألفا ، وتخلف بعض الناس من أهل المدينة . ومن حولها من المنافقين وغيرهم ، وكان ذلك فى عام جدب ، ووقت قيظ حر . وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد الشام لقتال الروم ، فبلغ تبوك ، ونزل بها ، وأقام بها قريباً من عشرين يوماً ، ثم استخار الله فى الرجوع ، فرجع عامه ذلك لضيق الحال ، وضعف الناس . . . " .وقوله : ( قَاتِلُواْ الذين ) أمر منه - سبحانه - للمؤمنين بقتال أهل الكتاب ، وبيان للأسباب التى اقتضت هذا الأمر ، وهى أنهم :أولاً : ( لاَ يُؤْمِنُونَ بالله ) لأنهم لو كانوا مؤمنين به إيماناً صحيحاً ، لاتبعوا رسوله محمداً - صلى الله عليه وسلم - ، ولأن منهم من قال : ( عُزَيْرٌ ابن الله ) ومنهم من قال : ( المسيح ابن الله ) وقولهم هذا كفر صريح ، لأنه - سبحانه - منزله عما يقولون .قال - تعالى - ( قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ الله الصمد لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ ) وثانياً : أنهم " لا يؤمنون باليوم الآخر " على الوجه الذى أمر الله - تعالى - به ، ومن كان كذلك كان إيمانه . على فرض وجوده . كلا إيمان .قال الجمل ما ملخصه : فإن قلت : اليهود والنصارى يزعمون أنهم يؤمنون بالله واليوم الآخر فكيف نفى الله عنهم ذلك؟قلت : إن إيمانهم بهما باطل لا يفيد ، بدليل أنهم لم يؤمنوا بالنبى - صلى الله عليه وسلم - فلما لم يؤمنوا به كان إيمانهم بالله واليوم الآخر كالعدم فصح نفيه فى الآية ولأن إيمانهم بالله ليس كإيمان المؤمنين ، وذلك أن اليهود يعتقدون التجسيم والتشبيه ، والنصارى يعتقدون الحلول ، ومن اعتقد ذلك فليس بمؤمن بالله بل هو مشرك .وأيضاً فإن إيمانهم باليوم الآخر ليس كإيمان المؤمنين ، وذلك لأنهم يعقتدون بعث الأرواح دون الأجساد ، وأن أهل الجنة لا يأكلون فيها ولا يشربون ولا ينكحون - أى أنهم يرون نعيم الجنة وعذاب النار يتعلقان بالروح فقط ولا شأن للجسد بذلك .ومن اعتقد ذلك فليس إيمانه كإيمان المؤمنين وإن زعم أنه مؤمن .وثالثاً : أنهم ( وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ الله وَرَسُولُهُ ) أى : لا يحرمون ما حرمه الله ورسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - فى القرآن والسنة ، وفضلاً عن ذلك فهم لا يلتزمون ما حرمته شريعتهم على ألسنة رسلهم ، وإنما غيروا وبدلوا فيها على حسب ما تمليه عليهم أهواؤهم . أى أنهم لا يحرمون ما حرمه الله لا فى شريعتنا ولا فى شريعتهم .فاليهود - بجانب كفرهم بشريعتنا - لم يطيعوا شريعتهم ، بدليل أنهم استحلوا أكل أموال الناس بالباطل مع أنها . أى شريعتهم . نهتهم عن ذلك .قال - تعالى - ( وَأَخْذِهِمُ الربا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ الناس بالباطل . . . ) والنصارى - بجانب كفرهم - أيضاً - بشريعتنا - لم يطيعوا شريعتهم بدليل أنهم ابتدعوا الرهبانية مع أن شريعتهم لم تشرع لهم ذلك .قال - تعالى - ( ثُمَّ قَفَّيْنَا على آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابن مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإنجيل وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الذين اتبعوه رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابتدعوها مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابتغآء رِضْوَانِ الله فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ) ورابعاً : ( وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الحق ) وقوله : ( يَدِينُونَ ) بمعنى يعتقدون ويطيعون . يقال : فلان يدين بكذا إذا اتخذه دينه ومعتقده وأطاع أوامره ونواهيه .والمراد بدين الحق : دين الإِسلام الناسخ لغيره من الأديان .أى : أنهم لا يتخذون دين الإِسلام ديناً لهم ، مع أنه الدين الذى ارتضاه الله لعباده ، والذى لا يقبل - سبحانه - ديناً سواه . قال - تعالى - : ( اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً . . . ) وقال - تعالى - : ( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين ) ويصح أن يكون المراد بدين الحق . ما يشمل دين الإِسلام وغيره من الأديان السماوية التى جاء بها الأنبياء السابقون .أى : ولا يدينون بدين من الأديان التى أنزلها الله على أنبيائه ، وشرعها لعباده ، وإنما هم يتبعون أحبارهم ورهبانهم فيما يحلونه لهم ويحرمونه عليهم .وعبر عنهم فى قوله : ( قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ . . ) بالاسم الموصول للإِيذان بعلية ما فى حيز الصلة للأمر بالقتال .أى أن العلة فى الأمر بقتالهم ، كونهم لا يؤمنون باللهو لا باليوم الآخر ، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ، ولا يدينون دين الحق .وقوله : ( مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب ) بيان للمتصفين بهذه الصفات الأربعة وهم اليهود والنصارى؛ لأن الحديث عنهم ، وعن الأسباب التى توجب قتالهم .والمراد بالكتاب : جنسه الشامل للتوراة والإِنجيل .أى : قاتلوا من هذه صفاتهم ، وهم اليهود والنصارى الذين أعطاهم الله التوراة والإِنجيل - عن طريق موسى وعيسى - عليهما السلام - ولكنهم لم يعملوا بتعاليمهما وإنما عملوا بما تمليه عليهم أهواؤهم وشهواتهم .والمقصود بقوله : ( مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب ) تميزهم عن المشركين عبدة الأوثان فى الحكم ، لأن حكم هؤلاء قتالهم حتى يسلموا ، أما حكم أهل الكتاب فهو القتال ، أو الإِسلام ، أو الجزية :وقوله : ( حتى يُعْطُواْ الجزية عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ) غاية لإِنهاء القتال .أى : قاتلوا من هذه صفاتهم من أهل الكتاب حتى يعطو الجزية عن طوع وانقياد ، فإن فعلوا ذلك فاتركوا قتالهم .والجزية : ضرب من الخراج يدفعه أهل الكتاب للمسلمين وهى - كما يقول القرطبى : - من جزى يجزى - مجازاة - إذا كافأ من اسدى إليه . فكأنهم أعطوها للمسلمين جزاء ما منحوا من الأمن ، وهى كالقعدة والجلسة ، ومن هذا المعنى قول الشاعر :يجزيك أو يثنى عليك وإن من ... أثنى عليك بما فعلت فقد جزىوالمراد بإعطائها فى قوله : ( حتى يُعْطُواْ الجزية ) ، التزام دفعها وإن لم يذكر الوقت المحدد لذلك .واليد هنا : يحتمل أن تكون كناية عن الاستسلام والانقياد . أى : حتى يعطوا الجزية عن خضوع وإنقياد .ويحتمل أن تكون كناية و " عن " الدفع نقداً بدون تأجيل . أى : حتى يعطوها نقداً بدون تسويف أو تأخير .ويحتمل أن تكون على معناها الحقيقى ، و " عن " بمعنى الباء أى : حتى يعطوها بيدهم إلى المسلمين لا أن يبعثوا بها بيد أحد سواهم .وهذه المعانى لليد إنما تتأتى إذا أريد بها يد المعطى . أى : يد الكتابى .أما إذا أردنا بها اليد الآخذة - وهى يد الحاكم المسلم - ففى هذه الحالة يكون معناها القوة والقهر والغلبة .أى : حتى يعطوها عن يد غالبة قوية لا قبل لهم بالوقوف أمامها .ورحم الله صاحب الكشاف فقد قال : قوله : " عن يد " إما أن يراد يد المعطى أو الآخذ فمعناه على إرادة يد المعطى حتى يعطوها عن يده ، أى عن يد مؤاتيه غير ممتنعة ، إذ أن من أبى وامتنع لم يعط يده ، بخلاف المطيع المنقاد ، ولذلك قالوا : أعطى بيده ، إذا انقاد وأصحب - أى : سهل بعد صعوبة - ألا ترى إلى قولهم : نزع يده عن الطاعة ، كما يقال : خلع ربقة الطاعة عن عنقه .أو المعنى : حتى يعطوها عن يد إلى يد نقداً غير نسيئة ، لا مبعوثاً بها على يد أحد ، ولكن يد المعطى إلى يد الآخذ .ومعناه على إرادة يد الآخذ : حتى يعطوها عن يد قاهرة مستولية - وهى يد المسلمين - أو حتى يعطوها عن إنعام عليهم ، لأن قبول الجزية منهم ، وترك أرواحهم لهم ، نعمة عظيمة عليهم .وقوله : ( وَهُمْ صَاغِرُونَ ) من الصغار بمعنى الذل والهوان . يقال : صغر فلان يصغر صغراً وصغاراً إذا ذل وهان وخضع لغيره .والمعنى : قاتلوا من هذه صفاتهم من أهل الكتاب حتى يدفعوا لكم الجزية عن طواعية وانقياد . وهم أذلاء خاضعون لولايتكم عليهم . . فإن الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ، ولا يحرمون ما حرمه الله ورسوله .ولا يتخذون الدين الحق ديناً لهم . يستحقون هذا الهوان فى الدنيا ، أما فى الآخرة فعذابهم أشد وأبقى .هذا . ومن الأحكام التى أخذها العلماء من هذه الآية ما يأتى :1- إن هذه الآية أصل فى مشروعية الجزية ، وأنها لا تؤخذ إلا من أهل الكتاب عند كثير من الفقهاء - لأن أهل الكتاب هم الذين يخيرون بين الإِسلام أو القتال أو الجزية ، أما غيرهم من مشركى العرب فلا يخيرون إلا بين الإِسلام أو القتال .قال القرطبى ما ملخصه : وقد اختلف العلماء فيمن تؤخذ منه الجزية فقال الشافعى : لا تقبل الجزية إلا من أهل الكتاب خاصة ، عربا كانوا أو عجماً لهذه الآية : فإنهم هم الذين خصوا بالذكر فتوجه الحكم إليهم دون من سواهم ، لقوله - تعالى - فى شأن المشركين : ( فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ) ولم يقل : حتى يعطوا الجزية كما قال فى أهل الكتاب .وقال الشافعى : وتقبل من المجوس لحديث " سنوا بهم سنة أهل الكتاب " أى : فى أخذ الجزية منهم .وبه قال وأبو ثور . وهو مذهب الثورى وأبى حنيفة وأصحابه وقال الأوزاعى : تؤخذ الجزية من كل عابد وثن أو نار أو جاحد أو مكذب .وكلذلك مذهب مالك : فإنه يرى أن الجزية تؤخذ من جميع أجناس الشرك والجحد ، عربيا أو عجمياً تغليبا أو قرشياً؛ كئنا من كان إلا المرتد . .2- أن أخذ الجزية منهم إنما هو نظير ما ينالهم ، وكفنا عن قتالهم ، ومساهمة منهم فى رفع شأن الدولة الإِسلامية التى أمنتهم وأموالهم وأعراضهم ومعتقداتهم . ومقدساتهم . . وإقرار منهم بالخضوع لتعاليم هذه الدولة وأنهم متى التزموا بدفعها وجب علينا حمايتهم ، ورعايتهم ، ومعاملتهم بالعدل والرفق والرحمة . .وفى تاريخ الإِسلام كثير من الأمثلة التى تؤيد هذا المعنى ، ومن ذلك ، ما جاء فى كتاب الخراج لأبى يوسف أنه قال فى خطابه لهارون الرشيد " وينبغى يا أمير المؤمنين - أيدك الله - أن تتقدم فى الرفق بأهل ذمة نبيك وابن عمك محمد - صلى الله عليه وسلم - والتفقد لهم حتى لا يظلموا ولا يؤذوا ولا يكلفوا فوق طاقتهم ، ولا يؤخذ شئ من أموالهم إلا بحق يجب عليهم؛ فقد روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " من ظلم من أمتى معاهداً أو كلفه فوق طاقته فأنا حجيجه " .وكان فيما تكلم عمر بن الخطاب عند وفاته : أوصى الخليفة من بعدى بذمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يوفى لهم بعهدهم ، وأن يقاتل من ورائهم ولا يكلفوهم فوق طاقتهم .وجاء فى كتاب " أشهر مشاهير الإِسلام " أن جيوش التتار ، لما اكتسحت بلاد الإِسلام من حدود الصين إلى الشام ، ووقع فى أسرهم من وقع من المسلمين والنصارى ثم خضد المسلمون شوكة التتار ، ودان ملوكهم بالإِسلام ، خاطب شيخ الإِسلام ابن تيمية ، أمير التتار بإطلاق الأسرى فسمح له بالمسلمين وأُبى أن يسمح بأهل الذمة ، فقال له شيخ الإِسلام : لا بد من إطلاق وجميع من معك من اليهود والنصارى الذين هم أهل ذمتنا ولا ندع أسيرا لا من أهل الملة ، ولا من أهل الذمة ، فأطلقهم له .وجاء فى كتاب " الإِسلام والنصرانية " للأستاذ الإِمام محمد عبده ما ملخصه :" . . . الإِسلام كان يكتفى من الفتح بإدخال الأرض المفتوحة تحت سلطانه ، ثم يترك الناس وما كانوا عليه من دين . ثم يكلفهم بجزية يدفعونها لتكون عوناً على صيانتهم والمحافظة على أمنهم فى ديارهم ، وهم عقائدهم ومعابدهم وعاداتهم بعد ذلك أحرار ، لا يضايقون فى عمل ، ولا يضامون فى معاملة " .خلفاء المسلمين كانوا يوصون قوادهم باحترام العباد الذين انقطعوا عن العامة فى الصوامع والأديرة للعبادة ، كما كانوا يوصونهم باحترام دماء النساء والأطفال وكل من لم يعن على القتال .جاءت السنة بالنهى عن إيذاء أهل الذمة ، وبتقرير ما لهم من الحقوق على المسلمين ، " لهم ما لنا وعليهم ما علينا " و " من آذى ذميا فليس منا " .واستمر العمل على ذلك ما استمرت قوة الإِسلام . ولست أبلى إذا انحرف بعض المسلمين عن هذه الأحكام عندما بدأ الضعف فى أبناء الإِسلام فضيق الصدر من طبع الضعيف .ثم قال : أما المسيحية فترى لها حق القيام على كل دين يدخل تحت سلطانها تراقب أعمال أهله ، وتخصهم دون الناس بضروب من المعاملة لا يحتملها الصبر مهما عظم ، حتى إذا تمت لها القدرة على طردهم - بعد العجز عن إخراجهم من دينهم - طردتهم عن ديارهم ، وغسلت الديار عن آثارهم ، كما حصل ويحصل فى كل أرض استولت عليها أمة مسيحية استيلاء حقيقاً .ولا يمنع غير المسيحى من تعدى المسيحى إلا كثرة العدد أو شدة العضد ، كما شهد التاريخ ، وكما يشهد كاتبوه .ثم قال : فأنت ترى الإِسلام يكتفى من الأمم والطوائف التى يغلب على أرضها ، بشئ من المال ، أقل مما كانوا يؤدونه من قبل تغلبه عليهم ، وبأن يعيشوا فى هدوء ، لا يعكرون معه صفو الدولة ، ولا يخلون بنظام السلطة العامة ، ثم يرخى لهم بعد ذلك عنان الاختيار فى شئونهم الخاصة بهم ، لا رقيب عليهم فيها سوى ضمائرهم .وقال الشيخ القاسمى ما ملخصه : قال السيوطى : استدل بقوله - تعالى - ( وَهُمْ صَاغِرُونَ وَهُمْ صَاغِرُونَ ) من قال إنها تؤخذ بإهانة ، بأن يجلس الآخذ ويقوم الذمى ويطأطئ رأسه ، ويجنى ظهره ، ويقبض الآخذ لحيته . . . إلخ .وقد رد الإِمام ابن القيم على هذا القائل بقوله : هذا كله مما لا دليل عليه ، ولا هو من مقتضى الآية ، ولا نقل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أصحابه .والصواب فى الآية ، أن الصغار : هو التزامهم بجريان أحكام الله عليهم ، وإعطاء الجزية ، فإن ذلك هو الصغار ، وبه قال الشافعى .والذى ناره أن ما قاله الإِمام ابن القيم فى رده هو عين الصواب ، وأن ما نقله السيوطى عن بعضهم . . . يتنافى مع سماحة الإِسلام وعدله ورحمته بالناس .هذا ، وهناك أحكام أخرى تتعلق بالجزية لا محال لذكرها هنا ، فليرجع إليها من شاء فى بعض كتب الفقه والتفسير .
تَفْسِيرُ ٱلْبَغَوِيِّ
Tafsir al-Baghawi —
علامہ بغوی
وذلك : قوله تعالى : ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ) قال مجاهد : نزلت هذه الآية حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتال الروم ، فغزا بعد نزولها غزوة تبوك .وقال الكلبي : نزلت في قريظة والنضير من اليهود ، فصالحهم وكانت أول جزية أصابها أهل الإسلام ، وأول ذل أصاب أهل الكتاب بأيدي المسلمين .قال الله تعالى : ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ) فإن قيل : أهل الكتاب يؤمنون بالله واليوم الآخر؟ قيل : لا يؤمنون كإيمان المؤمنين ، فإنهم إذا قالوا عزير ابن الله والمسيح ابن الله ، لا يكون ذلك إيمانا بالله . ( ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق ) أي : لا يدينون الدين الحق ، أضاف الاسم إلى الصفة . وقال قتادة : الحق هو الله ، أي : لا يدينون دين الله ، ودينه الإسلام . وقال أبو عبيدة : معناه ولا يطيعون الله تعالى طاعة أهل الحق . ( من الذين أوتوا الكتاب ) يعني : اليهود والنصارى . ( حتى يعطوا الجزية ) وهي الخراج المضروب على رقابهم ، ( عن يد ) عن قهر وذل . قال أبو عبيدة : يقال لكل من أعطى شيئا كرها من غير طيب نفس : أعطاه عن يد . وقال ابن عباس : يعطونها بأيديهم ولا يرسلون بها على يد غيرهم . وقيل : عن يد أي : عن نقد لا نسيئة . وقيل : عن إقرار بإنعام المسلمين عليهم بقبول الجزية منهم ، ( وهم صاغرون ) أذلاء مقهورون . قال عكرمة : يعطون الجزية عن قيام ، والقابض جالس . وعن ابن عباس قال : تؤخذ منه ويوطأ عنقه .وقال الكلبي : إذا أعطى صفع في قفاه .وقيل : يؤخذ بلحيته ويضرب في لهزمتيه . وقيل : يلبب ويجر إلى موضع الإعطاء بعنف .وقيل : إعطاؤه إياها هو الصغار .وقال الشافعي رحمه الله : الصغار هو جريان أحكام الإسلام عليهم .واتفقت الأمة على جواز أخذ الجزية من أهل الكتابين ، وهم اليهود والنصارى إذا لم يكونوا عربا .واختلفوا في الكتابي العربي وفي غير أهل الكتاب من كفار العجم ، فذهب الشافعي : إلى أن الجزية على الأديان لا على الأنساب ، فتؤخذ من أهل الكتاب عربا كانوا أو عجما ، ولا تؤخذ من أهل الأوثان بحال ، واحتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم أخذها من أكيدر دومة ، وهو رجل من العرب يقال : إنه من غسان ، وأخذ من أهل ذمة اليمن ، وعامتهم عرب .وذهب مالك والأوزاعي : إلى أنها تؤخذ من جميع الكفار إلا المرتد .وقال أبو حنيفة : تؤخذ من أهل الكتاب على العموم ، وتؤخذ من مشركي العجم ، ولا تؤخذ من مشركي العرب . وقال أبو يوسف : لا تؤخذ من العربي ، كتابيا كان أو مشركا ، وتؤخذ من العجمي كتابيا كان أو مشركا .وأما المجوس : فاتفقت الصحابة رضي الله عنهم على أخذ الجزية منهم .أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أخبرنا أبو العباس الأصم أخبرنا الربيع ، أخبرنا الشافعي ، أخبرنا سفيان عن عمرو بن دينار سمع بجالة يقول : لم يكن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر .أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد أبو إسحاق الهاشمي ، أخبرنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه أن عمر بن الخطاب ذكر المجوس فقال : ما أدري كيف أصنع في أمرهم؟ فقال عبد الرحمن بن عوف : أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " سنوا بهم سنة أهل الكتاب " .وفي امتناع عمر رضي الله عنه عن أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر ، دليل على أن رأي الصحابة كان على أنها لا تؤخذ من كل مشرك ، وإنما تؤخذ من أهل الكتاب .واختلفوا في أن المجوس : هل هم من أهل الكتاب أم لا؟ فروي عن علي رضي الله عنه قال : كان لهم كتاب يدرسونه فأصبحوا ، وقد أسري على كتابهم ، فرفع من بين أظهرهم .واتفقوا على تحريم ذبائح المجوس ومناكحتهم بخلاف أهل الكتابين .أما من دخل في دين اليهود والنصارى من غيرهم من المشركين نظر : إن دخلوا فيه قبل النسخ والتبديل يقرون بالجزية ، وتحل مناكحتهم وذبائحهم ، وإن دخلوا في دينهم بعد النسخ بمجيء محمد صلى الله عليه وسلم لا يقرون بالجزية ، ولا تحل مناكحتهم وذبائحهم ، ومن شككنا في أمرهم أنهم دخلوا فيه بعد النسخ أو قبله : يقرون بالجزية تغليبا لحقن الدم ، ولا تحل مناكحتهم وذبائحهم تغليبا للتحريم ، فمنهم نصارى العرب من تنوخ وبهراء وبني تغلب ، أقرهم عمر رضي الله عنه على الجزية ، وقال : لا تحل لنا ذبائحهم .وأما قدر الجزية : فأقله دينار ، لا يجوز أن ينقص منه ، ويقبل الدينار من الفقير والغني والوسط لما أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي ، أخبرنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي ، حدثنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي ، حدثنا أبو عيسى الترمذي ، حدثنا محمود بن غيلان ، حدثنا عبد الرزاق أخبرنا سفيان عن الأعمش عن أبي وائل عن مسروق عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فأمره أن يأخذ من كل حالم دينارا أو عدله معافر . فالنبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يأخذ من كل حالم ، أي بالغ ، دينارا ولم يفصل بين الغني والفقير والوسط ، وفيه دليل على أنها لا تجب على الصبيان وكذلك لا تجب على النسوان ، إنما تؤخذ من الأحرار العاقلين البالغين من الرجال .وذهب قوم إلى أنه على كل موسر أربعة دنانير ، وعلى كل متوسط ديناران ، وعلى كل فقير دينار ، وهو قول أصحاب الرأي .